«الشيء ونقيضه»: ما الفاشية؟
استخدم موسوليني مصطلح «الفاشية» لأول مرة لوصف حركة سياسية جمعت بين التعصب القومي والعداء لكلٍّ من اليسارية والسياسة المحافظة عام ١٩١٩. وبعد ثلاث سنوات، تولى موسوليني مقاليد السلطة على رأس ائتلاف مدعوم من المحافظين، وفي عام ١٩٢٦ بدأ يؤسس ديكتاتورية واسعة النطاق. وبحلول هذا الوقت، باتت الفاشية محط إعجاب عدد كبير من الشخصيات السياسية والأدبية البارزة في بقاع كثيرة خارج إيطاليا، لم تكن كلها تنتمي للتيار اليميني. ثم ضربت النازية ضربتها إبان فترة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي بدأت عام ١٩٢٩، وصعدت إلى السلطة في يناير عام ١٩٣٣. وفي الوقت الذي بدأ فيه موسوليني يؤسس مجتمعًا «شموليًّا»، شرع هتلر في بناء «يوتوبيا» عنصرية، وهو الحلم الذي استتبع إقصاء اليهود من ألمانيا والغزو العسكري لأوروبا الشرقية. في الوقت نفسه، ظهرت حركات فاشية كبيرة في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى وفي البرازيل أيضًا.
صار الصراع بين الفاشية ومعارضيها يهيمن أكثر فأكثر على المشهد السياسي؛ إذ فازت الجبهات الشعبية المناهضة للفاشية بالسلطة في فرنسا وإسبانيا. حتى في البلدان التي كانت الفاشية بين مواطنيها فيها ضعيفة — مثل السويد — طرحت الحكومات اليسارية سياسات مبتكرة لدعم الرفاه الاجتماعية وأسعار السلع الزراعية كي تدرأ تهديد الفاشية المحتمل. لكن سياسة التوسعية التي تبناها موسوليني وهتلر نشرت الصراع بين الفاشية ومعاداة الفاشية في ميدان العلاقات الدولية أيضًا، الأمر الذي فرض خروج حتى الاتحاد السوفييتي المنبوذ من عزلته الدبلوماسية. وبدءًا من عام ١٩٣٩، كان غزو النازيين جزءًا كبيرًا من أوروبا فرصة لتولي الفاشيين مناصب لفترة وجيزة في حكومات البلدان التي كانوا سيشغلون فيها موقع المعارضة لولا غزو النازيين، لا سيما في كرواتيا ورومانيا. لكن رغبة الفاشيين والنازيين الشرهة في الغزو أوجدت تحالفًا دوليًّا نجح في نهاية المطاف في سحق الفاشية، لكن على حساب الملايين من القتلى والجرحى والمشردين.
بعد عام ١٩٤٥، ما انفك إرث الفاشية يشكل المشهد السياسي؛ فقد استمد القادة السياسيون لدول الحلفاء الشرعية من دورهم في هزيمة الفاشية، في حين زعمت حكومتا إيطاليا وألمانيا انبثاقهما من الحركة المناهضة للفاشية. واتَّهم اليسار مناهضي الشيوعية المحافظين بأنهم فاشيون، في حين ساوى اليمين بين الشيوعية والفاشية. وبالنظر إلى أن الفاشية تحولت إلى مصطلح دارج للإساءة على اختلاف أشكالها، ليس من المستغرب أن من يحاكون الفاشية لم يتحولوا حتى يومنا هذا إلى حركات فاشية حقيقية من الناحية السياسية، بل حركات تحمل طابع الفاشية — لا سيما تبنيها للقومية وللعنصرية — حققت ما يشبه الطفرة خلال أواخر التسعينيات من القرن العشرين.
إن الفاشية، شأنها شأن الليبرالية والمحافظية والشيوعية والاشتراكية والديمقراطية، إحدى الأيديولوجيات السياسية المهمة التي شكَّلت القرن العشرين. وربما يكون الاهتمام بتاريخ الفاشية وجرائمها في القرن الحادي والعشرين أكبر من أي وقت مضى. لكن كيف لنا أن نفهم أيديولوجية جذبت المتطرفين والمثقفين؟ أيديولوجية تندد بالبرجوازية وفي الوقت ذاته تشكِّل تحالفات مع المحافظين؟ أيديولوجية تتبنى نمطًا ذكوريًّا ومع ذلك تروق لعدد كبير من النساء؟ أيديولوجية تدعو للعودة إلى التقاليد وفي الوقت نفسه مفتونة بالتكنولوجيا؟ أيديولوجية تعظِّم من الشعب وفي الوقت عينه تحتقر الجماهير؟ أيديولوجية تدعو للعنف باسم النظام؟ إنها الفاشية! كما وصفها أورتيجا جاسيت: دائمًا «الشيء ونقيضه».
لا تزال توجد مشكلة أخرى أكثر جوهرية؛ فإن التباين في الحركات والأنظمة محل النقاش كبيرٌ بدرجة مثيرة للجدل، إلى حد أننا لا يمكن أن نعمم صفة «الفاشية» عليها كلها، وإلا فإننا نحجب بذلك السمات المميزة لكل منها. هل استخدام مصطلح «الفاشية» ينفي طابع الشر الفريد من نوعه عن النازية؟ هل من الأفضل أن نصنِّف النازية والستالينية معًا بوصفهما مثالين على الشمولية؟ إن عنوان هذا الكتاب في حد ذاته يوحي بأنني أعتقد أن «ثمة» شيئًا ما يضيفه استخدام مفهوم الفاشية؛ لذلك يجب أن أبدأ بتفسير هذا التناقض.
من يبحث في أدبيات الفاشية على أمل التوصل لمعنى دقيق لها كثيرًا ما ينتهي به الأمر يائسًا خليَّ الوفاض، يزفر في ضجر قائلًا: «الأمر يعتمد على التعريف، ومن ثم، لا بد أنها مسألة رأي شخصي.» وهذا صحيح؛ فكل شيء يعتمد بالفعل على التعريف، لكن هذا لا ينبغي أن يكون سببًا لإهمال هذا المفهوم. أخشى أن أُثقل على صبرك عزيزي القارئ، لكني أريد أن أشرح ما نبتغيه من تعريفات، فكيف إذن يمكننا أن نعرِّف التعريفات؟
أحد مبررات استخدام مصطلح الفاشية (أو أي مفهوم آخر مماثل) هو أنه يتيح تقييم الاتجاهات المشتركة بين أكثر من بلد واحد وحقبة تاريخية واحدة والمقارنة بينها. والإقرار بعموميات كهذه لا يتعارض مع التفرد الذي يميز كل حركة ونظام على حدة، بل في الواقع، المقارنة هي السبيل الوحيد لاكتشاف ما يميز مسألة ما عن غيرها؛ فأحيانًا تكون هناك سمات فريدة مهمة للغاية، كالدافع النازي لإقامة «دولة عنصرية». ومع ذلك، من المشروع تمامًا أن نركز على جوانب عامة أو محددة — هذا يتوقف على ما يطرحه المرء من أسئلة أو ما يبتغيه من اهتمامات — طالما أن المفاهيم المستخدمة تتسع لوجهات نظر أخرى.
