الحركات الفاشية والمحافظة في مطلع القرن العشرين
ظهرت حركات تحاكي الفاشية الإيطالية والألمانية في جميع أنحاء أوروبا وفي الأمريكتين في السنوات التي فصلت بين الحربين العالميتين، ويكشف لنا التفحُّص الدقيق أن بعضها لم يكن في الواقع بالغ الشبه بنماذجه المفترضة؛ فقد فسرت الحركات الأجنبية المقلدة الفاشية وفقًا لأهوائهم، فاستعاروا بعض السمات، وغيَّروا في سمات أخرى، ولم يروا على الإطلاق بعض الجوانب المهمة. ولذلك، ليس كلُّ من أطلقوا على أنفسهم فاشيين كانوا كذلك بالمعنى الذي يعنينا هنا؛ فمثلًا تنظيم «القمصان الذهبية» المكسيكي، الذي تأسس عام ١٩٣٤، كان يحاكي النموذجين الإيطالي والألماني، لكن قوميته كانت في الواقع أقرب إلى قومية اليمين الراديكالي الأوروبي في فترة ما قبل عام ١٩١٤. وينطبق ذلك بدرجة كبيرة على الجماعات القومية المتعصبة في اليابان في ثلاثينيات القرن العشرين؛ فقد أُعجبت ببعض جوانب النازية، وطالبت بالإصلاح المؤسسي وبعسكرة الدولة وبالتوسع في الخارج، لكنها كانت تعتبر تنظيم الحركات القومية الشعبية جريمة في حق الإمبراطور.
لكن ظهرت أيضًا حركات فاشية حقيقية؛ حتى في البلدان التي اتسمت بقوة التقاليد الديمقراطية؛ ففي الولايات المتحدة، كانت «الرابطة الأمريكية الألمانية» فاشية بحق، ولو أن عدد أعضائها لم يتجاوز ٦ آلاف عضو في أوج شعبيتها.
نجمت هذه الحركة جزئيًّا عن إساءة معاملة الألمان، التي شاعت في أمريكا منذ دخولها الحرب العالمية الأولى (هذه هي الفترة التي تغيَّر فيها اسم نقانق «الفرانكفورتر» إلى «هوت دوج»). ورغم أن الرابطة عقدت بعض الروابط مع «كو كلوكس كلان»، كانت جاذبيتها محدودة بسبب هذا العداء نفسه لكل ما هو «جرماني». كان «الاتحاد الوطني للعدالة الاجتماعية» الذي أسسه القس تشارلز إي كافلين عام ١٩٣٤ أكبر عددًا لكن أقل تطرفًا؛ حتى إن مرشح كافلين حصد ٨٨٢٤٧٩ صوتًا في الانتخابات الرئاسية عام ١٩٣٦. وكان «اتحاد الفاشيين البريطاني»، الذي أسسه عام ١٩٣٢ وزير حزب العمل الأسبق السير أوزوالد موزلي، مثالًا على حركة اتخذت صراحة نموذج الحركات الفاشية، واستوفت المعايير التي ذكرناها سابقًا في الفصل الثاني. لم تزدهر هذه الحركة إلا لفترة وجيزة في ظل رعاية صحيفة «الديلي ميل»، ثم سرعان ما أفل نجمها. ولعل الوصف الذي صارت نانسي ميتفورد منذ ذلك الحين تطلقه على زوج أختها موزلي بأنه «القائد العجوز المسكين» يلخص تمامًا ما آل إليه لاحقًا وضع موزلي الذي صار كصوت يصرخ في البرية.
رفضت حركة «صليب النار» في فرنسا تسمية الفاشية، وكان زعيمها الكولونيل ديلا روك رجلًا متراخيًا إلى حد ما، لكنه رغم ذلك تزعَّم حركة جماهيرية شبه عسكرية كانت تهدد بممارسة العنف «الدفاعي» على أمل إقناع السياسيين القائمين بأنها الوحيدة القادرة على حكم فرنسا حكمًا ناجحًا. كانت هذه الحركة ترى أنها تجسيد للشعب وكوكبة من نخبة المحاربين القدامى، وأنها ستعيد إحياء فرنسا في أعقاب التخلص من الشيوعية والمحافظية التقليدية. وتطلعت الحركة لاقتناص زعامة الطبقة العاملة من التيار اليساري، ولإدماج العمال في نظام كوربوراتي. ورغم عدائها التام للحركة النسائية، حشدت النساء في مؤسسة رعاية اجتماعية ضخمة مسيَّسة كانت ترفض تقديم المساعدات لملايين العمال الفقراء المهاجرين في فرنسا.
