الفصل التاسع

التقليد والابتكار

يقول «ول ديورانت» في مقدمة كتابه «قصة الحضارة»:

سيدهشنا أن نعلم كم مخترعًا من ألزم مخترعاتنا لحياتنا، وكم من نظمنا الاقتصادية والسياسية ومما لدينا من علوم وآداب وما لنا من فلسفة ودين يرتد إلى مصر والشرق، وفي هذه اللحظة التاريخية حيث تسرع السياسة الأوروبية نحو الانهيار، وحيث تنتعش آسيا بما يبعث فيها الحياة، وحيث الاتجاه كله في القرن العشرين يبدو كأنما هو صراع شامل بين الشرق والغرب، في هذه اللحظة نرى أن التعصب الإقليمي الذي ساد كتابتنا التقليدية للتاريخ، التي تبدأ رواية التاريخ من اليونان وتلخص آسيا كلها في سطر واحد، لم يعد مجرد غلطة علمية، بل ربما كان إخفاقًا ذريعًا في تصوير الواقع ونقصًا فاضحًا في ذكائنا، إن المستقبل يولي وجهه شطر المحيط الهادي فلا بد للعقل أن يتابع خطاه هناك.

ويقول فيما قاله عن مصر «حسبنا أن نذكر من معالم حضارة مصر؛ نهوضها بالزراعة والتعدين والصناعة والهندسة العملية، وأنها في أغلب الظن هي التي اخترعت الزجاج ونسيج الكتان والورق والحبر والتقويم والساعة والهندسة النظرية والحروف الهجائية، وأنها هي التي أحسنت صنع الملابس والحلي والأثاث والمساكن، وأصلحت أحوال المجتمع وشئون الحياة، وأن المصريين أول من أقام حكومة منظمة نشرت لواء السلام والأمن في البلاد، وأنهم أول من أنشئوا نظام البريد والتعليم الابتدائي والثانوي والفني لإعداد الموظفين ورجال الإدارة، وهم الذين ارتقوا بالكتابة ونهضوا بالآداب والعلوم والطب، وهم أول من وضع دستورًا واضحًا للضمير الفردي والضمير العام، وهم أول من نادى بالعدالة الاجتماعية وبالاقتصار على زوجة واحدة، وأول من دعا إلى التوحيد في الدين وأول من كتب في الفلسفة، وأول من نهض بفن العمارة والنحت … إلخ.»

فإذا كان هذا هو تاريخ مصر، وإذا كان هذا هو بعض ما ابتكرته، وإذا كان تاريخ الهنود والصينيين وتاريخ العرب والفرس لا يقل روعة عن تاريخ مصر، فما بال تاريخنا الحديث لا يُظهر لنا إلا حب الشرق للتقليد، واتباع الخلف ما سار عليه السلف أو اتباعهم ما سار عليه الغربيون؟

يقول البعض إن الحياة في الشرق سهلة بسيطة، فهي تدعو إلى الخمول والكسل، بينما الجو البارد في أوروبا والطبيعة الصعبة والبحار الهائجة علمتهم الكفاح والنشاط، فهم يكافحون في الحياة لتحصيل القوت، ومن ذلك تعلموا مكافحة الحكام إذا استبدوا، وتعلموا النشاط في كل شأن من شئون الحياة وتفتحت أذهانهم. والابتكار وليد الذكاء والنشاط والمهارة، فلما اختص الأوروبيون بالنشاط والكفاح والذكاء اختصوا بالابتكار، واختص الشرق بالتقليد، هكذا قال البعض؛ فهل كانوا على صواب؟

لو نظرنا نظرة عامة في التاريخ القديم لوجدنا أن الشرقيين ابتكروا ابتكارات لا تقل شأنًا عن ابتكارات الغربيين، انظر إلى ما ابتكره «بوذا» الهندي من اكتشافات في النبات والفسيولوجيا، وما ابتكره الهنود من العِدد، وما أُثر عن الصينيين من ابتكارهم صناعة النسيج وتقدمهم فيها وأخذ الأوروبيين عنهم.

وأنجبت الحضارة الإسلامية مبتكرين في جميع مرافق الحياة أمثال عمر بن الخطاب الذي وضع نظامًا لحكم فارس والروم من غير مثال يعرفه، إذ كان راعي إبل في الصحراء، واخترع ابن الهيثم نظريات كثيرة في الرياضة، ووضع أمية بن أبي الصلت تصميمًا لمركب غارقة في بحر وقد نجح تصميمه، فصعدت المركب إلى سطح البحر، وفكر عباس بن فرناس في صنع الطائرات من قديم وطار بها مسافة؛ لولا أنه لم يكن قد اكتشف البنزين.

