الفرد والأسرة
يختلف أساس النظام الاجتماعي في الشرق عنه في الغرب. فالفرد وحدة الحياة الاجتماعية في الغرب، والأسرة وحدتها في الشرق، ومعنى ذلك أن الفرد له أكبر الامتياز في الغرب، والأسرة لها أكبر الامتياز في الشرق. ومظهر ذلك أن الفرد في الغرب له أكبر حرية، فهو يفعل ما يشاء ويرقي نفسه أو لا يرقيها كما يشاء، وينصرف إلى الجد وينغمس في اللهو ما يشاء، ويتخير العمل الذي يشاء في المكان الذي يشاء، وليس لأسرته أن تتدخل تدخلًا حاسمًا في ذلك. حتى الفتاة في كثير من الأوساط أصبح لها من الحرية الفردية ما للفتى.
وقد ترتب على هذا الوضع جملة نتائج، منها مثلًا العلاقة بين الزوجة والزوج، فمقتضى الفردية أن الزوج لا يتدخل في شئون زوجته إلا بقدر، فلا يصح مثلًا أن يفتح خطاباتها، ولا يمنعها حريتها في حدودها، وهي كذلك بالنسبة له. ومن ذلك أيضًا أن هذه الحرية الفردية تُنتج حتمًا النظام الديمقراطي، فالحرية تناهض الاستبداد بجميع أشكاله، استبداد الأب والأم واستبداد الحاكم؛ ولذلك كان الغربيون على العموم أكثر ميلًا إلى الديمقراطية، ومنها قلة التدخل مثلًا بين الأب وأولاده، والسيد وخدمه، وصاحب المصنع وعماله، ومنها حب الابتكار في الغرب، أكثر منه في الشرق كما سيأتي، فالفرد إذا شعر بحريته كره التقليد؛ لأن التقليد نوع من التقييد ومضمونه ضعف الفردية، ففكر لنفسه وابتكر.
على العكس من ذلك الحال في الشرق فأفراد الأسرة في الشرق أكثر ارتباطًا منهم في الغرب. يشعر الفرد في الشرق بالمسئولية الكبيرة نحو أبيه وأمه وأخوته، بل أعمامه وعماته، وأخواله وخالاته، وهو يعتز بعزة الأسرة، ويذَل بذلتها، خصوصًا في الأوساط البدوية وشبيهتها كالفلاحين. وكثيرًا ما نسمع هذا من بيت فلان، أو ابن عم فلان. ثم قد يضم البيت، خصوصًا قبل انتشار المدنية الحديثة، الأب والأم وأولادهما والابن وزوجته وأولاده والبنت وزوجها وأولادهما، هذا عدا الأقارب، وكل الأسرة تتعير من فعلة قبيحة فعلها أحد أفرادها، وتفتخر بفعلة حميدة كذلك، بل قد يصل الشعور بالعار إلى حد قتل صاحب الفعلة الشنعاء التي عدتها الأسرة عارًا ومجلبة للفضيحة.
وعلى العكس من ذلك الأسرة الغربية، فهي تكاد تكون قاصرة على الزوج والزوجة وأولادهما الصغار، والاتصال بين الرجل وأخته أو عمته أو خالته اتصال خفيف، وقد لا يكون بينه وبينهم اتصال أصلًا، وإذا كبر ابنه فعليه أن يبحث له عن عمل في بلد آخر أو قارة أخرى، وقد يمتد هذا إلى البنت أيضًا، وليس هناك غرابة في أن يكون أحد أفراد الأسرة غنيًّا جدًّا وبعضها فقير جدًّا، ثم لا يعين الغني منهم الفقير.
يضاف إلى ذلك من الفروق التي تتعلق بالأسرة أن المرأة الغربية تشارك الرجل في سلطة البيت وقد تزيد عليه، ويكاد يكون الزوجان متفقين على أن شئون البيت من سلطة المرأة، وشئون الخارج من اختصاص الزوج. أما في الشرق، وخاصة قبل اتصاله بالمدنية الحديثة وتأثره بها، فالحال غير ذلك، فالسلطة للرجل حتى في أتفه الأمور، ولا شك أن هذه الأوضاع كانت نتيجة لمؤثرات عميقة المدى في التاريخ، وربما مرت كثير من الأمم على الأدوار الطبيعية بالأسرة وحرية الفرد، حتى ليكاد علماء الاجتماع يحددون أدوارها وأسباب انتقالها.
ولا شك أن من أهم أسباب الفروق بين الوضع في الشرق والغرب هو غلبة الزراعة في الشرق وغلبة الصنعة والتصنيع في الغرب؛ ولذلك نرى في الأمة الواحدة فروقًا بين وضع الأسرة في الريف وبينه في المدن.