لم يقترب الفاشيون في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا من السلطة. ولعل ما يثير الاستغراب أن الفاشية كان ينبغي أن تكون شديدة الضعف في الولايات المتحدة بالنظر إلى مدى العنصرية في الفكر البروتستانتي السائد (مع ذلك وصل عدد تنظيم «كو كلوكس كلان» في مطلع عشرينيات القرن العشرين إلى ما بين اثنين إلى ثمانية ملايين عضو)، وإلى احتدام الأزمة الاقتصادية، وإلى حنق المحافظين على «الصفقة الجديدة» التي استحدثها الرئيس روزفلت، وإلى حجم المعارضة الانعزالية التي ترفض توريط أمريكا في الصراع ضد الفاشية في أوروبا. ولعل التفسير الأكثر إقناعًا لفشل الفاشية هناك هو أن السياسات الاجتماعية التي تبنتها «الصفقة الجديدة» حولت الشعبوية المناهضة للمؤسسة الحاكمة نحو اليسار بدلًا من اليمين المتطرف، وهذا جائز جدًّا، لا سيما إذا عرفنا أن العنصرية لم تَغِب عن اليسار واليمين السائدين حينئذ في أمريكا.
لم تخلُ بريطانيا أيضًا من التوتر، فرغم أن البلاد كانت إلى الجانب المنتصر في الحرب العالمية الأولى، كان خطر القومية المتمردة يهدد الإمبراطورية، بينما كان الكثيرون يرون أن الإضراب العام لعام ١٩٢٦ وصعود حزب العمل يشكلان خطرًا يهدد حق المِلكية. رغم ذلك، رأى «اتحاد الفاشيين البريطاني» أن المحافظين الموجودين أكثر توحدًا من نظرائهم الألمان أو الإيطاليين، وأنهم راسخون رسوخًا متينًا في البرلمان بدرجة تغنيهم عن أي دعم فاشي. ويذهب البعض — ربما بقدر كافٍ من الرضا — إلى أن تقليد بريطانيا طويل الأمد بتنصيب حكومات نيابية كان يشكِّل حاجزًا أمام الفاشية. ولعل النظام الانتخابي البريطاني الذي يجعل من الصعب على الناخب أن يصوِّت لصالح الأحزاب المتطرفة من دون أن يدع خصمه السياسي يدخل البرلمان، كان أكثر أهمية من أي رصيد من الحكمة والتسامح تفردت به بريطانيا.
في فرنسا، كان الموقف أكثر إيجابية إلى حد ما بالنسبة للفاشيين؛ لأن عددًا كبيرًا من المحافظين كانوا منتقدين للنظام البرلماني، وكان الخوف من الشيوعية هائلًا، لكن تيار اليسار الفرنسي استفاد من دروس ألمانيا، حيث كان الاشتراكيون والشيوعيون يكادون يبغضون بعضهم بعضًا بقدر بغضهما للنازيين. فتوحَّد اليسار الفرنسي ضد الفاشية، وأثبت براعة في القتال في الشوارع، واستهدفت سياساته الناخبين الذين اعتبرهم الأكثر عرضة لاعتناق الفاشية، ففاز بأغلبية كبيرة في انتخابات عام ١٩٣٦. ونتيجة لقوة العداء للفاشية اقتنع العديد من المحافظين أن دعم الفاشية أمر محفوف بالمخاطر، واستسلمت حركة «صليب النار» لحلها في يونيو عام ١٩٣٦، لكنها عاودت الظهور في صورة «الحزب الاشتراكي الفرنسي» الذي ما لبث أن نفض عنه تدريجيًّا سماته الأكثر فاشية، حتى اكتشف مجددًا بغضه للديمقراطية عندما احتُلَّت فرنسا من قبل الألمان عام ١٩٤٠.
نادرًا ما تولى الفاشيون مقاليد السلطة بجهودهم الذاتية، ونادرًا ما سيطروا على الحكومات؛ ففي كثير من الحالات التي تعثرت فيها الديمقراطيات وسقطت «في يد اليمين»، كانت الديكتاتوريات المحافظة تستفيد من ذلك. حدث هذا في الغالب في شرق أوروبا وجنوبها، وفي أمريكا اللاتينية. ففي أوروبا ظهرت حركات فاشية كبرى كانت تتحدى الديكتاتوريات المحافظة، بينما في أمريكا اللاتينية كان هذا أمرًا نادر الحدوث.
قبل أن نكمل، من المهم أن نذكِّر أنفسنا بالتعريف الذي وضعناه للفاشية كي نتمكن من استخدامه (فهذه هي الغاية من وضع التعريفات) في فهم التطورات السياسية في الدول التي نتناولها. والنقطة الأساسية هي أن المحافظية الاستبدادية تحكم من خلال الكنيسة والدوائر الحكومية والجيش، وربما من خلال نظام ملكي. والمحافظية الاستبدادية تدافع عن الأسرة وحق التملك دفاعًا مستميتًا، وبقدر ما تود حشد الجماهير، فإنها تنظمهم تحت قيادة السلطات القائمة. في المقابل، تسعى الفاشية إلى جلب نخبة جديدة إلى السلطة ممثلة للشعب المستنفَر، وتعتبر الدفاع عن حق التملك والأسرة أدنى مرتبة من احتياجات الأمة المستنفرة.
