فاشية ما قبل الفاشية
كانت الفاشية أحد نواتج الحرب العالمية الأولى والأزمة التي أعقبتها، ومع ذلك، فقد ظهرت في العقود التي سبقت عام ١٩١٤ إرهاصات للفاشية، لم يكن أي منها كامل النضج. ظهر أول هذه الإرهاصات في ولاية تينيسي بعد فترة وجيزة من الحرب الأهلية الأمريكية، حينما أسس بعض ضباط الكونفيدرالية الذين سُرِّحوا من الخدمة تنظيم «كو كلوكس كلان» من أجل الدفاع عن سيادة العرق الأبيض ضد ما اعتبروه تحيزًا للسود من جانب الحكومة. كان لأعضاء هذه المنظمات لباس خاص، وكانوا يمارسون طقوسًا غريبة صُممت لتأكيد عضويتهم في جماعة متميزة، وكانوا يقتلون السود باسم القانون «الذي لا يمكن أن تحيد عنه القوانين البشرية للأبد». ربما وصل عدد أعضاء «كلان» إلى نصف مليون شخص قبل أن يحلها زعماؤها عام ١٨٦٩. بدأت موجة ثانية من التنظيم عام ١٩١٥، مدفوعة جزئيًّا بالفيلم الصامت «ولادة أمَّة» للمخرج الأمريكي ديفيد وارك جريفيث، والذي صور تنظيم «كو كلوكس كلان» الأول على أنه المُخلِّص الأول لأمريكا. ورغم أن هذا التنظيم بشَّر بكثير من سمات الفاشية، التي لم يكن أقلها العنصرية، قيل إنه تميز عن الفاشية بدرجة من الفردية الشعبوية التحررية المعادية للدولة، والتي ظلت دائمًا تميز قطاعات واسعة من اليمين المتطرف الأمريكي. إذا أردنا رؤية مزيد من الإرهاصات الفاشية الأولى الحقيقية، فعلينا أن ننظر إلى أوروبا. لكن حتى في أوروبا كان التعصب القومي يفتقر إلى سمات فاشية مهمة، وكان في فرنسا — حيث لم يحدث قط أن حققت الفاشية تأثيرًا — أقوى منه في ألمانيا أو إيطاليا.
كانت الأحزاب المحافظة قبل الحرب العالمية الأولى واقعة بدرجة كبيرة تحت سيطرة القلة الثرية؛ إذ كان بعضها لا يكاد يتجاوز كونه واحدًا من أندية النبلاء المسيَّسة. وفي المقابل، راقَ اليمين المتطرف الجديد — الذي ظهر في أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر — للشعب بفضل التقارب الذي أتاحه عدد من التطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. فيما يلي سأبرز ميل تيار اليمين الراديكالي للاقتباس من جميع أنحاء أفكار الطيف السياسي وممارساته، وهو الأمر الذي عادة ما اعتُبر آنذاك متناقضًا.
لنبدأ بالأصول الفكرية للفاشية. إذا حاولنا أن نعرف الفاشية على نحو ضيق بما فيه الكفاية فيمكن أن نردَّها إلى الطوائف الراديكالية ﻟ «حركة الإصلاح البروتستانتي» أو حتى إلى العالم الكلاسيكي، وهذا من شأنه أن يكون مفيدًا لو كنا نهدف إلى دراسة عقلية متعصبة، غير ليبرالية، شبه دينية. لكن بما أننا نريد أن نستكشف الخصائص المشتركة بين بعض الحركات والأنظمة التي ظهرت في التاريخ الحديث، سيكون من المفيد أكثر أن نبدأ من القرن الثامن عشر؛ لأنه أنتج شيئًا شبيهًا بالاتجاهات السياسية الحديثة.
لكن إرث القرن الثامن عشر إرث مركب؛ فمن ناحية، تدين الفاشية بشيء ما لفكرة «التنوير» التي ترى أن التقاليد لا يجب أن تشكل المجتمع، بل يمكن أن يجري تنظيم المجتمع وفقًا لمخطط مستمد من مبادئ عالمية. ومن الأمور ذات الصلة بموضوعنا مفهوم مفكر عصر التنوير جان جاك روسو بأن المجتمع ينبغي أن يُحكَم بمبدأ عالمي مثل «الإرادة العامة»، لا سيما أن أكثر ثوار الثورة الفرنسية ثورية قد اعتنقوه: «اليعاقبة». فقد كان «اليعاقبة» يبررون العنف باعتباره وسيلة لبناء نظام جديد واجتثاث من يعارضون الإرادة العامة (أو الأمة)، وكانوا على استعداد لإجبار الناس على أن يكونوا أحرارًا.
من ناحية أخرى، تدين الفاشية إلى الفكر المناهض للتنوير؛ فقد أنكر العديد من المعارضين الألمان صلاحية المبادئ العالمية بدعوى إعلاء التقاليد الوطنية، وجادل مناهضو الثورة الفرنسية، مثل جوزيف دي ميستر، بأن المجتمعات «الطبيعية» — كالأمة والمهنة والأسرة — أكثر أهمية من الفرد. وكان للفلسفة المناهضة للتنوير تأثير كبير على رومانسية القرن التاسع عشر، التي كفرت بالعقل وفضَّلت عبادة الطبيعة، ورأت أن عبقرية الفنان تعادل تأثير تواضع الجماهير.
ومن منظور أكثر محدودية، وضع البعض بزوغ اليمين الراديكالي في إطار الثورة ضد العقل، التي قيل إنها كانت سمة العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وهذا صحيح إلى حد ما، لكن الفاشية الأولى لم تكن لاعقلانية على نحو مطلق. بالطبع، عارض كثير من مفكري «نهاية القرن التاسع عشر» العقلانية وتشعباتها: الليبرالية والاشتراكية والمادية والفردية. وكانوا متشائمين، لا يرون التاريخ من منظور التقدم، بل نظروا إليه على أنه صراع يائس ضد الانحطاط. فانبثقت الدعوة الفاشية إلى صعود نخبة كي تنقذ الأمة من الانحطاط — فكرة البعث من تحت الرماد — من هذا المناخ.
