هل تُبعث العنقاء من تحت الرماد؟
إن «الفاشية الأبدية» لا تزال بيننا، وأحيانًا تظهر في زي غير زيها. ولا شك أنه سيكون من الأسهل بالنسبة لنا لو أن أحدهم ظهر على الساحة وقال: «أريد إعادة فتح معسكر «أوشفيتز»، أريد أن ينظم ذوو القمصان السوداء مسيراتهم في ساحات إيطاليا من جديد.» لكن الأمر ليس بهذه البساطة؛ فقد تعود «الفاشية الأبدية» متسترة بأكثر أشكال التنكر براءة، وواجبنا أن نفضحها وأن نشير بالأصبع إلى أي من أشكالها الجديدة، كل يوم وفي كل مكان في العالم.
قد تبدو كلمات أمبرتو إيكو مؤثرة بالنسبة للمدافعين عن الحرية، لكنها لا تشكِّل وسيلة لفهم الفاشية في العالم المعاصر. فإذا كان من الممكن أن تظهر الفاشية في «زي غير زيها»، فكيف يمكننا أن نميز الحركات الفاشية من بين عدد الحركات الذي لا يُحصى من حولنا؟ هل ينبغي لنا أن ننظر إلى أكثر الحركات شبهًا بفكرتنا عن الفاشية، أو إلى أقلها شبهًا بها؟
إن إيكو يخرق إحدى أهم القواعد الأساسية للبحث الأكاديمي (بل ولأي تبادل مثمر بين الأشخاص)؛ فلكي تكون أي فرضية ذات فائدة للباحثين يجب أن تكون «قابلة للدحض»؛ أي لا بد أن يكون هناك شيء يستطيع دحض الرأي من الناحية النظرية. وفي حالة إيكو ما من دليل يمكن أن يتعارض مع رأيه بأن حركة ما كانت فاشية. فإذا حدث أن قال أحدهم إن كذا وكذا من السمات الأساسية للفاشية ليست موجودة في الحركة قيد البحث، فدائمًا سيكون الرد السريع: «آه! هذا لأنها تخفي نواياها!» هذا النوع من المنطق يحتمي وراء كل نظريات المؤامرة، بما يميزها من مناعة مُغيظة تحصنها من أي حجة مضادة.
وبقول إيكو هذا فإنه يضع أصبعه على إشكالية تتعلق بتحليل اليمين المتطرف المعاصر، فباستثناء «الحركة الاشتراكية الإيطالية»، لم يحدث قط أن تمتع أيٌّ من الأحزاب التي تسعى صراحة لإعادة الدول الفاشية أو النازية (بالصورة التي وجدت عليها هذه الدول في نظرهم) بأهمية انتخابية. لذلك السبب، لن يكون لمثل هذه الحركات وجود في هذا الفصل، فاهتمامنا منصبٌّ على الأحزاب التي تمتعت بقدر من النجاح، لكنها رفضت أن تحمل صفة فاشية.
متى تحديدًا يكون من المفيد أن ننزع صفة الفاشية عن حركة ما تفتقر أحد السمات الرئيسية للفاشية؟ قد نجد دليلًا على أن حركة ما تتعمد محاولة خداع الناخبين بغرض الحصول على سلطة، وفي حالات أخرى قد لا نجد أي دليل، وحتى في الحالات التي نجد فيها هذا الدليل، يظل علينا أن نأخذ في الحسبان أن مئات الآلاف من الأشخاص يصوِّتون لأحزاب معينة اقتناعًا منهم بأنها ليست فاشية، وأنهم لو علموا أنها فاشية ربما ما كانوا ليُقدِموا على التصويت لها.
لكي نحل المشكلة علينا أن نعود لمسألة التعريف. أيُّ مفهوم يمكن التعمق فيه بحسب الحالات التي نرغب في إدراجها تحت هذا المفهوم؛ فإذا أردنا أن نُدرج حالات هامشية، فإننا ببساطة سنوسِّع نطاق المفهوم قليلًا. لكن ثمة تكلفة لهذا، هي أن دقة التعريف ستتقلص. والتخفيف من تركيز تعريفنا للفاشية سيبرز أوجه الشبه بين الفاشية التاريخية واليمين المتطرف المعاصر، لكننا سنضطر لأن نسقط سمات هامة من تعريفنا، مثل العداء للديمقراطية الانتخابية، والطابع شبه العسكري. والمقابل الذي نتكبده نتيجة فعل هذا هو أنه سيصبح من الصعب الإبقاء على تميُّز الفاشية التاريخية، لا سيما ما يفرقها عن حركات أخرى في ذلك الوقت.
من وجهة نظري، أرى أن تكلفة إضعاف تعريف الفاشية بإدراج اليمين المتطرف المعاصر معها باهظة جدًّا. ويوجد حل لهذا، هو أن نستخدم مصطلح «الفاشية الجديدة»؛ فهذا المصطلح يتسم بجمال الألفة، ويكشف بدقة في كثير من الأحيان أي محاولة متعمدة لربط الفاشية بحالات جديدة. لكن يعيبه أنه يمكن ألا يُظهر بعض الاختلافات الجوهرية بين الفاشية وأشكال اليمين المتطرف المعاصرة. فبينما ترى الفاشية أن تقويض الديمقراطية شرط مسبق لانتصار التعصب القومي، يحاول اليمين المتطرف المعاصر أن يجانس الديمقراطية بطريقة عرقية ويحتفظ بمميزاتها للقومية المهيمنة فقط. وبهذا يكون المجتمع الذي يحلم به اليمين المتطرف المعاصر أقرب إلى الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو إلى المُثُل العليا التي يتبنَّاها الانفصاليون البيض في الولايات المتحدة. وأنا أفضِّل أن أصف هذا الشكل من الحركات بمصطلح «شعبوية قومية».
كما تعلم، الانفصالي الأبيض الحق؛ الاشتراكي القومي الحق … دائمًا ما يحمل المعنى نفسه. دائمًا ما كان منجذبًا للصليب المعقوف، للصليب الحديدي وما إلى ذلك … لا شك أن الصليب المعقوف أبغض الرموز، لكنه ينبغي أن يكون أكثر الرموز تمتعًا بالحب والإعجاب … فأنت عندما ترتدي … صليبًا معقوفًا أو ترسمه على بشرتك أو ترتدي قميصًا عليه صورته، فأنت بذلك تكون قد فصلت نفسك عن ٩٩٫٩٪ من السكان.
بصرف النظر عن مدى عنف هذه الحركات، نراها تتعمَّد نبذ السياسة السائدة والمجتمع القائم. ولما كانت المظاهر النازية تثير اشمئزاز غالبية الناس، فإن احتمال اندماجهم في التيار السياسي ضعيف؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، لم يَزِد عدد أعضاء اليمين المتطرف الذي يتبنى العنصرية علنًا على ١٠ آلاف إلى ٢٠ ألف عضو. والتي تعنينا هنا هي الحركات التي حاولت التغلب على سوء سمعة الفاشية وما تلقاه من تهميش.