لكن المحافظين والفاشيين لهم نفس الأعداء، ولذلك كان التعاون بينهما ممكنًا على الدوام. والواقع — كما قال مارتن بلينكهورن — أن أوروبا في فترة ما بين الحربين شهدت تدرجًا من المحافظية الاستبدادية إلى الفاشية، كانت في إحدى نهايتيه الأنظمة المحافظة الاستبدادية التي اتسمت بأدنى قدر من الاتجاهات الفاشية، مثل ديكتاتورية أنطونيو سالازار في البرتغال؛ وفي النهاية الأخرى كانت الحركات والأنظمة الفاشية التي اتسمت بأدنى حد من التعاون مع المحافظية، والتي تعد النازية خير مثال عليها. وحتى النازية — والفاشية الإيطالية بخاصة — لم تكن من الأمثلة على الفاشية الصرفة. وما يزيد الوضع تعقيدًا هو تلك النزاعات التي استمرت داخل الحركات الفاشية على ما إذا كان ينبغي التركيز على الجوانب الراديكالية أم الجوانب الرجعية للفاشية. أما في الأحزاب المحافظة، فكثيرًا ما كانت توجد عناصر تريد أن تبعث المحافظية التقليدية من خلال تطعيمها باقتباسات انتقائية من الفاشية. وبالتالي، فإن الطبيعة الدقيقة للفاشية، وعلاقتها بالقوى المحافظة، وفرصها في الفوز بالسلطة كانت متفاوتة تفاوتًا كبيرًا من بلد إلى آخر.
هل هي فاشية إكليريكية؟
في بعض الأحيان يُنظر إلى ديكتاتورية الجنرال فرانسيسكو فرانكو الإسبانية على أنها فاشية. ففي عام ١٩٣٦ تزعَّم فرانكو ثورة عسكرية ضد الجمهورية الإسبانية، وبحلول نهاية الحرب الأهلية التي أعقبت ذلك كان قد أسس ديكتاتورية ظلت قائمة حتى وفاته عام ١٩٧٥. ضم الائتلاف الذي دعم فرانكو عنصرًا فاشيًّا، تمثَّل في كتائب «الفلانخي» الإسبانية بقيادة خوسيه أنطونيو بريمو دي ريفيرا. توسعت الكتائب على النحو الذي شهدناه مرارًا في الحالات الأخرى توسعًا سريعًا على حساب المحافظية الكاثوليكية الدستورية، بعد أن طُردت هذه الأخيرة من الحكومة عام ١٩٣٥ ثم انهزمت أمام اليسار في انتخابات عامة أُجريت في فبراير عام ١٩٣٦. وقد حملت كتائب «الفلانخي» كل الملامح التقليدية للفاشية، تمثَّل أهمها في التزامها شكلًا من أشكال الكوربوراتية — «النقابية القومية» — قُصد منه أن تتحرر من سيطرة رجال الأعمال والدولة بقدر يفوق النموذجين الإيطالي والألماني، وثمة ملمح آخر هو مطالبتها بالإصلاح الزراعي وتأميم البنوك والائتمان. كانت كتائب «الفلانخي» أكثر تدينًا من معظم الحركات الفاشية، لكنها من دون أن تُعلي «العالمية» الكاثوليكية فوق الأمة. ولعبت دورًا مهمًّا في سحق اليسار داخل المناطق التي سيطر عليها أتباع فرانكو.
ومن الملامح الفاشية التي ميَّزت كتائب الفلانخي أن الراديكاليين والمحافظين كانوا يتنافسون على السلطة داخلها. وقد كفلت الظروف في إسبانيا أن يخرج المحافظون الاستبداديون من هذا السباق منتصرين نصرًا مبينًا. فقد كان التسييس قبل ثلاثينيات القرن العشرين مقتصرًا في إسبانيا على المناطق التي تعاني من الفقر، ثم أدى انهيار المحافظية الدستورية عام ١٩٣٥ إلى تدفق المحافظين وحتى الملكيين للانضمام للكتائب، رغم أن الكثير منهم لم يكونوا فاشيين على الإطلاق. علاوة على أن التعصب القومي لم يكن قويًّا في إسبانيا، لا سيما لأنها دولة متعددة الأعراق (تضم القشتاليين والكاتالونيين والباسكيين). وأيضًا لأن إسبانيا لم تشهد اضطرابات الحرب العالمية الأولى. ولكل هذه الأسباب لم تكن الكتائب قادرة على استخدام وسيلة الحزب الجماهيري للفوز بالسلطة، وعجزها عن الاستفادة من هذه الوسيلة لم يجعلها تكتسب من الاستقلالية إلا القدر القليل. أما داخل ائتلاف فرانكو، فقد كان على الكتائب الفلانخية أن تتنافس مع «الكارليين» الكاثوليك والمحافظين، ومع الملكيين الذين اكتسبوا نفوذًا عززته صلاتهم العائلية والطبقية بفئة الضباط، الأمر الذي أفقد الراديكالية الفلانخية مصداقيتها. وبينما صار الجيش ضرورة لا غنى عنها بسبب صلابة الدفاع العسكري للجمهورية، قُتل عدد كبير من الناشطين الفلانخيين أو سجنوا على يد الجمهوريين.
لم يُبدِ «الفلانخيون» مقاومة عندما وحَّدهم فرانكو عام ١٩٣٧ مع الكارليين والملكيين في حركة واحدة. وهكذا لم يختلف نظام فرانكو عن نظام موسوليني في أن كليهما تضمَّن وجود حزب واحد جمع بين الفاشيين المتشددين والمحافظين، لكن العنصر الفاشي كان أضعف في إسبانيا، وعلى عكس ما حدث في حالتَي إيطاليا وألمانيا، اشتدت شوكة الكنيسة والجيش والحكومة بمرور الوقت.
