الحياة الاجتماعية
أكتب إليك من لندن … وليس فيها سكر ولا زبد ولا وقت فراغ ولا مكان هادئ تستطيع فيه أن تستجمع أفكارك أو تعرف نفسك، إني أعيش الآن بين رجال الأعمال الذين ليس لديهم الوقت للتفكير إلا في العمل … إن قلبي يبحث عن غذاء ولكن بلا جدوى، إني أحلم دائمًا ببلادي وما فيها من حياة سهلة بسيطة. إني لا أستطيع أن أفهم كيف يرضى القوم هنا أن يعيشوا في كل هذه القيود؟ … إنهم يضخمون الحياة من حولهم آملين في مستقبل أسعد، وإني أخشى على الشرق هذا الفيضان المادي الذي يأتي من الغرب فيفقد حكمته البسيطة التي هي الحق … هؤلاء الذين يعيشون ليمتلكوا كل ما هو مادي ثم يصبحون بعده عبيدًا لهذه المادة. القوة هنا للسلاح.
أما نحن فنبحث عنها في شيء آخر، هذا الشيء هو ملكنا لأنه ينبع من داخلنا، أما هؤلاء الذين يبحثون عن القوة المادية فهم لا يعرفون مقدار ما يفقدون. كيف يعرفون أنفسهم؟ ليس عندهم الوقت الكافي لكي يدركوا أنهم غير سعداء، حتى أوقات فراغهم إنهم يسرفون في قتلها في الملاهي أحيانًا وفي الرياضة أحيانًا؛ خوفًا من أن يعطوا أنفسهم وقتًا يجعلهم يكتشفون فيه أنهم غير سعداء، إنهم يخدعون أنفسهم، ولكي يبعدوا عن أذهانهم هذه الخدعة يضعون لأنفسهم مقاييس تناسب هذه الحياة التي يحيونها، فالثراء عندهم قوة لا تعادلها قوة، وقتل أعداء الوطن فضيلة لا تفوقها فضيلة، والفرد تِرس في آلة المجتمع.
الحياة هنا ضخمة، والرخاء مزدهر، لكن ليست الحياة في هذه الضخامة وهذا الرخاء ولكنها في البساطة والسهولة.
وتعجبني حكاية قرأتها تمثل الحياة الأوروبية وهي أن شابًّا قال للسيدة التي يقيم عندها «إني أصبح في الصباح لأغسل وجهي وأبدأ في حلق ذقني؛ وإذ ذاك أحفظ كلمات من اللغة الألمانية، ثم أجلس للفطور فأتعلم اللغة الإسبانية، ثم أذهب إلى عملي وهناك أقرأ اللغة الفرنسية.» وهكذا ظل يحكي لها ما يفعله منذ أن يصبح إلى أن ينام من تعلم لغات وأعمال وأنواع من الدراسات. فالتفتت إليه السيدة وقالت: «كل هذا حسن ولكن متى تجد نفسك؟»
هؤلاء الأوروبيون يعملون كثيرًا ويصرفون كل أوقاتهم في عمل ولكن متى يجدون أنفسهم؟ إن التأمل والتفكير والخلو إلى النفس والاستمتاع بسماع صوت الضمير مزية من مزايا الحياة الشرقية. قال أحد فلاسفة الصين عن الحضارة الأوروبية «إن الفاشية والشيوعية نتاج لنوع واحد من التفكير، فليس هناك أقرب إلى الشبه للعقل المتعصب لليمين من هذا العقل المتعصب لليسار، كلاهما يعبد القوة، ويقدس المنطق، وهما أصل الفساد. إن الرجل المنطقي مخطئ، وهو غير إنساني، إنما الرجل غير المنطقي فهو يقول دائمًا ربما أكون مخطئًا ولهذا فهو دائمًا مصيب. لعل أهم العوامل التي تصبغ أوروبا بالصبغة غير الإنسانية هو تفكيرها المنطقي في السياسة، والواقع أني لا أخاف من مبادئ الفاشية والشيوعية بالقدر الذي أخافه من الروح المنطقية التي يعلمون بها النشء، فيمزجون الفن بالدعاية والعلم بالوطنية والحكومة بالدين وحقوق الدولة بحقوق الفرد.
إن الحضارة الأوروبية لم تقدم للإنسانية إلا الصعوبات في الحصول على الطعام وإلا فما كل هذه المتاعب التي نجدها في الحصول عليه، في حين أن الحيوان نفسه لا يجد نصف هذه المتاعب؟ إن الأوروبيين أناس يرهقون أنفسهم في العمل ويفخرون بأن ليس لديهم وقت، إذن فماذا يملك أولئك القوم أن لم يملكوا وقتهم؟
يرى الصينيون تناقضًا كبيرًا بين كلمتي مشغول وحكيم، فالمشغول لا يكون حكيمًا والحكيم لا يكون مشغولًا، والحكمة لا تُصنع، وإنما هي تأتي من الوقوف عن العمل بعض الوقت للتأمل في الحياة.