من الفاشية إلى الشعبوية القومية
في عام ١٩٤٥ ساءت سمعة الفاشية بشدة وفقدت مصداقيتها، وكان النضال ضدها هو الحجة التي استمدت معظم أنظمة ما بعد الحرب (في أوروبا الشرقية والغربية على حد سواء) شرعيتها منها. في ديمقراطيتَي ألمانيا الغربية وإيطاليا حَكَم ديمقراطيون مسيحيون واشتراكيون كانوا يرفضون أي تعبير صريح عن التعاطف مع الفاشية. في ظروف كهذه كان من المستحيل تقريبًا على أي أحزاب فاشية صريحة أن تحظى بموطئ قدم، ورغم أن الاستطلاعات في ألمانيا أظهرت أن عددًا كبيرًا من الأشخاص يعتقدون أن النازية كانت فكرة جيدة لكنها لم تنفَّذ على نحو جيد، لم يحقق النازيون الجدد إلا نجاحًا محليًّا. كان الدستور الألماني يحظر تكوين أحزاب معادية للديمقراطية، وكانت الحكومات الديمقراطية المسيحية على استعداد لحظر المنظمات الفاشية. وطوال سنوات ما بعد الحرب، كفلت المعجزة الاقتصادية التي حققتها ألمانيا — إلى جانب وجود حكومة ديمقراطية مسيحية محافظة — ألا يصل إلى موقع السلطة أي حزب يلغي هذه المحظورات. وحينما حدث أن قبلت حكومة إيطالية ديمقراطية مسيحية عام ١٩٦٠ الأصوات المؤيدة لنواب فاشيين جدد كي تتمكن من البقاء في السلطة، اندلعت مظاهرات حاشدة أجبرت رئيس الوزراء على الاستقالة من منصبه. (حتى في إسبانيا بعد عام ١٩٤٥ زاد الديمقراطيون المسيحيون والملكيون نفوذهم من خلال تهميش الفاشيين الموجودين داخل نظام فرانكو نتيجة لخشيتهم من استهجان الخارج.) يُضاف إلى ذلك أنه لما كانت الفاشية مرتبطة في عقلية الشعوب بالتعصب القومي، كان من الصعب على اليمين المتطرف أن يتحاشي الكراهية الشعبية من خلال تغيير اسمه؛ فقد يكون الحزب فاشيًّا حتى لو لم يحمل اسمه هذه الصفة، لكنه لا يكون كذلك إذا نبذ التعصب القومي.
تفسر لنا قصة «الحركة الاشتراكية الإيطالية» — أهم أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي على مدى عقود — المشاكل التي واجهها الفاشيون. تأسست الحركة عام ١٩٤٦، وارتدت عباءة موسوليني دون خجل، وفي بادئ الأمر كان يديرها فاشيون يعيشون في الخفاء. لم تكن هذه الحركة ليكتب لها البقاء لولا أن إيطاليا لم تكن تملك حزبًا محافظًا ديمقراطيًّا جديرًا بالثقة؛ فقد كان معظم المصوتين المحافظين يدعمون ديمقراطيِّي الوسط المسيحيين لخوفهم من أن يكون دعم أي حزب يميني سببًا في انقسام الوسط وإتاحة فرصة لدخول الشيوعيين الحكومة. أما المحافظون الذين رفضوا تأييد الديمقراطيين المسيحيين فقد صوتوا للحركة الاشتراكية الإيطالية، أو للملكيين الذين كانوا يلقَوْن القدر نفسه من التهميش.
إلى وقتنا الحالي لا تزال كلمة الفاشية سُبَّة، لكن سياسة اليمين المتطرف تحظى مجددًا بتأييد من جانب أقليات كبيرة العدد؛ لأن مناهضة الفاشية خسرت عمق تأثيرها في تشكيل المشهد السياسي. فمع تعاقب الأجيال صارت مرجعية مناهضة الفاشية أمرًا «ميكانيكيًّا»؛ أي إن مصطلح الفاشية لا يزال من المحرمات، لكن الأفكار المرتبطة به لا تحظى بنفس هذا القدر من الخطورة. وقد عملت الانتفاضات الطلابية عام ١٩٦٨ دون قصد على إضعاف مناهضة الفاشية أكثر؛ فقد كان الطلاب من الراديكاليين يسخرون مما رأوا أنه استغلال أناني من جانب زعمائهم الكبار لمسألة مناهضة الفاشية من أجل شرعنة سلطتهم الخاصة. واتهم الطلاب جزافًا حكومات ذلك الوقت بأنها فاشية، وساعدوا في تفريغ المسمى من أي محتوى مفيد.
والسبب الثاني في زيادة قبول سياسة اليمين المتطرف لدى الجمهور، هو أن المثقفين اليمينيين أعادوا تعريف التعصب القومي؛ فقد حولوا كره الأجانب وعدم التسامح إلى لغة ليبرالية ديمقراطية. يوجد أيضًا دور حاسم لعبه المفكر الفرنسي آلان دي بينوا، وتيار «اليمين الجديد» الذي ظهر في السبعينيات. كان «اليمين الجديد» يمثل ردَّ فعل مضادًّا لحركة الطلاب التي نشطت عام ١٩٦٨، لكنه (كعهدنا بالفاشية) مزج الأصول التقليدية للأفكار اليمينية مع أفكار بعض المفكرين اليساريين.
راح «اليمين الجديد» يقوِّض القيم العالمية للديمقراطية الليبرالية، لكن لم يكن معظم نتاجه بالشيء الجديد، فقد كان من السهل ملاحظة أنه نسخة أحدث من العلم الزائف الذي استُلهمت منه فاشية ما بين الحربين العالميتين (أفكار الصراع الحتمي بين الأمم، والبقاء للأصلح، وضرورة التفاوت بين الأفراد، ووجوب النقاء العنصري)، الأمر الذي كان سمة أصيلة بحق (أو يكاد يكون كذلك؛ لأن السياسي النازي الراديكالي أوتو شتراسر كان يناصر أفكارًا مماثلة) هو استخدام دعوى «الحقوق المتساوية» لتبرير التمييز ضد الأقليات التي تعيش داخل الدول؛ فقد رأوا أن الحفاظ على التميُّز المزعوم للدولة يستلزم تقييد حقوق مَن قيل إنهم يشكلون تهديدًا لهوية الأغلبية. وشدد «اليمين الجديد» مجددًا على مزاعم التفرد الروحي للأمم الأوروبية مقابل نزعات العولمة التي تتبناها الرأسمالية والتعددية الثقافية الأمريكيتين. ومنذ ذلك الحين صار بمقدور اليمين المتطرف أن ينكر كونه عنصريًّا — فهم يقولون: «لا نناضل إلا من أجل منح كل دولة حقًّا متساويًا في الوجود» — وفي الوقت نفسه ينادي بضرورة التمييز ضد الأقليات. وقد تمكَّن اليمين المتطرف من الارتباط بالاتجاه المتمثل في المقولة: «لست عنصريًّا لكنني …» الشائع جدًّا في المجتمع المعاصر.