لكن ذلك لا يعني أن جميع الأساليب مفيدة بالقدر نفسه، بل يجب صياغة أي مفهوم بطريقة تجعله يخضع للنقد ويواجه أي تعارض ممكن. على سبيل المثال، مفهوم العِرق كما يروِّجه الفاشيون ليس أكثر من تحيُّز أو تعصُّب دوجمائي لا يخضع لأي تحليل نقدي. ووراء العنصرية يوجد نوع من التفكير المزدوج يجعل الإيمان بالأهمية الحاسمة للعِرق في مأمن من الأدلة التي تدحض صحته. وهكذا، إذا كان شخص ما مقتنعًا بأن اليهود هم السبب في ما أسفرت عنه الرأسمالية من شرور، أو بأن قيادة السائقين الآسيويين سيئة (نوعان من التحيز الشائع لدى العنصرية المعاصرة) فستجده قادرًا على أن يسوق عددًا لا حصر له من الأمثلة على رأسماليين يهود وسائقين آسيويين سيئين؛ للتدليل على «أنهم» جميعًا «سواء». لكن الأمثلة التي تتضمن تجاوزات رأسماليين غير يهود أو سائقين بيض سيئين لا يُنظر إليها بهذه الطريقة نفسها، فإن حدث ولاحظها أحدهم، فسيتغاضى عنها باعتبارها انحرافًا فرديًّا لا يُرد إلى الأصل العرقي، ولن يعلِّق أحد بأن هذا السلوك «سمتهم المألوفة» إذا حدث أن انتقل أحد السائقين البيض من حارة في الطريق إلى أخرى دون أن يراقب حركة السيارات الآتية من ورائه. ما يحدث في الواقع، أن سلوك «هؤلاء» يُعرف بالنظر إلى عرقهم، بينما السلوكيات السيئة التي قد تبدر منا «نحن» ليست سوى حالات فردية. ونظرًا لأن تفسير هتلر لنشوء النازية على أنه نتيجة للصراع بين العرقين الآري واليهودي يقوم على افتراضات على هذه الشاكلة لا سبيل لدحضها، فلا يمكن قبوله على الإطلاق كوسيلة لفهم الفاشية؛ إذ يجب أن تسمح تعريفاتنا بالتحليل النقدي والدراسة.
إن إثبات خطأ التعريفات العلمية ليس بالغ السهولة كما هي الحال بالنسبة للتعريفات التي روَّجها الفاشيون أنفسهم، فمعظمها يحمل «بعض» القيمة. لكن كيف لنا أن نحدِّد أفضل التعريفات؟ لا يجب أن يكون التعريف قابلًا للدحض فحسب، بل يجب أيضًا أن ينير الطريق ويقدم توضيحًا لمعنى الأشياء التي نعرفها عن العالم؛ فنحن مثلًا لا نستطيع أن نميز شخصًا مثلنا من بني البشر إذا لم يكن لدينا بالأساس مفهوم يوضح ما هو «الشخص». إن حياة البشر من التنوع بحيث لا يمكن لأي مفهوم أن يوضح «كلَّ» ميزة لأي موضوع قيد الدراسة، ودراسة الفاشية لا تُستثنى من هذه القاعدة. لكن بعض المفاهيم تقدم تفسيرات «أكثر» من غيرها؛ لذا لا بد لنا أن نسأل عن مقدار ما يشرحه مفهوم واحد بعينه من موضوع دراستنا، وأي جوانب منه.
تنشأ الصعوبات حينما يدعي العلماء أن نظريتهم الأثيرة هي السبيل «الأوحد» لفهم الفاشية. ولما كانت أي حركة سياسية من التعقيد بحيث لا يمكن أن يشملها مفهوم واحد، فسرعان ما يصطدمون بالأدلة التي لا «تتماشى» مع نظريتهم، فيلتفُّون حول المشكلة بزعمهم أن نظريتهم تشرح أكثر جوانب الفاشية «أهمية» وتتغاضى عن سماتها المعقدة لأنها أقل أهمية. للأسف، هذا التصنيف لسمات الفاشية إلى سمات أساسية وثانوية ليس سوى عمل اعتباطي، أو تحكمه التفضيلات السياسية.
أود الآن أن أعرض بقدر أكبر من التفصيل بعض الطرق الرئيسية التي جرى فهم الفاشية من خلالها. ونظرًا لأن هناك عددًا كبيرًا جدًّا من النظريات عن الفاشية، فإنه من الضروري أن أتناول الأمر بشيء من التبسيط؛ لذا فقد آثرت أن أجمِّع النظريات وفقًا لما إذا كانت ترى أن الجوانب الأساسية للفاشية هي الجوانب المحافظية أم الراديكالية. كلا النهجين مفيد، لكن أيًّا منهما لا يمثل السبيل الوحيد لفهم الفاشية. وسوف أقترح في نهاية هذا الفصل تعريفًا أشعر أنه أكثر اكتمالًا على النحو الذي بينتُهُ أعلاه، يجمع نقاط القوة في النظريات الأخرى، ويمكنه التعامل مع تناقضات الفاشية التي أبرزتُها في الفصل السابق. ومع ذلك، حتى هذا التعريف لا يمكنه أن يشمل جميع جوانب الحالات الفردية، لكن لعله يساعد في فهمنا لظاهرة الفاشية.
مناهج الماركسية لتناول الفاشية
إن الماركسية، في أبسط صورها، تفترض أن المجتمع الحديث ينقسم إلى طبقتين أساسيتين: الطبقة البرجوازية — أو طبقة الرأسماليين — التي تملك وسائل الإنتاج (الأدوات والمصانع) لكنها لا تمارس العمل اليدوي؛ والطبقات العاملة — أو البروليتاريا — التي تمارس العمل اليدوي لكنها لا تملك وسائل الإنتاج. ويتصارع الرأسماليون والبروليتاريا على ملكية وسائل الإنتاج والسيطرة على الدولة. يوجد بين هاتين الطبقتين الكبريين طبقة البرجوازية الصغيرة، التي تضم أصحاب الأعمال الحرة وصغار رجال الأعمال والفلاحين والموظفين ذوي الياقات البيضاء. لا يتضح إلى أي الجانبين تنتمي البرجوازية الصغيرة: رأس المال أم العمال؛ فهي تملك ممتلكات لكنها مع ذلك تتعرض للاستغلال من قبل الشركات الكبرى.
تؤكد جميع مناهج تناول الماركسية للفاشية على الصلات التي تربطها بالرأسمالية. كان أكثر تعريفات الفاشية تأثيرًا التعريف الصادر عن «مؤتمر الأممية الشيوعية» لعام ١٩٣٥، والذي نصَّ على أن «الفاشية الممسكة بزمام السلطة هي الديكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر الرأسمالية المالية رجعية وشوفينية وإمبريالية.» كان الاعتقاد أنه عندما بلغ ضغط البروليتاريا لتدمير الرأسمالية أبعادًا متطرفة، لجأ الرأسماليون للإرهاب للدفاع عن سيطرتهم على وسائل الإنتاج. وكان رأي «الأممية الشيوعية» أن الأزمة التي عانتها الرأسمالية على درجة من الخطورة لم تكفِ معها الديكتاتورية التقليدية؛ لذلك استخدم الرأسماليون الحركة الفاشية الشاملة لتدمير الاشتراكية. ويذهب تعريف عام ١٩٣٥ إلى أن الفاشية ليست «صنيع» الرأسماليين؛ لأنها اعتمدت أيضًا على أفراد من طبقة البرجوازية الصغيرة، التي كانت ناقمة نقمة شديدة على رأس المال الكبير، لكن الرأسماليين استطاعوا، رغم ذلك، إقناع البرجوازية الصغيرة، والتائهة دائمًا بين الجانبين، بأن مصلحتها في الدفاع عن المِلْكية من خطر الاشتراكية. وما إن قفزت الفاشية إلى السُّلطة ودُمرت الحركة العمالية، لم يعد الرأسماليون بحاجة للفاشية، فعمدوا إلى قمعها أو تهميشها.
