الحياة الاقتصادية في الشرق والغرب
طبيعة الزراعة في الأرض تقتضي علاقة قوية بين مالك الأرض وزارعها، قد يكون المالك هو الزارع ولكن في كثير من الأحيان يكون المالك غير الزارع، وقد أدى التطور التاريخي في الشرق إلى وجود طبقة كبيرة يملكون مساحات واسعة يعمل فيها كثير من الفلاحين على نظام إقطاعي أو شبه إقطاعي. ومن النظم التي كانت متبعة في بعض الأقاليم نظام الالتزام، فيلتزم شخص دفع مال محدد للحكومة ثم هو يستغل الفلاحين كما يشاء، فكان شره الملتزم يدعوه إلى أن يمتص دماء الفلاحين إلى أقصى حد مما استتبع فقر الفلاح وانحطاطه ووقوعه في الديون المرهقة، وخلف الملتزمين طبقة الأعيان تعمل عملهم وتستغل استغلالهم، وكثيرًا من هؤلاء الأعيان يهجرون الريف ويسكنون المدن في حياة بذخ وترف ولا علاقة لهم بالأرض إلا أخذ الأموال منها.
ودخل الفلاح العادي قليل جدًّا، فالأسرة الفلاحة المتوسطة تزرع في أرض تبلغ نحو أربعة أفدنة، تصرف عليها في تقاو وسماد وأكل بهائم ودفع إيجار ما لا يقل عن ٨٠ جنيهًا، وربما كان المحصول يساوي ٩٠ أو مائة جنيه فيكون دخل الأسرة من عشرة إلى عشرين جنيهًا في السنة بل قد يكون أقل من ذلك، وهو مبلغ لا يسمن ولا يغني من جوع.
وكثيرًا ما يتسع بعض الشيء في نفقته أو يشتري بعض الأرض بالدَّين بفائدة باهظة تأتي على كل ما في يده.
والمبدأ المثالي هو أن تكون الأرض ملكًا لمن يزرعها، أما أن تكون ملكية الأرض لشخص ويزرعها آخر — كما هو شأننا في الشرق، فنظام فاسد، إذ يُمنح صاحب الأرض قسمًا كبيرًا من دخلها دون أن يقوم بعمل أو جهد شخص سوى شراء الأرض أو إرثها، والاستيلاء على المال الكثير من غلة الأرض دون أن يعمل شيئًا. ثم إن الفلاح إذا شعر أن أغلب مجهوده لغيره قَل نشاطه، وأضمر الحقد للمالك، ثم لا يبذل الجهد الكبير لإصلاح الأرض؛ لأنه يعلم أنه سيخرج منها عاجلًا أو آجلًا.
وكذلك من المبادئ العادلة ألا يملك إنسان أرضًا أكثر مما يلزمه في معيشته.
وكلما اتسعت مساحة الأرض سهل استعمال الآلات الحديثة؛ ولذلك يمكن انضمام صغار الفلاحين إلى نقابات تزرع وتحرث فتكون الملكية لأعضاء النقابة جميعًا يملكون أسهمها على الشيوع.
•••
هذا عن الزراعة، أما الصناعة في الشرق فقد ظلت على حالها في القرون الوسطى، ثم انحط شأنها، وفي أوائل القرن الثامن عشر كانت مقتصرة تقريبًا على الصناعات البدائية، كالنجارة وصناعة الأقفال، وصناعة الأسلحة البدائية. قال من يصف الصناعة المصرية في عهد نابليون «إن الصناعة قاصرة على الأدوات التي تستعمل في الحياة اليومية، ويقنع في تغذية الأرض بطمي النيل والرمل؛ ولذلك هبط جدًّا عدد العمال بالنسبة للفلاحين وراجت جدًّا السلع الأوروبية المنافسة للصناعة المحلية، وانهارت أثمان الصناعات المحلية لرخص أسعار السلع الغربية، وأدى ذلك إلى فقر السكان فقرًا مطردًا، وحتى البلاد الشرقية التي كانت تمتاز ببعض الصناعات كالنسيج في مصر ودمشق، انهارت صناعتها أمام البضائع الأوروبية الرخيصة، إذ شتان بين صناعة تقوم على الآلات وصناعة تقوم على الأيدي، وكل الأعمال التي كانت تتطلب القوى المحركة كانت تعتمد على قوة الإنسان لا على قوة البخار والكهرباء. وكانت رءوس الأموال اللازمة للصناعة قليلة وفي الأغلب فردية. ثم إن العمال ضعيفو الأجور كالفلاحين لا نقابة لهم ويخضعون لتقاليد آبائهم في الصناعة والعمل.»