في ألمانيا، روَّجت روافد متنوعة من الفكر الروحاني، المتحدِّر من الرومانسية، فكرة «الشعب الألماني» باعتباره مجتمعًا أخلاقيًّا وأبويًّا وعرقيًّا ولغويًّا ومتحدًا اجتماعيًّا. وفي فرنسا، هاجم موريس باريه التيار الجمهوري العقلاني باسم تمجيد الأجداد والتراب الوطني. يمكن أن نذكر أيضًا من بين من أثَّروا في الفاشيين مفكرًا فرنسيًّا آخر، هو جوستاف لوبون، الذي قال إن الزعماء الكاريزميين يخدعون الجماهير غير العقلانية، وهناك أيضًا جورج سوريل، الذي قال إن الخرافات تحرك الجماهير. أما عالما السياسة الإيطاليان فيلفريدو باريتو وجايتانا موسكا فقد أكدا على دور القوة في السياسة. وكان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه على قناعة بأن العالمية قوَّضت احترام القوي. وأمل نيتشه أن يجود القدر بإنسان يقيم مجتمعًا أكثر روحانية. واختلف الباحثون فيما بينهم حول درجة انتماء هؤلاء المفكرين العظماء أنفسهم إلى الفاشية الأولى. لكن بيت القصيد هو أن الفاشيين الأوائل اختلسوا أفكارهم وأساءوا استخدامها.
اعتمد الفاشيون الأوائل على العلوم المعاصرة (أو بالأحرى الزائفة) وعلى اللاعقلانية أيضًا. صحيح أن مبدأ داروين البقاء «للأصلح» كان — ولا يزال — يحظى بالاحترام من الناحية العلمية، أما تطبيقه في السياسة الاجتماعية فكان مشكوكًا في صحته. فالداروينيون الاجتماعيون كانوا يخشون من أن تؤدي وسائل الراحة في المجتمع الحديث، إضافة إلى المساعدات التي تقدَّم للفقراء، إلى الانحطاط والانحلال الاجتماعيَّيْن، فنصحوا بما اصطُلح على تسميته «اليوجينية»، التي تقترح تدابير «سلبية» مثل تعقيم «غير الصالحين»، أو إصلاحات «إيجابية» مثل التشجيع على إنجاب الأصحاء، أو كليهما معًا. شعر بعض الداروينيين الاجتماعيين أن الزعماء الأقوياء فقط هم الذين يملكون القدرة على منع الجماهير من الاستسلام للكسل في أواخر القرن التاسع عشر. واعتقدوا أيضًا أن هناك صراعًا دائرًا بين الدول القومية على الهيمنة. ورأى البعض أن مصير الأفراد قليل الأهمية إذا ما قورن بمصير الأمة.
كانت الداروينية الاجتماعية منحازة إلى العنصرية «العلمية» الأكثر إثارة للجدل؛ فكتب المفكر المناصر للملكية الكونت جوبينو في «مقال عن التفاوت بين أعراق البشر»، الذي ظل محط تجاهل منذ نشره عام ١٨٥٣، لكن بدأ — مع الأسف — يَلقى إقبالًا على قراءته في تسعينيات القرن التاسع عشر. كان أحد المعجبين بالمقال الملحن ريتشارد فاجنر، الذي جمع بين العداء للسامية، والجرمانية المسيحية بعد تطهيرها من «العناصر اليهودية»، مع الوثنية لتتحول جميعها إلى أسطورة جرمانية مثالية. وأضاف زوج ابنة زوجته، هيوستن ستيوارت تشامبرلين، أفكارًا داروينية اجتماعية وأفكارًا عنصرية «علمية» عصرية. كان هتلر أحد أنصار تشامبرلين المتعصبين، وأمضى حياته يحلم أحلام فاجنر عن النصر أو الموت. لكن هتلر أنكر أن النازية ديانة، فبعض خطبه تحمل طابع السخرية من اللغة الفخمة الجازمة التي أتقنها «الاشتراكيون العلميون».
إن رسم خطوط مباشرة بين هذا المناخ الثقافي والفاشية أمر جذاب لكنه يتسم بالسطحية؛ لأن الفاشية لم تكن سوى إحدى عواقب عديدة كانت ممكنة الحدوث. على سبيل المثال، اختُرعت اليوجينية في بريطانيا على يد المحافظ فرانسيس جالتون وتلميذه اليساري كارل بيرسون. وكانت الفاشية الأولى جزءًا من مجموعة كبيرة من الأفكار، تضمَّنت الروحانية، والعلموية، والتقليدية، والحداثة، والعقلانية واللاعقلانية. وقد رجع بعض القوميين مرة أخرى للنظر إلى الجنة الريفية، في حين مجَّد «المستقبليون» الإيطاليون عصر الآلة.
وإذا كنا نريد حقًّا أن نشرح كيف تجسَّدت أفكارٌ كهذه في حركات الفاشية والفاشية الأولى، يجب أن نأخذ السياق المحيط في الاعتبار. في البداية، شهدت هذه الفترة ظهور تخصصات حديثة في الجامعات، مثل: التاريخ وعلم الاجتماع وعلم السياسية والفيزياء والبيولوجيا والنقد الأدبي وما إلى ذلك، وأدى ازدهار الأبحاث التخصصية البارعة إلى إقصاء علماء الطراز القديم من المشهد، وفي بعض الأحيان، إقصاء الهواة، الذين كانوا يدَّعون الخبرة في عدة مجالات. فبات المحامون والأطباء تحديدًا، الذين كانوا يسيطرون من قبل على الكليات الجامعية، أكثر ميلًا لادِّعاء الكفاءة واسعة النطاق، وانجذبوا إلى الأفكار العنصرية واليوجينية والنفسية والتاريخية المبينة أعلاه.