ليس بضروري أن تكون شخصًا مهمًّا أو مفيدًا جدًّا، فالخنزير يذبح إذا زاد شحمه، ونحن نرى أن البلاد التي يزيد إنتاج أهلها تحطمهم الحروب، بينما يسعد الشرقيون بالارتخاء أحيانًا.»
طالما تمنى بعض الفلاسفة عالمًا يجمع بين ماديات الغرب وتأمل الشرق، وكان منظرًا جميلًا عندهم الإسكندرية في عصورها الأولى إذ جمعت بين تأمل الشرق وماديات الغرب.
ولكن من غير شك لا يزال الغرب يمتاز ببناء حياته على العلم بينما الشرق كثيرًا ما يبني حياته على الخرافات، وأحيانًا يسير في عمله حيثما اتفق من غير دراسة ولا بناء على نتيجة ثابتة.
الغربي يعلِّم أبناءه على ما اكتشف من قوانين التربية، ويتاجر على ما اكتشف من قوانين الاقتصاد، وهكذا وبينما لا يزال الشرق يعمل إما على قاعدة موروثة قديمة أو على وهم توورث أو حيثما اتفق، بدعوى الاتكال على الله، وكثيرًا ما يقولون «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمهتدون.»
ومن مظاهر الحياة الاجتماعية في الغرب ظهور أثر المرأة فيها، فهي زهرة المجالس وناشرة المرح فيها، والقيِّمة على بناء أخلاق أولادها بناء مؤسسًا على العلم كما ذكرنا، وهي التي تحمل عبء الرجال في أيام الحرب، وتشاركهم حمل العبء في أيام السلم. أما في الشرق فالحياة مظلمة لأنها حُرمت الاستضاءة بنور المرأة، ولم تحمل عن الرجل العبء في الحياة إلا في القليل النادر.
ومما يلاحَظ أن الروح في الغرب مرحة متفائلة مهما تكن العوائق ومهما تكن العقبات، والروح في الشرق منقبضة أميل ما تكون إلى الحزن، وربما يلاحَظ ذلك كثيرًا في الشبان الذين نرسلهم في بعثة إلى الغرب، فهم يظهرون بمظهر الحزن إلا إذا اختلطوا طويلًا بالغربيين، فإذا عادوا إلى بلادهم عادوا إلى عادتهم، وربما كان ذلك نتيجة للظلم والاستبداد اللذين لاقوهما من الحكام، ومن تسلط الطبقة العليا على الطبقة السفلى. قد تعجب من غناء الشرقيين وحبهم للموسيقى وحبهم للنكات وغرامهم بالفكاهات، ولكن لعل ذلك كله مما تدعو إليه الطبيعة للتعويض عما هم فيه من البؤس؛ ولذلك ترى أبأس الناس أحبهم إلى هذه الضروب من التسلية.
يضاف إلى الفروق ما تُخلفه الأديان المختلفة من نتائج مختلفة، فيفشو في الشرق الدين الإسلامي، ودين كنفوشيوس في الصين، والبوذية في الهند وغير ذلك، ويفشو في أوروبا الدين المسيحي، ولا شك أن كل دين من هذه الأديان يطبع أتباعه بطابع خاص. وكذلك اللغة لها تأثير عظيم في الأمم، فلغات الشرق لها أثرها كذلك، ومن هذا القبيل الأدب، فلكل أدب طبيعة خاصة ناشئة من بيئته، ولكل لغة وأدب أثر في الأمة غير أثر الآخر، أذكر أني كنت في مجلس الجامعة مدة سنين وكان في المجلس مصريون وإنجليز، وكانت المناقشة تدور أحيانًا باللغة العربية وأحيانًا باللغة الإنجليزية، فإذا تناقشنا باللغة العربية كثر الاستطراد والخروج من باب إلى باب، وإذا كان الكلام باللغة الإنجليزية قَل الاستطراد وانحصر الكلام في الموضوع. وكثيرًا ما رأينا أن الرجل قد يكون شاعرًا باللغة العربية وباللغة الفارسية معًا؛ فإذا شعر باللغة العربية كان ذلك على نمط خاص، وإذا شعر باللغة الفارسية كان على نمط آخر، وإذا كان هذا في أمتين شرقيتين فكيف بأمة شرقية وأخرى غربية؟ ويظهر ذلك حتى في الأشياء الدقيقة جدًّا، فغرام اللغة العربية بتقديم الفعل على الفاعل في الجملة إلا في القليل النادر، وغرام الإنجليز بتقديم الفاعل على الفعل إلا في القليل النادر لا يخلو من سبب عميق.