أفبعد هذا يصح أن نقول أن الشرق عقيم والغرب ولود؟ إني أعتقد أن المسألة مسألة نهضة تدب في روح الأمة فتجعلها فتية حية تخترع وتبتكر، ثم شيخوخة تحل محل الشباب وضعف يأتي بعد القوة وتحفُّظ يسود بعد التحرر، ثم يأتي بعد ذلك موت تطول مدته أو تقصر حتى تدب الحياة من جديد.

ولقد عاش الشرق فترة جمود طالت حتى اعتقد البعض أن الجمود خاصة من خصائصه، وقفت الحياة إلى ما وصل إليه الأولون، فلا تقدم ولا تجدد. النحو والصرف الآن هما بعينهما نحو سيبويه وصرفه، وموضوعات الأدب هي بعينها موضوعات الأدب التي قال فيها الأولون، وأوزان البحور لا تزال تقريبًا الستة عشر التي عرفها الخليل. قال ابن قتيبة:

ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين، فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي. أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير. أو يَرِد على المياه العذاب الجارية؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والعرار.

وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في اتباع من خلف

وطال زمن تقليد الشرق للمتقدمين، وجاءت النهضة الأوروبية فانتقل التقليد من متقدمي الشرق إلى محدثي الغرب، فخير أديب من قلد أدباء الغرب، وخير نظام ما أُخذ من أوروبا، وخير فن ما قرب من فن الغرب، والشاب يفخر أن جاء في حديثه كلمات من لغات غريبة.

ولست أدري ما سر هذا التقليد الذي ينتاب الشرق الآن؟ إن مئات الشرقيين الذين يتعلمون في أوروبا وأمريكا ينالون الدكتوراه بتفوق؛ وهي درجة لا تعطى إلا نتيجة الأبحاث المبتكرة. كل ما في الأمر أن الصناعة في الشرق لم تبلغ ما بلغته في الغرب؛ والصناعة هي الأساس في الابتكار، فالمصنِّع إذا شعر في صناعته بنقص ما أو بصعوبة ما، كتب إلى الجامعة لتبحث نقطة النقص وتعالجها، فكان من ذلك ابتكار جديد. وليس عندنا مصانع كهذه ولا لها بالجامعات اتصالات كتلك.

وكل هذه الصناعات وابتكاراتها ناشئة من ابتكار أساسين أو ثلاثة، كالبخار والكهرباء وما عدا ذلك فتوليدها، ولو رُزق الشرق في العهد الحديث أساسًا أو أساسين، ورُزق مصانع تولد هذا المبتكر وتستخرج منه ما يترتب عليه، ورُزقنا منهجًا في التعليم يوجه الناشئين إلى الابتكار لا إلى مجرد الحفظ؛ لانقلب الشرق رأسًا على عقب. فنحن نعتقد أن التقليد في الشرق عرَض من الأعراض يمكن زواله، لا طبيعة متأصلة فيه، بدليل أن اليابانيين والصينيين في العهد الأخير استطاعوا أن يتقدموا في العلم تقدمًا كبيرًا، وأن يؤسسوا مصانع ضخمة، فارتقوا في الصناعة وابتكروا فيها.

•••

والابتكار يمكن أن يشمل كل مرفق من مرافق الحياة، في الطعام، في الملبس، في المسكن، في الحرية، في علاج الأمراض، في الصناعة، في كل مواد الإنتاج، في الألعاب، في المذاهب الفلسفية والدينية، في مختلف أنواع العلوم والآداب والفنون، في نظم التربية إلى غير ذلك، وهو عادة يظهر على يد طائفة قليلة، ثم يغزو القديم وينتصر عليه غالبًا. ونلاحظ أن الابتكار قد ينتشر سريعًا، وقد ينتشر بطيئًا، تبعًا للظروف والأحوال، وكلما كان الابتكار على يد أناس معروفين مشهورين كان انتشاره أنجح.

ومن الغريب أن كثيرًا من الابتكارات وليدة الفرصة والحظ، كاكتشاف الجاذبية من ملاحظة نيوتن لسقوط التفاحة، واكتشاف قوة البخار من اهتزاز غطاء إناء.

وقد كثرت الابتكارات في القرن الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا وأمريكا نتيجة للانقلاب الصناعي.

ثم إن الحياة الاجتماعية لما تحررت من استبداد الحكام وأمراء الإقطاع، وتحرر الناس من ظلمهم وقويت شخصيتهم وفرديتهم، ساعد كل ذلك على الابتكار.