وربما عدت حركة محمد علي أول محاولة في الشرق للنهوض بالصناعة، فقد احتكر التجارة وأنشأ الصناعات، واستقدم الخبراء من الأجانب، ولم يضن عليهم بالمال، وأسس الورش الصناعية. وتقدم إليه أحد المهندسين الفرنسيين باقتراح استنبات القطن وإنشاء مصانع له؛ فكان ذلك انقلابًا كبيرًا وإن كانت مصر تعرف القطن من قديم، وقد أخضع هذه الصناعة لمشروعاته العسكرية، وسار هذا التصنيع من مصر إلى بلاد الشرق الأخرى، ولكن لم تأتِ الصناعة في عهد محمد علي بما كان مرجوًّا منها، إذ كان الناس يهملون الآلات، ويديرونها إدارة سيئة، حتى إن بعض الآلات كانت تُدار بالثيران. ولم يقبل الناس إقبالًا كثيرًا على الصناعة باختيارهم، فكان أحيانًا يأتي بالجنود ليقوموا مقام العمال. وكثير من الأوروبيين سجل فشل محمد علي في التصنيع. يضاف إلى ذلك محاولة الأوروبيين إفشال هذه الصناعات ترويجًا لسلعهم، وتحقيقًا لمصالحهم؛ لأن الشرق على العموم سوق هامة لمنتجات المصانع الأوروبية، وكثيرًا ما تدخل الأجانب ليثقلوا كاهل الصناعات الشرقية، حتى تموت بتعرضها للخسارة.
ولما كثر احتكاك الشرقيين بالغربيين، وزاد وعي الشرقيين القومي، عمدوا إلى وسائل للاستقلال السياسي والاستقلال الصناعي، خصوصًا وقد كان عدد كبير من الصناع الأوروبيين يعمل في شركات كبيرة في الشرق، فتعلموا منهم الصناعة والإدارة الصناعية، وقام في الشرق نظام صناعي حديث.
- الأول: قيام الحرب العالمية الأولى وانقطاع الصناعات الأوروبية تقريبًا عنهم، فعمل الشرق على أن يكتفي بنفسه.
- والثاني: سهولة المواصلات التي مكَّنت من بيع السلع في الأسواق.
ثم إن رأس المال الأجنبي كثر واستُخدم في الصناعات في البلاد الشرقية، وقد أمن الأجانب على أموالهم لاطمئنانهم إلى المحاكم المختلطة، فوجدت مصانع القطن والسجاير والأقمشة إلى غير ذلك.
وحلت الصناعات الحديثة التي تعتمد على الآلات محل الصناعات القديمة التي كانت تستخرج باليد، وبدأنا نشعر في الشرق بطبقة تعيش على أسلوب جديد من الحياة وهي طبقة العمال، وبدأت تظهر في الشرق مشاكل العمال، وبدأنا نسمع بإضرابهم وضغطهم على أصحاب رءوس الأموال لينزلوا على حكمهم ويرفعوا أجورهم ويحددوا ساعات العمل لهم، وسار العمل في التصنيع سير الشرق في المطالبة بالاستقلال، فلما انتهت الحرب العالمية الأولى تبين أنهم يستطيعون أن يكفوا أنفسهم بأنفسهم، فزادوا قوة في التصنيع.
ومما زاد الصناعة قوة؛ ازدياد عدد السكان، وإمكان تصريف السلع، وتشجيع الصناعة المحلية بفرض ضرائب كبيرة على الواردات الأجنبية، ومنحت بعض الدول امتيازات لمن يقومون بالصناعة تشجيعًا لها، كمنح الأراضي لإقامة المصانع عليها مجانًا، والإعفاء من الضرائب والرسوم الجمركية على المواد التي تشجع الصناعة وهكذا. وأفاد الشرق ما لديه من مواد أولية كثيرة غذَّت الصناعة، كالقطن والصوف وقصب السكر والمعادن الأساسية كالحديد والفحم ومساقط المياه.
وإذا قارنَّا بين الشرق منذ خمسين عامًا وبينه اليوم؛ أدركنا مقدار ما قطعه من تقدم، ولكن ما زالت الصناعة الغربية أكثر إتقانًا وتزويقًا، والصناعة الشرقية ينقصها التجميل الأخير.