أضف إلى ذلك أن الحياة الاجتماعية لكل أمة تتأثر إلى درجة كبيرة بتاريخها من ظلم أو عدل، ومن استسلام أو مقاومة، ومن انتصار في الحروب أو انهزام. ثم إن الأمم قد تُرزق بزعماء أقوياء يغيرون مجرى التاريخ، بينما أمة أخرى لم تُرزق هذه الزعامة فيسير تاريخها على نمط واحد، ومن ثم ترى الفروق واضحة بين الأمتين. لقد غيَّر بيكون مجرى التفكير العلمي، وغير روسو وفولتير نمط الأمة في الاستسلام، وغير كرومويل عادة الخضوع للملوك، وهكذا فوجود الزعماء في أمة دون أخرى مما يسبب الفروق بين الأمتين.
ومما يلاحظ أن الشرق كان إلى عهد كبير لا يشعر بحقوقه ولا واجباته، فلما ارتقى وعيه شعر بالحقوق أكثر مما شعر بالواجبات، وهذا طبيعي؛ لأن الحقوق مطالب والواجبات تكاليف، والمطالب ألذ من التكاليف، وربما كان أمرًا طبيعيًّا في الأمم أن الشعور بالحقوق يسبق الشعور بالواجبات. ولعل من أهم الفروق الاجتماعية الحالة الاقتصادية، فمتوسط دخل الفرد في الغرب أكثر من متوسط دخل الفرد في الشرق، وما يخص العائلة الأوروبية أكثر مما يخص العائلة الشرقية خصوصًا مع سيرهم على مبدأ ضبط النسل. وللحياة الاقتصادية أثر كبير في الأسرة والأفراد. فالأسرة التي يكثر فيها الدخل أو يعتدل تستطيع أن تعيش عيشة اجتماعية أرقى وتتعلم تعليمًا أرقى وتفهم حقوقها وواجباتها فهمًا أرقى، وتستطيع أن تعيش عيشة أصح وهكذا؛ لأن المال عصب الحياة، وأعطني مالًا أعطك علمًا وصحة وتمتعًا بكل مرافق الحياة.
والآلة الحكومية في الشرق مصابة بالعقم والبطء، والفوضى والمحسوبية وكثرة الجدل، إذا طلبت طلبًا في أمر من الأمور نام نومًا عميقًا مدة طويلة ما لم تسعَ وراءه سعيًا حثيثًا بشتى الوسائل، فقد بنوا سيرتهم على مبدأ عدم الثقة، فالعمل البسيط لا يمر بسهولة بل لا بد من مراجع ومراجع للمراجع حتى ينتهي إلى الرئيس، وذلك لكثرة ما حدث من الخيانة، ومع كل هذا التشديد لم يسلم الأمر من وقوع خيانات تُكشف الفينة بعد الفينة. يضاف إلى ذلك الهرب من المسئولية، فكل يريد أن يلقي العبء على غيره ليخلص نفسه مهما سبب ذلك من تعطيل، وعندي أن من الخير بث الثقة بين الناس وبناء الأعمال على هذه الثقة ولو ضاع بذلك ملايين الجنيهات. إنه من الخير — مثلًا — أن نبيح القراءة في المكاتب من غير تقييد ولو ضاع من أجل هذه الحرية كتب بعشرين أو خمسين جنيهًا في العام.
نعم إن في الغرب بعض هذه العيوب ولكنها لم تبلغ جسامتها في الشرق، وتاريخها يدل على أنها مرت بالدور الذي يمر به الشرق ولكن الغرب تخلص من كثير من رذائلها.
كذلك يفضُل الغربيون الشرقيين في العناية بالنظافة ولو ظاهرًا، نظافة الأكل ونظافة المسكن، وإذا رتبنا الدول الشرقية في العناية بالنظافة ربما عددنا لبنان أولها ثم سوريا ثم العراق ثم مصر ثم إيران.
•••
ودين الشرقيين أعمق في نفوسهم، ويكاد يتغلغل في جميع أعمالهم وتصرفاتهم، بينما الدين عند أكثر الغربيين يكاد يكون ظاهريًّا فقط، وكما قال أحدهم إن أكثرهم يذهبون إلى الكنيسة كما يذهبون إلى التفرج على لعب الكرة أو سباق الخيل.
يفهم الغربيون من منطق الحوادث غير ما يفهمه الشرقيون؛ ولذلك تختلف تصرفاتهم وسلوكهم أمام الأحداث. ويحتاج كثير من الغربيين إلى شرقي يشرح لهم وجهة النظر الشرقية في بعض تصرفهم. أذكر أني قرأت لأستاذ صيني الفرق بين الفلسفة الشرقية والغربية، قال إن الفلسفة الغربية أعمق والفلسفة الشرقية أقرب إلى الحياة، فمثل الفيلسوف الغربي مثل الغواص، ومثل الفيلسوف الشرقي مثل العوام الذي يحتاج كل حين أن يطفو إلى السطح.