استاء غالبًا أصحاب المعارف الموسوعية هؤلاء من عدم اعتراف الأساتذة الأكاديميين المتخصصين بهم، واستعاضوا عن هذا الاعتراف المفقود بالسعي إلى تحقيق نجاح على الصعيد السياسي، ففضَّل بعضهم اليسار المتطرف (كان لينين الذي درس القانون موسوعيًّا بارعًا)، وفضَّل البعض الآخر اليمين الجديد. واعتبر باريه رفض الدولة الجمهورية احترامه بوصفه منظِّرًا في مسألة الأعراق سببًا لدخول معترك السياسة. لذا ليس من قبيل المصادفة أن الأطباء والمحامين كانوا يتمتعون بأهمية في اليمين المتطرف. واقترن سخطهم على المتخصصين بتخوف من ازدحام المهن بالعاملين من اليهود والنساء، وبكراهية لخطط الحكومة الرامية لطرح برامج «اشتراكية» للرعاية الصحية. وتبنَّى الأطباء والمحامون نظريات يوجينية، اعتقدوا أنها تمنحهم الحق في القيام بدور الله. أما الأكاديميون المتخصصون فكانوا غالبًا متأثرين بالمعرفة العلمية الزائفة وبالقومية بالقدر نفسه. فكان من المتخصصين مَن امتلك في بعض الأحيان نفوذًا داخل الحركات القومية المتعصبة التي ظهرت في فترة ما قبل الحرب، لكن الموسوعيين الحانقين دائمًا كانوا هم من يضعون الخطط باستمرار.
كان هذا كله أكثر أهمية من ذي قبل؛ نظرًا لأنه في إطار هذه اليوجينية عارضت العديد من النخب تقديم الديمقراطية في مطلع القرن؛ لكونها تعبر عن «عصر الجماهير» المثير للذعر بالنسبة لهم. كانت الأفكار العنصرية واليوجينية تمثل للبعض وسيلة جديدة وأكثر فعالية للسيطرة على الجماهير الخطرة وتوجيهها. لكن قبل عام ١٩١٤، وفي جميع أنحاء أوروبا — من فرنسا التقدمية إلى روسيا الأوتوقراطية — اتسع نطاق الحق في التصويت (عادة لم يكن هذا الحق يشمل النساء أيضًا)، ونما اهتمام الناس بالانتخابات، بينما ظهرت أحزاب جماهيرية قومية واشتراكية وكاثوليكية وأحزاب تمثل الفلاحين، وظهر معها عدد ضخم من الجماعات المناصرة لقضية بعينها، كجماعات النباتيين والنقابات العمالية، والجماعات النسائية، وجماعات الضغط المناصرة للاستعمار، وفتح التقدم التكنولوجي المجال لظهور منظمات قومية دائمة. وامتدت السكك الحديدية من المناطق الرئيسية إلى القرى الصغيرة، وبدأ يظهر تأثير الهاتف والآلة الكاتبة. ولولا الحق في التصويت والوسائل التقنية للتنظيم في مجتمع ديمقراطي، لما ظهرت الفاشية من الأساس.
أيضًا كانت هذه فترة الإمبريالية؛ ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته أدى تقسيم القوى الكبرى أفريقيا وجزءًا كبيرًا من آسيا إلى إثارة التنافس القومي وتعزيز العنصرية؛ فقد أشعل اعتقاد الإيطاليين والألمان أنهم لم ينالوا نصيبهم العادل من الإمبراطورية هستيريا القومية، بينما كان الدفاع عن الإمبراطوريتين الضخمتين أمرًا ضروريًّا بالنسبة للمتعصِّبين قوميًّا من البريطانيين والفرنسيين. تبنَّت القوى الأوروبية العلم العنصري المعاصر كي تبرر هيمنتها على الشعوب غير الأوروبية، وكانت الآراء عن «شخصيات» من ينتمون لأعراق «دنيا» تتيح للقوى الاستعمارية أن تضرب عرض الحائط بسيادة القانون متى رأت ذلك مناسبًا. والآن بتنا نعرف أن السياسات الشبيهة بسياسات القضاء على الجماعات العرقية، والتي مورست ضد بعض الشعوب الأصلية لم تكن سوى سوابق لمحرقة الهولوكوست.
ازدهرت القومية أيضًا؛ ففي هذه الفترة، كان الانفصاليون القوميون يعتنقون الليبرالية أو الديمقراطية أو الاشتراكية أو ثلاثتهم، ونظرًا لأنهم كانوا يعارضون الطبقات الحاكمة في دول متعددة الجنسيات مثل روسيا وهابسبورج وبريطانيا، فقد قدموا مطالبهم من منطلق حق المساواة في المعاملة لجميع الجنسيات (رغم أن العالمية لم تكن في بعض الحالات سوى مجرد مظهر خادع). ومع ذلك، تبنى بعض القوميين شكلًا يمكن أن يوصف بأنه غير ديمقراطي من القومية الرومانسية، والذي طالب السكان بتوكيد يومي شبه روحاني على فكرة القومية. على سبيل المثال، في تسعينيات القرن التاسع عشر قاطع كثير من القوميين البولنديين الليبرالية ومنحوا «الإرادة» الأولوية الأولى. كانوا يعتقدون أن كره الأجانب والعدوان والعنف يستطيع أن يقيم الأمة البولندية.
كانت الفاشية الأولى قوية في البلدان التي أقامت الحركات القومية فيها دولًا جديدة للتو، لا سيما ألمانيا وإيطاليا. بدأت حكومتا هذين البلدين تحويل الأشخاص العاديين إلى مواطنين وطنيين من خلال التعليم، والتوحيد اللغوي، والتجنيد، والحد من تأثير الكنائس فوق القومية. وكانت الجمهورية الفرنسية التي نشأت حديثًا فقط حريصة بالقدر نفسه على تحويل السكان الفلاحين إلى مواطنين فرنسيين. أذكت هذه السياسات الحكومية التنافس على الوظائف والإثابة والتعليم بين المجموعات العرقية داخل هذه الدول، كما شهدنا في حالة الملاحات في إيج مورت.
