الفصل الثاني

الاستبداد والديمقراطية

إن معنى الحكومة يختلف في الشرق عنه في الغرب:
  • (١)

    فالغربيون يفهمون أن الحكومة هيئة تمثلهم، وترعى مصالحهم. نعم إن هذا المعنى بدأ بسيطًا عندهم، بدأ باقتناعهم أن أية ضريبة لا يصح أن تُفرض على الشعب إلا بموافقة ممثليه، ولكنه تطور حتى انتهى ببسط إشراف الشعب المطلق على الحكومة، وهم يكرهون السلطان المطلق ويعدونه نقمة كبرى يجب أن تُزال، أما في الشرق فقد توالى عليهم الظلم والاستبداد، ولم يصادفهم رجال أقوياء يصرخون ضد الظلم ويُقفون الظالم عند حده، فجرأ الحكام عليهم إذ رأوا سكوتهم عما لحقهم، بل ومقابلة الشعب ظلم الحكام بمديحهم والدعاء لهم بإعلاء شأنهم.

  • (٢)

    تعتقد الحكومة في الغرب أن أول مهامها ضمان الأمن للشعب في نفسه وماله، ويرى المحكومون أن ذلك أول واجب عليها تحقيقه، فإن لم يُحقَّق ثاروا وطلبوا وألحوا في الطلب. أما في الشرق فقد عبَّر عنه سعد باشا زغلول تعبيرًا صادقًا؛ إذ قال ما معناه أن الحاكم ينظر إلى المحكوم نظرة الصائد للطائر، والمحكوم ينظر إلى الحاكم نظرة الطير للصائد.

  • (٣)

    اعتقاد الشعب الغربي أنه هو وحده الذي يملك حق تشريع القوانين بواسطة من يمثله، على حين أن الحكومة في الشرق ترى من حقها أن تشرِّع ما تشاء من غير أن يكون عليها حسيب أو رقيب.

  • (٤)

    اعتقاد الشعب الغربي أن له الحق على دولته في أن تعلمه وتقيه شر الجهل والمرض والفاقة، بينما الدولة في الشرق ترى أن تلك الأمور كلها ليست واجبًا عليها، وأنها إن فعلت فتفضُّل منها.

  • (٥)

    ترى الدولة الغربية أن من حقها أن تقبض على السلطة كلها بيدها، ولا تسمح لأشخاص أو طبقات أن تسلبها شيئًا من سلطانها. أما في الشرق فوُجد بجانب الدولة أفراد وهيئات وطبقات لها سلطان يشبه سلطان الدولة، كطبقة الأغنياء ورجال الدين، وبذلك تحول الفلاح والعامل في الغرب من عبد ذليل إلى إنسان مواطن له حقوق الطبقة الغنية، وليس الأمر كذلك في الشرق؛ ولذلك نرى القانون في الغرب يطبَّق على الرفيع والوضيع، بينما نراه في الشرق وكأنه لم يوضع ليطبَّق على الأغنياء والوجهاء، وزاد الأمر سوءًا ذلك المنظر البغيض الذي سببته الامتيازات الأجنبية، فقد وضعت أمام المواطنين منظر قوم وجهاء فوق القوانين وفوق الضرائب.

  • (٦)

    بينما تطور الغربيون إلى نظام تمثيلي يراعى فيه الشعب كل المراعاة، تطور المسلمون إلى أدنى، فبعد أن سار المسلمون الأولون على نظام مقتضاه خضوع الخليفة للكتاب والسنة، ويشرف على تنفيذه أهل العقد والحل، تطور إلى نظام ليس فيه إلا رعية تؤمر و«إمام» يأمر، وأصبح الحكام لا يفكرون في مواطنين لهم حقوق ولكن في رعية تستغَل لشهواتهم.

