القيم الأخلاقية في الشرق والغرب
تكاد تكون القيم الأخلاقية واحدة في نظر الأمم المتحضرة جميعًا، فتكاد كلها تجمع على عد الشجاعة والعدل وضبط النفس والصدق فضائل وضدها رذائل، فهذه أمور لا يُختلف فيها بين شرق وغرب.
نعم إن الأخلاق الثانوية قد تختلف الأمم في النظر إليها، كمعاملة المرأة والأولاد، والاشتغال بالتمثيل والغناء، والقيام بأنواع الرياضات، بل قد يكون الأمر محمودًا ممدوحًا في بعض الأمم، مكروهًا مذمومًا في البعض الآخر، كتعدد الزوجات، وكذلك النوع من الأخلاق المبني على العادات والتقاليد، كعادة بعض البلاد في دفن المرأة إذا مات زوجها، ومثل بدع النساء في تطويل الذيل أو تقصيره، وفي الطلاق، وفي حل زواج الأقارب عند بعض الأمم وحرمتها في الأمم الأخرى. إنما الأمر المهم في التقويم الخلقي هو اختلاف نظرة الأمم في ترتيب الفضائل، وعد بعضها أقوم من بعض.
وتؤثر في ذلك عوامل كثيرة، كالبيئة، ومقدار الثقافة، والحالة الاقتصادية. فمثلًا كان العرب في جاهليتهم في حالة اجتماعية تجعلهم يضعون في أول قائمة الأخلاق الشجاعة والكرم؛ لأن الظروف كانت تحتم على كل إنسان أن يدافع عن نفسه ويحميها من غيره، إذ لا حكومة قوية ترعى الأمن وتحافظ عليه، ولهذا ضعفت قيمة الشجاعة لما قويت الحكومات وتعهدت بحفظ الأمن في البلاد، وكذلك فشا الفقر مع رحلات القبائل من مكان إلى مكان ومواجهة الناس ظروف كثيرة لا يجدون فيها ما يقيتهم، لهذا كان الكرم من أعظم الفضائل. ولما كانت أوروبا ممالك تعتمد على الصناعة والتجارة، كانت المحافظة على المواعيد والنظام، والاقتصاد، ونحو ذلك من أهم الفضائل عندهم، وفي كثير من بيئات الشرق ترى السماحة والنبل أهم الفضائل، وإن لم تكن هذه الأخلاق أخلاقًا تجارية. كان لي صديق متزوج إنجليزية، صدمت سيارته يومًا سيارة أخرى وكان الخطأ خطأ سائق السيارة الأخرى، فنزل سائق السيارة الصادمة واعتذر لصديقي عما أصاب سيارته من تلف، فقال صديقي هذا: لا أهمية لاعتذارك الآن، فلنذهب أولًا إلى من يصلح العربة ويقدر قيمة إصلاحها وتدفعه، ثم اعتذر بعد ذلك فأقبل عذرك. عندما قص علي هذه القصة قلت: إن هذه ليست أخلاقك، إنما هي وحي من أخلاق زوجتك الإنجليزية. فالمصري عادة يتسامح في مثل هذه الأخطاء ويرجح جانب الكرم، بينما الأوروبي يرجح الجانب المادي ويؤاخذ كل إنسان بما ارتكبه، ومن أجل هذا ساد في أوروبا مذهب المنفعة الذي وضعه بنتام وجون استيوارت مل، ومقتضاه أن العمل يقاس بما فيه من لذة وألم لأكبر عدد ممكن، فإن رجحت اللذائذ الآلام ففضيلة، وإلا فرذيلة. أما الشرقي فيُدخل في الحساب الأشياء المعنوية البحتة، ويرى أن هنالك فرقًا كبيرًا بين أن تقدم لصاحبك وردة، وأن تقدم له قرشًا، وإن كانت الوردة بقرش؛ فإن تقديم الوردة الجميلة يحوي من المعاني والرقة وحسن الذوق ما لا يقدر بمال.
وأذكر أيضًا أني ركبت الترام مرة وبجانبي جلس ضابط إنجليزي، وأمامي عامل مصري، فلما وقف الترام في إحدى محطاته أراد العامل أن ينزل من ناحية الشمال، فأمسك الضابط الإنجليزي برجله ليمنعه، فظننت بحكم النظر الشرقي أنه يمنعه من النزول من الشمال رأفة به وخوفًا من أن يصاب بأذى، فشكرته على صنيعه فقال: لست أقصد هذا، وإنما أخشى أن ينزل من الشمال فيصدمه ترام آخر، فيتعطل السير، ولا أصل إلى المكان الذي أقصده في الوقت الذي يجب أن أصل فيه!