لم يكن من الواضح حينئذٍ أن هذه النسخة المحدثة من التعصب القومي ستؤتي ثمارها، وهذا لأن «اليمين الجديد» لم يكن يعجب سوى فئة محدودة من المثقَّفين (لكنها منتشرة في أنحاء أوروبا). يُضاف إلى ذلك أن الظروف التي اقتحم فيها حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي غمار السياسة الجماهيرية — في ١٩٨٣-١٩٨٤ — كانت تشبه الظروف التي ازدهرت فيها الفاشية في أوروبا ما بين الحربين العالميتين. ففي عام ١٩٨١، وفي خضمِّ أزمة اقتصادية عالمية، تمكَّن «الاشتراكيون» الفرنسيون من نيل الرئاسة، وشكَّلوا حكومة تعتمد كليًّا — للمرة الأولى على الإطلاق — على أغلبية يسارية. في تلك الأثناء، كان اليمين قد بدأ ينزلق إلى هوة الفصائل المتنازعة، التي لم يخرج منها بعد، وألقى بعض المحافظين اللوم على الحكومات اليمينية لأنها تحيَّزت للنقابات العمالية ولمبادئ التحرير (التي تجلَّت في أبرز صورها من خلال إباحة الإجهاض). يُضاف لذلك أن فرنسا كانت تتسم بنزعة عنصرية سياسية، كانت تستهدف بعد الحرب مواطني شمال أفريقيا (غالبًا على يد أحفاد الإيطاليين والإسبان الذين كانوا هم بدورهم فريسة في الماضي لمشاعر الكراهية للمهاجرين). وكانت ذكرى انسحاب فرنسا من إمبراطوريتها في شمال أفريقيا عام ١٩٦٣ بعد حرب مريرة تزيد من قوة هذه النزعة العنصرية، الأمر الذي كان يزيد من شعبية تصوير زعيم «الجبهة الوطنية» لوبان لمواطني شمال أفريقيا على أنهم «جيش أجنبي يعسكر على الأراضي الفرنسية.»
في بادئ الأمر، كان جمهور ناخبي «الجبهة الوطنية» يتألف نسبيًّا من الطبقة البرجوازية، وكبار السن، والكاثوليك، والمحافظين، والمعادين للاشتراكية؛ فقد كان برنامج الحزب يتماشى مع مطالبات هؤلاء الناخبين بتخفيف القيود الحكومية والعودة إلى السوق الحرة (كان هذا هو عقد رونالد ريجان ومارجريت تاتشر)، وصار العرب رمزًا لفئة «غير الصالحين» الذين يعيشون تطفلًا على منافع الرعاية الاجتماعية. كانت الجبهة تعبر عن حشد من محافظي الطبقة البرجوازية الساخطين الذين يُلقون باللائمة على زعمائهم في تقدم الاشتراكية والحركة النسائية وفي زيادة الهجرة.
في السنوات اللاحقة، أصبحت الجبهة أشبه بحزب يلقى تأييد كل فئات المجتمع، ولعل أكثر ما يلفت النظر، أنها أصبحت «الحزب» الذي يحظى بتأييد ذكور الطبقة العاملة الشابة، الذين كانوا غالبًا عاطلين عن العمل وغير متعلمين نسبيًّا ويعيشون في الضواحي الصناعية في المدن الكبيرة. والمدهش أن ٣٠٪ من العاملين صوتوا للجبهة في الانتخابات الرئاسية لعام ١٩٩٥، وهذا يفوق عدد من صوتوا للاشتراكيين أو للشيوعيين. ويمكن رؤية سمات «الجبهة الوطنية» في الأحزاب اليمينية المتطرفة في دول أوروبا الأخرى.
ماذا حدث؟ أحد الأسباب الواضحة يتمثل في مرور عقود من البطالة على شباب غير مهرة، نتيجة لهجر الاقتصادات الغربية التصنيعَ الذي كان يميزها؛ فقد اختفت الصناعة التقليدية من الاقتصادات الغربية، لتحل محلها وظائف مؤقتة لا تتطلب مهارة وغالبًا ما تشغلها النساء. ولأسباب أخرى، شهدت روسيا وألمانيا الشرقية (سابقًا) انهيار الصناعة الثقيلة والزراعة نتيجة تأثير إصلاحات السوق الحرة، وهذان القطاعان يقدمان مساندة كبيرة لليمين المتطرف. ولم يَعُد العمل يمنح هوية ومكانة للكثير من الشباب في المجتمعات الغربية. وبالنظر إلى أن هذه المجتمعات تواجه ضغطًا أكبر كي تزيد استهلاكها على نحو ملحوظ، وأن السلع الاستهلاكية مرتبطة بالجاذبية الجنسية، يشعر الشباب الفقراء بأنهم مهمَلون، فيكرهون الأغنياء، ويبغضون عمل المرأة. وهناك مناطق سكنية في الضواحي تحمل طابع «الجيتوهات» يخوض الشباب البيض فيها مواجهات ضد المهاجرين الذين يعتبرونهم مسئولين عن الجريمة وعن الاعتداءات على «نسائهم». ومن ثم، تلقى العنصرية القومية الشعبوية، التي تتخذ شكل المُدافع عن «الأقليات» المضطهدة من التعددية الثقافية، إعجابًا في هذه المناطق تحديدًا. وبما أن الفقراء البيض يشكلون مجموعة محرومة تنتمي للفئة العرقية «المهيمنة»، فهم لكونهم كذلك يحظون بقدر من تعاطف الشرطة والصحافة يفوق ما يحظى به المهاجرون. ومع ذلك فإن المفاهيم التي يعتنقها الأفراد هي العنصر المهم في هذه المسألة.
فهي مهمة جدًّا بدرجة لا تجعل عمال «الجيتوهات» الحضرية الفقراء هم وحدهم الذين يتحولون إلى تأييد السياسة العنصرية، بل تضم إليهم أيضًا العمال الموسرين، وهذا يتضح من تزايد عدد أنصار الشعبوية القومية في دول غنية مثل سويسرا، والنمسا، والدنمارك التي فازت فيها السياسية بيا كاسجورد باثنين وعشرين مقعدًا في البرلمان عام ٢٠٠١ من خلال إدانتها الغزو الإسلامي، رغم أن الدنمارك أقل الدول الأوروبية من حيث عدد السكان من المسلمين؛ لذا فإن الفقر وحده، حتى إذا كان مصحوبًا بوجود مهاجرين، لا يبرر صعود الشعبوية القومية.
يوجد أمر مهم آخر، هو أن أحزابًا اشتراكية وشيوعية نبذت خلال تسعينيات القرن العشرين قدرًا كبيرًا من راديكاليتها السابقة، فتصاغرت فجوة الاختلافات بين اليسار واليمين، وباتت كل الأحزاب تتحدث بوجه عام باسم الذين استفادوا من وراء التحول الاقتصادي، وبقي الخاسرون لا يمثلهم أحد. ومع تحول اليسار ناحية اليمين سعيًا وراء النجاح في الانتخابات، كثيرًا ما صارت الأحزاب المحافظة تتبنى شعبوية كارهة للأجانب كي تميِّز نفسها عن أحزاب اليسار. ولكي لا ينهزم اليسار حرص على أن يؤكد للناخبين مجددًا على أنه هو الآخر لا يتساهل إزاء المهاجرين. وهكذا صارت السياسات المعادية للمهاجرين تحظى بالاحترام، وبات التعصب القومي لليمين المتطرف يبدو مقبولًا.
هذا التحول مهم الآن أكثر من أي وقت مضى؛ لأن التعصب القومي يمكن أن يقدَّم على أنه حماية للثقافات الوطنية الفريدة من «العولمة»، التي تبرز من خلال زيادة تدويل للاقتصاد وتدفق موجات المهاجرين وشيوع مشروب «الكوكا كولا» في كل بقعة على الكرة الأرضية وإلغاء إعفاء المزارعين من التعريفات الجمركية. إن اليمين المتطرف يستغل قضايا كلِّ من يمكن عزو مشاكلهم إلى العولمة؛ ففي جلاسكو وموسكو يستنكر اليمين المتطرف وجود مطاعم «مكدونالدز» ويهاجم المهاجرين الأفغان. وفي أوروبا الغربية يوجه اليمين المتطرف للاتحاد الأوروبي انتقادات حادة بصفته أداة للعولمة. واحتمالية سماح الاتحاد الأوروبي بأن تنضم له الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية يعزز المخاوف من تدفق موجة جديدة من المهاجرين من الشرق.