ثم زاد الأمر سوءًا أن المستعمرين أو المنتدبين تحالفوا مع الملوك والأغنياء والوجهاء ضد الشعب، فهم يتحالفون مع الطبقة الأرستقراطية في مصر، ومع رؤساء العشائر في العراق، ومع الوجهاء في تونس والجزائر ومراكش، ويمكنونهم من استغلال نفوذهم وامتصاص دماء فلاحيهم ولو تضور هؤلاء جوعًا. وكلما كان الرجل أكثر نفوذًا في قومه كانوا له أقرب، وهم يفضلون النظام الملكي لأنهم يعلمون أنه من السهل التأثير في الملك بشتى الوسائل، ثم هو يؤثر في شعبه حسبما يريدون، فذلك خير لهم وأسهل من أن يتصلوا بالملايين ويوجهوهم كما يريدون. إن الدول المستعمرة والمنتدبة تعلم حق العلم وجوه الإصلاح الحقيقي ثم لا تقدم عليه إذا أضر ضررًا ولو خفيفًا بمصلحتها؛ ومن أجل ذلك نرى أن التغير الذي حدث في الشرق إنما حدث للمثقفين لقراءتهم الكتب الحديثة أو سفرهم إلى أوروبا أو كثرة احتكاكهم بالأجانب بأي شكل، أما طبقة الفلاحين والعمال وهم أغلبية الشعوب فلم يتغيروا كثيرًا عن حالهم في أقدم العصور، ومع أن ما نقل من النظم من الغرب إلى الشرق كثير منه شكلي لا جوهري؛ فبعض هذه النظم كان له أثر في الشرق بالغ، كالتنظيم المالي، ووضع الميزانيات، وإدخال نظام الضرائب على الدخل، وقد كانت الحالة المالية في الشرق في العصور الوسطى لا تخضع لأي نظام مالي، ولا تزال بعض الدول الشرقية كذلك إلى الآن. ومثل التنظيم القضائي فقد أُدخل عليه في الشرق تحسينات كثيرة، وكان في العصور الوسطى فوضى لا يخضع لأي نظام.

ومن الضروري أن نلاحظ أمرين:
  • أولهما: أن المعيشة البدوية في صحراء العرب في عهد الجاهلية وخضوع القبيلة لرئيسها خضوعًا تامًّا، وتنظيم الحياة على أساس الأسرة، كان له أثر عميق في حياة المجتمع العربي، حتى بعد أن أسلموا وتحضروا.
  • وثانيهما: أنه لما غزا التتار العالم الشرقي من الصين إلى مصر، فعلوا بالبلاد أفاعيل عجيبة حتى قال عنهم ابن الأثير: «إنهم لم يُبقوا على أحد، وقتلوا النساء والأطفال والرجال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة … وهذه الحادثة قد استطار شرها وعم ضررها»، وزلزلت البلاد زلزالها، وأصيب الناس بالصرع، واكتسح جنكيرخان بجنوده ما وراء النهر ثم خراسان ثم العراق، وأسقط بغداد وأتلف ثقافتها بطرح كتبها في دجلة، واستباح المدينة أيامًا، وكان جنوده إذا حلُّوا في أي مكان خربوا وهتكوا الأعراض وسلبوا ونهبوا، وجاء بعد جنكيزخان هولاكو ثم تيمورلنك، وكلٌّ عسف ودمَّر وخرَّب وأذلَّ الناس وأرعبهم.

وإنما ذكرنا هذين الأمرين لندل بهما على عمق تأثير الأحداث التاريخية في الشرق، مما بقي أثره حتى اليوم، ولا ندري متى يزول هذا الأثر. فلكل من الشرق والغرب حوادثه التي أثرت فيه، وجعلته مكونًا هذا التكوين الذي نراه اليوم.