وقرأت مرة قصة تروي أن ضابطًا إنجليزيًّا كان في الزمن الماضي يركب حمارًا يوصله إلى ثكنته في العباسية، وانتهز الحمَّار جهل الإنجليزي باللغة العربية فأخذ يسبه سبًّا شنيعًا، فاستوقفه مصري آخر ثقل عليه هذا المنظر، وقال للإنجليزي أتدري ماذا يقول الحمَّار؟ قال لا، قال إنه يسبُّك سبًّا شنيعًا. قال الإنجليزي: أسبُّه هذا يعطلني عن الوصول إلى غرضي؟ قال: لا، قال: فدعه يقول ما يشاء. فهو قد قوَّم الأمر تقويمًا عقليًّا وماديًّا دون أي اعتبار آخر. ولا يفعل الشرقي ذلك فقد يشغل نفسه يومًا بأكمله بمسألة جزئية لا تقدم ولا تؤخر.
هذه الحوادث الجزئية تمثل الفرق بين نظر الشرقي ونظر الغربي وعلى كل حال فليست هذه الفروق في السلوك وفي تقويم الأخلاق مسألة شرق جغرافي وغرب جغرافي — كما قلنا أكثر من مرة — إنما هي مسألة درجات في سلم الحضارة واختلاف في البيئات، بدليل أن الأمة الواحدة يختلف تقويمها للأشياء باختلاف تاريخها أو دينها أو نحو ذلك. لقد كان حجاب المرأة فضيلة كبرى والسفور رذيلة كبرى، فانقلب الأمر وأصبح السفور طبيعيًّا والحجاب رجعية، وقد كانت مزاولة المرأة المصرية لمهنة من المهن رذيلة، فاستسيغت اليوم بسبب ما حدث من تغير في اقتصاديات البلاد، وهذا يدل على أن هذه الأشياء ليست طبيعية في الأمم تبعًا لأقاليمها، ولكن الاختلاف يتبع المنزلة في المدنية ونوع المدنية.
إن كثيرًا من الاختلاف بين الشرق والغرب يرجع إلى الأحوال الاقتصادية التي شرحناها من قبل، وإلى سيادة الصناعة في الغرب وسيادة الزراعة في الشرق، ونظرة الصنَّاع إلى الأخلاق غير نظرة الزراع إليها، فالنظام مثلًا فضيلة تتطلبها الصناعة أكثر مما تتطلبها الزراعة، وارتباط الأسرة وتماسكها فضيلة تتطلبها الزراعة أكثر مما تتطلبها الصناعة.
•••
ثم إن العلم لا الدين قد أصبح أساس الحياة في المدنية الغربية، وتبع ذلك أن العلماء اليوم هم الذين يرسمون الخطط ويدعون إلى الإصلاح، بدلًا من رجال الدين والأولياء، ومن الغريب أنهم مع إيمانهم بالعلم في حياتهم يستندون إلى الدين إن احتاجوا إليه، كما في التعصب ضد المسلمين والتبشير ضد الوثنيين، وفي تلك الحالات يتجلى فقط إيمانهم بالدين، أما فيما عدا ذلك فلا دين. اعتبر في ذلك برجال الدين الجزويت، فالفرنسيون لا يسمحون بفتح مدارس لهم في بلادهم؛ لأنهم يرمونهم بالتعصب الديني، ولكنهم يؤيدونهم ويشجعونهم على التبشير، وفتح المدارس في البلاد المستعمَرة، ومنذ أن تحولت الأخلاق من دين إلى علم، بطل الوعظ والإرشاد تقريبًا؛ لأن طبيعة العلماء تقرير ما يعتقدونه حقائق من غير دعوة إليه، أما طبيعة الدين فوعظ وإرشاد.
