نحن والفاشية
الفاشية والتحديث
رأينا في الفصل السابع أن الفاشية خلَّفت إرثًا من حركات متطابقة متطرفة حتى اللحظة، وعدد من الجماعات الشعبوية القومية الأكثر نجاحًا. في هذا الفصل أود أن أستكشف إرث الفاشية من خلال مناقشة الجدل الدائر حول ما إذا كانت الفاشية تمثل قوة ساعدت، ربما دون قصد، على ظهور العالم «الحديث»، أو محاولة فاشلة لاستعادة المجتمع «التقليدي». أنصار الرؤية الثانية يمكن أن يشيروا إلى أن من يُطلق عليها «الفئات المناهضة للحداثة» — الحرفيين والفلاحين وملاك الأراضي الزراعية الأرستقراطيين — دعمت الفاشية؛ إذ يمكن اعتبار بعض السياسات الفاشية مناهضة للحداثة، كالعودة إلى الأرض، وتقييد نمو المدن، وتمجيد صورة الفلاح. ولعل ولع كودريانو باللباس الريفي عبَّر عن رغبة الفاشية الرومانية في العودة إلى الجذور الريفية، وكانت من سماتها المميزة. لكن ثمة أدلة أخرى تشير إلى أن الفاشية كانت «حديثة»؛ حيث تمثَّل ذلك في سياسات مثل: عبادة التكنولوجيا العسكرية، ومحاباة الشركات الكبيرة عند توزيع العقود العسكرية في إيطاليا وألمانيا، والتعبئة الجماهيرية، وإشراك النساء في الحركات الفاشية، وترويج الشكل التجاري للرياضة، وهلم جرًّا.
بمقدورنا أن نعدد الأدلة الداعمة لرؤية من الرؤيتين دون أن نصل إلى حل للسؤال (إلا إذا ادعى أحدهم أن الأدلة غير الصالحة «ثانوية»). المشكلة تكمن حقًّا في مفهوم التحديث نفسه؛ لأنه بعد قرنين من «التحديث» لا تزال التوجهات التي يمكن اعتبارها غير عصرية — كالعنصرية مثلًا — متجذرة في المجتمعات الغربية كما كانت دائمًا. وعلى أية حال، ثمة شك في أن تحركات التاريخ تتخذ «عادة» اتجاهًا نحو المجتمع الليبرالي الديمقراطي، العلماني، العقلاني، الصناعي، أو أننا نستطيع أن نتصور الاتجاهات التي لا بد أن يسلكها التاريخ. ونتيجة لغياب هذه المعرفة، يميل المراقبون للحكم على حداثة الفاشية على أساس ما يعتبرونه «تقدميًّا» من وجهة نظرهم الشخصية. فقد يذهب عالم يعتبر الحراك الاجتماعي أمرًا مرغوبًا بالنسبة للعمال إلى أن وصولهم للوظائف الإدارية في ظل الفاشية شاهد يدل على «التحديث» في الفاشية. ولما كان الباحثون (لحسن الحظ) ينظرون إلى الفاشية نظرة سلبية، فإنهم يفسرون الفاشية على أنها «مناهضة للحداثة».
تجلت خطورة استخدام مفهوم التحديث دون تمحيص من خلال مناشدة مارتن بروستسات الباحثين عام ١٩٨٥ بأن يجعلوا مناهجهم البحثية لدراسة ألمانيا النازية مناهج «تاريخية»؛ إذ قال بروستسات إن المؤرخين ينبغي لهم أن يطرحوا أسئلة أكثر دقة وتاريخية بحق بشأن النازية، بدلًا من أن ينددوا بها أخلاقيًّا وحسب. لكن لسوء الحظ، شاب هذا المقترح المتعقل قناعة بروستسات بأن هذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال دراسة دور النازية في تشجيع التوجهات نحو التحديث في المجتمع الألماني أو في كبتها. واستتبع طرح مصطلح «التحديث» جدلٌ حول افتراضات متعلقة بالمسار «الطبيعي» والمرغوب للتاريخ. وهكذا كانت حجة بروستسات، التي ذهبت إلى أن سياسات الرعاية الاجتماعية التي اعتمدتها «جبهة العمل الألمانية» مهدت الطريق للسياسات الاجتماعية لألمانيا الحديثة، سببًا أتاح للنقاد أن يتهموه بتقديم النازية في صورة إيجابية. أما المنصفون قليلًا فقالوا إنه تعمَّد إبعاد عملية التحديث الطويلة الأجل عن جوانب أخرى من جوانب النازية، وبالتالي تجاهل ما يميز الرعاية الاجتماعية النازية من طابع عنصري جوهري. وذهب مؤرخون آخرون إلى أن «جبهة العمل الألمانية» بزعامة روبرت لاي كانت تنوي إقامة مجتمع أكثر «حداثة» تتحدَّد فيه مكانة الفرد الاجتماعية على أساس قيمته لا انتمائه إلى جماعة معينة، لكنهم نسوا أن التنمية التي كانت تقدمها النازية الألمانية كانت مرهونة بجنس الفرد وعرقه.