نكتب هذا ونحن ننظر إلى الشرق قبل أن تغزوه المدنية الغربية، أو تدخل نظمها عليه وتؤثر فيه أثرًا قليلًا أو كثيرًا، لقد أثر الغرب في الشرق باحتلاله أو الانتداب عليه، ثم جاءت الحربان العالميتان فزاد تأثر الشرق بالغرب، واختلط العالم كله اختلاطًا غريبًا وسهلت المواصلات، حتى أصبحت تُقطع المسافات البعيدة في أوقات قريبة، وليكسب الغرب الشرق للمحاربة بجانبه منَّاه الأماني الطيبة، ففتح أمام عينيه آفاقًا واسعة جميلة، فلما قبض يده بعد ذلك حرص الشرق على الوعود وطالب بها، واتخذها مثله يدافع أشد الدفاع من أجلها.

وإلى جانب ذلك التفت الشرق إلى نفسه، فرأى أنه يمكنه أن يصنع نفسه كالغرب، ورأى أن الطبيعة منحته مواد خامة كالبترول والمعادن هو أولى بالانتفاع بها من الغرب، وإنه إذا استخدمها اغتنى، وإذا اغتنى ارتقى، فوضع النواة الأولى للصناعة، ولا شك أن الصناعة ستغير من أخلاقه وطريقة معيشته.

وهذان العاملان أشعلا نار الوطنية في الشرق، فبدأت كل أمة شرقية تطالب بحقوقها؛ وأولها الاستقلال التام: السياسي والاقتصادي، وكلما تنبه وعيه ألح في المطالبة، ولم يضن بالتضحية.

ولما بلغ الوعي الاجتماعي هذا المبلغ لم يلتفتوا إلى علاقتهم بالغرب والمستعمرين وحدهم، بل التفتوا أيضًا إلى حكوماتهم فوجدوها عائقًا عن تقدمهم بدل أن تكون عونًا لهم؛ فحاربوها أيضًا، وأسقطوها إن استطاعوا، وأصلحوها إن استطاعوا.

وعلى الجملة وسَّع الاحتكاك بالغرب ووعود عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة من آمال الشرق، وجعلته يُكثر من اقتباس النظم الغربية ويطبقها على نفسه، فكره بذلك الأساليب القديمة الاستبدادية، التي كان يُحكم بها من الداخل والخارج، ورأى أن لا بد من أن يحكم نفسه بنفسه.

•••

يقول «ول ديورانت» في كتابه «قصة الحضارة» عن مصر القديمة:

لقد كانت الحكومة المصرية من أحسن الحكومات نظامًا، وكانت أطول حياة من أية حكومة أخرى في التاريخ، وكان الوزير يخرج من بيته في الصباح الباكر «ليستمع إلى مظالم الفقراء، ويصغي إلى ما يقول الناس في مطالبهم، لا يميز فيها بين الحقير والعظيم.» وقد وصلت إلينا على بردية صورة الخطاب الذي كان يلقيه الملك حين يعين الوزير في منصبه: «اجعل عينك على مكتب الوزير وراقب كل ما يحدث فيه، واعلم أنه هو الدعامة التي تستند إليها جميع البلاد، ليست الوزارة حلوة، بل هي مرة، واعلم أنها ليست إظهار الاحترام الشخصي للأمراء والمستشارين، وليست وسيلة لاتخاذ الناس أيًّا كانوا عبيدًا، انظر إذا جاءك مستنصف من مصر العليا أو السفلى فاحرص على أن يجري القانون مجراه في كل شيء، وأن يتبع في كل شيء العرف السائد في بلده، وأن يعطى كل إنسان حقه، واعلم أن المحاباة بغيضة إلى الإله، فانظر إلى من تعرفه نظرتك إلى من لا تعرفه، وإلى المقربين إلى الملك نظرتك إلى البعيدين عن بيته. انظر إن الأمير الذي يفعل هذا سيبقى هنا في هذا المكان، وليكن ما يخافه الناس من الأمير أنه يعدل في حكمه، ارعَ القواعد المفروضة عليك.