وقد نتج عن التصنيع تجمع العمال وكثرتهم، وسرعان ما ارتقى وعيهم القومي وإدراكهم، فألَّفوا النقابات تطالب بحقوقهم ورفع مستوى معيشتهم. وكثيرًا ما تملقت الأحزاب هؤلاء العمال وأغدقت عليهم الأموال لاستمالتهم، وقد أدى كل ذلك إلى تحسن مركزهم الاجتماعي، والإصلاح من شئونهم الصحية والتعليمية إلى حد ما؛ حيث لم يجد الفلاح شيئًا من ذلك.
•••
والتجارة في الشرق كانت بدائية كبدائية الزراعة والصناعة، فكان التاجر حرًّا تمام الحرية في أن يربح كما يشاء من غير تدخل من الحكومة، فهو يشتري السلع بأرخص الأثمان ثم يبيعها بأغلى الأثمان. وكانت وسائل النقل كذلك بدائية، على ظهور الجمال أو نحوها، وهو في ذلك يتعرض لأخطار كثيرة فكان يبالغ في الربح نظير هذه المخاطر. وترك التجارة حرة من غير إشراف من الحكومة يعرِّض البلاد لأضرار كثيرة، وقد رأينا في الأيام الأخيرة من جشع التجار ما اضطر الحكومة إلى التسعير الجبري والحد من حرية التجارة.
والتاجر إذا كان ذا رأس مال قوي احتكر سلعة أو سلعًا وتصرف في أثمانها كما يشاء، وهو لا ينظر في تجارته إلى ما تحتاج إليه البلاد وما لا تحتاج إليه، إنما غرضه الأول هو زيادة ربحه.
ويصور لنا كتاب ألف ليلة وليلة صورة لطيفة للتجار والتجارة في بغداد في القرون الوسطى، وكيف كانت الأسواق التجارية والدكاكين واتخاذها ندوة في النهار وسامرًا في الليل مما بقي في البلاد الشرقية إلى عهد قريب، وكيف كانت تقدَّم فيها القهوة، ويتكلم فيها في كل شيء، وتكون هذه الندوات سببًا في عقد زواج، أو وقوع طلاق، ولم يزَل ذلك كله إلا بدخول المدنية الحديثة وتقليد الأوروبيين في نظمهم وعاداتهم.
•••
هذا كله في الشرق، أما في الغرب فقد حصل فيه انقلاب في كل هذه الأمور: ففي الزراعة اتجهت البلاد الأوروبية إلى أن تسد حاجاتها بنفسها، ثم إلى استخدام العلم لإمكان استغلال الأرض أكبر استغلال ممكن، فاستخدموه في التسميد وتحليل الأرض ومعرفة ما تصلح له من أنواع الزرع والعناية بالحرث وطرق الصرف، والعناية بالمواشي بتربيتها والمحافظة على سلامتها من الأمراض.
أما تقدم أوروبا في الصناعة، فكان أكبر، فبعد أن كانت الصناعة عنصرًا ثانويًّا للإنتاج بعد الزراعة أصبحت هي العنصر الأول، وتحول كثير من أهل القرى الفلاحين إلى الصناعة. فلما اجتمع العمال في مكان واحد انتشرت بينهم المبادئ التي جعلتهم يطالبون بحقوقهم ويضربون لتحسين حالتهم، وساعد على نمو الصناعة اختراع الآلات العديدة، كآلات الغزل والنسيج وآلات لصهر الحديد والصلب وغير ذلك، فزاد عدد العمال وزاد نتاج الآلات. كما اخترعت آلات لاستخراج الفحم وصهره واستخراج ما في البلاد من مناجم أخرى، وكان من نتاج ذلك كله ازدياد الثروة وتحسن حالة الأهالي، وساعد على ذلك أيضًا إصلاح وسائل المواصلات وطرقها.
ونظم الأوروبيون تجارتهم، ففتحوا لها أبواب العالم ونشروها في كل مكان.
وعلى العموم كان من أثر التحول من الزراعة إلى الصناعة تغير النظريات الاقتصادية، فظهر علماء في الاقتصاد بحثوا المسائل الاقتصادية وجعلوا الاقتصاد علمًا، وأخضعوا التجارة لما وصلوا إليه من بحث.
وكذلك كان الأمر في أمريكا فاعتمدت أول أمرها على الزراعة، ثم تحولت إلى الصناعة ثم وضعت خططها الاقتصادية للسيطرة على العالم.
