الحظ والقدر في الشرق والسبب والمسبب في الغرب
مما يميز الشرق عن الغرب شيوع فكرة الحظ والقدر في الشرق، وشيوع فكرة السبب والمسبب في الغرب. ترى في الشرق الإيمان بالحظ والقدر في كل شيء، فهذا سعيد وهذا شقي بالقدر، وهذا غني وهذا فقير بالقدر، وإذا خطى شخص خطوة فأصابه خير أو شر نسبه إلى القدر أو الحظ، والمريض يمرض ثم يصح أو يموت بالقدر، وهكذا في سلسلة الحوادث. وعقل الغربي في ناحية أخرى، فالفرد يكون شقيًّا أو سعيدًا لسبب أو أسباب ينسب ذلك إليها، من تربية حسنة أو سيئة، ووسط صالح أو فاسد، وأصدقاء يعاشرهم صالحين أو سيئين، والغنى والفقر سببهما نشاط العامل أو كسله، واختياره للعمل الذي يلائمه أو لا يلائمه، ونظام البيئة الاجتماعي صالح أو فاسد، والأرض صلحت للزرع أو ساءت لوجود الحشرات، أو الجو الذي يلائم أو لا يلائم، لا لشيء من الحظ أو القدر، وقد يعجز عن العلة فيقول: إن لذلك النجاح أو الفشل سببًا غير معروف فلأجتهد في أن أعرفه.
وربما كان سبب ذلك بناء الحياة في الشرق على مجموعة من الأوهام والخرافات، وإن لم يكن ذلك من الدين نفسه، فالدين الإسلامي يأمر بالعمل ويطالب بالجد، ويقول اعقلها وتوكل، وإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، ولكن جاء أصحاب المذاهب كالأشعري يقولون إن النار لا تحرق، والماء لا يروي، ولكن الله يوجِد الإحراق عند وجود النار، والري عند وجود الماء، ومثل هذه التعاليم توجد في معتنقيها إيمانًا بالقدر لا حد له.
وفي نظير ذلك انتشرت في الغرب التربية العلمية، وهي عادة توجد عند معتنقيها بناء الحياة على السبب والمسبب، فالحرارة تسبب امتداد الأجسام، والبرودة تسبب انكماشها، والمرض يصيب الإنسان لميكروبات أصابته، فإذا احتاط من هذه الميكروبات لم تنله، وإذا عُرفت فليعطَ المريض ما يشفي منها.
كل هذا سبب تواكلًا وتكاسلًا في الشرق، ونشاطًا في الغرب.
ومما يمثل الاعتماد على القدر حكاية يحكونها؛ أن رجلًا في قرية ضاعت فرسه، فذهب جيرانه ليعزوه، فقال لا تعزوني فليس أحد يعرف الخير من الشر، ثم وجدها، فذهبوا يهنئونه فقال مثل ذلك، ثم في يوم من الأيام ركب ابنه الفرس فوقع من فوقها فكسرت ساقه فذهبوا ليعزوه، فقال ذلك أيضًا، وصادف أن دخلت الأمة في حرب، فأخذ الملك يجمع الشباب الأصحاء ويقذفهم في الحرب فترك ابن الرجل، فذهب جيرانه يهنئون، فقال لهم «لا تهنئوني ولا تعزوني.» فهذه الحكاية تفسر فلسفة الاعتماد على القدر، وبناء على ذلك لا ينسب الشرقيون النجاح والفشل إلى شيء فيهم، إنما ينسبونه للقدر.
ويظهر أن كلًّا من الجانبين مسرف، فالاعتقاد بالقدر اعتقادًا صحيحًا لا يصح أن يمنع من العمل؛ لأن النتيجة مبنية عليه، وواضح أن العمل والمهارة والذكاء تسبب النجاح غالبًا وعكسها يسبب الفشل غالبًا. وعيب الإيمان بالسبب والمسبب أنه في بعض الأحيان تُتخذ كل الوسائل لنجاح المشروع في دقة زائدة ومهارة فائقة ثم يفشل ولا يُعرف السبب، وقد يكون مشروع لم يدرس مثل هذا الدرس ولم يقم به مثل هؤلاء الرجال الأكفاء، ثم ينجح مصادفة، وقد تكون أوراق اليانصيب مائة ألف أو أكثر، فيكسب الجائزة الأولى أحد الناس، وليس بأذكاهم ولا أمهرهم، وتعليل هذه الأحداث وأمثالها تعليلًا علميًّا صعب إن لم يكن مستحيلًا. فالطريقة المثلى إيمان بالقدر في حدود لا تمنع الجد والنشاط، والإيمان بالسبب والمسبب في حدود تجعل مجالًا للحظ والقدر، وهيهات أن يكون ذلك؛ لأن الناس جُبلت على الإفراط.
وتعجبني حكاية ظريفة قرأتها من قديم، وهي أن ملكًا ووزيرًا تناقشا هل هناك حظ أو لا، أنكره الملك وأقره الوزير، فلما طال الجدل بينهما قال الملك للوزير: أقم لي الدليل على وجود الحظ، فانتظر الوزير غياب الشمس، وألقى القبض على اثنين يسيران في الطريق، وأدخلهما في حجرة مظلمة، وكان أحدهما نشيطًا والآخر كسولًا، فأما النشيط فقام يتحسس ما في الحجرة فوجد وعاء فيه حب، فوضع بعضه في فمه فوجده حمصًا، ومن حين لآخر كان يجد حصًا يرميه للكسول، فلما أصبح الصباح وملأ ضوء النهار الحجرة ظهر أن هذا الحصا ماس، وتكشف الأمر عن نشيط أكل حمصًا، وكسول كسب ماسًا. فذهب الوزير إلى الملك فرحًا بما صادفه من برهان، فقال الملك قولة حكيمة: «آمنت بوجود الحظ ولكن بمقدار ما يوجد ماس في حمص في وعاء.»
فالمثل الأعلى رجل يبني حياته على السبب والمسبب، ولا يكفر بالقدر، ولكن لا يبني عليه شيئًا.
ونحن إذا قلنا إن هناك فرقًا بين الشرق والغرب في ذلك، فليس معنى ذلك أن كل شرقي بنى حياته على القدر البحت، ولا كل غربي يبني حياته على السبب والمسبب، ففي الشرقيين من يدينون بالسبب والمسبب ويبنون حياتهم عليهما، وفي الغربيين من يتكلون على الحظ، وإنما نقرر هذا المبدأ اعتمادًا على الأغلبية من الجانبين.