ومن خطبة ألقاها دوق جو بين يدي ملك الصين لي-وانج في حوالي عام ٨٤٥ قبل الميلاد:

يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحرارًا في قرض الشعر، والناس أحرارًا في تمثيل المسرحيات، والمؤرخون أحرارًا في قول الحق، والوزراء أحرارًا في إسداء النصح، والفقراء أحرارًا في التذمر من الضرائب، والطلبة أحرارًا في تعلم العلم جهرة، والعمال أحرارًا في مدح مهارتهم وفي السعي إلى العمل، والشعب حرًّا في أن يتحدث عن كل شيء، والشيوخ أحرارًا في تخطئة كل شيء.

وقال النبي «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحمر على أسود ولا لعربي على عجمي.»

وقال أبو بكر عندما ولي الخلافة: «إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن صدفت فقوموني.»

وفي عهد عمر لأهل إيليا ما نصه: «أعطهم الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ملتهم. لا تسكن كنائسهم، ولا ينقص منها ولا خيرها ولا من صلبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.»

هذه الكلمات وغيرها من آلاف الأمثلة في آداب الحضارات القديمة وتاريخها، ترينا مدى ما وصل إليه الشرقيون في قديم الزمان من ديمقراطية تكاد تكون كاملة، سواء كان ذلك في نظام الحكم أو في نظام الأسرة وفي نظم المجتمع، وإننا لنجد في الحضارة الإسلامية، أيام الخلفاء، وفي عهود كعهد عمر بن عبد العزيز ومحمود نور الدين زنكي صورًا رائعة للديمقراطية الحقَّة، ترينا أن الظلم الذي مر على الشرق في فترات معينة لم يكن خاصة من خواص الشرق — كما يظن بعض المتحاملين عليه — وإنما كان خاصة من خواص فترات الانحلال التي تمر بها البلاد وتنتهي إليها الحضارات؛ فإن ذكرنا جنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك في الشرق، فعلينا أن نذكر حكام الغرب قبل النهضة، وحتى في فترات النهضة لم تخلُ أوروبا من دكتاتوريات بشعة اعتدت على أقدس الحريات.

نعم، لقد سيطر على بلاد الشرق حكام استبدوا بها، وسلبوا أموالها، ونكَّلوا بها أيما تنكيل، ورجال الدين يدعون لهم على المنابر، ويلقبونهم بالملوك الصالحين، والفنانون والأدباء لا عمل لهم إلا النفاق والملق والاستجداء، فانخلعت لذلك قلوب الناس أمام الخلفاء والأمراء والولاة، وانتقل ذلك إلى من هم أدنى منهم. فرئيس المصلحة مستبد على مرءوسيه، والمدير مستبد على المآمير، والمآمير على العمَد، والعمَد على الفلاحين والضباط على الجند، والجند على الباعة المتجولين إلى آخر هذه المظاهر، فكل مستبَد به ممن فوقه مستبِد على من دونه، فهو ينتقم لاستبداد الأعلى بالاستبداد على الأدنى — نعم كل هذا يحدث في الشرق؛ ولكن ألم يحدث مثل ذلك في الغرب قبل أن ينعم بما ينعم فيه الآن من بعض الديمقراطية؟ ألم تمر على ذلك الشرق المستعبَد فترات عرف فيها العدل؟

إذن فالمسألة ليست مسألة شرق ولا غرب، وإنما هي حضارة تأتي ورخاء في البلاد يعم، فتتفتح الأذهان، وتنشط النفوس للمطالبة بحقها وإيقاف الظالم عند حده.

إن آثار استبداد الماضي لا تزال عالقة بأذهان الشرقيين، وهي من غير شك تعوق فكرة التقدم على أساس ديمقراطي، ولكن الشرق آتٍ على حضارة جديدة قوية، ومع استمرار التقدم وازدياد الرخاء يختفي الظلم، كما تختفي السلطة الاستبدادية الموروثة، فالمسألة مسألة درجات في الرقي الطبيعي لا مسألة شرق وغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