كانت دولة النمسا الاتحادية (الدولة الكوربوراتية)، التي ظلت قائمة منذ عام ١٩٣٣ حتى ١٩٣٨ بقيادة إنجلبرت دولفوس ثم من بعده كورت فون شوشنج، أقرب ابن عم لديكتاتورية فرانكو الكاثوليكية العسكرية البيروقراطية في أوروبا ما بين الحربين؛ فقد كان العنصر الفاشي ثانويًّا في النمسا أيضًا في شكل تنظيم «حرس الوطن الفاشي النمساوي»، لكنه كان يتصرف باعتباره حليفًا للحكومة لا مصدرًا بديلًا للسلطة. كانت أهم السمات التي ميَّزت «حرس الوطن» هو أنه كان مشتتًا بين القرابة مع ألمانيا النازية والرغبة في إحياء الإمبراطورية النمساوية المجرية فوق القومية في شكل كونفيدرالية من الدول الكاثوليكية المؤيدة لإيطاليا بقيادة النمسا. وكان المذهب الكاثوليكي هو الأساس لهوية وطنية نمساوية قادرة على تقويض إغراء الاتحاد مع ألمانيا التي تسود فيها البروتستانتية إلى حد كبير. وقد خففت هذه النزعة فوق القومية فاشية تنظيم «حرس الوطن». مع ذلك، رأى قادة «دولة النمسا الاتحادية» أن التنظيم شديد الراديكالية وشديد العداء للسامية، فحلَّته الحكومة عام ١٩٣٦. وفي عام ١٩٣٨ أطاح هتلر — بمساندة النازيين النمساويين — بدولة النمسا الاتحادية بحجة أنها نظام «رجعي»؛ وهو رأي صائب بدرجة ما.
أوروبا الشرقية
خلال سنوات ما بين الحربين تساقطت تباعًا ديمقراطيات أوروبا الشرقية التي كانت قد نشأت حديثًا وسط موجة من التفاؤل بعد خروجها من بين أنقاض الإمبراطوريات الروسية والألمانية والنمساوية المجرية التي ضمت جنسيات عديدة. وما كادت تشيكوسلوفاكيا وحدها تفلح في تفادي انقلاب عسكري، حتى سقطت بين براثن النازيين بين عامي ١٩٣٨-١٩٣٩.
كانت الديمقراطيات الناشئة تعاني كل المشاكل التي عانتها إيطاليا وألمانيا: دمار زمن الحرب، والاضطرابات الشعبية، والإضرابات، والصعوبات الاقتصادية، والتوترات العرقية، علاوة على نفس الخوف المتفشي من البلشفية، والذي تفاقم في بعض الحالات نتيجة لخوض الحرب فعليًّا ضد البلاشفة. كان الاتحاد السوفييتي يدَّعي أحقيته في بعض الأقاليم في العديد من دول أوروبا الشرقية، وكانت هناك موجة من حركات التمرد الشيوعية. فقد حاول الشيوعيون استغلال الشعور بالضيم ليس لدى أوساط طبقات العمال فحسب، بل أيضًا لدى الفلاحين (الذين أرادوا الحصول على مزيد من الأراضي)، ولدى الأقليات العرقية أيضًا. نجد في أوروبا الشرقية نفس القناعة بأن الحرب أخلَّت بالتوازن الطبيعي بين الجنسين. وكما كانت الحال في ألمانيا وإيطاليا، دعا المحافظون، باسم الوحدة الوطنية، لاتخاذ تدابير أكثر صرامة ضد الشيوعيين والحركات النسائية والأقليات العرقية.
كانت هذه رسالة قوية في خِضَمِّ الفوضى العرقية العارمة في أوروبا الشرقية خلال فترة ما بين الحربين، وكان المفترض أن تكون معاهدات السلام قائمة على أساس تقرير المصير الوطني، لكن تشابك أماكن وجود الجماعات العرقية كان من التعقيد بحيث لم يكن من الممكن على الإطلاق أن تتطابق معه الحدود الدولية؛ فشملت الدول «القومية» الجديدة كلها أقليات عرقية كبيرة العدد؛ فبولندا — على سبيل المثال — كانت نسبة سكانها البولنديين ٧٠٪ فقط. وتحوَّل أبناء القوميات التي كانت تابعة من قبل إلى أسياد لأقليات أخرى جديدة، وكثيرًا ما كان أبناء القوميات الظافرة يتجردون من إرثهم من القومية اليسارية (سطحيًّا في بعض الأحيان على أية حال) ويصيرون متعصبين ومعادين للشيوعية وللحركة النسائية.
