إيطاليا: «صناعة التاريخ بالقوة»
أول ما لفت بنيتو موسوليني الاهتمام الوطني كان عام ١٩١٢، حينما كان زعيمًا للجناح الراديكالي للحزب الاشتراكي الإيطالي، المناهض لجوليتي وحربه في ليبيا. وتماشيًا مع مبادئه اليسارية، كان يدعو في بادئ الأمر لأن تظل إيطاليا واقفة على الحياد في الحرب العالمية الأولى، لكنه انضم في عام ١٩١٥ إلى «الحركة التدخلية» متنوعة الاتجاهات السياسية، حيث التقى المستقبليين، والقوميين الراديكاليين، والليبراليين المحافظين. ومن عام ١٩١٥ انحاز موسوليني إلى جانب القوميين من ضمن أصدقائه الجدد، معتبرًا الأمة منذ ذلك الحين قوة سياسية مؤثرة أكثر منها طبقة. لكن موسوليني لم يتخلَّ قط عن كراهيته الأخلاقية للمؤسسات السياسية أو التجارية، وكان متأثرًا بالنقابيين الثوريين، فبات مقتنعًا مثلهم بأن القومية من شأنها أن تُنتج حركة قادرة على مجابهة الليبرالية البرجوازية وعلى خلق إيطاليا جديدة.
في عام ١٩١٥ نجح «التدخليون» في مسعاهم، ودخلت إيطاليا الحرب. وقد نجحت الحرب في تغيير إيطاليا، لكنها لم تخلق الوحدة الوطنية التي حلم بها القوميون، بل على العكس، فاقمت الحرب الصراع بين الطبقات وبين أدوار الجنسين. ظل الحزب الاشتراكي ثابتًا على موقفه المعارض للحرب، على عكس أي من نظرائه الأوروبيين. ونمت مستويات التنظيم النقابي وشاعت الإضرابات. أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من ٦٠٠ ألف شخص وسَرَيَان عدوى انخفاض الروح المعنوية بين صفوف الجيش، وبدا أن الحرب أحدثت انقلابًا في العلاقات الطبيعية بين الجنسين، فقد التحقت النساء ببعض الوظائف التي كانت مخصصة للذكور وكان يُنظر إليهن على أنهن يهتممن بالتربح من غياب رجالهن لا أنهن يدعمن المجهود الحربي.
لم تُثِر هزيمة الجيش الإيطالي في معركة «كابوريتو» في أكتوبر ١٩١٧ الرأيَ العام الإيطالي إلا في وقت متأخر، ما سمح لإيطاليا أن تصمد لبقية الحرب. صحيح أن البلاد نالت الكثير من الأراضي النمساوية بموجب معاهدة السلام، لكن هذا لم يَرْقَ حتمًا لما أراده القوميون الذين كان يصعب إرضاؤهم. فقد دفع الغضب الشاعر دانونسيو، على رأس فرقة من قدامى المحاربين، للاستيلاء على ميناء «فيومي» الأدرياتيكي في شهر سبتمبر عام ١٩١٩، وظلوا فيها إلى أن جرى طردهم منها في نهاية السنة التالية. وعملت الاضطرابات الاجتماعية المستمرة على تفاقم الغضب القومي على «الانتصار المبتور»؛ ففي الفترة بين ١٩١٨–١٩٢٠ («السنوات الحمر») شاعت الإضرابات واحتلال المصانع في مدن الشمال، بينما شارك العاملون بالزراعة والفلاحون في الإضرابات في وادي بو، وعمد العمال المعدمون في الجنوب لاحتلال الأراضي غير المزروعة، وطالبت الأقليات السلافية والألمانية في المناطق الحدودية بالاستقلال، ونشطت الحركة النسائية، أيضًا، بفضل مشاركتها في المجهود الحربي، وأقرَّ مجلس النواب منح المرأة حق التصويت، ولو أن هذا الإجراء لم يتحول إلى قانون رسمي. وحقق الحزبان الاشتراكي والكاثوليكي مكاسب كبيرة في الانتخابات العامة لعام ١٩١٩، لكن نظرًا لأن أيًّا منهما لا يمكنه أن يحكم وحده، ولا أن يكوِّن ائتلافًا مع الآخر، فقد شكَّل السياسيون الليبراليون القدامى سلسلة من الحكومات بدعم كاثوليكي. لكن هذه الحكومات كانت مشلولة بفعل الانقسامات بين أتباع كلٍّ من جوليتي، والتدخلية، والحيادية ومعارضيها.