ولكي يكون مصطلح «التحديث» مفيدًا، لا بد من تعريفه تعريفًا دقيقًا. البعض يكتفي بالسؤال عما إذا كانت الفاشية قد غيَّرت البنى الاجتماعية القائمة، ويستكشف، من بين أمور أخرى، وضع النساء والعمال، لكن التحديث من هذا المنظور المهوِّن يصبح مجرد تلطف للكناية عن التغيير؛ فهو يولِّد أسئلة جديرة بالاهتمام، لكنه لا يغامر بتوضيح ما إذا كان التغيير «حديثًا» حقًّا.
ثمة شيء آخر ممكن، هو أن نعيد صياغة سؤال بروستسات بحيث نسأل: هل ساهمت الفاشية في ظهور أنظمة لاحقة وفي تشكيل خصائصها؟ من دون أن نطرح افتراضات تتعلق بمسألة المسار «الطبيعي» للتاريخ. وهكذا، سنجد أن تشريعات الرعاية الاجتماعية الفاشية في كلٍّ من إيطاليا وألمانيا أُدمجت جزئيًّا في تلك الأنظمة اللاحقة. من الممكن أيضًا أن يكون الدور الذي لعبته المرأة في إدارة الرعاية الاجتماعية مهَّد الطريق لزيادة مشاركة الإناث في الأنشطة العامة بعد الحرب، في حين ربما كان افتتان موزلي بالاقتصاد «الكينزي» استباقًا لظهور الديمقراطية الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب. اقترح المؤرخون أيضًا أن تكون برامج الترفيه الفاشية قد ساعدت على «إزالة الطابع البروليتاري» للعمال وتمهيد الطريق لظهور المجتمع الاستهلاكي الفرداني بعد الحرب. لكن هذه العمليات المستمرة ليست دليلًا على وجود نزوع حتمي نحو «التحديث» موجود في جميع الأنظمة، وإنما كانت هذه الأحداث تبعات غير مقصودة وغير متوقعة — بل وحتى عرضية — لظروف تاريخية خاصة، عرضة للتغير بتغير الظروف.
يُضاف إلى ذلك أن مسألة الاستمرارية مسألة معقدة؛ فقد تشكَّلت السياسة الفاشية للرعاية الاجتماعية على نحو واعٍ من خلال التعصب القومي والتمييز السياسي والعنصرية. وبالتالي فقد اختلفت اختلافًا كبيرًا عن سياسة الرعاية الاجتماعية التي تنتهجها الديمقراطيات الليبرالية التي تعتنق بصفة عامة مبادئ عالمية وتقر حقوق جميع الأفراد في المساواة في المعاملة. لكن جذور التوجهات التمييزية للسياسات الاجتماعية الفاشية لا تزال حية تحت سطح الأنظمة الحديثة، وربما يمكن أن نعتبر هذا تربة خصبة للتمييز الصريح الذي يفضِّله الشعبويون القوميون.
ونظرًا لصعوبة تحديد ما هو «حديث»، ربما يمكن اللجوء لمنهج آخر يدرس كيفية «تصور» الفاشيين لمسألة التحديث (بل وما إذا كانوا قد فكروا من هذا المنظور بالأساس). ومثلما تعددت وجهات النظر بشأن ما تعنيه المصالح الوطنية أو الطبقية، تعددت أيضًا وجهات النظر بشأن ما تعنيه الحداثة، وكانت الفاشية إحدى السبل الممكنة لإبداء رد فعل إزاء ما شهده القرنان السابقان من اضطرابات.