لم يمرَّ هذا التعريف دون اعتراض من جانب الماركسيين؛ فقد شعر بعضهم أنه يَسِم جميع الأنظمة الديكتاتورية دون تمييز بأنها فاشية. فضَّل ليون تروتسكي أن يميز بين الديكتاتوريات الفاشية وما يطلق عليها «البونابرتية» التي نشأت عندما كانت هناك حالة من الجمود بين العمال والرأسماليين، لم يكن من الممكن معها أن يهزم أحدهما الآخر، الأمر الذي سمح للدولة أن تصبح سيدة الموقف مؤقتًا. ولم يكن نظام كهذا قويًّا بما فيه الكفاية لأن يدمر اليسار، ومن ثم كان أقل خطورة من النظام الفاشي.
شعر الماركسيون الآخرون أن البرجوازية الصغيرة تلعب دورًا أكثر استقلالية مما ادعت الأممية الشيوعية، وأنها تقف إلى حد ما في طريق مصالح الرأسماليين. تبنَّى الماركسيون هذه الانتقادات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في محاولة لإضفاء قدر أكبر من المرونة على نموذجهم. لكن معظم الماركسيين لم يتخلوا عن قناعتهم بأن الفاشية تعمل «بالأساس» لمصلحة الرأسمالية. ومع ذلك لم يكن هناك فرق واضح بين التفسيرات التي قدمها الماركسيون الذين تخلَّوا عن أولوية دفاع الرأسمالية عن نفسها، والتفسيرات التي قدمها غير الماركسيين.
وقد بذل المؤرخون الماركسيون جهدًا كبيرًا — اتسم في كثير من الأحيان بقدر كبير من الموهبة والخيال — لإلقاء الضوء على العلاقة بين الفاشية والرأسمالية، وبينوا أن خطاب الفاشية الثوري لا يمكن أن يؤخذ بظاهره. وتكمن قوة النهج الماركسي في أنه يضع الفاشية في سياق النضالات الاجتماعية الأشمل التي شهدها القرن العشرون.
وفي الواقع، يتعامل النهج الماركسي مع الأسباب دون غيرها تقريبًا، ولا يبين ما يكفي حول كيفية التعرف على الحركة الفاشية — باستثناء أنه سيتخذ شكل حزب جماهيري مكون من أفراد البرجوازية الصغيرة، يطمح إلى الديكتاتورية وينكر لكل من الرأسمالية والاشتراكية، وفي الوقت نفسه، يخدم مصالح الرأسمالية بطريقة أو بأخرى.
والمشكلة الرئيسية هنا هي أن النهج الماركسي لا يقدم ما يكفي لكي يدعم الزعم بأن الفاشية تخدم مصالح الرأسمالية؛ وذلك لأن الرأسمالية قوة عاتية في المجتمع الحديث بدرجة تمكِّنها من أن تزدهر في ظل أي نظام لا يدمرها تمامًا. ويضاف إلى ذلك، أنه في حين لا يمكن إنكار أن الرأسمالية تكيِّف كل أنواع العلاقات الاجتماعية، فلا سبيل أيضًا لإنكار تأثيرات الأيديولوجية والدين وما إلى ذلك على الطريقة التي يدرك بها الرأسماليون مصالحهم. لذلك يجب أن نوضح السبب في أن بعض الرأسماليين، دون غيرهم، كانوا يعتقدون أن الفاشية تتماشى مع مصالحهم.
إضافة إلى ذلك، لا تعني قوة الرأسمالية أنها التفسير «النهائي» للفاشية. إن الماركسيين، في محاولتهم لجعلها كذلك، يضطرون إلى تنحية قدر كبير من الفاشية واعتباره ثانوي الأهمية. فالاقتناع بأن الفاشية إما أن تعمل في خدمة المصالح الرأسمالية أو تنهار يلزم الماركسيين بالتهوين من شأن الجوانب الراديكالية للفاشية؛ فهم يرون أن الاشتراكية هي الشكل الحقيقي الوحيد للراديكالية، ولما كان الفاشيون يُعارضون الاشتراكية، فهم بالضرورة رجعيون. إن الماركسيين يُسقطون من حساباتهم المعارضة الراديكالية التي انتهجتها الحركة الفاشية ضد النخبة الحاكمة القائمة والسياسيين السائدين في تيارَي اليسار واليمين، ويُسقطون أيضًا استعدادهم لتجاهل رغبات رجال الأعمال عندما تبدو أنها تعرقل إقامة مجتمع وطني مُستنفر.
وضرورة إثبات أن الفاشية تخدم في النهاية مصالح الرأسمالية يجعل أيضًا بعض الماركسيين ينظرون إلى ما اتسمت به الفاشية من توسع إقليمي وعنصرية على أنه مكيدة ماكرة لصرف الانتباه عن التوترات بين أنصار الرأسمالية من جهة والفاشية البرجوازية الصغيرة من جهة أخرى، أو على أنها في الواقع ليست سوى أكثر جرائم الرأسمالية تقدمًا (نسخة حديثة لجريمة استيلاء الأرستقراطيين على أراضي سكان المرتفعات وتهجيرهم منها قسرًا). وحتى إذا قبلنا الادعاء المعقول نوعًا ما بأن الفاشية راقت لأصحاب النزعة القومية لرغبتهم جزئيًّا في تقويض سمة «الولاء للطبقة» عند فئة العمال، سنظل بحاجة لتفسير الموقف الفكري الذي أدى إلى الاقتناع بأن دفاع الرأسمالية عن نفسها تطلَّب سياسات مثل قتل المختلين عقليًّا في ألمانيا النازية أو «طَلْيَنة» ألقاب العائلات (أي تغيير ألقاب العائلات إلى ألقاب إيطالية) في ساوث تيرول. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار الاحتمال بأن السعي لتحقيق هذه الأهداف كان لأسباب لا علاقة لها بمنطق الرأسمالية (المُفترض).
الفاشية ومناهضة الحداثة
النظرية التالية التي سنتناولها تُعرَف في كثير من الأحيان باسم «الفيبرية» نسبة إلى ماكس فيبر، رغم أنها لم تتفرع مباشرة عن منهج ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠) في علم الاجتماع على الإطلاق. في الواقع، كان المؤرخون الماركسيون مسئولين بالدرجة الأولى عن تطبيق هذه النظرية على إسبانيا وإيطاليا. ومع ذلك، يستخدم مصطلح «الفيبرية» حسبما جرت العادة.
في حين رأى الماركسيون أن الرأسماليين هم السبب في ظهور الفاشية، ألقى «الفيبريون» باللائمة على الطبقة الحاكمة الإقطاعية، أو طبقة ما قبل الثورة الصناعية؛ أي كبار ملَّاك الأراضي في شرق ألمانيا أو في «وادي بو» بإيطاليا، أو طبقة «اللاتيفونديا» في جنوب إسبانيا، أو الطبقة العسكرية في اليابان. وقالوا إن هذه النخب تمكَّنت من ممارسة نفوذهم الفتاك على مسار تاريخ الأمم؛ لأن بلدانهم لم تشهد في القرن التاسع عشر ثورة برجوازية ديمقراطية ليبرالية حقيقية. واستغلت هذه النخب التعليم لنشر قيمها الرجعية بين بقية أفراد المجتمع، ولجأت إلى أقصى الوسائل تهورًا للحفاظ على مكانتها. فقد رعت الحركات القومية الجماهيرية في محاولة لتقويض الديمقراطية الليبرالية والاشتراكية؛ إذ دفعت النخبتان الألمانية والإيطالية بلديهما إلى أتون الحرب عام ١٩١٤ على أمل أن تتيح الحماسة الوطنية لهما فرصة سحق أعدائهما في الداخل. وحينما فشلت هذه الخطة، تحولتا إلى الفاشية في محاولة أخيرة لتدمير أعدائهما. لقد كانت الفاشية في الأساس حركة مناهضة للحداثة، وناجمة عن التقارب بين نخب ما قبل الثورة الصناعية والبرجوازية الصغيرة الرجعية.