هذه هي الظروف التي تحولت الفاشية في ظلها إلى حركة جماهيرية. حتى ذلك الحين، لم يكن موسوليني فاشيًّا بمعنى الكلمة؛ فقد ضمت «عصبة المناضلين»، التي أسسها في ميلانو في ٢٣ مارس عام ١٩١٩، عددًا قليلًا من العسكريين السابقين، والنقابيين، والمستقبليين. ومزج برنامجها بين القومية والجمهورية، وفصل الدين عن السياسة، ومنح المرأة حق التصويت، والإصلاح الاجتماعي، في ظل فكرة رئيسية تدعو لحشد الرجال والنساء، والعمال وأرباب العمل، والفلاحين وملاك الأراضي في مجتمع وطني علماني. لم تحظَ الفاشية بأصوات كثيرة عام ١٩١٩، لكنها عام ١٩٢١، مع بلوغ غضب الطبقة العاملة والفلاحين ذروته، بدأت تكسب المزيد من المؤيدين.
علا شأن الفاشية في المناطق التي كانت متضررة جراء اضطرابات الفلاحين، حيث بدأ شباب البرجوازية الريفيون ينضمون لها بأعداد كبيرة؛ فقد رأى هؤلاء الشباب من أبناء مديري العِزَب، ومسئولي البلدات الصغيرة، والمعلمين — الذين كان أكثرهم من قدامى المحاربين — في الفاشية وسيلة للاضطلاع بمهمة محاربة الجماعات الاشتراكية والكاثوليكية، واكتسبوا دعم العديد من صغار الفلاحين والعمال المعدمين المحافظين، الذين شاركوهم الرأي بأن السلطات لا توفر لهم الحماية من تيار اليسار. بدأت «الكتائب الفاشية» حملة ترويع شعواء استهدفت الكاثوليك والاشتراكيين خاصة، راح ضحيتها عدة مئات من القتلى. وبحلول عام ١٩٢٢، كان الفاشيون قد نجحوا فعليًّا في تولي تطبيق القانون والنظام في كثير من المناطق الريفية. وفي الوقت نفسه، خاض الفاشيون صراعًا مع الأقليات السلافية في إقليم فينيتسيا جوليا، وتوسَّعوا ووصلوا إلى المدن، حيث نجحوا في شهر يوليو في إنهاء إضراب عام. وبحلول نهاية عام ١٩٢٢، كان عدد أتباع الفاشية قد بلغ ربع المليون.
قدَّم كبار ملاك الأراضي ورجال الأعمال للفاشية التشجيعَ والأموالَ بعد أن يئسوا من أن توفر لهم الحكومة الدعم لمواجهة المضربين. لكن العلاقة بين المحافظين والفاشيين لم تخلُ من توترات؛ لأن الفاشيين كانوا يرفضون ما تتسم به البرجوازية من نعومة «أنثوية»، وأعلنوا ظهور نخبة رجولية جديدة، زادتها الحرب صلابة، ومستعدة للقيام بكل ما يلزم لهزيمة أعداء الأمة. انتقد الفاشيون خمول البرجوازية أيضًا، ورأوا أنفسهم ممثلين لأولئك الذين يعملون، القادرين على حكم البلاد وخلق إيطاليا جديدة. لكن المثير للقلق أن الفاشيين كانوا على استعداد لشن حرب شوارع على القوميين المحافظين بقدر ما كانوا على استعداد للتعاون معهم. ظل موسوليني مترددًا حيال قطع كل صلة بالاشتراكيين، وبينما كان الأثرياء سيقنعون بمجرد رؤية المنظمات الاشتراكية والكاثوليكية تُدمَّر، راح الفاشيون يشكِّلون نقابات خاصة بهم، واعتمدوا على تمويل التيار المحافظ الذي كان موجودًا من قبل بين بعض الفلاحين والعمال، في حين شجعت أساليب العصا والجزرة كثيرين آخرين على الانضمام لهم. ومع ذلك، لم يكن الفاشيون يُدينون الملكية الخاصة في حد ذاتها، الأمر الذي جعلهم، في نظر الأثرياء، أفضل بكثير من التيار اليساري. وقد شعر المحافظون بالاطمئنان في نهاية عام ١٩٢١ حينما تحوَّلت الفاشية إلى حزب نظامي — الحزب الوطني الفاشي — واعتنقت مبادئ المِلكية والاقتصاد الحر.