وكان لهذا كله أثر كبير في النظام السياسي وفي أخلاق الشعوب، فلما كان اقتصاد البلاد يقوم على الزراعة كان الحكم يقوم على المزارعين وأصحاب الضياع والإقطاع، فلما تحولت البلاد إلى الصناعة كان لظهور طبقة من الناس تمول المصانع وتشتري الآلات وتستورد المواد الخام، وكان لتكوُّن الشركات انعكاس في الحكومة.
ولما تحول الفلاح إلى صانع وزاد دخله ارتقى وتمكن من إصلاح مسكنه وتربية أولاده وترقية معيشته. كما أن اتساع التجارة وتنظيمها خلقا طبقة من التجار لها نفوذ على الحكومة ونوع سيرها.
من هذا يظهر الفرق الكبير بين الشرق والغرب في هذه الأمور الثلاثة، الزراعة والصناعة والتجارة التي هي عماد الحياة، فنراها بدائية كلها في الشرق، متقدمة في الغرب، ونشأ عن تقدمها في الغرب رقي الحياة الاجتماعية، فهي إذا تقدمت في أمة غلبت الفقر، وإذا تغلبنا على الفقر تغلبنا على المرض والجهل والذل. أما في الشرق فلما كانت بدائية حالفها الفقر غالبًا، واستتبعه المرض والجهل غالبًا، وربما كان كثير من الفروق التي ذكرناها في أبواب مختلفة ترجع إلى الاختلاف في هذه الأمور الثلاثة.
ولا يفوتنا هنا أن التقدم الزراعي والصناعي والاقتصادي في أوروبا لم يكن إلا وليد القرن الثامن عشر والتاسع عشر، أما قبل ذلك فكانت حالة الغرب فيها أشبه بحالة الشرق، مما يؤيد ما قلناه من أن المسألة تغير في الظروف وارتقاء درجات في السلم.
وقد مر دور طويل كانت سياسة الغرب فيه نحو الشرق منعه من استغلال موارده وتحسين صناعته، حتى يظل فقيرًا يعتمد في حياته كلها على نتاج الغرب، ولم يصنِّع الشرق نفسه ويحسِّن بعض الشيء حالته الاقتصادية إلا بعد كفاح. وأذكر أن اللورد كرومر غاظه إنشاء مصنع في مصر لصنع البفتة؛ لأنها تؤثر على سعر البفتة المستوردة من أوروبا، وفرض على المصنع ضريبة كبيرة اضطرته إلى الإغلاق، ولولا وجود اقتصاديين سلكوا كل السبل الممكنة وجاهدوا جهادًا كبيرًا، لما أمكن تحويل بعض البلاد من زراعية بحتة إلى زراعية صناعية، وخير مثل لذلك ما فعله طلعت حرب في مصر.
وفي البلاد الشرقية والحمد لله ثروات كبيرة موفورة، لا تحتاج إلا إلى العلم والنشاط في استخراجها، كم من الفلاحين ينفقون قليلًا من وقتهم في مواسم الزراعة، ثم هم كسالى في سائر العام، لو علِّموا أن يستخدموا فراغهم في تربية الدواجن وتربية النحل وتربية المواشي وفي سائر الصناعات الزراعية لزادت ثروتهم وتضاعفت، ثم بعد ذلك تتحسن حالتهم الاجتماعية والأخلاقية. وكذلك لو استطعنا أن نوفق بين نتاجنا الزراعي وصناعتنا وعرفنا كيف نغزل القطن وننسجه على شكل واسع يستغرق أكثره، وعرفنا كيف نستخدم البترول في صناعاتنا الواسعة لكانت الثروة مضاعفة؛ ولا يكون ذلك حتى تعم في البلاد نظم النقابات التعاونية على أسس سليمة.
والعلاقات الاقتصادية آخذة في التغير والاتجاه نحو إفساح المكان الأول للصناعات الوطنية، والاجتهاد في تقليل استيراد البضائع من الغرب ما أمكن ذلك. ومنذ سنة ١٩٢٧ بدأت الصين كفاحها ضد التجارة الغربية، فوضعت تعريفة جمركية خاصة بها، كما فعلت الهند. وفي سنة ١٩٣٠ وضعت مصر تعريفة جمركية كذلك لتحمي منتجاتها المحلية، وكان مظهر الهند في التحرر الاقتصادي في الخمسين سنة الماضية مظهرًا واضحًا. أما اليابان فكانت أكثر بلاد الشرق تقدمًا في الصناعات، وغمرت التجارة اليابانية الأسواق لرخصها تبعًا لرخص عمالها.