والواقع أن العولمة ليست بالأمر الجديد، فالدول القومية دائمًا ما كانت مضطرة لاستيعاب اتجاهات التدويل التي ميزت الرأسمالية والتغيُّر التكنولوجي والاتصالات المتطورة، كذلك فإن الساسة يستعينون من آن لآخر بالعولمة كي يبرروا سياساتهم (كقولهم مثلًا: «اقبلوا أجورًا أقل وإلا لن نتمكن من التنافس على مستوى دولي وستخسرون وظائفكم!») وقد اتُّخذت مواقف احتجاجية ضد العولمة من جانب حركات من مختلف الانتماءات السياسية، شملت الفاشية باعتبارها من حركات التعصب القومي. وبالعودة إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، سنرى أن اليمين الراديكالي كان يعتبر مصرف رجل الأعمال اليهودي روتشيلد تجسيدًا للقوة الخارقة للطبيعة التي يملكها رأس مال التمويل العالمي، وهو الأمر الذي اعتبر تهديدًا لرجال الأعمال الوطنيين الشرفاء وللعمال المحليين الأفاضل. لذا نحن لا نستطيع أن نعتبر الشعبوية القومية رد فعل «عفويًّا» للعولمة، بل علينا أن نسأل عن السبب في أن العولمة تعتبر مهمة في هذا الوقت تحديدًا. والإجابة هي أن العولمة في هذا المشهد السياسي المتغير تتقاطع مع مشاكل ناجمة عن تراجع التصنيع، والبطالة الهيكلية والخصومات العرقية، في وقت حوَّل فيه «اليمين الجديد» العولمة إلى أداة يستفيد بها سياسيًّا. فالدفاع عن «الهوية» مكَّن الفاشيين الجدد من حشد ائتلاف مجتمعي أكثر تنوعًا واختلاطًا من ذلك الذي كان يؤيد الفاشيين ويدعمهم خلال ثلاثينيات القرن العشرين.
واختلاف الظروف التي أنتجت الشعبوية القومية عن تلك التي أنتجت فاشية ما بين الحربين العالميتين لا تنفي بالضرورة صفة الفاشية عن تلك الأولى، فبمجرد أن «تتوافر» فكرة فاشية في مكان ما، يكون من الممكن استخدامها في شتى الحالات. وقد يستطيع المرء أن يحزر تخمينات علمية تتوقع الظروف التي يمكن أن تنشأ فيها الفاشية، لكن لا مجال للتنبؤ بالظروف المحددة التي ستتحول الفاشية فيها إلى حركة جماهيرية. وللإجابة على سؤالنا الرئيسي وهو: ما مدى التشابه بين الشعبوية القومية والفاشية التاريخية؟ لا بد أن ننظر في أفعال اليمين المتطرف وأقواله أيضًا.
إيطاليا: من الشعبوية القومية إلى ما بعد الفاشية
ظلت «الحركة الاشتراكية الإيطالية» على مدى الخمسين سنة الأولى من وجودها تصارع تناقضات الإرث الفاشي؛ فقد استمدت برنامجها الاجتماعي — الذي تبنَّى الكوربوراتية، ومشاركة العمال في الإدارة، إلى جانب تأميم بعض الصناعات الرئيسية — من جناح الفاشية الراديكالي، في حين كان برنامجها السياسي أكثر اعتدالًا، وتضمَّن هيكلًا رئاسيًّا يشبه نموذج الولايات المتحدة. كان هذا الحرص نابعًا من الخوف من عواقب الكبت إذا اكتنف فقدان الشرعية، ومن تأثير المحافظين الموجودين داخل الحزب. وينبغي التأكيد على أن هؤلاء كانوا مقتنعين — من دون أن يرفضوا الإرث الفاشي — بأن «الحركة الاشتراكية الإيطالية» ستحقق أقصى نجاحاتها إذا تحالفت مع المحافظين التقليديين. عادة كان «المعتدلون» ينجحون في مواجهة خطر الراديكاليين، فقد كان الحزب يحقق أفضل نتائجه الانتخابية بين المتحدرين من نسل محافظي الجنوب الذين كانوا قد انضموا في الماضي لتأييد موسوليني عقب استيلائه على السلطة. خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين انفصل بعض الراديكاليين المحبطين وشاركوا في حملة تحريض إرهابي. وبغض النظر عن الفصيل الغالب، لم تَنَل «الحركة الاشتراكية الإيطالية» أكثر من ٩٪ تقريبًا من إجمالي الأصوات، وعادة أقل من هذا بكثير.
في أكتوبر عام ١٩٩٢ احتفلت «الحركة الاشتراكية الإيطالية» بالذكرى السبعين لمسيرة «الزحف على روما» بالمواكب، والتحايا الرومانية، والأغاني. لكن تلك السنة شهدت تحولًا جذريًّا في موقف الحركة؛ أول ما عجَّل بهذا التحول كان انهيار الشيوعية، الذي دفع «الحزب الشيوعي الإيطالي» القوي لأن يحوِّل نفسه إلى حركة اشتراكية ديمقراطية معتدلة، وبهذا حرم اليمين المتطرف من عدوه الرئيسي. ثانيًا: ظهرت عام ١٩٩٢ حركة «رابطة الشمال» بقيادة أمبرتو بوسي، وقد كرست هذه الحركة نفسها للفوز باستقلال الشمال «المنتِج» عن الجنوب «الأفريقي»، وهو التطلع الذي جعل «الحركة الاشتراكية الإيطالية» تكتشف أن دولة إيطاليا لها ملحق تابع. ثالثًا: في ١٩٩٢-١٩٩٣ شهد حزب الديمقراطيين المسيحيين الذي كان مهيمنًا حتى ذلك الحين انهيارًا داخليًّا تحت وطء تحقيقات أجريت بشأن قضايا احتيال تورَّط فيها رجال الحزب. ولم تعد مناهضة الفاشية هي معيار القبول السياسي، وصار المجال الانتخابي مفتوحًا أمام اليمين، الذي انضمت له «الحركة الاشتراكية الإيطالية».
بحلول ذلك الوقت كان السياسي المعتدل جيانفرانكو فيني قد استعاد السيطرة على الحزب من أيدي الراديكاليين، فتصدَّر القيادة جيل جديد من مسئولي الحزب الذين لا تربطهم روابط شخصية بالفاشية. كان ما أحدثه فيني من تغيير لأولويات الحزب أكثر جوهرية من الجهود السابقة التي كانت ترمي لتبني الرأي المعتدل؛ فقد قدَّم إشارات رمزية تدل على التصالح مع تقليد المقاومة، الذي كان من قبلُ مرفوضًا باعتباره عديم القيمة. وصار الحزب يرفض الديكتاتورية ويتقبل الديمقراطية باعتبارها نظام قيم، وتبرأ من التشريعات العنصرية الفاشية. وبوجود حزب «الحركة الاشتراكية الإيطالية» بعد إصلاحه حظيت إيطاليا بما لم تحظَ به من قبلُ قط: حزب محافظ كاثوليكي يميني معتدٍّ بذاته. ويمكن القول أيضًا إنه يعبر عن عودة لجذور المحافظين الجنوبيين.