لم تكن الفاشية قد صارت قوة في البرلمان بعد، فهي لم تَفُز سوى بخمسة وثلاثين مقعدًا في انتخابات عام ١٩٢١، لكنها تولَّت السلطة من خلال مزيج من ضغط الشارع ودعم النخب من رجال الأعمال والزراعيين والسياسيين في البلاد. ففي صيف عام ١٩٢٢، تعاظم الضغط الفاشي الشعبي للإمساك بزمام السلطة، وفي الخريف كانت خُطط مسيرة «الزحف على روما» قد وُضعت، ووجد السياسيون الليبراليون أنفسهم أمام أحد خيارين صعبين؛ فهم إذا قاوموا، ربما يرفض الجيش والشرطة محاربة الفاشيين، لا سيما وقد ثبت تأرجح موقفيهما، وحتى إذا انهزم الفاشيون فربما يربح اليساريون. فأجمع الساسة ورجال الأعمال والجيش على أن تولية الفاشيين الحكومة سيكون أكثر الخيارات أمانًا؛ فذلك ربما يشد أزر السلطات في كفاحها ضد اليسار، وربما حتى يبعث النشاط في كيان الدولة السياسي. لكن الأمر الخطير أن الليبراليين عوَّضوا خسارتهم لأصوات الحزب الكاثوليكي والاشتراكي عن طريق استخدام الفاشية مصدرًا بديلًا لحشد الدعم الشعبي. وبالفعل أصبح موسوليني رئيسًا للوزراء في ٢٩ أكتوبر عام ١٩٢٢.
هاجم الفاشيون اليساريين وهم على يقين بأنهم في مأمن من العقاب بعدما تأكدوا من دعم الحكومة والجيش لهم. وفي عام ١٩٢٣ تفكَّك الحزب الشعبي الكاثوليكي أيضًا تحت التأثير المزدوج لهجمات «الكتائب الفاشية» وزوال الدعم البابوي، فقد وعد موسوليني البابا بتحسين مكانة الكنيسة مقابل تقديمها هذا المعروف. الأهم من هذا، أنه ما من أحد كان متأكدًا على الإطلاق مما تمثِّله الفاشية؛ فقد كانت هناك ثلاثة احتمالات على الأقل في هذا الشأن. وبما أن الحزب صار يمسك بزمام السلطة، أقبل المحافظون عليه، خاصة في الجنوب (ومعهم عصابات المافيا). فقد كان المحافظون يأملون أن يعيد موسوليني ترسيخ القانون والنظام، وأن يتبع ذلك «تطبيع» العلاقات بينهما. كانوا يريدون نسخة أكثر سلطوية من النظام القديم، يضمنون في ظلها حقوقهم واحتكارهم السلطتين الاجتماعية والسياسية، لكنهم مع ذلك اعتقدوا أن تشكيل حكومة برلمانية ووجود درجة من الحرية السياسية ضروريان للحفاظ على نفوذهم. أراد أعضاء «الجمعية القومية الإيطالية» القديمة، التي كانت قد اندمجت مع الحزب الوطني الفاشي عام ١٩٢٣، إقامة دولة أكثر سلطوية، لكنهم لم يكونوا معجبين بالكتائب الفاشية الفوضوية. وفي المقابل، دعا كثير من الفاشيين إلى «ثورة ثانية» لخلع السياسيين الموجودين. وقد شمل هؤلاء الراديكاليون: المثقفين النقابيين وزعماء النقابات العمالية الفاشيين، وأنصار الحركات النسائية، وزعماء الأحزاب المحلية المتعطشين للسلطة، والمجددين الاقتصاديين.