ويحق لنا هنا أن نتساءل: أي الوضعين خير؟ إني شخصيًّا مع استحساني للحرية الفردية أرى أن الغرب أفرط فيها وأن الشرق قصَّر فيها، فإفراط الغرب يظهر في إلقاء الحبل على الغارب للشباب، والشباب عرضة للزلل، فترك الحرية للشاب والشابة لا إلى حد، جر إلى هذا الفساد الذي يشكو منه الغربيون أنفسهم، وبدأ الشرقيون السائرون على منوالهم يشكون منه أيضًا.
وأعتقد — كما قلت — أن الإسراف في الحرية ضار كالإسراف في التقييد، وأما قوة العلاقة في الأسرة الشرقية فهي على العموم خير من ضعفها في الغرب؛ لأنها تحمل العطف والإحسان والمعاونة وهي عواطف إنسانية نبيلة.
على أن شدة هذه العلاقة في الأسرة من ناحية أخرى قد تضر، إذ تحمِّل بعض الأفراد أعباء فوق ما يستطيعون، أو تفسد الأولاد بشدة الحنو عليهم.
والنتيجة أننا لسنا نرضى عن حرية الفرد في الغرب، ولا شدة الترابط في الأسرة في الشرق، ونميل إلى تحديد الغلو فيهما، ومن خير الأمثلة على الإفراط في العلاقات العائلية ووجوب الحد منه ما كان في الجاهلية من سيرهم على مبدأ «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فهذا نتيجة لشدة الترابط، فلما جاء الإسلام أراد أن يحد من هذا المبدأ وفسره بأن نصرة الظالم هي بأن يُمنع من ظلمه، وينصر المظلوم بدفع الظلم عنه؛ أي إنه يفضل العمل بمبدأ الحق على الانقياد للترابط العائلي أو القبلي.
•••
ولقد اعتاد الناس أن ينسبوا إلى الشرق تعدد الزوجات وإلى الغرب توحدهن، وإن كانت اليابان وتركيا قد دخلت الآن في عداد من يوحد الزوجات رغم أنهما تُعدان من الشرق، وقَل في الشرق تعدد الزوجات خصوصًا في الأوساط المثقفة، وربما كان هذا التعدد في الشرق والتوحد في الغرب، وما ذكرنا قبل من حال المرأة في الشرق وفي الغرب، دليلًا على أن المسألة مسألة تطور اجتماعي، واختلاف في درجات السلم أكثر منه مسألة شرق وغرب جغرافيين. فأوروبا عرفت تعدد الزوجات، فقد انتشر بين «الصقالبة» والتيوتونيين، وأيرلندا القديمة، كما انتشر بين ملوك أوروبا الأقدمين وأمرائهم. فإن ملك أيرلندا في أواسط القرن السادس عشر الميلادي كان متزوجًا اثنتين وله خليلتان، وشارلمان الملك المشهور كان له زوجتان وخليلات كثيرات، وفردريك وليم الثاني ملك بروسيا تزوج أكثر من واحدة.
وإذا نحن اقتصرنا على النظر إلى الناحية القانونية فهذا التمييز صحيح، وهو أن قانون الشرق يبيح التعدد وقانون الغرب ونظام الكنيسة لا يبيحانه. أما في الواقع فإن تعدد الزوجات في الشرق ليس عامًّا، بل نكاد نقول إنه قليل، خصوصًا بين الطبقات المثقفة، وفي الغرب هذا التوحد صحيح قانونًا، فالزوج يتزوج واحدة لا أكثر، ولكن لا ننسى أن اتخاذ الخليلات كثير، وقد يصاحبه أيضًا اتخاذ المرأة خليلًا أو أخلاء وكان الأمر كذلك في عهد الغربيين من اليونان والرومان، زوجة واحدة، ولكن خدينات كثيرات، فدعوى أن الشرق وحده هو الذي يعدد الزوجات لا تصح إلا في حدود القانون الحرفي لا في الحياة العملية، بل لقد شاع في الغرب العزوبة وعدم التزوج والاكتفاء بالتخادن.
والإنسان يتساءل: أيهما خير، تعدد مشروع، أو تعدد تحت طي الخفاء، ومع الرياء والنفاق من غير أن يكون مشروعًا؟ ومع ذلك فنحن لا ننكر أن المثل الأعلى للأسرة زوجة واحدة لزوج واحد على أن ينفذ هذا في صدق وإخلاص من الجانبين أما زواج واحد ولعب متعدد، فليس المثل الأعلى للأسرة.