في بادئ الأمر، دلَّت الشواهد على أن مختلف المجموعات العرقية على استعداد لأن تعيش وتدع غيرها يعيش؛ لأن معاهدات السلام فرضت حماية حقوق الأقليات، لكن سرعان ما نشأت نزاعات حدودية، وجرى تسوية بعض المشاكل الحدودية باستخدام القوة. ما هو أكثر من ذلك، أنْ كانت ألمانيا وبلغاريا والنمسا والمجر مستاءة من فقدها أراضيها وتشعر بحساسية من الثروات التي يملكها مواطنو هذه الدول، الذين لم يكونوا من قبل سوى أقليات تعيش في دول أخرى؛ كالمجريين في رومانيا أو الألمان في بولندا. أما الدول التي ازدادت مساحةً من خلال التوسع (رومانيا وصربيا، التي صارت يوغوسلافيا) أو التي كانت قد تأسست حديثًا (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وتشيكوسلوفاكيا)، فقد أرادت «إضفاء الصفة القومية» على الأقليات أو إقصاءها. وفي أوروبا الشرقية، كما في الغرب، كثيرًا ما كانت الديمقراطية تعني ديكتاتورية الأغلبية، لا التسامح أو حتى التعددية الثقافية.
كان وجود الاتجاهات المتعصبة داخل النظام الديمقراطي لا يهدئ تعصب أولئك الذين كانوا مقتنعين بأن الديمقراطية تمنح الأقليات العرقية والعمال والمرأة حرية زائدة عن الحد. فقد حدث في دولة بعد أخرى أن نصَّب المحافظون أنظمة استبدادية تنصَّلت مما ألزمته إياها المعاهدة من حماية للأقليات، واعتقلت الشيوعيين، وكشفت عن نيتها إعادة المرأة إلى البيت. كان اليسار غالبًا ما يعتبر هذه الأنظمة فاشية. وفي الواقع كانت هذه الأنظمة تحكم من خلال المؤسسات التي كانت قائمة من قبل. وهكذا اكتسبت الكنائس مزيدًا من النفوذ: ففي رومانيا أصبح البطريرك الأرثوذكسي ميرون كريستيا رئيسًا للوزراء عام ١٩٣٨، وأصبح الجيش العمود الفقري للحكومة في بولندا، وظل أقطاب ملاك الأراضي أصحاب الغلبة في المجر. أما في بلغاريا ورومانيا ويوغوسلافيا فقد كانت الأنظمة الملكية هي التي تحكم صراحة، وفي كل مكان كان موظفو الحكومة ذوي سلطة ونفوذ.
ولما كانت هذه الديكتاتوريات نخبوية، أنشأ بعضها منظمات صُممت للحصول على الدعم الشعبي؛ ففي عام ١٩٣٥ أسس «العُقداء» البولنديون «معسكر الوحدة الوطنية»، ومثله كان «الاتحاد الراديكالي اليوغوسلافي» يهدف لتوفير دعم شعبي للديكتاتورية الملكية، وكان أعضاؤه يرتدون قمصانًا خضراء. وقد قَبِل النظام اليوغوسلافي أيضًا الدعم المقدم من «الاتحاد النسائي اليوغوسلافي»، معتبرًا أن أنشطة الاتحاد التعليمية والاجتماعية وسيلة لتشجيع الولاء للملكية. لكن أيًّا من هذه المنظمات لم تكن تشبه الأحزاب الفاشية الجماهيرية؛ فقد أذعنت للسلطات القائمة، ولم تحتكر تكوين التنظيمات. في الواقع، إحدى العلامات المميزة لهذه الديكتاتوريات أنها سمحت بقدر من الحرية السياسية؛ فهي لم تمارس رقابة كاملة؛ صحيح أن المعارضين كانوا عرضة للاعتقال والسجن، لكن وجودها استمر. وكانت الدساتير تُعدل، والاقتراعات تطالها يد التلاعب والتزوير، لكن الانتخابات ظلت تُجرى. بوجه عام، كان القانون لا يزال يُحترم، وإن كان قانونًا استبداديًّا على نحو ملحوظ.
ولهذا السبب تحديدًا كان الفاشيون يعارضون هذه الديكتاتوريات، لكننا يجب أن ننتبه إلى أن الحركات الفاشية الكبرى لم تظهر في جميع البلدان التي كانت الظروف تبدو مواتية فيها. ففي تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا كان من المتوقع أن تظهر الحركات الفاشية بين التشيكيين أو الصربيين، فكلاهما ربما اعتبر حكومته تفرط في مُجاملة الأقليات العرقية، وكلا البلدين شهد مشاكل اقتصادية وتحريضات يسارية، لكن تشيكوسلوفاكيا عدمت أي متسع سياسي للفاشية؛ لأن الاشتراكية احتكرت السيطرة على الطبقة العاملة، ونجحت الحكومة نجاحًا ملحوظًا في امتصاص غضب المزارعين من خلال برنامج دعم الأسعار. يُضاف إلى ذلك أنه رغم ما اتسمت به القومية التشيكية من عيوب، فإن التشيكيين كانوا يتباهون بكونهم أكثر تسامحًا واستنارة من الألمان، لا سيما أن الفاشية نشأت وسط الأقلية الألمانية في منطقة «السوديت»، بفضل تنامي الرأي العام المؤيد للاتحاد مع ألمانيا.