وبدأ قادة الشرق يفهمون أن التحرر السياسي بدون التحرر الاقتصادي لا يكون إلا نصف النجاح، وقد اتخذ التحرر الاقتصادي في الشرق شكلًا إيجابيًّا وشكلًا سلبيًّا، فالشكل السلبي كان مقاطعة البضائع الأجنبية، أو التقليل منها، وبدأت المقاطعة في الهند سنة ١٩٥٠، وقد تعلم منها الشرق كله هذا الدرس، وأما الشكل الإيجابي فالتوسع في التصنيع، ومما ساعد عليه تأسيس البنوك المحلية في بلدان الشرق، وقد استطاعت هذه البنوك أن تتبنى كثيرًا من المشروعات العامة، على أن دول الشرق قد تفاوتت في نسبة رءوس الأموال الوطنية المساهمة في بنوكها.
وعملية النقل الاقتصادي في الشرق أصبحت مستطاعة بفضل تقدم المواصلات والنقل، فبفضلها فُتحت أسواق جديدة لم يكن يُعرف عنها شيء كثير، وقد غزت المواصلات ووسائل النقل الشرق كله بعد الحرب العالمية الأولى، وكان من أهمها السيارات والطيارات، فقد سهلت الانتقال إلى أماكن سحيقة لم يكن من السهل الوصول إليها، وقد نجحت السيارات والطيارات في الشرق نجاحًا كبيرًا لقلة الخطوط الحديدية ولتفرق السكان في أفريقيا وأواسط آسيا تفرقًا شديدًا، وفي جزيرة العرب سهلت السيارات والطيارات، لا السكك الحديدية، سُبل التجارة. كان في الحجاز سنة ١٩٢٦ أربع سيارات للعائلة المالكة فأصبح في سنة ١٩٢٩ ألف وخمسمائة سيارة زاحمت الجِمال مزاحمة جدية، وكذلك الشأن في صحراء الشام وصحراء بغداد.
•••
وقد بدأت الحركة العمالية تتطور في الشرق في القرن الأخير وزادت مكانة العمال في المجتمع، ولعبوا دورًا هامًّا في تاريخ الشعوب، واضطرت الحكومة أن تتدخل لفض النزاع بين العمال وأصحاب رءوس الأموال، وكوَّن العمال لأنفسهم نقابات، بل إنهم كثيرًا ما يخرجون عن النقابات نفسها ويفرضون مطالبهم ونظمهم فرضًا؛ حتى اضطروا أصحاب رءوس الأموال إلى أن يتحولوا عن موقفهم، وكل يوم نسمع اضطرابًا جديدًا قد ينتهي بثورة عنيفة. وتكوَّن اتحاد دولي للنقابات في هيئة الأمم المتحدة سنة ١٩٤٧ مطالبًا المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالعمل السريع على إقرار الضمانات الكافية لتمتع العمال بحقوقهم النقابية على اعتبار أن هذه الحرية تدخل في باب الحريات التي يكفلها مجلس إدارة هيئة العمل الدولية، وفي سنة ١٩٤٩ أقر مؤتمر العمال الدولي الاتفاقية الخاصة بالتنظيم النقابي؛ وهي تضمن أن يباشر العمال حقوقهم في تأليف النقابات ومزاولة نشاطهم من غير تدخل من جانب أصحاب الأعمال، وبلغ عدد الدول التي انضمت إلى هذه الاتفاقية إحدى عشرة دولة في أول مارس سنة ١٩٥٣، ولا يوجد من بينها دولة من دول الشرق الأوسط إلا تركيا.
وكان مما له أثر كبير على حياة الشرق إقراره تطبيق قوانين العمال على عمال الزراعة، وكان من أثر ذلك رفع أجورهم المنحطة خصوصًا في بلاد لا تزال الزراعة غالبة على أمورها الاقتصادية. وقد بلغ عدد نقابات العمال الزراعيين في مصر وحدها منذ صدور قانون النقابات الجديد سنة ١٩٥٣ ثلاثين نقابة، تضم نحو ستة آلاف عامل، وإذا قدر لها النجاح ازدادت تقدمًا وتزايد عددها.