كان الفاشيون يعتنقون رؤية عالمية مستوحاة جزئيًّا من رؤى كانت تعتبر آنذاك حديثة وعلمية؛ فقد استندوا إلى الداروينية الاجتماعية ونظيرتها الفرنسية المعروفة باسم «اللاماركية»، وعلم النفس الجماعي، والبيولوجيا الاجتماعية، وعلم الحشود، ودراسات الأساطير. كان ربط كل هذه العلوم معًا يشكل افتراضات «علمية» بشأن الشخصيات الوطنية أو الأعراق أو كليهما. وقد ارتبط هذا «العلم» ارتباطًا وثيقًا بالقناعة التي ترى أن الأمة لا بد أن تكون قوية ومتجانسة من داخلها، إذا كان لها أن تتغلب على النزوع الحتمي نحو الانحلال والخروج حية من صراع البقاء الأممي. ومن هنا تشكَّلت الأفكار الفاشية من خلال حداثة فنية، تصورت العالم مكانًا مخيفًا مظلمًا كل شيء فيه إلى فناء، لكنه ربما يمكن فهمه وحتى تسخيره من خلال التقنيات الخاصة التي يستخدمها الفنان.
دعا الفاشيون إلى تسخير العناصر المقبولة عرقيًّا من كلا الجنسين وجميع الطبقات لتحقيق الغرض القومي، وللنضال من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي داخل نطاق سلطة قومي أو إمبراطورية. وبرغم اختلاف توكيدات الفاشيين، آمن معظمهم بأن الأمة يجب أن توفِّق بين المتطلبات الحديثة والتقاليد القومية، وذلك، على سبيل المثال، من خلال إحداث توازن بين حاجات الريف والحضر. لم يكن هذا علمًا على النحو الذي نعهده، لكن كثيرًا من الفاشيين رأوا أن مشروعهم رد فعل ضروري لمواجهة العالم الحديث، بينما فسره آخرون على أنه عودة ضرورية للتقاليد، بينما رأى آخرون أنه مصالحة بين التقليد والحداثة. إزاء هذا الغموض، نحن لا نستطيع أن نواصل إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فالفاشية مجموعة متناقضة من الأيديولوجيات والممارسات المتضاربة والمتشابكة التي لا يسهل تصنيفها باعتبارها تشكل أضدادًا ثنائية مباشرة، كالتقليد مقابل الحداثة مثلًا.
الفاشية ومناهضة الفاشية
هل ما اتسمت به الفاشية من تعصب وعنف — وطابع إبادي غير مسبوق في الحالة النازية — يعني أنها أولى بالدراسة من المنظور الأخلاقي من أي موضوع آخر؟ هل علينا أن نتناولها في كتاباتنا من موقف مناهض مناهضة مباشرة؟ وهل علينا أن نكتب عنها بنية الحيلولة دون تكرار حدوثها ثانية؟
الرد على الأسئلة السابقة ليس سهلًا. لا بد أولًا أن نفرق بين دراسة الفاشية أكاديميًّا والحكم عليها أخلاقيًّا؛ فالتناول الأكاديمي يستخدم مفهوم الفاشية كي يحاول فهم الماضي والحاضر، وكي يفسر «أسباب» الفاشية و«الكيفية» التي تحققت بها. وبفضل ما يتمتع به المؤرخون وعلماء الاجتماع والسياسة من تدريب مهني، يستطيعون أن يدعوا ادعاءً له ما يبرره بأنهم يملكون قدرة خاصة تؤهلهم للرد على هذه النوعية من الأسئلة. لكن الأكاديميين لا يملكون أن يحتكروا إجابة السؤال عن ما كان «ينبغي» أو «يجب» أن يحدث. والمواقف الأخلاقية لا يمكن استخلاصها من دراسة الماضي. بالطبع يستطيع المؤرخون أن يصفوا تصرفات الفاشية بأنها شنيعة كما يحلو لهم، لكن التصرفات الفاشية — مع الأسف — لن يُنظر إليها باعتبارها «جرائم» إلا إذا كان القارئ يشارك المؤلف منظوره الأخلاقي. والأكاديميون ليسوا حكامًا على الأخلاق.