صحيح أن يوغوسلافيا شهدت ظهور بعض الحركات الفاشية الصغيرة، لكنها عدمت أي أساس للقومية المتطرفة، نتيجة لضعف النزعة الوطنية اليوغوسلافية؛ فرغم أن الصرب المهيمنين رأوا أن الحكومة قدمت تنازلات كثيرة جدًّا للأقليتين الكرواتية والسلوفانية، لم يكن الضغط من أجل «صربنة» البلاد خيارًا واقعيًّا بالنظر إلى أن الصرب كانوا هم أنفسهم أقلية. وعلى أية حال كانت يوغوسلافيا بلدًا فقيرًا، ربما لم يبلغ مستوى التنمية اللازم لتنظيم الأحزاب السياسية الجماهيرية.
شهدت المجر ورومانيا أكثر حركات الفاشية نجاحًا في أوروبا الشرقية، وسوف نتناول رومانيا مثالًا على ذلك. كانت إحدى القضايا الرئيسية في السياسة الرومانية (كما رأينا في الفصل الأول) هي كيفية استيعاب الأقلية العرقية كبيرة العدد، التي صارت تضمها بعد الحرب العالمية الأولى، ودمجها داخل الدولة القومية الرومانية. كان القوميون خائفين أيضًا من الشيوعية؛ فقد كانوا يظنون أن كل الشيوعيين يهود وأن كل اليهود شيوعيون. وثمة مشكلة أخرى هي أن الفلاحين الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من السكان أرادوا زيادة أملاكهم من الأراضي.
منذ مايو ١٩٢٠ حال انقلابٌ ملكيٌّ دون استيلاء حكومة من الفلاحين على السلطة، وظلت رومانيا لثماني سنوات تديرها حكومات «ليبرالية» سلطوية. كانت هذه الحكومات تمارس التمييز ضد غير الرومانيين في مجالَي الاقتصاد والتعليم وانتهجت سياسة تحديث اقتصادي مولتها من الضرائب الباهظة التي فرضتها على الفلاحين. في عام ١٩٢٨ أتاح سخط الفلاحين الناجم عن ذلك فوز «حزب الفلاحين الوطني» بالسلطة مع أمر رسمي بإعادة الحكم الدستوري ومنح الأرض للفلاحين. في الواقع لم يحقق هذا الحزب سوى القليل. ولما كان كلا الطرفين قد فشل، ارتدَّت السلطة في أيدي النظام الملكي، في حين كان فيلق «رئيس الملائكة ميخائيل» (الحرس الحديدي) هو المعارض الرئيسي للنظام الملكي في البلاد.
نشأت الفاشية الرومانية من مصدرين؛ أولًا: نال الفيلق دعم الفلاحين الذين كانوا يشعرون بخيبة الأمل من أداء «حزب الفلاحين الوطني»، وعلى أية حال كان الحزب يضم عنصرًا فاشيًّا قويًّا. ثانيًا: جنَّد الحزب أفرادًا من المثقفين المحبطين — الذين كان كودريانو يمثلهم — الذين أرادوا أن تقتصر المهن على أبناء رومانيا.
حمل الفيلق كل سمات الفاشية؛ فقد زعم أنه من الشعب، وأنه يمثل الفلاحين باعتبارهم قلب رومانيا. تميَّزت هذه الرؤى بميزة مزدوجة جمعت بين التزلف للفلاحين وإضفاء الشرعية على مطالبة الرومانيين «الحقيقيين» بالمهن. لكن الفيلق — على عكس النازيين، أو حتى الفاشيين — لزم لهجة دينية غالبة، وكان يحظى بدعم العديد من رجال الدين الأرثوذكس. فقد كان كودريانو يرى أن العقيدة الأرثوذكسية الرومانية مرادف للجنسية الرومانية، ومن ثم لم يكن يعدُّ اليهود من الشعب لأنهم من سكان الحضر ولأنهم ليسوا أرثوذكسيين.
ومع ذلك اتخذت عقيدة الفيلق منحًى هرطقيًّا؛ فقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالأسطورة القومية الرومانسية التي تذهب لفكرة بعث دولة الرومانيين، والتي طالما حظيت بشعبية في الأوساط الفكرية، وتجسَّدت من خلال طقوس غريبة ابتعدت كل البعد عن العقيدة المنظمة (عدا شكلًا من أشكال المحاكاة البشعة، إذ كان أعضاء فرق الموت المنتمون للفيلق يمارسون طقسًا يتضمن شرب بعضهم دم بعض). رفض كودريانو المفهوم القائل بأن المبادئ الدينية ينبغي أن تحكم السلوك السياسي؛ فالسياسة مجال للصراع والحرب، والفيلق منظمة شديدة العنف، لا سيما أن استعداد أعضائه للقتال حتى الموت لم يضارعه سوى استعداد جنود وحدة إس إس، الذين اعتنقوا هم أيضًا أفكارًا خارقة للطبيعة.
كان إيمان «الفيلق» بأن الأمة يجب أن يجسِّدها الشعب لا الأسرة الحاكمة سببًا في خسارة شعبيته لدى مراتب الكنيسة والنظام الملكي، وسرعان ما بدأت الحكومة تعامله على أنه عدوٌّ نظرًا لراديكاليته. عام ١٩٣٧ حصل الفيلق على ١٦٪ من الأصوات في الانتخابات العامة، وأبلى حليفه «حزب الفلاحين الوطني» بلاءً حسنًا، فما كان من الملك إلا أن شكَّل حكومة ديكتاتورية على نحو صريح برئاسة البطريرك الأرثوذكسي ميرون كريستيا. وفي عام ١٩٣٨ حُظر الفيلق وقُتل كودريانو.