•••
وأمر آخر هام يفرق بين الشرق والغرب؛ وهو أن الشرق على العموم لم يضع حدًّا فاصلًا بين الاقتصاد والأخلاق. بل هو أخضع الاقتصاد للأخلاق، وعلى ذلك سار الإسلام، فحرَّم الربا، وحرم الوصية لوارث لأنهما يضران ضررًا أخلاقيًّا، وعلى هذا أيضًا وضع غاندي فلسفته الاقتصادية، فمن مزجه الاقتصاد بالأخلاق وضع جملة مبادئ، وهو لم يكن يؤمن بالنظريات الاقتصادية التي تسود أوروبا، ولا بالنظرة الأوروبية المبنية على المنافسة والتي ترمي إلى جمع الأموال والإكثار من البضائع، والتي كان المال لديها الخير الأعلى والإله المعبود.
أما النظرة الأوروبية فليست غايتها سعادة الجميع؛ وإنما غايتها مضاعفة المال بأية وسيلة كانت، وقد سبَّب هذا الفصل بين الاقتصاد عن الأخلاق أضرارًا جسيمة من فقر مدقع بجانب غنًى شديد، واستغلال واستعمار وبطالة وحروب مما جعل المدنية الحديثة في خطر.
كان غاندي يرى أن الإنسان أرفع شأنًا من المال، فيجب أن لا يستعبده المال، وقد قال «إن النظريات الاقتصادية التي تبعث على اغتيال قطر آخر واستغلاله، وتتوخى جرح عواطف الشعوب، وفرض سلطانها عليهم بقوة، ليست بفاسدة فقط بل هي محرمة أيضًا، وإن قيمة الصناعة يجب أن لا تقاس بالربح الذي تربحه الشركات بل بأثرها في حياة الناس وأخلاقهم وأرواحهم.» وهو يعتقد أن الأزمة الحاضرة في العالم ليست عسكرية ولا سياسية ولا اقتصادية بل هي أخلاقية، ومن رأيه البساطة في العيش وتحديد حاجات الإنسان ما أمكن، فليست السعادة عنده في كثرة الحاجات والتمتع بها، إنما هي في المعيشة البسيطة مع التفكير العالي، كما كان يقول الرواقيون من قبل، وذلك لأن الطموح إلى الرفاهية والاستكثار من الحاجات ساقا الناس إلى الجشع، وإلى الحروب والهلاك.
ومن مبادئه أيضًا أن الإنتاج يجب أن يكون للاستهلاك لا للربح. إن الإنتاج في النظام الرأسمالي أساسه الربح، فإذا لم يكن هناك ربح فلا إنتاج، ولا بأس عنده أن يجوع من الناس من يجوع ويموت من يموت، وتعدم السلع إعدامًا إذا لم يمكن بيعها بربح.
ولذلك لا بأس عند الرأسماليين من أن يصاب العالم بالحرائق والزلازل والحروب إذا كان كل ذلك يؤدي إلى تصريف البضائع بربح. كان غاندي يرى هذا ضد الأخلاق وضد الإنسانية. على أن غاندي لم يكن يذهب مذهب الاشتراكيين في السعي إلى وفرة الإنتاج حتى تتوافر الرفاهية للجميع؛ فإن رفاهية الإنسانية وسعادتها في رأيه ليست بوفرة الإنتاج بل بتحديد المطالب والحاجات الإنسانية.
وهو أيضًا يقول بتقدير العمل وتقديسه، ويرى أن العمل هو الثمرة الطبيعية للطبع السليم، وكان يُجل على الخصوص العمل اليدوي ويكره الكسل ويعده ألد أعداء الإنسان، فدعا شعبه إلى احترام العمل اليدوي، وكان هو نفسه يزاوله.
وكان يكره الآلات الهائلة والمصانع الكبيرة ويطلب الحد منها، ومع ذلك كان يرحب بالآلات الصغيرة التي توفر مجهود الإنسان غير الضروري، وتنجد عددًا غير قليل من الناس، كآلات الخياطة والنسيج. وقد دعاه إلى ذلك ما رآه من تجاوز عدد العاطلين في الهند السبعين مليونًا وكان يعتقد أن الآلات الكثيرة تزيد عدد العاطلين، فدعا إلى تشجيع الصناعات اليدوية في الأكواخ، والصناعة بالآلات الصغيرة.
إن طريق الهند لا يماثل طريق الغرب الملطخ بالدم والذي تشمئز منه الهند وتملُّه. إن طريقها خالٍ من سفك الدم، مجرد عن العنف، وهو طريق المعيشة البسيطة المبنية على الورع والدين …