ظهرت أيضًا الحركات الراديكالية اليمينية حيثما تعرضت القوميات الحاكمة لتهديد الحركات الانفصالية؛ ففي الجزء النمساوي من الإمبراطورية النمساوية المجرية، شعر الحكام الألمان أن ما جرى التنازل عنه للتشيكيين والبولنديين كثير، وفي روسيا بعد ثورة ١٩٠٥ ظهرت حركات قومية راديكالية، مثلما ظهرت في بريطانيا خلال أزمة الحكم الذاتي الأيرلندي من عام ١٩١١ إلى ١٩١٤.
كانت معاداة الاشتراكية مكوِّنًا إضافيًّا أضيف إلى خلطة ما قبل الفاشية؛ ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر وتسعينياته اقتحمت الأحزاب الاشتراكية معترك السياسة الجماهيرية في العديد من البلدان — منها روسيا والنمسا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا — في الوقت الذي انتشرت فيه الإضرابات، السياسية غالبًا، في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا. وظهر سريعًا بالتوازي مع هذه الأحزاب الاشتراكية — وغالبًا كرد فعل ضدها — عدد ضخم من المنظمات المعادية للاشتراكية، ضمت نقابات، واتحادات أصحاب الحرف اليدوية، وروابط للفلاحين، ومجموعات تجارية معادية للماركسية. وكانت هذه الكيانات كثيرًا ما تتداخل مع الحركات القومية على مستوى العضوية والتنظيم.
وكان ظهور الحركة النسائية باعتبارها حركة منظمة يمثل جانبًا آخر من جوانب السياسة المنظمة والمجتمع الجماهيري. بلغت الحركة النسائية أَوْج قوتها في أمريكا وبريطانيا، لكنها كان لها حضور ضعيف بعض الشيء في معظم الدول الأوروبية. في ثمانينيات القرن التاسع عشر علا صوت أنصار الحركة النسائية أكثر فأكثر في المطالبة بحق العمل في مختلف المهن، وفي العقد التالي حوَّلوا انتباههم للمطالبة بحق التصويت في بعض البلدان، وتلقَّت الاتحادات الشعبية اليمينية القاسم الأكبر من ردود الفعل العنيفة الحتمية من جانب الذكور.
إذن، لم ينشأ اليمين الراديكالي نتيجة التعصب القومي أو العداء المتطرف للاشتراكية وحدهما، بل كان ردَّ فعل متشعبًا، وله جذوره في الصراعات اليومية مع الاشتراكيين والأقليات العرقية وأنصار المرأة والليبراليين على فرص العمل والمكافآت المالية والنجاح التعليمي والمجد السياسي، وهذا كله في سياق الإمبريالية وبناء الأمة. وهكذا، ضمَّت جمعيات اليمين الراديكالي في ألمانيا كل أبناء الأمة الألمانية المؤمنين إيمانًا صريحًا بالقومية، و«رابطة النضال المناهض لتحرير المرأة»، و«الرابطة الإمبريالية المناهضة للديمقراطية الاجتماعية». فبالنسبة للقوميين المتطرفين في كل مكان، كانت كل هذه التهديدات للأمة مرتبطة ببعضها البعض؛ إذ كانت الاشتراكية تمثل خطرًا على الملكية والأمة والسلطة الذكورية في الأسرة. واعتُبر اليهود مسئولين عن إفساد الأمة، ودعم الحركة النسائية والاشتراكية. وهكذا كان الاشتراكيون وأنصار الحركة النسائية عملاء لليهودية، وكان اليمين الراديكالي يعتبر أعداءه جزءًا من مؤامرة شيطانية.
ولم يكن اليمين الراديكالي مقتنعًا بأن اليمين الموجود يصلح لمجابهة هذا الخطر، لا سيما أن الحكومات كانت بالفعل غالبًا ما تقلل من أهمية القضايا القومية لخشيتها من إثارة هستيريا جماهيرية؛ فطالَبَ بحكومات أكثر تجاوبًا مع احتياجات الشعب. وأدان القوميون الراديكاليون الألمانُ «القدسية الرسمية»، وطالبوا «بتصعيد كل فصائل الأمة للتشاور في الشئون الوطنية والمشاركة فيها»، وأن ذلك سيتم، من قبيل المفارقة، من خلال وجود زعيم قوي.
من الناحية السياسية، نشأت هذه الشعبوية من التقاء ثلاثة روافد؛ أولًا: أنها مثَّلت خلفًا مشوهًا لتقليد أقدم من تقاليد الراديكالية الديمقراطية الأوروبية كان قد بلغ ذروته مع ثورات عام ١٨٤٨. والراديكالية الديمقراطية، مع كونها أكثر سخاءً بكثير من اليمين الراديكالي، لم تكن قط إنسانية بحتة؛ فهي نادرًا ما أيَّدت حقوق المرأة، وكانت في بعض الأحيان كارهة للأجانب. وقد ازداد هذا التيار الثانوي الإقصائي وضوحًا في أواخر القرن التاسع عشر، وسط محيط من الإمبريالية والقومية ومعاداة الحركة النسائية والاشتراكية. فقد أدَّى ظهور الحركة النسائية إلى خروج كره الراديكالية الشعبية الكامن للنساء إلى العلن. وكان صعود الاشتراكية الماركسية تحديدًا سببًا في اندفاع الراديكالية الشعبية إلى اليمين (لكن لا بد من التأكيد على أن ذلك لم يطل كل عناصرها). كانت الراديكالية التقليدية تطالب بحقوق «للشعب» و«للأمة»، ولفئات شملت الأُجَراء وصغار أرباب العمل وأصحاب المحال والفلاحين. ومع ذلك نجحت الماركسية في أن تجذب بدرجة كبيرة العمال الصناعيين وحدهم، وكانت ذات طابع عالمي. وهناك أمثلة كثيرة على هذا التحول من اليسار إلى اليمين، منها أن الملحن ريتشارد فاجنر مثلًا كان ممن شاركوا في معركة المتاريس عام ١٨٤٨، وأن أصحاب المحال في باريس وفيينا تحولوا من الراديكالية إلى اليمين الكاره للأجانب.