عاود «الفيلق» الظهور مجددًا عام ١٩٤٠؛ لأن هزيمة فرنسا دمرت الروح المعنوية للمحافظين المناصرين لفرنسا. وفي عام ١٩٤٠ منح هتلر مساحات واسعة من الأراضي الرومانية للمجر وبلغاريا (وتدبَّر ستالين أمره واستولى على بيسارابيا). أُلقي على الملك باللوم جراء خراب الأمة، وبُرئت ساحة «الفيلق»، ثم أُدمج في الحكومة تحت قيادة الجنرال المحافظ أنتونيسكو. لكن هذا لم يضع حدًّا للصراع بين اليمين القديم واليمين الجديد؛ فقد كان أنتونيسكو يعتقد — بوصفه محافظًا استبداديًّا — أن الفيلق تمادى كثيرًا في مصادرة الشركات والمزارع والمنازل التي يملكها اليهود وغيرهم من الأقليات. وفي يناير من عام ١٩٤١ ربح أنتونيسكو المنافسة؛ لأن النازيين رأوا فيه حليفًا أكثر موثوقية من «الفيلق» القومي المتعصب.
إن فشل الفاشية في الفوز بالسلطة في رومانيا يلقي بعض الضوء على نجاح الفاشية في غيرها من دول أوروبا الشرقية، خاصة في المجر ولاتفيا وبولندا التي شهدت أقوى تجليات الفاشية. عادة يُقال إن الحركات الفاشية لم تَفُز بالسلطة في أوروبا الشرقية؛ لأن تهديد اليسار لم يكن كبيرًا بحيث يجبر المحافظين على قبول التحالف مع الفاشيين. لكن هذا القول يحتاج إلى مراجعة؛ فرغم أن الأحزاب الشيوعية كانت ضعيفة، كان «الخوف» من الشيوعية يتغذى على طموحات الاتحاد السوفييتي الإقليمية وعلى المفهوم الشعبي الذي يربط اليهود بالشيوعية، علاوة على أنه كان يُعتقد عمومًا أن الشيوعية تعمل من خلال السرية والتآمر، لا من خلال الأحزاب الجماهيرية. وبالتالي فإن خفاء الأحزاب الشيوعية هو تحديدًا ما كان يزيد الخوف من الشيوعية. بعبارة أخرى، يجب علينا أن ندرس المعتقدات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لا أن نعزو آراءً إلى عوامل تاريخية مستندين إلى تصورنا الخاص لمستوى التهديد الشيوعي. وبالعودة إلى موضوعنا، كان هناك، بالأساس، قدر من الخوف من الشيوعية كافٍ لأن يدفع الفاشيين والمحافظين للتعاون معًا، وكثيرًا ما كان العداء المشترك للشيوعية أساسًا للعمل المشترك.
لماذا إذن لم يحدث تحالف دائم آخر بين الفاشيين والمحافظين؟ يبدو أن طول وجود البرلمان وتكرار خروج الشعب للانتخابات في ألمانيا وإيطاليا — رغم كراهية المحافظين الشديدة لهما — قد أقنعهم، قناعة ربما تكون خاطئة، بأن الحكومات يجب أن تحظى بشكل من أشكال التأييد الشعبي. وبالتالي كان هذا سبب اضطرارهم للسعي إلى دعم الفاشية. لكن في أوروبا الشرقية، كان المحافظون يسعدون أيما سعادة بتعطيل البرلمان كلما بدا لهم أن التعاون مع الفاشية قد يكون ضروريًّا للحصول على أغلبية.
ثمة عقبة أخرى وقفت حائلًا دون التعاون بينهما تمثَّلت في أن فاشية أوروبا الشرقية كانت أكثر راديكالية على الصعيد الاجتماعي من فاشية ألمانيا أو إيطاليا؛ فقد بدت الأصوات المطالبة بمصادرة أملاك اليهود والإضرابات ضد أرباب العمل «الأجانب» مختلفة كل الاختلاف في أوروبا الشرقية، حيث كانت الطائفة اليهودية وغيرها من الأقليات العرقية تشكِّل نسبة كبيرة من الطبقة البرجوازية. ما هو أكثر من ذلك، أنْ شنَّ الفاشيون هجومًا مباشرًا على النخب المالكة للأراضي من بني وطنهم من خلال دعم مطالبات الفلاحين بالحصول على الأرض. ولم يكن أنتونيسكو وأمثاله يرون فائدة تذكر من التحالف مع حركات لا تعتقد في حق التملك كالحركات الشيوعية.
ولما كان فاشيو أوروبا الشرقية محرومين من دعم المحافظين وعاجزين عن الفوز في الانتخابات، لم يتمكنوا من الفوز بالسلطة إلا بمساندة النازيين. ولأن النازيين لم يكونوا واثقين من تطرف قومية الفاشيين، لم يكن هذا الدعم يتحقق دائمًا.