بطبيعة الحال، سيحتجُّ أولئك الذين يرون إحجام الأكاديميين عن إصدار أحكام أخلاقية تقصيرًا في أداء واجب الباحث، لكن ألم يتحجج الأكاديميون المهنيون بحياد العلماء كي يدعوا أن صعود الفاشية لا يمكن أن يعنيهم؟ الأسوأ من ذلك، ألم يستخدم الأكاديميون مهاراتهم الأكاديمية لتبرير السياسات الفاشية؟ كل هذا صحيح، لكن لعلني أود أن أؤكد على أن منهج تناول الفاشية المطروح في هذا الكتاب لا يمثل تنصلًا من المسئولية الأخلاقية.
أولًا: الأخلاق شأن يعني «جميع» أفراد المجتمع. والأكاديميون بصفتهم مواطنين يتمتعون، شأنهم شأن غيرهم، بنفس الحق في الحكم ومطالبون بنفس الواجب العظيم نحو ذلك، طالما أنهم مدركون أنهم يحكمون بصفتهم مواطنين. وسيكون من قبيل الغطرسة أن يدعي الأكاديميون أنهم يملكون أي تبصُّر خاص بشأن الأسئلة عن ما كان «يجب» أن يحدث. وعلى أفضل تقدير، يستطيع المؤرخون أن يلقوا الضوء على مدى تعقد الخيارات الأخلاقية في الماضي، في حين ربما يلعب علماء الاجتماع والسياسة دورًا في تصور سياسة الحكومة وتقييمها، وذلك في ظل الحكم الديمقراطي.
وفي الواقع، كانت قناعة الأكاديميين الألمان والإيطاليين بأن أساليبهم «العلمية» تمنحهم معرفة خاصة بالصالح العام هي التي سمحت لهم بالتدخل في حياة الآخرين دون انتظار لموافقتهم. والاعتقاد بأن العلوم الطبية قد حسمت المسائل الأخلاقية هو تحديدًا الذي أتاح إشراك الأطباء في محرقة الهولوكوست. وبالمثل، يخلط الفاشيون وورثتهم بين العلم والأخلاق حينما يدَّعون أنه بما أن الفئة «س» مثلًا «عاشت» في بلد كذا على مدى «ص» من القرون، فإن هذه الفئة هي وحدها التي «ينبغي» أن تعيش في ذلك البلد.
ثانيًا: كانت الأساليب التي استخدمها الأساتذة الأكاديميون الذين ساندوا النازية والفاشية مختلفة اختلافًا جذريًّا عن الأساليب التي نؤيدها هنا. ومثلما لا يملك أي امرئ أن يكون راضيًا عن نفسه، يسعى الأكاديميون المعاصرون، قدر استطاعتهم، لئلا يعتبروا أي أمر من المسلمات، فيُخضعون افتراضاتهم، وافتراضات زملائهم، للنقد المنهجي، ثم يحاولون كشف التحيزات غير المعلنة في عملهم، وإن كان النجاح لا يحالفهم دومًا في ذلك.
في المقابل، انطلق الأساتذة الأكاديميون الإيطاليون والألمان الذين تعاونوا مع الفاشية والنازية من الافتراض بأن ثمة طرقًا بعينها لرؤية العالم لا تحتمل الشك. على سبيل المثال، اتفق المؤرخون الإيطاليون على أن التاريخ لن يُفهم على النحو الصحيح إلا من منظور تطور الدولة القومية، وأن الأمة لها شخصية جوهرية «يجب» أن يكون الحفاظ عليها هدفًا لسياسة الدولة. وبالمثل، أسَّس العلماء الألمان رؤاهم التاريخية على مفهوم «الشعب» الذي يصنف على أساس عرقي، ومن ثم، كانوا مستعدين للتعاون مع النازية.