ثانيًا: أتاح منح حق التصويت، مقرونًا بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية، انضمامَ من كانوا حتى تلك اللحظة محافظين غير نشطين من عموم الشعب إلى اليمين الراديكالي؛ ففي بعض مناطق الريف الفرنسية والإيطالية، كان رجال الدين الكاثوليك (الذين كانوا من قبل يُعَدُّون حائط صد للنظام القائم) يحرضون الفلاحين. وفي ألمانيا صوَّر السياسيون المحليون الاشتراكيين والأرستقراطيين البروسيين واليهود على أنهم أعداء للفلاحين.
ثالثًا: تعددت حالات دعم النخبة لليمين الراديكالي؛ فقد تعاون المحافظون البريطانيون سرًّا مع «قوة متطوعي كارسون ألستر»؛ وأسَّس الأرستقراطيون البروسيون «عصبة الأراضي الألمانية»؛ وموَّل الملكيون الفرنسيون «الرابطة المعادية للسامية» أثناء قضية دريفوس. كان هذا الدعم مدفوعًا في جزء منه بإدراك اليمينيين القدامى والجدد أنهم يشتركون معًا في العداء للحركة النسائية والاشتراكية والأقليات القومية. لكن كان هناك موقف دفاعي من النخبة أيضًا؛ لأنه في هذه الفترة شعر كثير من المحافظين أن «صعود الجماهير» عملية حتمية يتعين على المحافظين التأقلم معها أو مواجهة احتمال الموت السياسي؛ لذا تحالفوا مع اليمين الراديكالي «رغم» توجهاته الراديكالية، على أمل أن يتمكَّنوا من تحويل المطالبة بمزيد من الديمقراطية إلى الشعبوية السلطوية الأقل شرًّا. إن التفاعل بين النخب والجماعات الراديكالية في ظل سياقات وطنية محددة هو الذي شكَّل التاريخ الفعلي للحركات الفاشية الأولى.
كانت فرنسا أكثر البيئات ملاءمة في أوروبا ما قبل الحرب لظهور الفاشية الأولى؛ فقد مُنيت بالهزيمة من ألمانيا عام ١٨٧٠، وشهدت أسوأ الصراعات الإمبريالية مع بريطانيا، وساءت سمعتها على أنها بلد ثورات متكررة، ثم بدا أن الاشتراكية الماركسية والنقابات الثورية تهدد باندلاع انتفاضات جديدة. حاولت الحكومات الجمهورية أن تبني دولة قومية وحدوية قائمة على مبادئ ليبرالية ديمقراطية — ونجحت إلى حد كبير في ذلك — لكنها واجهت مقاومة شديدة من الكاثوليك. وقد أدت حاجة فرنسا لقدوم مهاجرين كي يعملوا في مصانعها الكبيرة الجديدة إلى اشتعال كراهية الأجانب لدى الشعب الفرنسي.
نتج اليمين الراديكالي الفرنسي من التقاء تيارات ثلاثة: الملكيون الذين جرى تهميشهم وتبنَّوا الراديكالية إثر ما لقوه من هزائم متتالية على يد الجمهوريين؛ والشعبويون الكاثوليك الذين يئسوا من مقاومة العلمنة ومن استيلائهم على زعامة البروليتاريا من الاشتراكيين؛ والقوميون الساخطون من عدم اهتمام الحكومة الواضح بالانتقام من ألمانيا. وعلى الصعيد الاجتماعي، جذب اليمين الراديكالي الأرستقراطيين الذين فقدوا طبقتهم الاجتماعية مثل الماركيز دي موريس المُعادي للسامية، وأصحاب المحال العنصريين في باريس، والعمال الكارهين للأجانب والذين أقبلوا على النقابات العمالية «الصفراء» إبان العقد الأول من القرن العشرين.
توحَّدت إيطاليا بين عامي ١٨٥٩ و١٨٧٠ عن طريق عمل عسكري نفذته دولة بيدمونت وحليفتها الفرنسية، لا من خلال حركة قومية ذات قاعدة شعبية عريضة. تبعًا لذلك شعر بعض القوميين أن إيطاليا لم تتوحد حقًّا، وهي الرؤية التي ربما أكَّدها ضيق القاعدة السياسية للحكومات الإيطالية الليبرالية قبل عام ١٩١٤. كان حق الانتخاب محدود النطاق، ورفض الكاثوليك المشاركة في الانتخابات؛ لأن التوحيد تحقق على حساب سيادة البابا على وسط إيطاليا. يُضاف إلى ذلك أن إيطاليا في تسعينيات القرن التاسع عشر شهدت فضائح برلمانية، واضطرابات العمال في الشمال، واحتلال الفلاحين الفقراء في الجنوب ممتلكاتٍ كان يملكها الإقطاعيون الأثرياء، وهزيمة عسكرية في الحبشة عام ١٨٩٦، واغتيال الملك عام ١٩٠٠.
ولما كان اليساري الليبرالي جوفاني جوليتي — رئيس وزراء إيطاليا بدءًا من عام ١٩٠١ — مقتنعًا بأن القمع لن يجدي نفعًا، بدأ يتودد للاشتراكيين والكاثوليك المعتدلين كي يدعموا حكومته. حقَّق جوليتي بعض النجاح، لكنه لم يستطع أن يمنع التعبئة التي مارسها اليمين الراديكالي ضده. كان القوميون يشعرون أن جوليتي زاد إضعاف الوحدة الوطنية من خلال استرضائه الاشتراكيين. وفي عام ١٩١٠، تكتَّل القوميون معًا في «الجمعية القومية الإيطالية». تلقت هذه الجمعية دعمًا من الشركات الكبرى والدولة والأكاديميين، لكن أغلب أعضائها كانوا من الطبقات المتوسطة، بما فيها المحامون، وخاصة المعلمين، الذين خرج من بينهم في وقت لاحق الفيلسوف الفاشي جوفاني جنتيلي. كان المعلمون في طليعة من ناضلوا من أجل «صنع» المواطن الإيطالي.