وفي عام ١٩٩٥ أكد حزب «الحركة الاشتراكية الإيطالية» هذه التغيرات بأن حوَّل نفسه إلى حزب «التحالف الوطني». قبل عام من حدوث ذلك كانت الحركة قد حصلت على ١٤٪ من الأصوات ودخلت حكومة الإمبراطور الإعلامي سيلفيو بيرلسكوني، لكن سرعان ما انهارت هذه الحكومة، وذلك جزئيًّا نتيجة لنشوب صراعات بين بوسي وفيني. في عام ٢٠٠١ عاد فيني إلى الحكومة نائبًا لرئيس الوزراء بعد أن فاز «التحالف الوطني» بنسبة ١٢٪ من الأصوات.
ما من شك في أن حزب «التحالف الوطني» يدين للفاشية، فاستخدامه تسمية «ما بعد الفاشي» لوصف نفسه كان يعني الإقرار بذلك، ولا يزال الجناح الراديكالي للحزب موجودًا، ويُظهر قدرًا من التأييد للسياسات العنصرية المتعصبة الشبيهة بهمجية شغب كرة القدم. ويستشهد — شأنه شأن الفاشيين في كل مكان — بالثوريين من اليسار ومن اليمين باعتبارهم مصدرًا لاستلهام أيديولوجيته، وفي هذه الحالة تحديدًا كان يستشهد بالشيوعي أنطونيو جرامشي الذي يمثل النسخة الإيطالية من هاينريش هيملر ويوليوس إيفولا اللذين كانا يستشهِد بهما «اليمين الجديد» الفرنسي، الذي حذا «التحالف الوطني» حذوه وبات يرفض الفكرة القائلة بأن الأجناس ليست متساوية، لكنه ظل يعتبر الهجرة تهديدًا للهوية الوطنية. في عام ٢٠٠١ بعث فيني المخاوف من الرقابة الفاشية حينما طالب بلجنة لتطهير الكتب المدرسية من «التحيز الماركسي» (كان تحريف تاريخ موسوليني الحربي أحد أشكال هذا الجرم). وقد قيل إن «التحالف الوطني» «تخطى» إرثه الفاشي بأن حرم نشطاءه الذين لا يزالون فاشيين من إبداء الرأي في شئون الحزب، بدلًا من إخضاع الفاشية للنقد.
لكن لكي نعتبر «التحالف الوطني» فاشيًّا يلزمنا تعريف فضفاض بدرجة تجعل من المستحيل التمييز بين المحافظية التقليدية والفاشية، ناهيك عن التمييز بين الفاشية والديكتاتوريات المحافظة. في الواقع كان أكثر العناصر تطرفًا في ائتلاف بيرلسكوني هو أمبرتو بوسي المهووس بمشكلة الهجرة، والذي يعتقد أن الاتحاد الأوروبي يديره أشخاص مصابون بالغلمانية. لكن سياسات فيني فيما يتعلق بالقانون والنظام والمناهضة للمهاجرين وللاتحاد الأوروبي لم تَزِد قسوة على سياسات بيرلسكوني نفسه.
حزب الجبهة الوطنية الفرنسي
أما حالة «الجبهة الوطنية» الفرنسية فمختلفة تمامًا؛ فقد تشكَّلت عام ١٩٧٢ كمنظمة جامعة — جبهة — ضمت عدة تنظيمات أرادت استغلال قضية الهجرة في المنافسة الانتخابية، واختارت لزعامتها جان ماري لوبان، الذي ربما كانت آراؤه مفرطة في المحافظية قليلًا بالنسبة لكثير من الفاشيين المتشددين. لكن اعتداله النسبي لم يجعل الجبهة تتحول إلى حزب جماهيري إلى أن حَل عام ١٩٨٣، عندما فاز الحزب بنسبة ١٧٪ من الأصوات في الانتخابات البلدية لبلدة «درو». وبحلول منتصف التسعينيات باتت الجبهة تحصل على أكثر من ١٥٪ في الانتخابات الوطنية، وتولَّت قيادةَ عدد من الحكومات البلدية المهمة. وفي أوائل عام ١٩٩٩ تنبَّأ بعض المراقبين أن تنتهي الجبهة بعد أن شهدت انقسامًا بين لوبان وولي عهده المنتظر برونو ميجريت، لكن لوبان نجح في الحفاظ على اسم الجبهة، وأثبت من خلال الانتخابات البلدية لعام ٢٠٠١ أنه متقدم على ميجريت. وفي الانتخابات الرئاسية في أبريل من عام ٢٠٠٢ اكتسب لوبان زيادة متواضعة في عدد الأصوات المؤيدة له على عددها عام ١٩٩٥، في حين حصل اليمين المتطرف بعد إضافة أصوات ميجريت على ما لا يقل عن ٢٠٪ من الأصوات. وبفضل انقسام اليسار حقق لوبان نتيجة كانت كافية لوضعه في الترتيب الثاني بعد الرئيس الحالي جاك شيراك، وتُكسبه الحق في مواجهة هذا الأخير في الجولة الثانية من الانتخابات.
أي نوع من الحركات تكون الجبهة الوطنية الفرنسية؟ مثل الجمعية القومية الإيطالية، تتعمد الجبهة الفرنسية محاولة زيادة قبول اليمين المتطرف لدى أصحاب الرأي «المعتدل»، لكن عند هذا الحد ينتهي التشابه. فبينما أقدم فيني على لفتات تدل على التصالح مع مناهضي الفاشية، أثار لوبان الشكوك في كونه مؤيدًا للرؤية «التعديلية» للهولوكوست (أعني، مؤيدًا لمن يقولون بأنها لم تحدث). والجبهة تحذو حذو اليمين الجديد حينما تتبرأ من العنصرية، لكنها تدعو إلى إعادة المهاجرين لأوطانهم باسم حماية الهوية الوطنية. ويمكن إجمال سياستها الاجتماعية في مصطلح «التفضيل الوطني»، ومعناه منح الأولوية للشعب الفرنسي في خدمات الإسكان والرعاية الاجتماعية والتعليم. وكل هذه استرجاعات للفاشية.
وتقييم السياسة الاقتصادية للجبهة أكثر صعوبة؛ فخلال الثمانينيات، اعتنقت الجبهة ليبرالية السوق الحرة المتطرفة، بينما الفاشية عادة ما تفضِّل الكوربوراتية والتنظيم. وقد يشير أولئك الذين يعتبرون «الجبهة» فاشية إلى تبني موسوليني اقتصاد السوق الحرة إبان سنواته الأولى في الحكم. وما يؤكد ذلك، أن الفترة التي تبنَّى موسوليني فيها الليبرالية يمكن اعتبارها نتيجة للتواؤم مع المحافظين ودليلًا على أنه في هذه المرحلة تحديدًا كان النظام بعيدًا كل البعد عن الفاشية. فالتجاوب مع سياسة السوق الحرة يمثل تخفيفًا بدرجة كبيرة من حدة الفاشية. فأيديولوجية تحرير السوق تسمح بقمع النقابات العمالية الحرة، لكنها تقصد بذلك نبذ الرغبة في إخضاع الاقتصاد للمصلحة الوطنية، مع كل ما يستتبعه ذلك من نتائج. وطالما كان اقتصاد السوق الحرة هو الغالب على أداء «الجبهة الفرنسية» فلا يمكن أن تكون فاشية بحق. لكن — كما تبين لاحقًا — تبنَّت «الجبهة» بالفعل سياسات «كوربوراتية» خلال التسعينيات.