أحدث النهج «الفيبري» تحسنًا هائلًا في فهمنا الفاشية داخل سياقها الاجتماعي؛ فقد بيَّن أن أفراد الطبقة الأرستقراطية القديمة، شأنهم شأن الرأسماليين، كانوا سببًا مباشرًا لانضمام هتلر إلى الحكومة في يناير عام ١٩٣٣. لكن لا متسع هنا لأن أتناول هذا النهج بنقد تفصيلي؛ حسبي أن أقول إنه من غير المقنع تمامًا اعتبار الفاشية حركة «مضادة للحداثة»؛ لأنها حملت أيضًا سمات عديدة يراها البعض «حديثة». ثمة صعوبة أخرى تتمثل في أن النهج «الفيبري» يشارك الماركسية في افتراضها أن النخب قادرة على خداع بقية أفراد المجتمع — لا سيما أفراد البرجوازية الصغيرة — متى شاءت. و«الفيبرية» — شأنها شأن الماركسية — لا تفسر السمات الراديكالية للفاشية. صحيح أنها تتفوق على الماركسية من حيث ما توليه من اهتمام للأيديولوجية الفاشية، لكنها تختزل الأفكار لمجرد تعبيرات عن مناهضة الحداثة.
الفاشية باعتبارها شكلًا من أشكال القومية الشمولية
تشمل فئة «الشمولية» مجموعة متنوعة من مناهج تناول الفاشية، وهي لا تنفصل كليًّا عن «الفيبرية»؛ لأن الأخيرة تنظر إلى محاولة استعادة شكل من أشكال يوتوبيا ما قبل الحداثة على أنها تشكِّل مشروعًا شموليًّا.
استحدث الفاشيون الإيطاليون كلمة «الشمولية» لتغليف سعيهم إلى إضفاء الصفة «القومية» على الجماهير الإيطالية، بغرض إدماجهم ضمن مجتمع هرمي عسكري مُستنفَر، يخدم احتياجات إيطاليا. وقد شهد هذا المسمى أَوْج رواجه بوصفه فكرة علمية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، عندما تبنَّى علماء الاجتماع المناهضون للماركسية مفهومًا شوَّه الشيوعية من خلال ربطها بالفاشية.
- (١)
حزب شعبي وحيد، تحت قيادة رجل واحد، يشكل النواة الصلبة للنظام، وعادة ما يكون أعلى من البيروقراطية الحكومية أو يكون مندمجًا فيها.
- (٢)
نظام يمارس الإرهاب من خلال الشرطة أو الشرطة السرية الموجهة ضد خصوم النظام الحقيقيين والوهميين على حد سواء.
- (٣)
سيطرة احتكارية على وسائل الإعلام الجماهيرية.
- (٤)
شبه احتكار للسلاح.
- (٥)
سيطرة مركزية على الاقتصاد.
- (٦)
أيديولوجية معقدة تغطي كافة مناحي وجود الإنسان، وتتسم بأهمية قوية [مسيحية أو دينية بصفة عامة] تنبع من مذهب الألفية.
النقطة الأخيرة هي أهم النقاط، فالفاشيون يهدفون إلى إعادة هيكلة المجتمع وفقًا لمخطط أيديولوجي. يرى منظِّرو الشمولية أن مكانة المرء في العالم، وفق ثقافة المجتمعات التقليدية، مرسومةٌ وفق خطة إلهية. أما التحديث، فيتسبب في انهيار الثوابت الدينية، ويرى البعض هذا نذير خطر (هؤلاء مصابون بما يسمى: يأس، أو ارتياع، أو شذوذ حضاري)، ولذلك يصنعون «أديانًا» بديلة كالشيوعية أو الفاشية. تقول حنا أرندت إن جوهر الشمولية يكمن في استخدام الإرهاب لصنع أيديولوجية تجريدية لفهم العالم، ولتدمير كل أشكال التماسك البشري القائمة باسم هذا المنهاج.
انحسر مفهوم الشمولية في السبعينيات؛ ففي ذلك العقد كانت الحرب الباردة قد خفَّت حدتها، وأظهرت الأبحاث أن الأنظمة النازية والفاشية و(الشيوعية) لم تكن تمثل نظام سيطرة تنازليًّا على الإطلاق، بل اتسمت بعدم وضوح هياكل السلطة والفوضى الإدارية.
وقد أظهر انهيار الشيوعية عام ١٩٨٩ أدلة جديدة على أهوال الستالينية، ومنح الشمولية فرصة جديدة للحياة. في تلك الأثناء، أدى صعود حركة ما بعد الحداثة في الجامعات الغربية إلى إحياء اهتمام العلماء بالأفكار. يصر ما بعد الحداثيين على أننا ينبغي أن نحلل البُنى الداخلية للأفكار، لا أن ننظر إليها باعتبارها تعبيرات عن المصالح الضمنية الاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها. وفي الواقع، يعتبر بعضهم أن الإيمان بأي مبدأ أساسي مُنظِّم — سواء أكان الإيمان بالله أو بالطبقة أو بالدولة أو بالعرق — قمعي في جوهره، وهذه الرؤية تلتقي مع رؤية النظرية الشمولية إلى الفاشية على أنها تمثل محاولة لخلق عالم مثالي وفقًا لمبادئ مجردة. حتى العلماء الذين لم يتبنوا مبادئ ما بعد الحداثة بدءوا يؤيدون الأفكار الفاشية مجددًا، لا سيما فكرة القومية.
ويرى كثير من العلماء المعاصرين أن القومية المتطرفة جوهر للأيديولوجية الفاشية. يقول روجر جريفين إن الفاشية شكل من أشكال «التعصب القومي الشعبوي» يهدف إلى إعادة بناء الدولة في أعقاب أزمة وتدهور كبيرين، ويستخدم لوصف الفاشية المصطلح الفيكتوري «الإحياء»، الذي يعني «البعث من تحت الرماد». ومحاولة إحياء القومية هذه شمولية في طموحها، إن لم يكن في تحقيقها. في ذلك الوقت، أحيا مايكل بيرلي فكرة النازية لتكون بديلًا للدين.
يرى منظِّرو الشمولية أن الأفكار الفاشية «ثورية»؛ لأننا إذا كنا نريد بناءً يوتوبيًّا فلا بد من هدم جميع الهياكل القائمة، سواء أكانت تلك الهياكل أحزابًا أو نقابات عمالية أو عائلات أو كنائس. وتشمل الثورة أيضًا خلق «إنسان فاشي جديد» يعيش من أجل الدولة فقط. ولما كان الناس في الواقع متنوعين وبعيدين عن بلوغ الكمال، فإن القوة هي السبيل الوحيد لجعلهم يتقلدون أماكنهم في اليوتوبيا. وهكذا تؤدي اليوتوبية دائمًا إلى الإرهاب.