لم يكن موسوليني منحازًا لأي جانب صراحة، لكنه، مع ذلك، عدَّل قانون الانتخابات على نحو يضمن للفاشيين الفوز بأغلبية في برلمان عام ١٩٢٤. وخلال الحملة الانتخابية شارك الفاشيون في موجة عنف مكثَّفة ضد الاشتراكيين، لكنهم تمادوا كثيرًا حينما قتلوا المتحدث باسم الاشتراكيين، جياكومو ماتيوتي. تورَّط موسوليني في الجريمة وتعالت صيحات الاحتجاج من اليسار، بل ومن الليبراليين مثل جوليتي والسياسي المحافظ أنتونيو سالاندرا. في بادئ الأمر قدم موسوليني تنازلات للمحافظين، لكن هذا لم يسفر إلا عن تكثيف الراديكاليين دعواتهم لإحداث «ثورة ثانية». احتشدت النقابات الفاشية للضغط على رجال الأعمال، في حين جددت النساء الفاشيات مطالباتهن بمنح النساء حق التصويت.
في يناير ١٩٢٥ أذعن موسوليني أمام الضغط الراديكالي وأعلن عن نيته إقامة نظام فاشي حقيقي. لم يعمد المحافظون إلى قطع صلاتهم به خشية أن يؤدي ذلك إلى تعافي اليسار. وفي نهاية العام جرى حظر المعارضة السياسية، وقُمعت حرية الصحافة، وأُلغيت انتخابات الحكومات المحلية.
أجمع المؤرخون على أن انتصار الراديكاليين كان فارغًا من مضمونه، وأن النظام لم يحدث قط أن تحول إلى الفاشية حقًّا، لكنهم اختلفوا إلى حد ما حول طبيعة النظام الذي ظهر حينئذ. البعض قال إنه كان يخضع لسيطرة ورثة الجمعية القومية الإيطالية. تذكَّر عزيزي القارئ أن هذه الجمعية كانت تريد إقامة دولة قوية لإضفاء النزعة القومية على الإيطاليين ولاستعادة المجتمع البرجوازي من خلال الانضباط والتراتب الهرمي. ولما كانت الجمعية متأثرة بالفلسفة الألمانية، رأى أنصارها أن الحرية الفردية لا تساوي شيئًا إلا في وجود «دولة» قوية تعبر عن مصلحة الأمة؛ لذا فقد عارضت الجمعية مطالبات الفاشيين الراديكاليين بإشراف «الحزب» على الحكومة والجيش والدوائر الحكومية، وأصرَّت على أن يخضع الفاشيون للقانون لا أن يصنعوه بأنفسهم. وهكذا تقع الجمعية القومية الإيطالية، وفقًا للتعريفات التي أوردتها في الفصل الثاني، في موقع ما بين المحافظية الاستبدادية والفاشية.
ساعد نصيرا الجمعية القومية الإيطالية المتفانيان لويجي فيدرزوني — وزير الداخلية عام ١٩٢٦ — وألفريدو روكو — وزير العدل من عام ١٩٢٥ إلى ١٩٣٢ — في وضع أسس النظام، فجرى القضاء على العنف الفاشي تدريجيًّا، وأقامت الدولة منظماتها الخاصة للشباب والنساء في محاولة لتحقيق حلم الجمعية القديم المتمثل في «أمة تُستنفَر من أعلى»؛ أي من الحكومة. في ذلك الوقت ظلَّ أصحاب المصالح القدامى محتفظين بحرية التصرف، وظل النظام الملكي قائمًا، بينما احتفظ كبار رجال الأعمال والزراعيين بنفوذ كبير. وفي عام ١٩٢٩ نفَّذ موسوليني وعده الذي قدَّمه للبابا؛ فقد أنهت «اتفاقية لاتيران» ستة عقود من المعارضة البابوية للدولة الإيطالية، ومنحت الكنيسة حقوقًا كثيرة في مجالي التعليم والعمل الشبابي.