وفي الواقع، فكرة الشخصية القومية ليست سوى رؤية متحيزة تنهار أمام أقل قدر من التدقيق. وعلم الفاشيين يتجاوز قليلًا كونه تعصبًا أعمى نشأ في ظل نظام ما. وأي أسلوب علمي وبحثي سليم هو في جوهره مناهض للفاشية؛ لأنه يتعامل بارتياب مع الأمور التي يعتبرها الفاشيون ليست محل انتقاد. لكن هذا لا يكفي للدفاع عن البحث العلمي من أولئك الذين يرونه انعزالًا في «برج عاجي»؛ لأنه ربما يرخص للأكاديميين أن يرضوا بالسعي وراء المصالح الأكاديمية بينما العالم ينهار من حولهم. قد يردُّ أحدهم بأن الأسئلة التي نسألها بشأن الماضي مستوحاة جزئيًّا من غاياتنا الأخلاقية؛ لذا فإنه من المشروع تمامًا أن ندرس الفاشية كي نكتشف أي الوسائل كانت الأكثر فعالية في مكافحتها، وما يمكن أن يساعدنا على محاربتها في المستقبل (مع الأسف، ثمة آخرون يدرسون الفاشية بغرض إحيائها). ومع ذلك، فإن الحذر مطلوب؛ لأن دراسة الفاشية فحسب لا تستطيع أن تزودنا باستراتيجيات مكافحتها.
أولًا: وكما أكدنا في البداية، الاكتفاء باستخدام مفهوم الفاشية لا يزودنا سوى برؤية جزئية في كل حالة؛ لأن كل حركة على حدة ستتسم بميزات خاصة لن يتسنى تفسيرها إلا في سياق ظروفها الخاصة. ونظرًا لأنه لم يكن من الممكن قط إيجاد نموذج فاشي «بحت»، فإننا بحاجة إلى استخدام مفاهيم أخرى إلى جانب مفهوم الفاشية. فالمشكلة ليست فقط أن الحركة الفاشية حركة «تتكيف» تبعًا للظروف المحلية، فهذا سيعني ضمنًا أن أي حركة لها جوهر فاشي أساسي إضافة إلى سمات ثانوية مرتبطة بالسياق. ومن المستحيل في الواقع أن نحدد الأهمية النسبية للسمات المحلية والعامة؛ لأن كليهما حاسم بالنسبة لطبيعة الحركة. ولكي نفهم كل حركة على حدة سنحتاج لاستخدام مجموعة من المفاهيم، وأن ندرك بأننا سنشهد حركات مناهضة للفاشية بقدر ما نشهد حركات فاشية. أما إذا كانت الاستراتيجية تستند كليًّا على تحليل الفاشية التاريخية، فإنها حتمًا لن تأخذ في الاعتبار السمات المستحدثة التي يتسم بها اليمين المتطرف اليوم.
ثانيًا: إن تناول أي استراتيجية مناهضة للفاشية بالتفصيل لا يتطلب تحليلًا للفاشية فحسب، وإنما لمناهضة الفاشية أيضًا. وهذا موضوع خارج نطاق هذا الكتاب، لكننا يمكن أن نقول إن البحث التاريخي يكشف أنه ما من أسلوب واحد بعينه كان فعالًا في كل الحالات في مكافحة الفاشية؛ فحظر المنظمات الفاشية مثلًا كان حلًّا ناجحًا في بعض الأحيان، وفاشلًا في أحيان أخرى. وما من سابقة تبيِّن لنا ما إذا كانت ملاحقة الدعاية العنصرية قضائيًّا ستشكل رادعًا لمروجيها، أم أنها ستعزز التعاطف معهم باعتبارهم ضحايا «الظلم». وحدث في بعض الحالات أن كانت جهود المحافظين لإرضاء النزعة العنصرية لدى الناخبين تحرم الفاشيين من الدعم، لكن حدث أيضًا في حالات أخرى أن أسفرت هذه الجهود عن إضفاء الشرعية على الفاشية. بوضوح، يجب أن نقدم للأشخاص الذين يُحتمل أن يؤيدوا الفاشية وسيلة بديلة أفضل وأكثر إنسانية للتغلب على مشاكلهم، لكن ما من شاهد يقول إن هذه الوسيلة البديلة لا بد أن تكون ثورية (كما يدعي بعض الماركسيين)، أو ديمقراطية.
وفي نهاية المطاف، تعتمد الاستراتيجيات المختارة على الخيارات الأخلاقية، من حيث اعتبارها مقبولة، بقدر ما تعتمد على افتراضات العلماء بشأن ما حدث في الماضي. مثلًا: هل سيكون من المقبول أخلاقيًّا أن نحارب الفاشية عن طريق تبني عنصريتها؟ هذا سؤال موجه للمجتمع برمته، وليس للأكاديميين وحدهم.