استندت «الجمعية القومية الإيطالية» على قومية ماتسيني الوطني في القرن التاسع عشر، لكنها نزعت عنها إنسانيتها الليبرالية، وروجت لأنه لا يمكن تحقيق الوحدة القومية إلا من خلال دولة سلطوية. وهذا استتبع قمع المنظمات الاشتراكية وضم العمال لكيانات «كوربوراتية» جديدة توالي الأمة الإيطالية. أرادت الجمعية أيضًا أن تعيد تشكيل الأمة من خلال الحرب؛ فقد دعا المفكر إنريكو كوراديني العالمية الليبرالية «المؤنثة» لأن تفسح المجال أمام الرجولة «الذكورية»، فهو لم يكن يرى الحرب وسيلة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، أو للحصول على أسواق ومواد خام، بل لدمج جميع الطبقات في الأمة المستنفَرة.
علاوة على ذلك، كان هناك بعض التقارب بين الجمعية القومية الإيطالية والنقابيين الثوريين (الذين آمنوا بأن النقابات العمالية ينبغي أن تقود المسيرة نحو الاشتراكية). وكان بعض المفكرين النقابيين قد باتوا مقتنعين بأن الاشتراكية مستحيلة في إيطاليا المعاصرة نظرًا لفشل حركات الإضراب. وكانوا يرون أن من الضروري إقامة دولة قومية حقيقية كي تتمكن البروليتاريا من الاستيلاء على السلطة، واتفقوا مع القوميين على أن الحرب ربما تساعد في تحقيق هذا الهدف. على أية حال، آمن النقابيون «بالشعب» أكثر من البروليتاريا، وكانوا متأثرين بالأفكار اليوجينية وبالمناخ الثقافي الذي وصفناه آنفًا.
توحدت ألمانيا أيضًا «من أعلى» في الفترة من عام ١٨٦٦ إلى عام ١٨٧١ بفضل الجيوش البروسية. قامت الدولة الألمانية على قومية محافظة نخبوية تميزت بعدائها للكاثوليكية والاشتراكية والحركة النسائية والليبرالية. وازدهر التعصب القومي في هذا المناخ. وكان كتاب «رامبرانت معلِّمًا» الذي نشره يوليوس لانجبين عام ١٨٩٠ دون أن يحمل اسمه خيرَ مثالٍ على الإنتاج «العرقي» لهذه الفترة. اعتقد لانجبين أن السيد الهولندي — مثله مثل إخوانه المواطنين — ألماني العرق، وعرض كتابه الفوضوي شخصية رامبرانت الذي هو معلِّم لنوع جديدٍ من إصلاح ألمانيا. كان لانجبين مثالًا للهواة الموسوعيين، وظل طيلة حياته ينقد «بعثرة» العلم على التخصصات. ودعا لدمج العلم مع الفن، والاستعاضة عن التاريخ الجاف الذي يدرسه الأكاديميون بتاريخ يستقي معلوماته من الواقع النفسي للعرق. واستحضر اليوجينية التي كانت رائجة في عصره (معتقدًا بأنه لو حلت حمامات عامة محل حانات برلين، لتسنى الاغتسال للتخلص من الاشتراكية)، وقد استحضر أيضًا — مثلما فعل فاجنر — أسطورة الفنان البطل الذي تعود أصوله «للشعب الألماني»، والذي سيتمم الوحدة السياسية بالروحانية. كان الإصلاح الجديد الذي نادى به لانجبين يتطلب قمع فصائل سياسية، وإحياء مسيحية جرمانية أكثر «رجولة» (وهرطقة)، ومعاملة اليهود بوصفهم «سمًّا»، وإقامة الإمبراطورية الألمانية من أمستردام إلى ريجا. وقد حقق كتابه مبيعات ضخمة، بل إن الكاثوليك رحَّبوا به بما تضمَّنه من نقد للأفكار التقدمية، رغم وجهات نظر لانجبين التجديفية وربطه ألمانيا بطبقة الفلاحين البروتستانتية. وقد شهدت مبيعات هذا الكتاب ارتفاعًا آخر في أواخر عشرينيات القرن العشرين.
في تسعينيات القرن التاسع عشر أدرك أهمية هذا البرنامج «الشعبوي الألماني» كثيرٌ من المحافظين، الذين اعتبروا خصوم القومية المتطرفة أعداءهم واستغلُّوا الديماجوجية القومية للدفاع عن المصلحة المادية. فحظيت «جمعية الأراضي» الشعبوية المعادية لكلٍّ من الاشتراكية والسامية برعاية وتأييد أصحاب الأراضي المحافظين الذين أرادوا أن يكسبوا تأييد الفلاحين لفرض تعريفات حمائية، بينما أجَّجت «جمعية الزحف الشرقي» المشاعر المؤيدة للاستيلاء على أراضٍ زراعية جديدة من أراضي البولنديين في الشرق. وحظيت جمعيتا «الاتحاد الجرماني» و«سلاح البحرية» بدعم ورعاية أصحاب المصالح التجارية والمهنيين الأثرياء والمسئولين الحكوميين لاعتقاد كل هذه الأطراف بأن الاستعمار يمثل وسيلة لدعم الدولة الألمانية وتوفير أسواق جديدة للصناعات الألمانية.