أمريكا اللاتينية
تكرر اللجوء للديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، وكان بعض الأنظمة معجبًا بالفاشية واستنسخ بعض ملامحها، لكن لم يحدث قط أن حملت هذه الأنظمة كل خصائص الفاشية، إنما كانت في الواقع أشبه بالجمعية القومية الإيطالية من حركة موسوليني. في الواقع، نادرًا ما ازدهرت الفاشية في أمريكا اللاتينية؛ لأن مستويات التعبئة السياسية في مجتمعات أمريكا اللاتينية الفقيرة كانت شديدة الانخفاض، إضافة إلى أن أمريكا اللاتينية لم تشهد شيئًا بجسامة الحرب العالمية الأولى وما ترتب عليها من توحُّش السياسة واتسامها بالطابع العسكري. كان من السهل على حكومات أمريكا اللاتينية أن تقمع أي نوع من المعارضة الشعبية — بما في ذلك الفاشية — بفضل دعم الجيش. وعلى أية حال، لم يكن هناك وجود لتيار اليسار. واعتياد الناس على الحكم الديكتاتوري هناك كان تحديدًا يعني أن أي شخص كان سيتبع خطى موسوليني سيتعين عليه أن يكافح كي يميز نفسه عن النموذج المألوف للحاكم العسكري المسيطر، ويكتسب تلك الهالة التي تكتنف المخلِّص المنقذ للشعب.
لكن البرازيل كانت استثناءً لذلك؛ فقد أطاح جيتولو فارجاس بالجمهورية «القديمة» الأوليجارشية عام ١٩٣٠ في وقت الأزمة الناجمة عن انهيار أسعار البن، الذي يشكِّل المصدر الرئيسي لدخل البرازيل. وأذِنَ الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الذي أعقب ذلك ببدء فترة من الاستقطاب بين الشيوعيين، وأنصار «التكاملية» الفاشيين الذين وصل عددهم إلى ٢٠٠ ألف عضو على الأقل، وكانوا يرفضون الليبرالية البرازيلية التقليدية ويفضلون عليها القومية ومعاداة السامية والشيوعية. كان «التكامليون» يسعون لإحداث لُحمة بين الانتماءات العرقية المتنوعة في البلاد لتشكل جنسًا برازيليًّا واحدًا تربطه الخصائص التاريخية والثقافية، وكانوا يريدون أن يحلَّ محل النظام القائم على المحاباة نظامٌ آخر يكون ولاؤه للأمة وللنظام. وقد حلموا أيضًا بحلم الأمة المستنفَرة من خلال المظاهر المعتادة للفاشية من طقوس وتحايا عسكرية وقمصان (التي كانت خضراء في هذه الحالة).
وكما حدث في حالة الفاشيين في رومانيا والمجر، خاض «التكامليون» صراعًا ضد نظام يزداد ديكتاتورية؛ حينما أسس فارجاس عام ١٩٣٧ «دولة جديدة» استبدادية على نحو صريح بالتحالف مع نخبة زارعي البن والطبقات المتوسطة في الحضر. لكن الحركة «التكاملية» حُلَّت؛ فقد عجزت عن تكوين حزب كبير بما يكفي لأن يصمد في المنافسة أمام استغلال فارجاس للمحاباة والمحسوبية. ولم تفعل كما فعلت فاشية أوروبا الشرقية وتنجح في نيل دعم فقراء المناطق الريفية، الذين ظلوا مسترَقِّين تحت رحمة زارعي البن في البرازيل.
في الأرجنتين، كانت ديكتاتورية بيرون تمثل النظام الوحيد الذي شهدته أمريكا اللاتينية ويُعدُّ في بعض الأحيان نظامًا فاشيًّا. كانت الأرجنتين أكثر تقدمًا من معظم دول أمريكا اللاتينية، وشهدت تاريخًا طويلًا من اليمينية الراديكالية التي تدين بجزء منها إلى القومية الكاثوليكية المحافظة في فرنسا وإسبانيا. بدأ خوان دومينجو بيرون وزيرًا للعمل في النظام العسكري للجنرال خوسيه أوريبورو؛ ديكتاتورية أخرى من الديكتاتوريات التي تأثرت بموسوليني وهتلر. وفي عام ١٩٤٣، وفي محاولة بيرون لتوفير دعم شعبي لنظام أوريبورو، الذي لم يحظَ بالدعم الجماعي للأثرياء، تحول إلى نقابات العمال، وعقد صفقة حققت الحكومة بموجبها للنقابات العمالية مطالب تتعلق بالرعاية الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل، وفي المقابل دعمت النقابات دعوة بيرون لتحقيق السيادة الدولية. هذا المزيج من القومية والاشتراكية، إلى جانب تأثر بيرون بموسوليني ومحاولته تنظيم حزب واحد، دفع الكثيرين لأن ينظروا لهذا النظام الفريد على أنه فاشي. لكن عدم فوز بيرون بالسلطة على رأس حزب جماهيري يجعل المرء لا يجد أيًّا من محاولات تقويض هياكل الدولة القائمة، وهو ما كان سمة مميزة من سمات الفاشية. علاوة على أن النظام «البيروني» كان يتيح المجال للمعارضة، ما يعني أنه لم يكن شموليًّا ولا فاشيًّا.