ومن الجنايات على الأخلاق في الغرب انتشار الإعلانات عن السلع انتشارًا مزعجًا، وضرر هذه الإعلانات أنها لا تلتزم الصدق وأنها لا تقصد إلا إلى الربح، سواء اتفق العمل مع الأخلاق أو لم يتفق، وأنها دعوة خبيثة إلى الترف، فالتشويق إلى محلات الرقص والملاهي، والتشويق إلى النماذج الجديدة من السيارات وآلات الراديو ونحو ذلك ضار ضررًا بالغًا، حتى من لم يستطعها من الفقراء أغروه باستخدامها بالتقسيط. ومن عيوب هذه الإعلانات، وإن كان عيبًا غير مباشر، أن من طبيعتها الدعوة إلى الجديد دائمًا، والتحقير من القديم. فنموذج سنة ١٩٥٣ في السيارة خير من نموذج سنة ١٩٥٢، وقد تبع ذلك الرغبة في كل جديد، وتفضيله دائمًا على القديم، وتبع ذلك أيضًا تفضيل الأخلاق الجديدة على الأخلاق القديمة تفضيلًا عامًّا مع أنه قد يكون في الأخلاق القديمة التي كان يدعو إليها الدين ما هو خير من الأخلاق التي تدعو إليها الحياة الجديدة.
ومما زاد الأخلاق سوءًا أنهم نظروا إليها على أنها مسائل اعتبارية واتفاقية، لا أساس لها ترتكز عليه، كمذهب البرجماتزم الذي لا يرى شيئًا خيرًا لذاته ولا شرًّا لذاته وإنما ما أوصل إلى الغرض كان خيرًا على أية حال كان. ونظرتهم هذه كما أخذوا بها في الأخلاق تبنوها أيضًا في السياسة. ثم إنهم تبعوا دارون في قوله إن أصل الإنسان حيوان وطبيعة الحيوان النمو والنضج من غير قائد ولا هادٍ، فالشجرة تنمو من البذرة على سنتها الطبيعية، ولا تحتاج إلا إلى دفع ما يعوق نموها، فكذلك قالوا في الإنسان، هو سائر بطبيعته إلى نموه، ولا يحتاج إلى هادٍ يهديه، وبذلك استغنوا عن الواعظ والمرشد، واستغنوا عن المبادئ الهادية، ونادى زعيم من زعمائهم وهو «لورانس» الأديب المشهور بأن اللقانة وحدها كافية في هداية الإنسان، وعلى هذا تكون كل مطالب الغرائز جيدة ولا تحتاج إلى تدخل العقل وضبطها إلا عند اضطرابها، وعلى ذلك يكون السلوك ومبادئ الأخلاق والذوق لا قيمة لها بجانب الإحساس باللذة، وهذا الرأي في منتهى الخطورة على السلوك الإنساني؛ ولذلك كله يلاحظ الإحصائيون أن القائمين بالأعمال الجدية يتناقص عددهم، بينما المشتغلون بالملاهي والملذات يزدادون باضطراد، فيزداد عدد الراقصات في الملاهي وصناع السجاير وصناع أجهزة الراديو … إلخ، وهذا مظهر لا يدعو إلى الارتياح.
ومما يلاحَظ أن الأخلاق لا يكفي فيها أن تكون مجرد قواعد عقلية كما يرى الغرب، بل يجب أن تدعمها قوة روحية كما يرى الشرق، يعتمد عليها ساعة اليأس، وتعينه على مواجهة المشاكل، وقد كان في الأخلاق من قبل هذا المعنى يوم كانت مرتبطة بالدين، فلما أُسست على العلم فقدت هذا المعنى؛ ولذلك اضطرب الناس واحتاروا، فلما أحس العلماء بذلك بحثوا عن مقياس آخر يقيسون به الأخلاق، فمنهم من ذهب إلى أن مقياس الخلق هو مقدار مساهمة الشيء في بناء العلم أو عدمه، ولكن هذا مقياس دقيق جدًّا لا يصلح للأشخاص العاديين وهم الجمهرة العظمى، ومنهم من ذهب إلى اتخاذ المنفعة مقياسًا؛ أي إن العمل يكون حسنًا إذا أنتج أكبر سعادة لأكبر عدد، وهو أيضًا قول مشكوك فيه وليس مقياسًا واضحًا يسهل الرجوع إليه. ولولا أن الناس لا يزالون عندهم بقية من تقديس الأخلاق المبنية على الدين، وخصوصًا الجماهير، لساءت الحال أكثر من ذلك. وعلى الجملة فقد هجر الغرب فكرة ارتباط الأخلاق بالدين، ولكنه لم ينجح في إحلال شيء ثابت محله، والشرق لا يزال يؤسس الأخلاق على الدين؛ ولذلك يقدسها.
وكلامنا هذا منصب على الشرق قبل أن يقتبس كل شيء من الغرب ومنها الأخلاق.