مارست القومية الشعبية أيضًا دورًا مهمًّا في ألمانيا؛ فقد تكونت «الجمعية الزراعية» جزئيًّا من اتحادات الفلاحين التي كانت موجودة من قبل، مثل الجماعات التي ترأَّسها أوتو بيكل — «ملك الفلاحين» — الذي ألقى باللائمة على اليهود والمدن ورجال الدين والأطباء والدولة وحتى الطبقة الأرستقراطية، لما يعانيه الفلاحون من مشاكل. فأدرج حزب المحافظين الألماني في مؤتمره في تيفولي عام ١٨٩٣ معاداة السامية في برنامجه رغبة منه في نزع فتيل هذا الشعور بالسخط. وحينما أطلقت الحكومة التي اتسمت بالمحافظة الشديدة حملتها لبناء سلاح البحرية عام ١٨٩٦ اعتمدت في ترويجها لهذا الشأن على جمعية «الاتحاد الجرماني». لكن هذا الاتحاد صار أكثر راديكالية من الحكومة بكثير، لا سيما في هجومه على الكاثوليك وعلى السياسة البريطانية. وبحلول عام ١٩٠٢ تحوَّل أعضاء «الاتحاد الجرماني»، برئاسة هاينريش كلاس، من الولاء للقيصر إلى الولاء «للشعب الألماني». وفي عام ١٩١٣ قال كلاس إنه لا سبيل لإنقاذ ألمانيا إلا من خلال زعيم قوي، ولخَّص برنامجه الذي تبنَّى هذه الدعوة في كتيب له بعنوان «لو كنت القيصر».
ارتبطت القومية الراديكالية النمساوية ارتباطًا وثيقًا بنظيرتها الألمانية. اتخذ الجزء النمساوي من إمبراطورية هابسبورج اتجاهات فريدة في نوعها من حيث التنظيم. كانت هناك سلالة جرمانية تحكم حكمًا شبه مطلق وبيروقراطية على رأس فيدرالية مكونة من جماعات وطنية تمتلك حقوقًا كثيرة. وبالطبع، شعر الألمان المهيمنون أن الحكومة ضحَّت بمصالحهم من أجل أقليات، لا سيما المجريين والتشيكيين الذين يكادون يكونون مستقلين. ظهر الحزب الاجتماعي المسيحي — أهم الحركات القومية الراديكالية — الذي أسسه كارل لوجر في فيينا، وكان عبارة عن خليط من الخصومات العرقية ومقر قيادة لحركة اشتراكية قوية. كسب لووجر، الذي حظي في البداية بتأييد اليسار الليبرالي الديمقراطي، دعم أهل فيينا من الحرفيين والعمال ذوي الياقات البيضاء والمعلمين الذين كرهوا الرأسمالية والاشتراكية «اليهوديتين»، واستاءوا من استبعادهم من الطبقة البرجوازية. في بادئ الأمر كان عداء حركته الراديكالي للسامية وعقيدتها الاجتماعية الكاثوليكية سببين لإثارة ذعر تيار اليمين القديم، حتى إن الإمبراطور فرانز جوزيف رفض اعتماد انتخاب لووجر عمدة لفيينا لفترة عامين. لكن فيما بعد، صار لووجر أكثر اعتدالًا، وتحالف مع المحافظين في الريف. وهذا فتح المجال لظهور عدد أكبر من الجماعات الراديكالية، مثل جمعية «أوستارا»، التي كانت تسعى لتنقية الجنس الآري مما يلوثه من أجناس أدنى مرتبة والليبراليين والاشتراكيين. في ذلك الوقت كان هتلر، الذي لم يكن سوى أحد فقراء فيينا العديدين الذين لا هدف لهم، من متابعي المنشورات التي تصدرها هذه الجمعية.
خلال ثورة عام ١٩٠٥، اتَّخذ المحافظون الروس أيضًا رد فعل مضادًّا لارتفاع شأن الأقليات العرقية. كان «اتحاد الشعب الروسي» — المشهور باسم «المئات السود» — يحظى برعاية الحكومة والقيصر، الذي توهَّم هو الآخر أن الثورة من تدبير اليهود. وفي ظل تواطؤ السلطات، ساهم «المئات السود» في مئات المذابح المنظمة التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف يهودي. ورغم تعاون «المئات السود» مع اليمين القديم، كانوا مرعوبين من عجز القيصر الواضح عن مجابهة تيار اليسار، وتمنَّوا أن ينصبوا مكانه «أوتوقراطية شعبية».
وفي بريطانيا ضمت المحافظية البريطانية قبل عام ١٩١٤ عناصر من القوميين المتعصبين. كان انتصار الليبراليين عام ١٩٠٦، وتكرار فوزهم بالانتخابات في السنوات التالية، قد أسفر عن انقسام مرير في حزب المحافظين. وفي الوقت نفسه، أدت الإصلاحات الاجتماعية الليبرالية، وتقلُّص صلاحيات مجلس اللوردات، وصعود حزب العمل، والإضرابات والمظاهرات المنادية بمنح المرأة حق التصويت، إلى إثارة المخاوف من اندلاع ثورة، وبدا أن تمرير قانون «الحكم الذاتي الأيرلندي» نذيرًا بتفكك المملكة المتحدة. حينئذ أدت معارضة «قوة ألستر» لهذا القانون إلى حفز القومية الراديكالية، التي حظيت بتأييد العديد من المحافظين. اتهم البعض رجال المال الألمان اليهود بنهب ثروات الدولة، وفي منطقة «إيست إند» بلندن قامت «عصبة الإخوان» التي ضمت ٤٥ ألف عضو بمهاجمة اليهود الذين كانوا يلجئون لبريطانيا هربًا من المذابح المنظمة في روسيا.
أخيرًا، تُبيِّن الحالة المجرية أن كل ما أفرزته القومية المتعصبة لم يكن يمينيًّا؛ فقد نالت المجر الحكم الذاتي داخل مملكة هابسبورج عام ١٨٦٧، وشرعت في برنامج لاستيعاب الأقليات الوطنية وصبغها بالصبغة المجرية ولتقليص تأثير الكنيسة الكاثوليكية. ومع ذلك، طالب قوميو المعارضة المجرية بزيادة الهمة في عملية بناء الدولة القومية؛ فقد كانوا يكرهون تدخُّل الأسرة الحاكمة النمساوية في الشئون المجرية، ويكرهون مقاومة الأقليات العرقية لبرنامج استيعاب الأقليات، وانتشار الاشتراكية الأممية الطابع في بودابست. وإذا فصلنا هذه الأفكار عن سياقها الزمني، فسنجد أنها إرهاصات للفاشية؛ فالقوميون كانوا يريدون إحياء المجر بعد فترة من التراجع المزعوم، لكن قوميي المعارضة في المجر ظلوا يساريين؛ لأن اليمين كان يرغب في اتحاد أوثق مع النمسا، وهو الأمر الذي كان يشكل جريمة في نظر القوميين. ورغم أن القومية المجرية صارت جزءًا من الفاشية بعد الحرب، كانت في ذلك الوقت منفصلة عن اليمين الراديكالي بسبب معارضتها الشديدة للمحافظين.