أصاب الوهن الفاشية الشعبية الريفية العنيفة التي كان روبرتو فاريناتشي مثالًا لها، فعلى عكس النازيين، فشل الفاشيون الراديكاليون فشلًا ذريعًا في تقويض سيادة القانون واجتثاث جذور الدولة الرسمية. وبحلول أواخر عشرينيات القرن العشرين لم تعد الصورة السائدة للفاشي هي صورة الشاب الذي يحارب الاشتراكيين وحده «دون أن يخشى العواقب»، وإنما الزوج والأب المسئول الذي يعمل من الساعة التاسعة صباحًا إلى السادسة مساءً في بناء أمة جديدة، بينما تنجب زوجته الأطفال لإيطاليا. خلال هذه السنوات أصابت خيبة الأمل أولئك الذين رأوا الفاشية وسيلة لتحقيق مطالب نسوية، أو لنيل استقلال النقابات العمالية في ظل اقتصاد كوربوراتي (انظر الفصلين التاسع والعاشر).
رغم ذلك، لم يلقَ الفاشيون الراديكاليون تهميشًا كاملًا قط، ولم يصبح النظام مجرد مثال آخر على الديكتاتوريات البيروقراطية الملكية التي كانت شائعة جدًّا في أوروبا ما بين الحربين العالميتين (انظر الفصل السادس)؛ فموسوليني لم يُرِد قط نظامًا كهذا، ولهذا وجد نفسه مضطرًّا لاستخدام الحزب وسيلة ضد المحافظين. ظل الحزب كيانًا مستقلًّا، وقلة قليلة فقط من قياداته تقلدت — أو سمح لها بتقلد — مناصب إضافية في الدوائر الحكومية، لكنه لم يتخلَّ قط عن رغبته في السيطرة على مجالات الرعاية الاجتماعية والتعليم والترفيه لتحقيق هدف الأمة المستنفَرة.
كان دور فاريناتشي حينما كان أمينًا عامًّا دورًا حاسمًا؛ فقد قلَّص دعمُهُ للديكتاتورية المركزية حريةَ عمل الراديكاليين الفاشيين المحليين دون أن يقصد، وفي عام ١٩٢٦ توقف العنف الفاشي العشوائي. لكن الراديكالية اتخذت شكلًا مختلفًا حينئذ. حاول فاريناتشي استخدام الحزب ليتجاوز الأساليب البيروقراطية العادية للحكم، ويخلق طبقة حاكمة جديدة. ما لبث فاريناتشي أن عُزل من منصبه، لكن خليفتيه — أوجوستو توراتي وأكيلي ستراتشي — واصلا السعي وراء الأهداف نفسها لكن بمزيد من الحذر. وصار الحزب بيروقراطية موازية متضخمة، وباتت بطاقة عضوية الحزب شرطًا أساسيًّا للترقي في المناصب الحكومية. غالبًا ما اكتفى موظفو الحكومة بإظهار الولاء الكلامي للمُثُل الفاشية، لكن الأمر الأساسي هو أن الامتثال الأيديولوجي كان مهمًّا بقدر أهمية الأساليب المتبعة في اختيار البيروقراطيين الفاشية وتدريبهم. في عام ١٩٣٢ طالب موسوليني بمنح خريجي «الأكاديمية الفاشية للعلوم السياسية» (التي أنشئت عام ١٩٢٨) فرص تقلُّد وظائف الدولة، وبات الفكر القومي المتعصب، لا القواعد، أساسًا لإدارة الدولة.
في الواقع، كان هناك نوع من الجمود؛ فقد أصبح الحزب، إلى جانب كبريات الشركات والكنيسة والدولة والجيش والنقابات الفاشية والمؤسسات، أحد عدة مراكز قوى شبه مستقلة في إيطاليا الفاشية، وهذا أثار قدرًا كبيرًا من التنافس والارتباك بين كل هذه الأطراف؛ فعلى سبيل المثال، بدأت مؤسسة ترفيهية للعمال الفاشيين تُدعى نادي «دوبو لافورو» الترفيهي القومي كمؤسسة حكومية، لكن الحزب استولى عليه عام ١٩٢٧ في محاولة لتقويض التأثير الذي تمارسه النقابات الفاشية على العمال. لكن ظل دوبو لافورو مع ذلك مضطرًّا للتنافس مع المؤسسات الكاثوليكية والنقابات العمالية الفاشية للفوز بولاء العمال. وقد شهد تاريخ المنظمات النسائية والشبابية صراعات مماثلة.