ما هي فرص الفاشية اليوم؟ إذا كان هناك شيء واحد لا بد لنا أن نتعلمه من التاريخ، فهو أن التنبؤ عمل محفوف بالمخاطر. لكن، حتى الآن، ما من حركة ترتدي علنًا عباءة الفاشية التاريخية اقتربت من صنع طفرة سياسية. وتفسير هذا الفشل لا يعزى فقط إلى أن الفاشية تثير ذعر معظم الناس، بل أيضًا إلى أن الكثير من سمات مجتمع ما بين الحربين التي صنعت الفاشية — على سبيل المثال، اعتقاد أهل الطب في «اليوجينية»، والاقتناع بأن الأمن القومي يتوقف على زيادة معدل مواليد السكان «المواطنين» والاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وولع الشباب بارتداء الألبسة الموحدة وبالمسيرات — ليس لها وجود واضح في المجتمع المعاصر. ومع ذلك، هناك حركات نازية جديدة في معظم الدول الغربية، ولا تزال الفاشية «خيارًا متاحًا»، وما من سبب يدعو للافتراض بأن الفاشيين لا يستطيعون الوصول إلى السلطة لأن الظروف الآن تختلف تمامًا عن تلك المرتبطة بسنوات ما بين الحربين. فالمجتمع الحديث، رغم كل شيء، يعتمد على شبكة من الثقة والتفاوض ربما تكون هشة، وقد تنهار بسهولة.
في الوقت الحالي، تبدو فرص الشعبوية القومية أفضل كثيرًا من فرص الفاشية، وهذا واضح من صعود اليمين المتطرف في فرنسا وسويسرا والدنمارك والنمسا والولايات المتحدة وروسيا، علاوة على أن انتشار العنصرية في الغرب، وشيطنة الإسلام، والتخوف من أن تعمل العولمة على تآكل الدول القومية، والاعتقاد بأن المهاجرين يهدمون الهويات الوطنية الضعيفة، والاقتناع بأن السياسيين كلهم فاسدون، كلها شواهد تشير إلى أن المستقبل ربما يخبئ مزيدًا من انتصارات الشعبوية القومية. لا يمكننا أن نطمئن إلى الافتراض بأن الديمقراطية الآن متجذرة عميقًا بدرجة تجعل من المستحيل على اليمين المتطرف أن يفوز بالسلطة، فالديمقراطية نفسها لا تخلو من نزعات تمييزية. والديمقراطية ضاربة بجذورها «بالفعل»، لكنها لا ترتبط دائمًا بالقناعة بأن جميع البشر يستحقون معاملة متساوية. والكثيرون مقتنعون بأن الديمقراطية ببساطة هي حق الأغلبية في أن تفعل ما تشاء، وقد استغلت الشعبوية القومية هذه القناعة استغلالًا ناجحًا.
إن نجاح جان ماري لوبان في الوصول إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية عام ٢٠٠٢ يُبرز ترسخ قوة العنصرية الشعبوية القومية في بلدان معينة في أوروبا، في حين تبيِّن هزيمته الساحقة في الاقتراع الثاني حجم معارضة بقية المجتمع لليمين المتطرف. وهكذا تكشف نجاح استراتيجية اليمين المتطرف «الانتخابية» وحدود هذا النجاح. ويبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كانت الشعبوية القومية ستتمكن يومًا ما من إقناع قطاع أعرض من الناس بأنها تستطيع حقًّا حل كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية من خلال وضع حد لتدفق الهجرة وإعادة المرأة للمنزل. يضاف لذلك، أن العديد من الناس ينزعجون بسبب اعتقادهم بأن منافع الديمقراطية ربما تتعرض للسطو من جانب أشخاص «ليسوا مثلنا»، أو يُعتبرون «غير أهل» للديمقراطية على نحو ما، ربما يكون هؤلاء الناس المضطربون أنفسهم أقل استعدادًا للتخلي عن هذه الامتيازات؛ إذ هل ستسر المرأة لو رأت أنها تجبر على الخروج من سوق العمل؟ وكيف يمكن التعامل مع ما سينجم حتمًا عن رحيل المهاجرين من نقص في الأيدي العاملة وتراجع للقوة الشرائية؟ ربما يمكن «حل» المشاكل الحتمية سلميًّا، ومن الممكن أيضًا أن يُطلق العنان لدائرة من العنف والعنف المضاد، وأن تنشأ الاستبدادية، بل وحتى الفاشية الكاملة.