ثمة إشكالية أخرى تتعلق بطبيعة «الجبهة الوطنية» الفرنسية، تتمثل في أن «الجبهة» — على عكس الفاشية التاريخية — لا تعارض الديمقراطية، بل على العكس، كان هدف الحركة المعلن هو تعزيز سيادة الشعب من خلال اللجوء لآلية الاستفتاء واستعادة سلطات البرلمان (في فرنسا خلال الجمهورية الخامسة تكون السلطة التنفيذية هي صاحب السلطة الحقيقية). يُقال إن هذه الإصلاحات سترخي القبضة التي تقيِّد سلطة التكنوقراط وسياسيِّي الدولة الذين يجري تعيينهم دون انتخاب، وتسمح بمراعاة رغبات الشعب الفعلية فيما يتعلق بالهجرة وعقوبة الإعدام و«التفضيل الوطني». ويمكن اعتبار هذا البرنامج شكلًا من أشكال الديمقراطية، أو بالأحرى، استغلالًا للمفهوم الرائج بشدة للديمقراطية باعتبارها التغليب المطلق لإرادة الأغلبية. وبالتالي فإن مفهوم الجبهة عن الديمقراطية جزء لا يتجزأ من مشروعها العنصري. وهي تفترض أنها ما إن تصل إلى السلطة ستتمكَّن من الفوز في أي استفتاء بشأن البنود الرئيسية لبرنامجها. لكنها، خلافًا للفاشية التاريخية، لا تطالب الجبهة بإلغاء الانتخابات التنافسية، وما من دليل على أنها تنوي إقامة ديكتاتورية دائمة.
لم يحاول أيضًا لوبان أن يستخدم العنف الذي قد تمارسه الأحزاب كي يرقِّي نفسه إلى السلطة. والتفكير في أن «الجبهة» تتبع خطوات هتلر وموسوليني في سعيها إلى سلطة يستند بالأساس إلى الافتراض الخاطئ بأن هؤلاء الحكام الديكتاتوريين اكتسبوا السلطة بطريقة مشروعة. وهم لم يفعلوا ذلك؛ فقد هاجموا الديمقراطية الليبرالية علنًا، واستخدموا حركات شبه عسكرية عنيفة لإجبار المحافظين — رغم أنهم لا يؤيدون الفاشية تأييدًا تامًّا — على قبول التحالف معهم كشركاء. فخطاب موسوليني الذي ألقاه في البرلمان في ١٦ نوفمبر عام ١٩٢٢ يمثل الخليط الفاشي الذي يمزج بين الترغيب والترهيب.
الجبهة الفرنسية ليس لها جناح شبه عسكري كبير يماثل الأجنحة التي امتلكتها حركات فاشية تاريخية، لكن من المؤكد أن هناك عناصر داخل الحزب لديها الرغبة في تكوين حركة على هذا النمط؛ فالجبهة تضم العديد من المتعصبين وغيرهم من العناصر المستعدة دائمًا للجوء إلى العنف، لكن ليس هناك دليل على أن الرأي الغالب في الجبهة يعتبر الحزب نواة لدولة الحزب الواحد ذات الطابع العسكري. وقد يعترض أحدهم قائلًا إن الشعبوية القومية قد أقرَّت بأنه لا مجال على الإطلاق في المجتمع الحديث للقوات شبه العسكرية وحكم الحزب الواحد، وإنها طورت وسائل أخرى لتحقق هذه الغاية نفسها. لكن مرة أخرى أؤكد على أن نبذ القوات شبه العسكرية ليس بالأمر الهين؛ لأنه ليس مجرد خصيصة ثانوية للفاشية؛ فاعتماد هتلر وموسوليني على ضغط أتباعهما المسلحين للاستيلاء على السلطة كان حاسمًا في تاريخَي نظاميهما؛ فكم كان تاريخ الفاشية سيصبح مختلفًا لو أن أتباع موسوليني، «أصحاب القمصان السود»، أو أتباع هتلر، «وحدة إس إس وكتيبة العاصفة»، لم يتطلعوا إلى تولي بعض اختصاصات الدوائر الحكومية والشرطة والجيش! ربما لم ينجح الفاشيون الراديكاليون في تحقيق كل أهدافهم، لكننا لن نفهم فاشية أوروبا ما بين الحربين فهمًا صحيحًا إذا اعتبرنا أيًّا من هذه الخصائص ثانوية.
ربما كانت نية الجبهة الوطنية في بادئ الأمر أن تقدم الفاشية في شكل أكثر قبولًا، لكنها حينما جرَّدتها من الديكتاتورية، وحكم الحزب الواحد، والطابع شبه العسكري، حوَّلتها إلى شيء مختلف إلى حد ما. ومن وجهة نظري، أرى أن الجبهة تمثل شكلًا من أشكال الشعبوية القومية العنصرية. وهي تجتذب، أو تحاول أن تجتذب، الشعب مباشرة، متجاوزة الممسكين بزمام الحكومات الفاسدة، كي تنفذ سياسات إقصائية ليبرالية.
اليمين المتطرف في روسيا
لم يكن من المفاجئ أن يُبعَث اليمين المتطرف في روسيا بعد مرور تسعة عقود على أوج ازدهار حركة «المئات السود». شهدت روسيا انهيار اليسار، وأثارت الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الديمقراطية التي نفَّذها بوريس يلتسين سخطًا عارمًا لدى الروسيين، علاوة على أن روسيا فقدت إمبراطوريتها، وتعرَّضت للإذلال في أفغانستان وبدت أنها تحت رحمة الغرب. وكما حدث مع الإيطاليين والألمان في فترة ما بين الحربين، شعر الروس بالقلق لرؤيتهم ما آل إليه حال مواطنيهم في الجمهوريات المجاورة.
في ديسمبر عام ١٩٩٣ فاز حزب فلاديمير جيرينوفسكي، الذي يحمل من قبيل المفارقة اسم «الحزب الليبرالي الديمقراطي»، بما يقرب من ٢٥٪ من الأصوات المرجحة في انتخابات «الدوما» (البرلمان الروسي). وجيرينوفسكي شخصية مسترعية للاهتمام، جزء منها استعراضي وجزء حالم وجزء قومي متعصِّب. وأسلوبه يحمل السمات النموذجية للشوفينية الذكورية الفاشية؛ فقد صرَّح للصحفيين الأجانب حينما كان يدلي بصوته قائلًا: «لم يعد للَّعنة السياسية وجود، واليوم بداية الانتعاظ. أعدكم جميعًا أيها الشعب أنكم ستشعرون برعشة [الانتخابات الرئاسية] في العام القادم.» لقد كانت رسالته واضحة؛ فبإيمانه بالروس شعبًا وروحًا، سيتمكن من إنهاض روسيا من كبوتها، وقد وعد باستعادة الإمبراطورية الروسية وهاجم الأجانب واليهود.