كان «الدوتشي» يريد أن تكون بيده الكلمة الفصل في جميع النزاعات، وكان يتفحَّص الأوراق الرسمية في مكتبه حتى الساعات الأولى من الصباح، فهو كان أحيانًا يرأس ثماني وزارات في نفس الوقت، لكنها كانت رئاسة اسمية، ويبدو أنه لم يكن يستطيع التوصل لقرارات في كل الأمور. كانت تدخلاته عشوائية، تفتقر إلى التدبير الجيد، وكان هناك مجال كبير يتيح لآخرين اتخاذ المبادرات. ومع ذلك كان وجود موسوليني ضروريًّا لسير النظام. فقد كانت سلطته — متى أراد أن يمارسها — هائلة، علاوة على أنه كان أكثر شعبية بكثير من أيٍّ من نوابه، ومن ثم لم يستطع أيٌّ منهم دون شك المجازفة بمعارضة إرادة الدوتشي الفورية، لا سيما فيما يتعلق بالشئون الخارجية، التي شكَّلت الميدان الوحيد الذي يبدو أن موسوليني اختار أن يسيطر عليه. وفي ثلاثينيات القرن العشرين دشَّن الحماس للحرب موجة جديدة من إضفاء النزعة الراديكالية على النظام.
كانت نزعة موسوليني المغامرة على صعيد الشئون الخارجية ثمرة لعوامل ثلاثة؛ أولًا: أن الفاشيين كانوا دائمًا يرون أن الاستيلاء على أراضٍ جديدة أفضل وسيلة لحل المشاكل الاقتصادية، وكانوا يعتبرون الحرب أمرًا جيدًا في جوهره بالنسبة للأمة. ثانيًا: أدت السيطرة الفاشية على وزارة الخارجية إلى تقلُّص المعارضة المحافظة لمغامرات موسوليني. ورغم أن السياسة الخارجية لم تكن جديدة على موسوليني — فقد سبق له أن مارسها في فترة ما قبل الفاشية — فقد صار فيما بعد يمارسها بأيديولوجية فاشية. فالتوسع العسكري مثلًا كان يُبرَّر بما ذهب إليه داروين عن الصراع بين الأمم، وبحاجة إيطاليا للعثور على مكان لتوطين ما لديها من فائض سكاني. ثالثًا: سمح صعود هتلر لإيطاليا — القوية بما فيه الكفاية دون مساعدة من أي قوة أخرى — بإعادة النظر في معاهدة فرساي. في بادئ الأمر كان موسوليني قلقًا وحذرًا من التوسع الألماني، وذلك لأن إيطاليا كانت تخشى أن يتحول انتباه هتلر إلى ضم أقلياتها الناطقة بالألمانية إذا نجح في ضم النمسا إلى الرايخ، لكن سرعان ما تبيَّن أن قوة ألمانيا العسكرية في القارة الأوروبية كبيرة جدًّا بدرجة جعلت إيطاليا تدرك أن الطريقة الوحيدة لزيادة النفوذ الإيطالي هي التحالف مع هتلر، وإن كان ذلك على حساب المصالح البريطانية والفرنسية في البحر المتوسط وأفريقيا. فغزت الجيوش الإيطالية الحبشة عام ١٩٣٥، وحاربت إلى جانب تحالف فرانكو اليميني في الحرب الأهلية الإسبانية من عام ١٩٣٦ إلى ١٩٣٩، واحتلت ألبانيا عام ١٩٣٩. وفي السنة التالية، شاركت إيطاليا في غزو فرنسا (قبيل استسلام فرنسا لألمانيا)، وفي عام ١٩٤١ غزت اليونان وبدأت تتقدم نحو مصر.