حتى في الدول التي ظهرت فيها الحركات الراديكالية اليمينية، لم تكن توجد مقدمات مباشرة للفاشية. وتُظهر الدراسات التي تناولت حالة ألمانيا أنه ما من ارتباط واضح بين دعم المعادين للسامية في تسعينيات القرن التاسع عشر ومساندة النازيين. إضافة إلى أن اليمين الراديكالي في ألمانيا كان أضعف منه في فرنسا، حيث لم تنتصر الفاشية قط. ولولا موسوليني وهتلر، لاعتُبر القوميون المتطرفون الذين ظهروا قبل الحرب في إيطاليا وألمانيا مجرد حالات عارضة في التاريخ. يُضاف إلى ذلك أن أيًّا من الحركات التي خضعت للدراسة — ربما باستثناء الحركات الفرنسية — لم تكن تريد السلطة لنفسها، بل كانت في أغلب الأحيان تسعى لإضفاء الراديكالية على الأنظمة القائمة. وما يفوق كل ذلك أهمية، أن هذه الحركات كانت أكثر خضوعًا من الحركات الفاشية لسيطرة النخب القائمة، مثل أصحاب الشركات الكبرى، والأساتذة الأكاديميين، والزعماء الدينيين، ومسئولي الحكومة. لذا فإن غاية ما نستطيع قوله هو أن القومية الراديكالية كانت أحد الخيارات المتوافرة أمام اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا، وربما تسنَّى استغلالها في ظروف الأزمات. علاوة على أن القومية الراديكالية لم تكن سوى أحد أشكال عدة ممكنة للاحتجاج الشعبوي الذي ربما جرى توجيهه ضد اليهود أو غيرهم من الأقليات، أو الرأسماليين، أو الاشتراكيين أو جميعهم. وبناءً على هذا، فإن الظروف قبل عام ١٩١٤ لم تكن تحتم انتصار الفاشية في إيطاليا وألمانيا.
الحرب العالمية الأولى
أدت الحرب العالمية الأولى ومعاهدات السلام والصعوبات الاقتصادية التي شهدتها سنوات ما بين الحربين إلى تغيُّر الوضع تغيرًا جذريًّا؛ فقد أصاب الوهن التيار المحافظ القائم؛ لأن الحكومات التي واجهت صعوبات في الحرب تنازلت تنازلات جوهرية للقوميين والفلاحين والاشتراكيين والنساء، في محاولة منها لكسب الدعم للمجهودات الحربية. ومع انتهاء الحرب، صار الاستياء الشعبي واندلاع الانتفاضات في جميع أنحاء أوروبا يدفع الحكومات المذعورة إلى تعزيز الديمقراطية وزيادة ما تمنحه من حقوق للمرأة والعمال والأقليات العرقية. فقد أثارت الثورة الروسية تخوفًا هائلًا لدى أوروبا المحافظة، لا سيما مع تغوُّل الحركات الشيوعية في المجر وفنلندا وفرنسا وألمانيا. فالشيوعية لم تهدد بدمار الرأسمالية وحدها، بل بدمار الأسرة أيضًا، علاوة على أنها تبنَّت قضية الأقليات العرقية في جميع أنحاء أوروبا.
كان من المحتم ظهور رد فعل مضاد لهذه التهديدات متعددة الرءوس، لكن نظرًا لتشوه سمعة الحركات المحافظة القائمة، كان رد الفعل غالبًا ما يأتي من جانب اليمين الجديد. الأكثر من ذلك، أن هذا كان يجري في مناخ حمل طابع الوحشية جراء الحرب والحرب الأهلية، واكتسبت القومية فيه قوة كبيرة، وصارت كل حكومة مهمومة بضمان أهلية دولتها للنجاة من الوضع الدولي العصيب في عالم ما بعد الحرب. وتدخلت الحكومات في زمن الحرب في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأسرية إلى حد لم يسبق له مثيل في أوروبا، وشجع هذا الكثيرين على الاعتقاد بأن العلم وتخطيط أمور الدولة يستطيعان استعادة العظمة الوطنية. كانت القوة القومية في أكثر أشكالها راديكالية — والذي اعتنقه الفاشيون في كل مكان — تستلزم الاكتفاء الذاتي الاقتصادي الذي يحتمي وراء التعريفات الجمركية التي تزيد من سعر الواردات، وقمع الاشتراكية وإدماج العمال في المجتمع القومي، وتشجيع النساء على التخلي عن الالتحاق بالوظائف وعن السعي للمساواة من أجل إنجاب أطفال للأمة، واستيعاب الأقليات العرقية في النسيج القومي أو إقصاءها منه، وطرح خطط رعاية اجتماعية يوجينية تهدف إلى تحسين اللياقة البدنية لأبناء الأمة.
شجعت أيضًا الحرب استخدام القوة لأغراض سياسية. لكن لم يكن كل العسكريين مهووسين باستخدام القوة، فقد أصبح كثير منهم دعاة سلام. لكن كان واضحًا أن ظهور الحركات شبه العسكرية في جميع أنحاء أوروبا خلال سنوات ما بين الحربين كان نتيجة من نتائج الحرب. في الواقع، من المستحيل فهم الفاشية من دون أن نأخذ بعين الاعتبار الحراك البالغ الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى، ومن المهم للغاية أن ندرك أن الفاشية جاهدت كي تفرض نفسها خارج السياق الزماني والجغرافي لأوروبا ما بين الحربين.