يتصدى أنصار الأطروحة الشمولية المعاصرون للاعتراضات التي تلقَاها الصور السابقة للنظرية الشمولية؛ فهم يتقبَّلون الطابع الفوضوي الذي يميز الأنظمة الشمولية، بل إنهم يؤكدون أن الفوضى البيروقراطية ساعدت على إحداث «تعسُّف» في الحكم جعل مقاومة الأفراد للنظام أمرًا مستحيلًا. ويقول الشموليون أيضًا إنه رغم عدم التمكن من تحقيق الشمولية على أرض الواقع، كانت هناك «رغبة» في تنفيذ برنامج يوتوبي. ويقول بيرلي، مستخدمًا استعارة مدهشة، إن النازيين سعوا لإعادة بناء المجتمع الألماني كما يعيد مهندسون تشييد جسر، حيث لا مجال لهدمه تمامًا؛ لأن ذلك من شأنه أن يعطل حركة المرور، ومن ثم، يستبدلون كل جزء منه على حدة، بحيث لا يشعر المارة بعملية إعادة التشييد.
وتوضِّح النظرية الشمولية أن التعصب القومي مكوِّن أساسي في رؤية العالم من المنظور الفاشي، وهذا ما يؤمن الفاشيون بأهميته. إن وضع الفاشيين الدولة باعتبارها أولوية أولى له آثار راديكالية، تشمل إمكانية تقويض الأسرة والمِلْكية. وتُظهِر النظرية الشمولية كذلك أن هناك الكثير من القواسم المشتركة التي تجمع بين الفاشية والأصولية الدينية، وأن الفاشية تسعى لتحقيق أهدافها من خلال منهج العنف الذي تبرره القناعة بأن المعارضين ليسوا سوى جزء من مخطط شيطاني.
تناقض نقاطُ ضعف النظرية الشمولية نقاطَ ضعف النهجين «الماركسي» و«الفيبري». أولًا: تتحيز النظرية الشمولية للانشغال بالأفكار، مما يعني أن تفسيرها لأسباب الفاشية ضعيف؛ فهي عادة تكتفي بتعميمات ميكانيكية عن أزمة الأفكار التقليدية، وما نجم عنها من شعور بالتيه، والبحث عن أديان بديلة. وبناءً على ذلك، تقول إن الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب الخوف من الثورة، أربك الألمان وجعلهم يتأثرون بأفكار قومية شبه دينية كانت تبشر باستعادة ما يتوقون إليه من شعور باليقين. وما من شك في أن الكثيرين أصابهم «التيه» عام ١٩١٨. لكن ليس هناك قانون ينص على أن مثل هذه الفوضى تؤدي «حتمًا» إلى التيه، بل على العكس، تنوَّعت ردود الأفعال إزاء الأزمة، وتباينت تبعًا لتكوين الناس التعليمي، ووضعهم الاجتماعي والديني، وأعمارهم، ونوعهم ذكرًا كان أم أنثى. ومن ثم، لا ينبغي للمرء أن يبحث عن أصول البرامج العنصرية الفاشية، مثلًا، بالمعنى العام للتيه، بل في تاريخ كل فئة على حدة، مثل فئة العاملين بمهنة الطب مثلًا، ويجب على المرء أن يسأل: كيف وصل أولئك الذين اعتنقوا أشكالًا يسوعية للقومية إلى احتكار السلطة السياسية؟
ثانيًا: تبالغ نظرية الشمولية في الجانب الثوري للفاشية، وتذهب إلى أن أي نظام شمولي يهدف إلى تدمير «جميع» أشكال التماسك الأخرى في سعيه لجعل جميع الأفراد تابعين بالقدر نفسه للنظام ولكي يخلق مجتمعًا جديدًا. لكن حلمًا كهذا يستحيل «تصوره»، ناهيك عن تحقيقه على أرض الواقع؛ لأنه يتطلب حيادية يستحيل بلوغها. ففي الواقع، تشكَّلت رؤية الفاشيين عن اللايوتوبيا بفعل تحيزات وافتراضات مشكوك في صحتها. كانت الشركات الكُبرى والأسر متوافقة بشكل ما (ضمن حدود معينة) مع معظم التصورات الفاشية للأمة المستنفرة. أما الشيوعية والحركة النسائية فلم تتوافقا معها. ولا يمكن النظر إلى الشمولية على أنها مفهوم مفيد إلا إذا تذكرنا أنها تستتبع الدعوة إلى فرض رؤية عالمية شكَّلتها تحيزات غير واعية. لذلك لا ينبغي لنا أن نتوقع من اليوتوبيا الفاشية أن تختلف اختلافًا كليًّا عن العالم على حاله القائم؛ فهذا التوقع هو ما يجعل الفاشية تروق للكثيرين.
أيضًا تبدو القومية الفاشية أقل ثورية عندما نتذكر أنها لا تدافع عن حقوق مجموعات قومية معينة باسم مبدأ مساواة عالمي بين جميع الأفراد، فهي تؤكد على أن الجنسية يجب أن تستعيد هيمنتها، أو تصبح مهيمنة داخل دولة معينة، وربما أيضًا على المستوى الدولي. والقومية الفاشية مارستْهَا في كثير من الأحيان جماعةٌ عرقية «مهيمنة»، أو بالأحرى جزء من الجنسية المهيمنة يعتبر نفسه — صوابًا أو خطأ — مهمَلًا. وفي حالات أخرى، راقت الفاشية لجماعات عرقية كانت أقليات بالفعل، كالألمان في تشيكوسلوفاكيا خلال الثلاثينيات. كان الفاشيون في هذه الحالة يرغبون في أن يصبحوا جزءًا من دولة أخرى تكون مجموعتهم العرقية قد حققت فيها هيمنة بالفعل.
يرد المدافعون عن النهج الشمولي على الانتقادات التي تقول إن نظريتهم تهوِّن دور الدوافع المحافظة في الفاشية من خلال الزعم بأن تنازلات الفاشية للمحافظين كانت «تكتيكية»، أو يقولون — كما قال مايكل بيرلي — إنهم مهتمون «بعلم النفس الأساسي، لا بظاهر الأمور»؛ وهذا تقليد غير واعٍ للأسلوب الماركسي في التعامل مع الحقائق التي يستعصي تكييفها.
خلاصة القول، إن تشبيه بيرلي المجتمع بالجسر كان مفيدًا (دون قصد)؛ لأنه أشار إلى أن الكثيرين اعتقدوا أن الفاشية ستصلح الدولة، وفي الوقت نفسه ستتركهم وشأنهم يستمرون في حياتهم. لكن هذا تشبيه ناقص؛ لأن الفاشيين حاولوا إعادة تشييد الجسر وفقًا لخطة شهدت تعديلًا كبيرًا؛ فقد تطلب مشروعهم تعبئة موارد هائلة، وزعزعة أساسات الجسر، والتهديد بعرقلة حركة السير. لكن العديد من المارة ساعدوا المهندسين عن طيب نفس وامتدحوا عملهم. علاوة على ذلك، كان المهندسون مقتنعين بأن المارة الآخرين يتآمرون سرًّا لتفجير الجسر الذي كانوا يتحركون فوقه. لكن ينبغي ألا يصرف ذلك انتباهنا عما يجري للقطارات التي تمر فوق الجسر، حيث كان قطَّاع طرق متنمرون يقذفون الركاب الذين دفعوا الأجرة في الوادي الكائن أدنى الجسر، على مرأى من ركاب آخرين يحاولون تجاهل ما يجري، وربما يتساءلون عما إذا كان الزي الذي يرتديه القتلة هو نفسه زي الحراس المألوفين لهم. إن المشروع الشمولي جديد في جزء منه، ومألوف في جزء آخر، ويتوقف تحقيقه على جاذبيته لمجموعات معينة وعلى القدر الذي يتسنى له من السلطة والدعم الشعبي.