لكن خلافًا للتوقعات، شهد عام ١٩٩٣ بداية أفول نجم جيرينوفسكي؛ ففي الانتخابات اللاحقة لم تصل نسبة الأصوات المؤيدة له إلى ١٠٪. والسبب واضح؛ فقد اقتبست أحزاب أخرى سياساته؛ لعل أكثرها إثارة للاهتمام هو «الحزب الشيوعي الروسي» الذي أعيد تأسيسه بزعامة جينادي زيوجانوف، والذي أعيد إحياؤه على شكل حركة قومية متطرفة. وزيوجانوف ليس رافضًا للتاريخ الشيوعي كله، فالشيوعية السوفييتية دائمًا ما تضمنت كراهية شعبوية قومية للأغنياء. وهو معجب بلينين وستالين؛ لأن الأول حافظ على الدولة الروسية في مواجهة الحرب الأهلية، والثاني حماها من الغزو الأجنبي، ويدعو زيوجانوف إلى نضال جديد ضد الغرب. لكن حزبه نبذ الماركسية مفضلًا عليها القومية الروحية — فالشيوعية يؤخذ عليها أنها قدَّمت الكثير من التنازلات للمادية الغربية — وتوَّج الكنيسة الأرثوذكسية باعتبارها تجسيدًا للتاريخ الروسي. يزعم زيوجانوف أنه يتحدث باسم الشعب الروسي ونشطاء الحزب المخلصين ضد القطط السمينة الواقعة تحت سيطرة الأجانب مثل جورباتشوف ويلتسين، ويقول إنه «روسي دمًا وثقافة وسيكولوجية»، ويتباهى بأنه لم يسبق له قط أن أجرى محادثة تحمل طابع الجدية مع أي امرأة. خلاصة القول إذن أن زيوجانوف يوفِّق بين القومية والشيوعية.
هل يمكننا أن نُقدِم على تسمية هذه اشتراكية قومية؟ ربما! فلا شك أنها تحمل الكثير من أوجه الشبه بالفاشية، خاصة وأنه لا يزال من غير المؤكد بالنسبة لنا ما إذا كان جهاز «الحزب الشيوعي» الذي لا يزال قويًّا راغبًا حقًّا في استعادة دوره في حكم البلاد. ومع ذلك، من الصعب الدعوة صراحة إلى عودة الديكتاتورية في روسيا. فزيوجانوف — شأنه شأن لوبان — ليس راغبًا في أن ينبذ اقتصاد السوق أو الديمقراطية نبذًا كاملًا، وإنما يريد أن يُبقي على نظام التعددية الحزبية، وأن يزيد سلطات البرلمان (لأسباب ليس أقلها أن الشيوعيين الوطنيين لهم سطوة في البرلمان).
فاز الشيوعيون القوميون (طالما هذا ممكن في ظل ارتباك النظام السياسي في روسيا) في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر عام ١٩٩٥، ولو أن أداءهم القوي لم يفلح في الإطاحة بيلتسين في الانتخابات الرئاسية في العام التالي. وبعد أن استولى الشيوعيون القوميون على ناخبي جيرينوفسكي، هزمهم فلاديمير بوتين الذي صار رئيسًا للوزراء عام ١٩٩٩ ثم رئيسًا للبلاد عام ٢٠٠٠؛ إذ اكتسب بوتين — الذي لم يكن معروفًا من قبل — شعبية ضخمة من خلال خوض حرب شرسة ضد الانفصاليين الشيشان ومن خلال ظهوره بمظهر رجل الأفعال لا الأقوال. ويذكر أن بوتين — الحاصل على الحزام الأسود في رياضة الجودو — حدث أن أُلقي به ذات مرة على الأرض (مرتديًا قميصه وربطة عنقه وكامل بذلته) في مباراة استعراضية خلال زيارة رسمية له إلى اليابان.
يصف بوتين نفسه بأنه «ديمقراطي … ديمقراطي روسي.» وهو ليس فاشيًّا، لكن نجاحه يُظهر أن في روسيا رصيدًا من الشعبوية، سياسة «نحن مقابل هم»، التي سخرتها الشيوعية في الماضي وبات القوميون المتطرفون يتبنونها الآن.
اليمين المتطرف في الولايات المتحدة
الولايات المتحدة بلد آخر يمكن فيه أن تتحول أي شعبوية راسخة إلى اليمين المتطرف، وهو ما يمكن العثور على منابعه في صفوف المحبطين من كلا الحزبين الرئيسيين. كان الديمقراطيون الجنوبيون البيض قد شعروا بالسخط إزاء الدور الذي لعبته الحكومات الديمقراطية خلال الستينيات في إنفاذ تشريعات الحقوق المدنية. وخلال هذه الفترة نفسها عاد تنظيم «كو كلوكس كلان» للتوسع مجددًا، ودعم بعض أعضائه جورج والاس — المنشق الديمقراطي الذي كان يصرِّح بعنصريته — حينما ترشَّح للانتخابات الرئاسية عام ١٩٦٨. فيما بعد، تحوَّل المصوتون الجنوبيون المحبطون عام ١٩٨٠ ليكونوا جمهوريين مؤيدين لرونالد ريجان. في الوقت نفسه، كان تيار اليمين في الحزب الجمهوري يستنكر منذ الخمسينيات — ما زعم أنه — عدم استفادة حكوماته الجمهورية من السياسات الاقتصادية التدخلية التي تضمنتها «الصفقة الجديدة»، وما اعتبره ليونة منها إزاء الشيوعية الدولية (البعض اعتقد أن الرئيس أيزنهاور ليس سوى دمية شيوعية). مرة أخرى، في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، هاجم الجناح الليبرالي المتطرف للحزب الجمهوري الرئيس نيكسون بسبب سياساته الاقتصادية التي يُفترض أنها تدخلية. وخلال السبعينيات تَقارَب هذا اليمين الليبرالي المتطرف نفسه من الحركة الأصولية المسيحية، التي كانت ترى أن الأسرة والمدارس المسيحية تتعرض لهجوم من جانب الدولة. كان هناك بعض التناقضات بين هذه المكونات الثلاثة لتيار اليمين؛ فأنصار الليبرالية الاقتصادية — على سبيل المثال — يكرهون شغف الجنوبيين بالإنفاق ببذخ على الناخبين البيض. ومع ذلك، كان التياران الأخيران — اللذان يحملان بعض سمات التيار الأول — يتمتعان بنفوذ قوي خلال فترة رئاسة رونالد ريجان (١٩٨٠–١٩٨٨).
ربما كما هو متوقع، لم يَنَل ريجان رضاء مؤيديه من الراديكاليين؛ فهو لم يحظر الإجهاض، ولم يُدخِل أداء الصلوات في المدارس، علاوة على استياء البعض من استعداده للتفاوض مع جورباتشوف. ثم جاء خليفته، جورج بوش، ليزيد حدة السخط من خلال رفع الضرائب. ظهرت أشكال أكثر تطرفًا من اليمينية، مع حملة بات روبرتسون للفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة عام ١٩٨٨، وظلت اليمينية الراديكالية داخل الحزب الجمهوري متمثلة في حملة نيوت جينجريتش التي حملت اسم «عقد مع أمريكا» عام ١٩٩٤، وحملات بات بوكانان للفوز بترشيح الحزب للرئاسة عامي ١٩٩٢ و١٩٩٦. ثم سرعان ما بدأت دورة الأمل وخيبة الأمل تدور مجددًا، وانتقلت حالة السخط إلى خارج اليمين القائم. وترشح بوكانان عن «حزب الإصلاح» في الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٠٠، وتبنى كل القضايا اليمينية التقليدية، مثل مناهضة الإجهاض والدعوة لأداء الصلوات في المدارس، وأعلن استنكاره الحركات النسائية وتلك التي تطالب بحقوق المثليين. بعث بوكانان الحياة في معارضة اليمين القديمة لتورط الولايات المتحدة في الشئون العالمية، وكان يرى أن إعلان بوش لما أطلق عليه «النظام العالمي الجديد» خيانة للمصالح الأمريكية لمصلحة الشركات الكبرى وأنصار العولمة، واتهم حكومات التجارة الحرة بتجاهل مصالح العمال الأمريكيين. اتسمت حملة بوكانان بالكثير من سمات الحركات الشعبوية القومية الأوروبية، وقد حصل على ٢١٪ من الأصوات في انتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية عام ١٩٩٦.