أدَّت تهيئة الأمة للحرب، إلى جانب الأزمة الاقتصادية، إلى زيادة راديكالية النظام وقلب التوازن بين مكوناته لصالح تنظيمات الحزب والأجهزة الحكومية الجديدة. ضاعف النظام جهوده لتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، الأمر الذي تضمَّن زيادة القوانين التي تحكم الاقتصاد والتدخل في الحياة الخاصة. فقد شجَّعت الحكومة السكان على تناول الأرز المزروع محليًّا بدلًا من المكرونة المستوردة، وصرَّح موسوليني ذات مرة بأن الأمة المولعة بتناول «السباجيتي» لن تستطيع أبدًا استعادة الحضارة الرومانية. علاوة على ذلك، أنشأت الحكومة، خلال فترة الكساد الاقتصادي، شركة قابضة حكومية، هي «مؤسسة إعادة بناء الصناعة»، التي مارست رقابة فعلية على الشركات الفاشلة، وفي عام ١٩٣٦ جرى تأميم المصارف الكبيرة. لم تشكِّل هذه التدابير تهديدًا لوجود الشركات الكبرى في حد ذاتها، بل في الواقع منحت هذه الشركات عناية كبيرة جدًّا على حساب المنافسين الأصغر. لكن العمل التجاري بات عالقًا في شَرَك الضوابط التي فرضتها الدولة — وهو الأمر الذي كان يأمل في تجنبه من خلال مساعدة الفاشيين على الوصول إلى الحكم.
أدت الحرب أيضًا لمزيد من استنفار المواطنين؛ ففي ظل قيادة أكيلي ستراتشي، أمين الحزب من عام ١٩٣١ إلى ١٩٣٩، «تحول الحزب نحو الجماهير»؛ فأدرج عددًا هائلًا من النساء والطلَّاب في مجموعات الحزب (وهكذا جرى استئصال آخر ما تبقى من الحركة النسائية المستقلة). نظَّم ستاراتشي مظاهرات حاشدة للتعبير عن تبجيل موسوليني، واستفاد استفادة خاصة من وراء تنظيم الترفيه للعمال من خلال دوبو لافورو، وفي عام ١٩٣٨ أصبحت القومية عنصرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أولًا في الحبشة، ثم في إيطاليا نفسها، حيث صدرت القوانين المعادية للسامية عام ١٩٣٨.
كان الهدف الشمولي من وراء هذه التدابير واضحًا صريحًا، لكن على أرض الواقع لم يتحقق إلا القليل، فقد جرى تطبيق هذه التدابير على نحو اعتراه الارتباك. وعلى أية حال، ربما لم تكن إيطاليا تملك البنية التحتية والموارد الطبيعية اللازمة لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيمًا فعليًّا. الأسوأ من ذلك — من وجهة نظر النظام — أن «التحول نحو الجماهير» أزعج الكيانات الإقطاعية داخل النظام؛ مثل الشركات والكنيسة والملك، وظهرت أمارات الاستياء الشعبي، وأخذت الفجوة بين الصورة الدعائية للنظام وإنجازاته الفعلية على أرض الواقع تصبح واضحة أمام بعض المثقفين.
كان المجهود الحربي الإيطالي هزيلًا، ولم ترغب الجماهير في خوض القتال؛ لذا كانت مساعدة ألمانيا ضرورية لإنقاذ قوات موسوليني في اليونان وفي شمال أفريقيا. عام ١٩٤٣ احتلَّت قوات الحلفاء إيطاليا، ودبَّر «المجلس الفاشستي الأعلى» مع الملك مؤامرة لعزل موسوليني من منصبه، وتحوَّلت إيطاليا إلى ساحة حرب في الوقت الذي كانت فيه ألمانيا تحتل الشمال والحلفاء الجنوب. وسُجن الدوتشي، لكن ما لبثت القوات الألمانية أن أنقذته، ثم ظلَّ حتى نهاية الحرب رئيسًا لجمهورية صورية تقع تحت سيطرة ألمانية هي «الجمهورية الاشتراكية الإيطالية»، التي حاول فيها الفاشيون المستميتون في النضال أن يطبقوا الفاشية في شكلها «النقي»، وفي الوقت نفسه انخرطوا في صراع مسلح ضد حركة مقاومة شعبية.