وتزيد الحاجة إلى التجديد في الأزمات والحروب والكوارث والمجاعات وما يصيب الناس من السأم، فيكون ذلك كله باعثًا على التفكير للخروج من هذه المآزق بالابتكار، ويزيد في الابتكار أيضًا كثرة الثقافة وسعتها وارتقاؤها، وانتشار التفاؤل في الشعوب، وحب الشجاعة والرغبة في التحرر.

وليس المجددون متضامنين دائمًا فقد يحدث أن بعض المجددين يذهب إلى شيء جديد، ويذهب آخرون إلى شيء جديد آخر فتتصارع أنواع التجديد، ويبقى الأصلح. فليس عدو الجديد هو القديم فقط، بل قد يكون الجديد أيضًا. والشعوب المتأخرة تميل دائمًا إلى اتباع القديم وتكره الجديد وتعده نقمة وكلما اتسع أفق الشعب وقل تعصبه، زاد عنده قبول الابتكار. كما أن الحكام المستبدين الظالمين يكرهون الابتكار والتجديد؛ لأنهم يخشون على مراكزهم، فقد يؤدي الابتكار إلى تفكير وعمل للثورة على ظلمهم.

وليس الابتكار مرادفًا للثورة، فقد تكون ثورة من غير ابتكار وابتكار من غير ثورة.

ومما يؤسف له أن الحرب أدت إلى الابتكار لما فيها من أزمات وخوف من الانهزام، مع أن السلم قد يكون فيه من المتاعب ما يحتاج إلى ابتكار، كالذي أعقب الحربين العالميتين الأولى والثانية من منازعات وخصومات واضطرابات استدعت الخروج على القديم في النظريات السياسية والاقتصادية، ولكن غلب على الساسة والاقتصاديين المحافظة والجمود لا الابتكار.

والابتكار عادة ينبع من القديم مع تغيير فيه، فنحن إذا نظرنا للثورة الاقتصادية في إنجلترا وفي الولايات المتحدة وفي ألمانيا وفي اليابان، نجد أصولها موجودة في النسيج الأصلي في البلاد مع ابتكار استدعاه الحال.

وفي العادة يظهر المجددون المبتكرون، فيناهضهم الرجعيون المقلدون إما خوفًا من كساد تجارتهم؛ مثل مناهضة أصحاب الجمال في صحراء العرب للسيارات وأصحاب الحمير للعربات، وإما خوفًا على مراكزهم؛ لأن المجددين مسلحون بأسلحة خير من أسلحتهم. كما هي الحال في كل محاربة تنشأ بين معهد جديد ومعهد قديم، إذ العادة أن الجديد يكون أرقى، فتكون العاقبة له إن عاجلًا وإن آجلًا. على أنه قد ينجح الشيء الجديد المبتكر، لا لشيء إلا لمجرد الزهو باستعمال الأشياء المبتكرة كلبس «الموضات».

وقد بالغ الشرقيون في استخدام الأدوات الغربية المبتكرة، مع أنه قد يكون في عاداتهم القديمة ما هو خير منها.

وكلما كانت الأمور المبتكرة متمشية مع الطبيعة الإنسانية أو مساعدة على الراحة كان قبولها أكثر سهولة.

وقد تصادف المبتكرات حالة اجتماعية سيئة فتعوقها قليلًا أو كثيرًا، كالإصلاحات التي نادى بها السيد جمال الدين، والشيخ محمد عبده في مصر، وأحمد خان في الهند؛ لأن الأمم لم تكن مستعدة للتغيير، والحكام الشرقيين والمستعمرين وقفوا في سبيل الإصلاحات المبتكرة لأنها ضد مصلحتهم، وبالعكس قد توجد ظروف تساعد على نجاح الإصلاح، فنظرية النسبية لأينشتين جديدة مبتكرة ولم تجد صعوبة لأن من فهمها قليل من الراقين غير المتعصبين، والجماهير المتعصبة لم تفهمها، فلم تقف في سبيلها، ومثل ذلك انتشار الإسلام في حينه، وانتشار المسيحية بأوروبا، فقد وجدت في كليهما ظروف اجتماعية ساعدت على انتشارهما.

وعلى الجملة ففي رأينا أن الشرق يمكنه أن يبتكر ويبتكر كثيرًا، لو أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية ومناهج التربية تعاونت كلها على الابتكار. فنهوض الحالة الاقتصادية يمهد السبيل للابتكار الاقتصادي، والحكومة الصالحة ورقي الشعب يمهدان للإصلاحات الاجتماعية، ونظام التربية الصالحة يطبع النشء بطابع يسأم من القديم ويخلق جديدًا يغذي مطامعه ومطامحه. وفي هذا معنى أن الشرق ليس بطبعه عديم الابتكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