تستجلب مقارنة التجربة الأمريكية بنظيرتها الأوروبية نتائج أكثر إثارة للاهتمام إذا تأملنا حركة جديدة أخرى؛ وهي المليشيات، أو «حركة باتريوت» التي ظهرت فجأة في أعقاب وفاة ٧٦ شخصًا في مدينة واكو، بتكساس، في شهر فبراير عام ١٩٩٣، إثر محاصرة قوات دائرة التحقيقات الفيدرالية لمقر إحدى الطوائف الدينية. تؤمن الميليشيات أنَّ تسلُّح المواطنين على غرار «الثورة الأمريكية» هو الذي من شأنه أن يمنع الحكومة الفيدرالية من أن تتوحش وتقتل الناس مرة أخرى في المستقبل، وأن المواطن الذي يحمل السلاح هو فقط الذي يستطيع الدفاع عن الدستور الأصلي للشعب الأمريكي من حكومة مصمِّمة على أن تبيع البلاد للنظام العالمي الشامل، المتجسد في منظمة الأمم المتحدة. فقوات الأمم المتحدة المتأهبة للقتال وطائراتها الهليكوبتر السوداء باتت تُشاهد على التراب الأمريكي، علاوة على أن الحريات الأمريكية الأصيلة من حق البيض وحدهم، ولم يُقصد بها السود قط.
يختلف أعضاء الميليشيات عن الشعبويين القوميين الأوروبيين في أنهم تحرريون بشدة؛ فهم ينكرون حق الحكومة في إصدار رخص القيادة أو فرض ضرائب على الشعب. ويذهب البعض إلى أن الحكومة تنتهك المعنى الحقيقي للدستور، والبعض الآخر يقول إن الدستور نفسه عبء مفروض على الأمريكيين الأحرار، وحتى ذلك الدستور يشكل غطاءً لاستمرار الملكية البريطانية وحليفها، التمويل الدولي، في حكم الولايات المتحدة. إن هذا العداء للحكومة الفيدرالية المؤيدة للعولمة بدعوى تنقية الدولة عرقيًّا يشبه موقف الشعبويين القوميين الأوروبيين من الاتحاد الأوروبي.
خاتمة
تُبيِّن الحالات التي درسناها أن أولئك الذين يعتنقون إرث الفاشية اعتناقًا صريحًا نادرًا ما تمكَّنوا من الاندماج في معترك السياسة السائدة، وأن الذين سعوا لجعل اليمين المتطرف مقبولًا في عصر يفترض أنه ديمقراطي تحرَّكوا في اتجاهات مختلفة اختلافًا جذريًّا؛ فقد تحوَّلت جمعية فيني الوطنية إلى حزب محافظ ديمقراطي، ولو أن ذلك حدث في سياق ازداد فيه الطابع اليميني للمحافظية الأوروبية ازديادًا ملحوظًا. وعلى طرف النقيض الآخر، كافحت أحزاب اليمين المتطرف في ألمانيا — مع كبر عدد أعضائها المتعصبين وتاريخها من العنف المناهض للمهاجرين — كي تظل ذات تأثير. أما الحركة الشيوعية في ألمانيا الشرقية التي جرى إصلاحها (وهي يسارية أكثر من نظيرتها الروسية) فقد احتكرت إلى حد كبير الاحتجاجات الموجهة ضد المشاكل الاقتصادية في الشرق، وبينما يكره الكثير من الألمان المهاجرين، فإنهم يخشون النازيين الجدد أكثر. ففي أواخر عام ٢٠٠١، كان يُخشى أن يتحول الفاشيون المحبطون إلى ممارسة الإرهاب.
أكثر ورثة الفاشية نجاحًا، مثل «الجبهة الوطنية» الفرنسية، حوَّلوا أنفسهم إلى أحزاب عنصرية وشعبوية تعمل في إطار شرعية ديمقراطية. وهذا ينطبق — رغم وجود بعض الاختلافات — على «حزب الحرية» بزعامة يورج هايدر، الذي فاز بالمركز الثاني في الانتخابات النمساوية العامة في أكتوبر عام ١٩٩٩. وهو يجمع بين سياسات السوق الحرة المتطرفة مع السياسات الصارمة فيما يتعلق بالقانون والنظام (بما في ذلك إجراء اختبارات تعاطي المخدرات على نحو روتيني للمعلمين)، والعداء لحركة الهجرة، والتركيز على تقديم الإعانات الأسرية وغيرها من المنافع للمواطنين النمساويين، وكراهية الاشتراكيين والديمقراطيين المسيحيين الذين ظلوا يحتكرون السلطة لعقود. ويشترك «حزب الشعب السويسري» بزعامة كريستوف بلوخر، والذي حصل على ٢٢٪ من الأصوات عام ١٩٩٩، في كثير من السمات مع «حزب الحرية» النمساوي.
تختلف كل هذه الأحزاب عن فاشية ما بين الحربين العالميتين في أنها تنشأ من حدوث تحول في اليسار بقدر ما تنشأ من تحول في اليمين؛ ففي روسيا تحوَّل حزب يساري إلى اليمين المتطرف، بينما في الغرب تبدو الحالة أقرب إلى شباب كان يتوقع أن يصوتوا لليسار فإذا بهم بدلًا من ذلك يصوتون لليمين المتطرف.
واليمين الشعبوي القومي نتاج جهد واعٍ لتحديث الفاشية، وجعلها قابلة للبقاء في ظروف متغيرة. والنتيجة هي بعض أشكال الاستمرارية الحقيقية (قومية متطرفة وتمييز ضد الأقليات العرقية، ومعاداة للحركة النسائية وللاشتراكية، وشعبوية، وعداء للنخب الاجتماعية والسياسية القائمة، ومناهضة للرأسمالية وللنظام البرلماني) مصحوبة بتغيرات هامة بالقدر نفسه (رفض التعبئة الجماهيرية، والعنف شبه العسكري الممنهج، والتطلُّع إلى إقامة دولة الحزب الواحد). أما الملامح الغائبة فهي على وجه التحديد تلك التي كانت تمنح الفاشية طابعها الشمولي؛ الذي يمكن إجماله في الرغبة في التهليل المستمر للدولة وللنظام. وقد عدَّل الشعبويون القوميون إرثهم بدرجة ملحوظة، وهم، في الواقع، يسعون لاستغلال الإمكانات العنصرية للديمقراطية بدلًا من التخلص منها. لكن هذا لا يعني أن الشعبوية القومية «أقل شرًّا»، أو «أقل خطورة»، على نحو ما من الفاشية. فهذه مسألة مختلفة كل الاختلاف.