تعريف
يجب أن يجمع التعريف الذي سنقدمه مزايا النظريات الماركسية و«الفيبرية» والشمولية، ويجب ألا يهمل الأفكار الفاشية أو صلتها بمختلف الفئات الاجتماعية، وينبغي أن يُظهر جانبَي الفاشية الراديكالي والرجعي. وبما أن الراديكالية والرجعية مهمان، فهذا يعني أن «جميع» عناصر تعريفنا للفاشية لا غنى عنها. أنا لا أتفق مع رؤية روجر جريفين التي تذهب إلى أننا يجب أن نفرق بين عناصر الفاشية التي ارتبطت تحديدًا بفترة ما بين الحربين العالميتين، والتي تُعتبر بالتالي غير ضرورية (يذكر جريفين عناصر مثل عبادة الزعيم، والقوات شبه العسكرية، والمسيرات الحاشدة، والاقتصاد الكوربوراتي) وبين ما يميزها من «سمات تعريفية»، أهمها إحياء التعصب القومي. ومشكلة هذا التفريق أن القومية التي اعتنقها بعض الفاشيين كانت نتاجًا لفترة ما بين الحربين بقدر ما كانت أي سمة أخرى من سمات أيديولوجية الفاشية. على سبيل المثال، ارتبطت القومية ارتباطًا وثيقًا بظهور القوات شبه العسكرية وعبادة الزعيم؛ لأن الفاشيين اعتقدوا أن الدولة تتجسد في قدامى المحاربين وفي الزعيم الشرعي. وكما سيتضح في الفصلين الرابع والخامس، كانت الفاشية وتاريخها سيختلفان كثيرًا لو لم يكن هناك قائد كاريزمي وحزب جماهيري يدعيان أنهما يجسدان الأمة. ورغم اختلاف الفاشيين على الوزن النسبي الممنوح لكل جانب من جوانب الفاشية، وعلى دلالة هذه الجوانب، ارتبطت جميع الأجزاء معًا. وإذا ركَّزنا على السمات التي وصفها جريفين بأنها غير ضرورية، فثمة خطورة كبيرة من أن نسيء فهم أهمية الفاشية في السنوات الفاصلة بين الحربين، وديناميتها الداخلية، وكيفية اختلافها عن الأيديولوجيات المنافسة.
بطبيعة الحال، كان هناك كثير من الحركات التي حملت بعض الملامح الفاشية دون سواها. ومن المفيد أن نعتبر بعض هذه الحركات تنتمي إلى فئة أوسع من حركات اليمين المتطرف، استنادًا لكونها تشترك معها في سمة العداء «المتطرف» لليسار. والديكتاتوريات السلطوية المحافظة — التي سنورد أمثلة كثيرة عليها في الفصول اللاحقة — تشكِّل أحد الأمثلة على ذلك. ثمة حالة من نوع مختلف ومثيرة للاهتمام هي حالة «الحزب الاشتراكي الفرنسي»، الذي ازدهر في فرنسا في الفترة بين عامي ١٩٣٦ و١٩٣٩. كانت هذه الحركة قد تفرَّعت من حركة «صليب النار» الفاشية، واحتفظت بقومية وشعبوية سالفتها، لكنها اختلفت في أنها تخلَّت تدريجيًّا عن القوات شبه العسكرية، وخفَّفت حدة لهجتها المعادية للديمقراطية، وزاد انخراطها في السياسة الانتخابية التقليدية. وبالمثل، سنرى أن بعض الحركات المعاصرة — مثل الحزب القومي البريطاني والجبهة القومية الفرنسية — تشكل بالفعل جزءًا من اليمين المتطرف، لكنها ليست فاشية. قد تبدو مثل هذه الفروق أكاديمية، لكنها مهمة لأن حركات اليمين المتطرف غير الفاشية لا تملك التأثير عينه الذي تملكه الجماعات الفاشية على النظام الاجتماعي والسياسي.
ما الشكل الذي ينبغي أن يتخذه تعريفنا؟ من السهل نسبيًّا أن نقدم تعريفًا للفاشية في شكل قائمة، حيث يستطيع المرء أن يعدِّد خصائص مثل التعصب القومي، ومعاداة الاشتراكية، والقوات شبه العسكرية، والقومية، ومعاداة الرأسمالية … لكن الجدل سيبدأ ما إن نحاول توضيح هذا التعريف. على سبيل المثال، ما معنى «معاداة الرأسمالية»، بالنظر إلى أن الفاشيين لم يقوِّضوا الشركات الكبرى بوجه عام؟ لذا أفضِّل أن أقدِّم تعريفًا في شكل نثر استرسالي؛ لأن ذلك يبرز معنى المكونات والروابط التي تربطها، ويبرز الطبيعة المتناقضة للفاشية. ومن ثم، سيزداد وضوح المغزى الكامل لمسميات معينة سترد في الفصول اللاحقة.
قبل أن أواصل، حريٌّ بي أن أوضِّح أنني لا أستطيع أن أدَّعي أن تناولي الفاشية نتاجُ إبداع شخصي، فأنا أدين بالكثير لكتابات إرنستو لاكلو المبكرة، الذي لا يزال يقدم أفضل توصيف للفاشية فيما يتعلق بالصراعات المتعددة الموجودة في المجتمع الحديث. ولا بد أن أضيف أن تعريفي متوافق عمومًا مع الكتابات الأكثر حداثة لروجر إيتويل، والذي يعي بصفة خاصة التناقضات الجوهرية التي تميز الفاشية. وقد اعتمدتُ كثيرًا جدًّا على ما قدمتْهُ البحوث التاريخية الأخيرة من أساليب واستنتاجات فيما يتعلق بدور المرأة والعمال في الحركات والأنظمة الفاشية؛ إذ تُبيِّن جميع هذه الدراسات التفاعلات المعقدة للتعصب القومي الفاشي مع الطبقة والنوع والدين وغيرها من أشكال الهوية، وتبيِّن أيضًا ضرورة إعادة النظر في المقابلات الثنائية التي عادة ما استُخدمت لتصنيف الفاشية (مثلًا، حديثة وتقليدية أو ثورية ورجعية). فالفاشية متناقضة بطبيعتها.
وبينما يجب النظر إلى الفاشية باعتبارها مجموعة متكاملة من الأفكار والممارسات، كلها ضرورية، يتطلب الإيضاح أن نبدأ من نقطة محددة ما؛ لذا سأبدأ بقبول «الإجماع الجديد» على أن الفاشية شكل من أشكال التعصب القومي فكرًا وممارسةً. لكن نقطة البدء هذه لا تعني أن القومية هي «الجوهر» الذي يمكن أن نستنبط منه جميع الجوانب الأخرى للفاشية، أو نفسر به هذه الجوانب؛ فمن المستحيل أن نقطع — على سبيل المثال — بأن الفاشيين قد عارضوا الاشتراكية لأنهم اعتبروها تهديدًا للوحدة الوطنية، أو — على العكس — أن الفاشيين كانوا قوميين لأنهم، في المقام الأول، اعتبروا القومية ترياقًا ضد الاشتراكية. كما أن البدء بالتعصب القومي لا يستلزم أن نقبل دون نقد ما قاله الفاشيون عن أنفسهم؛ لأننا يجب أن نتذكر أن الأيديولوجية الفاشية تضمَّنت أيضًا كثيرًا من الأفكار والافتراضات المشكوك في صحتها. لكن التركيز على التعصب القومي يتمتع بميزة تتمثل في الإقرار بأهمية «زعم» الفاشيين أنهم قوميون قبل أي شيء آخر. يُضاف إلى ذلك، أن رؤية روجر جريفين للفاشية على أنها أيديولوجية تسعى لإصلاح الدولة بعد فترة من التدهور المزعوم يمكن أن تبرز الطبيعة المتناقضة لأيديولوجية تنشد التغيير، لكنها حريصة أيضًا على الماضي.