وهناك فرق آخر وهو أن فلسفة الغرب أقرب إلى التخصص حتى لقد لا يعرف الفيلسوف في مادته شيئًا عما تخصص فيه الآخر، والفلسفة الشرقية أقرب إلى التعميم.
ويذكرني هذا بقصة طريقة: أن عائلة ملكية انهارت فذهبت طهاتها وخدمتها كل مذهب فوقع أحد الطهاة في نصيب أحد الرعية، فظن أنه يتقن الطهي إلى أقصى حد؛ إذ كان طاهيًا عند الإمبراطور، ودعا يوم بعض أصحابه ليأكلوا أكلًا ملوكيًّا، ونادى الطاهي وأخبره الخبر فقال: «لا يمكنني ذلك …» فقال الداعي: كيف وقد كنت طاهي الإمبراطور؟ قال: إنني كنت أحد طهاة فرقة وظيفتها أن تقطع البصل لمن يعملون السلطة!
لا يحب الشرقيون المغامرة كما يحبها الغربيون، فالشرقيون ألصق بالأرض، وإذا نُقل موظف من بلدة إلى بلدة أخرى بعيدة عنها عُد هو وأهله ذلك كارثة، وأكثروا من البكاء والعويل. ومن الغريب أن ذلك معروف أيضًا في تاريخ قدماء المصريين. على حين أن الغربي مغامر في تسلق الجبال وعوم الشلالات والقيام بالرحلات التي يكشف فيها جديدًا، أو يتعلم منها جديدًا، وكل يوم نسمع عن عبور بحر أو اكتشافات في مناطق مجهولة أو نحو ذلك.
وربما عُد من أسباب ذلك أن الشرقيين لم يكونوا حربيين في زمن طويل، والسلم يستلزم الإقامة، والحرب تستلزم البعد والاستهانة بالأرواح، وهما أساس المغامرة، وأذكر وأنا موظف في وزارة المعارف، أني كنت أرجى كثيرًا من مدرسين للانتقال من مدرسة في حي من القاهرة إلى مدرسة أخرى في حي آخر فيها ليكون بجوار بيته، وكنت أعجب من هذه الروح كل العجب.
ومن الغريب أيضًا أن يعد المصريون النقل من بلد إلى بلد بعيد كقنا وأسوان عقوبة من العقوبات على الموظف الذي أساء، حتى إن بعض المديريات السحيقة تئن بالشكوى مما فيها من موظفين نُقلوا إليها لسوء سيرتهم وارتكابهم الجرائم.
وقد شهد القرن الثامن عشر والتاسع عشر انتقال الشرق من حياة العصور الوسطى إلى حياة حديثة في كل شيء، وتكشف ذلك عن انحلال النظم الاجتماعية، والروابط العائلية القديمة، وانهارت السلطة الأبوية في الأسرة، وتداعى النظام الإقطاعي، بتأثير العوامل الاقتصادية والثقافية الغربية الجديدة. ونزلت عن مكانتها الطبقة الأرستقراطية وتقدمت الطبقة المتوسطة، وخصوصًا فئة الصحفيين والمحامين، وانتقلت القوة إلى الطبقة المتوسطة في تركيا ومصر، وتغلبت على البلاط؛ لأن الطبقة المتوسطة كانت أكثر وطنية. وفي تركيا تكونت سنة ١٩٢٣ الجمعية الوطنية من موظفين سابقين منهم ٤٩ ضابطًا سابقًا و٥٠ من رجال المحاماة والصحافة و١٨ من رجال الدين، يمثلون الطبقة المتوسطة، وفي مصر تكونت الأحزاب الوطنية من اتحاديين يمثلون البلاط، وأحرار دستوريين يمثلون طبقة الأعيان، والوفد ويمثل الطبقة الوسطى والعمال والفلاحين، وحاول السياسيون إحياء شعور الفلاحين أكثر من محاولتهم إدخال الوسائل الزراعية الحديثة عندهم، وأكثر من إيصالهم إلى درجة مرضية لمحو الأمية.
وفي ثورة سنة ١٩١٩ اشتركت المرأة في الحركة السياسية وترتب على ذلك أن طالبت بحقوقها، وأنشئت لها جمعيات متعددة، وقد نالت بعض مطالبها، كتحديد سن الزواج وتقييد الطلاق، وقام الشباب بحركات حماسية قوية تطالب بالإصلاحات السياسية والاجتماعية.
والتطور اليوم في الشرق على أشده؛ تمتزج فيه السياسة بالاجتماع بالاقتصاد، كما كانت أوروبا منذ مائة عام.