يسعى الفاشيون إذن إلى خلق مجتمع وطني مستنفَر، لا تكفُّ جميع قطاعات الشعب فيه عن إظهار حبها للنظام، ويجد «الإنسان الفاشي الجديد» فيه الشعور بالإنجاز في خدمة النظام. وقد عرَّف النازيون الدولة على نحو بيولوجي، بينما أدركها آخرون على نحو ثقافي أو تاريخي. هذه القومية قد لا تكون بالضرورة توسعية توسعًا عسكريًّا؛ فقد دعا بعض الفاشيين — وحتى بعض النازيين — إلى «فاشية دولية»، أوروبية أو غربية أو مسيحية أو آرية أو للأعراق البيضاء. لكن هذه «الفاشيات الدولية» لم تُنكر أن السياسة الداخلية ينبغي أن تُحددها المبادئ الوطنية. وسوف أعرض في الفصول الثامن والتاسع والعاشر كيف شكَّلت القومية — المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأفكار العنصرية — السياسات الفاشية في مجالات مثل الرعاية الاجتماعية وسياسة الأسرة، علاوة على الآراء الفاشية بشأن العلاقات بين العامل ورب العمل وبين الرجل والمرأة.
يُدين الفاشيون الاشتراكية، والحركة النسائية، والرأسمالية، وأي حركة جامعة أخرى، من منطلق أن هذه الأيديولوجيات تُعلي معايير أخرى (الطبقة، والنوع ذكرًا أم أنثى، والمصالح الاقتصادية وغيرها) فوق الدولة. ولهذا تُوصَف الفاشية في كثير من الأحيان بأنها أيديولوجية سلبية، تعادي هذا أو ذاك. لكن في الواقع، تمنح القوميةُ الفاشيةَ جانبًا إيجابيًّا أيضًا، الأمر الذي سمح لها أن تعلن علوها على المصالح «الفئوية» الدنيا. هذا الإعلاء المطلق للدولة هو الذي يركز عليه المنظرون الشموليون حين يقولون بثورية الفاشية. لكن في مناقشتنا عن الشمولية يُفترض أن المفهوم الفاشي للدولة يحوي في الواقع بعض الأفكار الأكثر تقليدية، إلى جانب بواعثه الثورية؛ إذ يرى الفاشيون أن الرأسمالية تتماشى مع المصلحة الوطنية أكثر من الاشتراكية. وحينما تحدثوا عن صنع «الإنسان الجديد»، كان ما يعنونه حقًّا هو «الرجل»، لكن كانت وجهات نظرهم بشأن المرأة تقليدية بعض الشيء في كثير من الأحيان. ولذلك ستبيِّن أيضًا الفصول الثامن والتاسع والعاشر أن التحيزات بشأن الطبقة والنوع شكَّلت «لاإراديًّا» الأولويات القومية للفاشيين.
ثمة وسيلة جيدة لزيادة إيضاح طبيعة الفاشية على نحو دقيق هي مقارنتها بالديكتاتوريات المحافظة (مثل الأنظمة العسكرية في أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية في فترة ما بين الحربين العالميتين). فقد دافع المحافظون الاستبداديون عن إعلاء مجموعة من «المصالح» المحافظة مثل: الملكية والكنيسة والأسرة والجيش والحكومة. صحيح أنهم آمنوا إيمانًا كبيرًا بالقومية، لكنهم اعتقدوا أن النخب — لا الشعب — هي التي تتحدث باسم الأمة، وهدأت جذوة قوميتهم بفعل ضرورة الحفاظ على استقلالية المصالح المحافظة، ومن ثم، تركوا متسعًا للمبادرات الفردية؛ فلم يمنعوا تمامًا وجود «منظمات المجتمع المدني»؛ بمعنى حرية الأفراد في الاجتماع في منظمات بدافع من أسباب اقتصادية أو سياسية أو غيرها، وقلَّت محاولتهم تنظيم الأسرة أو الاقتصاد باسم المصلحة الوطنية.
في المقابل، لا تدافع الفاشية مطلقًا عن الملكية أو الأسرة، وهما أمران يحظيان بقدسية لدى المحافظين. ويؤثر التعصب القومي على المواقف التي تتخذها الفاشية إزاء المِلكية والأسرة في ثلاثة مناحٍ؛ أولًا: أن الفاشية تميز بين الشركات والأسر حسب الانتماء لجنسية ما تحظى بالأفضلية. إذ يحدث في بعض الأحيان أن تُصادَر ممتلكات أشخاص «أجانب»، وتنال الأسر التي تحظى بقبول من الناحية القومية (أو العنصرية) حظًّا أوفر في سوق العمل وتوزيع خدمات الرعاية الاجتماعية.
ثانيًا: لا يهاجم الفاشيون رأس المال نفسه، لكنهم مع ذلك يقولون إن «أنانية» الشركات التجارية الكبرى (أي سعيها للربح على حساب الانسجام داخل الأمة) تفقر العمال وتدفعهم إلى أحضان الاشتراكية. وبالمثل، يقولون بأن حب الذات لدى الرجل والمرأة يجعلهما يفضلان الوضع المعيشي أو الوظيفة المريحَيْن على إنجاب أطفال أصحاء للأمة. هذه القناعات تفتح الباب أمام ما يراه المحافظون «تدخلًا» تشريعيًّا في الاقتصاد والأسرة من جانب الأنظمة الفاشية. أخضعت الفاشية الشركات أيضًا للتنظيم، حيث أُجبر العمال على الانضمام إلى النقابات الفاشية، وباتت ولادة الأطفال واجبًا سياسيًّا. أما المحافظون السلطويون فيشعرون بالقلق من «أي» هجوم على الملكية، حتى أملاك اليهود. كما لا يحب المحافظون — لا سيما الدينيون منهم — رؤية أي هجوم على الأسرة باسم صحة الأمة.
يضاف إلى ذلك أن الفاشية تختلف عن المحافظية الاستبدادية على الصعيد المؤسسي؛ فالمحافظية الاستبدادية تحكم من خلال كيانات راسخة: كالكنائس والجيوش والدوائر الحكومية، وينشئ المحافظون الاستبداديون أحيانًا تنظيمات شعبية لتقديم الدعم، لكن نظرًا لأنهم يعتبرون الأسر والشركات معاقل تحمي نطاقًا خاصًّا لا ينبغي أن يخضع لتدخل الدولة، فهم لا يسعون إلى إلحاق الأمهات أو العمال بمنظمات تحمل صبغة سياسية صريحة. وفي واقع الأمر، نادرًا ما تلجأ الديكتاتوريات المحافظة إلى قمع أي من التنظيمات غير السياسية القائمة.
في المقابل، يحاول الفاشيون أن يضعوا السلطة في يد نخبة جديدة على رأس حزب جماهيري يمثل تجسيدًا للشعب والمصدر الحقيقي للهوية الوطنية. ويسعى الحزب لاحتكار التمثيل السياسي ويحاول تقويض التراتبات الهرمية التي يعتمد عليها المحافظون كالتراتبات الإدارية والعسكرية والكنسية، رغم أنه لا ينجح دائمًا في ذلك. وبينما يستخدم المحافظون الاستبداديون الشرطة والجيش لقمع اليسار، تقوم التنظيمات الفاشية شبه العسكرية بهذه المهمة بنفسها لاعتقادها أن السلطات لن تستطيع إنجاز هذه المهمة وحدها. ويمثل الفاشيون نخبة «ذكورية» جديدة منوطًا بها أن تحلَّ محل السياسيين الضعفاء «المتأنثين» أو «العاجزين»، وأن تضمن خضوع الشركات والأسر للمصلحة الوطنية.
من المهم أيضًا أن نوضِّح ما يفعله الفاشيون كي يروقوا للناس؛ فهم لا يعتبرون الشعب فئة اقتصادية أو اجتماعية. على سبيل المثال، هم لا يستخدمون مسمى البرجوازية الصغيرة، بل مسمى «الشعب» حينما يريدون التعبير عن المشاعر المناهضة للدولة لدى «أي» جماعة من الناس، من العمال الساخطين إلى الرأسماليين الأثرياء. كل ما يمكننا أن نؤكده هو أن أنصار الفاشية «يعتبرون أنفسهم مهملين من قبل الأحزاب اليمينية أو اليسارية القائمة» (أما ما إذا كانوا مهملين حقًّا أم لا، فهذا شأن آخر). هذا الشعور بالإهمال يغذي الراديكالية الفاشية.
يجب أن يحوي التاريخ عنصرًا إبداعيًّا بحيث لا يكون الرجل ضد الجماهير (الديكتاتورية [المحافظة]) ولا تكون الجماهير ضد الرجل (ديمقراطية الوقت الحالي المنفلتة)، بل يكون الرجل الذي وجدته الجماهير.
تاريخيًّا، نشأت الحركات الفاشية من مصدرين؛ أولًا: خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين كان أنصار أحزاب اليمين الساخطون هم أكثر — وليس كل — من اعتنق الفاشية، وسوف نرى هذا في الفصول الرابع والخامس والسادس. ففي ظروف الأزمة شعر كثير من المحافظين من عامة الشعب أن اليمين التقليدي أضعف من أن يحقق وحدة وطنية أو يواجه الاشتراكية والحركة النسائية والأزمة الاقتصادية والصعوبات الدولية، ورأوا أن الفاشيين أكثر وطنية وتصميمًا من المحافظين التقليديين، بل واعتبروا أن إزالة المؤسسة الرسمية القائمة شرط مسبق لإصلاح النظام، فطالبوا بفرض النظام باسم الثورة، وبالثورة باسم فرض النظام.
يمكن أن تنشأ الفاشية أيضًا من أزمة اليسار. صحيح أن هذا نادرًا ما يحدث، لكنه حدث فعلًا خلال سنوات ما بين الحربين العالميتين، ولو أنه أكثر وضوحًا في الوقت الحاضر. وحينما تنشأ الفاشية من اليسار، يكون المزيج الفريد بين الراديكالية والرجعية ناجمًا عن امتزاج ما تبقَّى من العداء اليساري للدولة مع الشعور بأن اليسار قد خان الشعب من خلال — مثلًا — الاهتمام المفرط بالأقليات العرقية أو الحركات النسائية. لكن بالطبع، ليس كل من يرفض الأحزاب القائمة يتحول إلى الفاشية.
إن تنوع أصول من تحولوا إلى الفاشية يؤكد، مرة أخرى، على الطبيعة المتناقضة للفاشية، ويذكرنا بأن الفاشيين اختلفوا فيما بينهم حتى حول جوهر حركتهم؛ فقد زاد بعضهم تركيزه على الجوانب الراديكالية للفاشية، بينما ركَّز البعض الآخر على جانبها المحافظ (قلة هي من اعتنقت إما الجوانب الراديكالية فقط أو الرجعية فقط، لكن من وجهة نظرنا هؤلاء لم يعودوا فاشيين حقًّا، مهما زعموا غير ذلك). ظهرت أيضًا خلافات حول طبيعة الراديكالية الفاشية؛ فالبعض رأى أنها تتمثل في النهج «الكوربوراتي» الذي طبقته الفاشية في مجال علاقات العمل، في حين اعتقد آخرون أن هذا النهج قوَّض سيادة المصلحة الوطنية. ورأت قلة أن الفاشية فرصة لدفع قضية المرأة، في حين رأت الأغلبية أن الفاشية «ثورة ذكورية» من نوع ما. نشأ مزيد من الخلافات بسبب علاقة الفاشية بالمحافظية. وبالنظر إلى رغبة الفاشيين في استعادة النظام وتدمير اليسار، كان من المرجح دومًا أن يلقوا دعم المحافظين السلطويين. لكن الفاشيين أرادوا أيضًا أن يأخذوا مكان المحافظين بصفتهم يجسدون الأمة. صحيح أن علاقة الفاشيين بالتيار المحافظ نادرًا ما انقطعت تمامًا، لكنها كانت دائمًا علاقة صعبة.
تحمل الفاشية أثرًا لا سبيل لمحوه ناجمًا عن سياق ظروف أوروبا خلال فترة ما بين الحربين، متمثلًا في إرث الحرب العالمية الأولى والأجندات الفكرية (لا سيما الميل إلى تصوير المجتمع البشري والعلاقات بين الدول من منظور قوانين الطبيعة والبحث عن «طريق وسط» بين الرأسمالية والاشتراكية) والصراعات الاجتماعية في تلك الفترة. ومع ذلك، فإن الفاشية بمجرد نشوئها تصبح «أيديولوجية جاهزة» تستطيع الانتشار في مختلف الظروف المتباينة تباينًا تامًّا. ولا يستحيل أن تعاود الظهور في شكل لم يشهد تعديلًا في أغلبه.
التعريف السابق كامل نسبيًّا. وليس لزامًا أن يوضِّح الجوانب غير «الوظيفية»، أو الادعاء بأن ثمة أجزاءً محددة دون غيرها هي الأهم «على نحو مطلق». وهو يغطي الأفكار الفاشية وسياقاتها أيضًا؛ فهو يعرض الملامح الراديكالية إلى جانب الملامح الرجعية للفاشية، ويرى أن كل هذه الملامح مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحق. إن غموض الفاشية يوضح لنا السبب في انجذابها للمحافظية وفي إقصاء المحافظية لها، ويفسر لنا التأرجحات الشهيرة التي شهدتها الفاشية خلال تاريخها بين الراديكالية والرجعية. كان هناك بعض المحاولات لرؤية تاريخ الفاشية على أساس كونها سلسلة من «المراحل» التي يمكن تحديدها، لكن التغير المتكرر في التوجهات الفاشية لم يتبع نمطًا واضحًا. وكانت تحولاتها ناجمة عن صراعات داخل حركات فاشية كانت تعمل في ظل ظروف تاريخية لم يكن من الممكن التنبؤ بمجرياتها، وسوف نستكشف هذا في الفصول اللاحقة.
لا أستطيع أن أبالغ في صحة هذا التعريف، لكنني إن أردتُ دراسة الهياكل الأيديولوجية المشتركة بين الستالينية والنازية، لكان مفهوم الشمولية أكثر ملاءمة لهذا الغرض. وإذا كان غرضي شرح محرقة «الهولوكوست»، لما تمكنت من تحديد كلٍّ من السمات الفريدة والعامة لهذا الموضوع إلا من خلال مجموعة من المفاهيم، منها الفاشية والشمولية والرأسمالية. وإن كنا بصدد فهم أصول كل حركة من الحركات الفاشية وتطورها، فسنحتاج إلى استخدام مجموعة من المفاهيم إلى جانب مفهوم الفاشية. ولا يسعني إلا أن أقول إن هذا التعريف هو أفضل تعريف من الممكن أن يتلاءم مع ما يبغيه هذا الكتاب الصغير من غرض محدد؛ ألا وهو استكشاف الفاشية في سياقاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية.