المجتمع والاقتصاد والثقافة
ضَربَت ثقافة الطبقة الوسطى بجذورها في واقع مادي مُعيَّن، ساعد على نُموِّها وتطوُّرها، أعطى لأفرادها نصيبًا من موارد البلاد، وأتاح لها مساحة مُعيَّنة تنمو فيها. ودراسة الظروف المادية تَتضَّمن الوقوف على العوامل التي سَمحَت للطبقة الوسطى بتحقيق ما حقَّقَته من أرباح، والنجاح في الحفاظ عليها في ظِل وجودهم خارج إطار هياكل السُّلْطة، ويعني ذلك وجود توازن مُعقَّد بين حصولهم على المغانم المالية اعتمادًا على عوامل مُتنوِّعة محلية وإقليمية، وبين مصالح طبقة جُباة الضرائب الذين كان باستطاعتهم تحجيم مكاسب الطبقة الوسطى. وبعبارة أخرى؛ لَقِيَت هذه الثقافة دعمًا في إطار اقتصادي مُعيَّن بواسطة القدرات الحركية للطبقة التي ليست واضحة لنا تمامًا، وخاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وهناك عاملان يحظيان بأهمية خاصة؛ فعلى المستوى الإقليمي، كان انتشار الرأسمالية التجارية والطريقة التي عَمِلَت بها، وعلى المستوى المحلي، كان هناك النظام الضريبي، والعلاقات مع هيكل السُّلْطة التي لم تُتِحْ للطبقة الوسطى فرصة كَسْب المنافع والمحافظة على ما حقَّقَته منها، كما لم تعمل — في الوقت نفسه — على وضع القيود التي تَحرِمها من تحقيق ذلك. فقد كان باستطاعة السُّلْطة المركزية القوية — مثلًا — أن تضع من الضوابط ما يُمكِّنها من استخدام النظام الضريبي للحَدِّ من تَزايُد ثروات الأعيان المحلِّيِين. وكان النشاط الإنتاجي وتجارة البضائع المحلية والانخفاض النِّسبي في مُعدَّل الضرائب من بين العوامل الرئيسية التي سمحت لأولئك الذين لم يكن لهم مَوقِع في هيكل السُّلْطة أن يُحقِّقوا قدْرًا من الثراء والوجاهة الاجتماعية، وخاصَّة في أوائل الفترة موضوع الدراسة، ونَتج عن ذلك اتِّساع نطاق التعبير الثقافي.
ويُمكِن فَهْم الإطار والاتجاه التي تَشكَّلت عن طريقة ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية في سياق الاقتصاد الحَضَري الذي كانت جزءًا منه. ففي مُعظَم فترة الدراسة، كانت الطبقة الوسطى تعيش عِيشة تَرقَى على حَد الكفاف؛ فحقَّقَت قدْرًا من المتعة، وراحت تُنفِق على الكماليات، مما يعني تحقيقها لقَدْر من الثراء. ويمكن القول إن هذا الوضع قد تَحقَّق — في المقام الأول — في إطار الرأسمالية التجارية التي جَلَبت المنافع الاقتصادية لتلك الطبقة، وفي المقام الثاني في إطار علاقاتهم بالطبقة الحاكمة — التي تحكمت في النظام الضريبي — والتي كان باستطاعتها استخدامه بصورة متوازِنة، أو تحويله إلى أداة لاستغلال طبقة المموِّلِين.
وقد تغيرت الأحوال المتَّصِلة بالضرائب والإنتاج، والتجارة في تواريخ مختلِفة. فمن خلال عملية وئيدة؛ خَفَّت قبضة هيكل السُّلْطة المركزية للدولة العثمانية لصالح الحكام العسكريِّين المحلِّيِّين الذين تزايدت سيطرتهم على الموارد. وكانت تلك الجماعات العسكرية — في بداية الأمر — تَفتقر إلى التنظيم، مُنشغِلة بالصراع مع بعضها البعض من أَجْل السيطرة على الموارد. وحوالي منتصف القرن الثامن عشر، تَخلَّصت القُوى العسكرية المحلِّية من عيوبها التنظيمية، وتحوَّلت إلى سُلطة مركزية ذات هياكل مُنظَّمة في البيوت المملوكية التي تَحوَّل رؤساؤها إلى حكام فِعليِّين للبلاد، والتحمت النخبة الدينية والتعليمية بالبيوت المملوكية الصاعدة، ومن ثَمَّ دَعَّموا وضعهم في المجتمع، وزادت فرص جَنْيِهم للمكاسب الشخصية.
ولم تعمل التغيُّرات الاقتصادية في أواخر القرن الثامن عشر لصالح الطبقة الوسطى، فقد أوجَدَت الطبقة الحاكمة أساليب جديدة للسيطرة على الأنشطة الاقتصادية بدافع المكاسب الكبيرة التي جَنَوْها من استيراد المنسوجات الأوروبية، ومن التوسُّع في الاستغلال الضريبي، مما أَدَّى إلى وقوع كثيرِين من سكان الحَضَر في وَهْدة الفقر. وتَقَلص المجال الثقافي للطبقة الوسطى الحَضَرية، وتحدَّدت حَرَكتها، بعدما كانت — على نحو ما سنرى في الفصول التالية — مُزدهِرة، ذات مكانة اجتماعية ووَضْع شرعي مُعترَف به.
ومن العوامل المهِمَّة في نُمو ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية، ما حقَّقَته من مكاسب من وراء الرأسمالية التجارية، أو — تحديدًا — من خلال طريقة استخدامها لها. ومن الملاحَظ أن ثقافة الطبقة الوسطى تَحظَى بالبروز والتطوُّر، وتُحقِّق مستوًى من الشرعية، وتحتَل لنفسها مكانًا مرموقًا في المجتمَع، عندما تكون ظروف الرأسمالية التجارية مُواتِية لإنتاج ثروة حَضَرية، وعندما تسمح الظروف بامتداد الثروة إلى مَن هم دون طائفة التُّجَّار من المنتِجِين (الحِرَفِيِّين) والباعة. وفي نهاية فترة الدراسة، وحول منتصف القرن الثامن عشر، كان للمؤثِّرات السلبية على الاقتصاد انعكاسها على ثقافة الطبقة الوسطى — عندما جَرَت الرياح بما لا تشتهي السفن — فأثَّرَت سلبيًّا على القُدرات الحَرَكية لتلك الثقافة.
الاقتصاد بين الزمان والمكان
ولم يَكتَشف المؤرِّخون بَعدُ أسباب اختلاف الإطار الزمني للأحداث في الأناضول والبلقان من ناحية، ومصر من ناحية أخرى. ولم تتضح بَعدُ الظروف التي دَفعت إلى انتشار الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي في الأناضول حوالي عام ١٦٠٠م، وأسباب تأخُّر ظهور تلك الظروف في مصر إلى ما بعد ١٧٠٠م، ونحو منتصف القرن الثامن عشر. ويتضح من ذلك أن التحقيب الزمني، الذي يمكن استخدامه عند دراسة إقليم ما لا يَنسحِب بالضرورة على غيره من الأقاليم الأخرى.
وهكذا، رغم وقوع خسائر مُعيَّنة نتيجة التحولات التي شهدها القرن السادس عشر، من ناحية، فإن اتساع نطاق التجارة، وزيادة الطلب على بعض البضائع، وفتح أسواق جديدة، عوامل جَلَبت معها — من ناحية أخرى — فرصًا جديدة للمكاسب التجارية. وكان التجار الأوروبيون يهتمون — أحيانًا — بإنتاج البضائع من أَجْل الشراء، ومن ثَمَّ أصبَحوا مستهلكِين على قَدْر بالغ من الأهمية. ولم يتطلب إنتاجهم الكبير أسواقًا جديدة لتسويقه إلا فيما بَعدُ، في القرن الثامن عشر.
ويبدو أن الأرباح التي تَحققت لم تَبلُغ المستويات التي كانت عليها قبل تُطوُّر تجارة المحيط الأطلنطي، غير أننا لا نستطيع إغفال أهمية حجم تلك الأرباح، وما ترتَّب عليها من آثار اقتصادية – اجتماعية. وخَلَّقت ظروف التجارة الدولية تلك — في فترة معينة — حافزًا لتوسيع النشاط الإنتاجي لعدد مُعيَّن من السِّلع، ولم تُحوِّل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد طَرَفِي تابِع.
كانت القاهرة مُلتقَى طُرق تجارية هامَّة، وانتفع تُجَّارها انتفاعًا هائلًا من وراء هذا النشاط التجاري، وتراكمت في أيديهم ثروات كبيرة، على نحو ما يَتَّضح من عَمَل أندريه ريمون. وكان ذلك يرجع — جزئيًّا — إلى هيكل السُّلْطة؛ فقد تَخلَّى العثمانيون بسرعة عن سياسة التدخُّل في التجارة الدولية والاحتكارات التجارية، التي مارسَتْها الدولة المملوكية طوال معظم القرن الخامس عشر، واستفاد من ذلك التُّجَّار — بالدرجة الأولى — فلم يَعُد عليهم أن يُشركوا الدولة في أرباحهم. ونَتَج عن ذلك زيادة فُرَص وصول جانب من تلك الأرباح إلى غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى، ويعود حجم ما وصل من تلك الأرباح إلى المستويات الاجتماعية المتوسطة لعوامل مُتنوِّعة تَغيَّرت على مَرِّ الفترة، سوف نتعرض لها فيما بَعْد.
وكانت مُعْظم تلك الأوضاع التجارية سابقة على القرن السادس عشر، ففي القرنين الرابع عشر والخامس عشر، سيطر تجار الكارِمِيَّة على تجارة البحر الأحمر، وغَطَّت شبكاتهم التجارية آسيا وامْتدَّت إلى أفريقيا وحوض البحر المتوسط، وكانت مُعاملاتُهم مُركَّبة ودقيقة، واستخدَموا عديدًا من المؤسَّسات التي عاونَتْهم على ممارسة نشاطهم التجاري الواسع. وباستثناء فترات انقطاع مُعيَّنة، وخاصة في النصف الأول من القرن الخامس عشر، عندما قام السلطان برسباي باحتكار التجارة، نستطيع أن نرى مستوًى من الاستمرارية عند تجار القرن السادس عشر، من حيث اتساع نطاق شبكاتهم التجارية، والمؤسَّسات التي ساعدَتْهم على الإمساك بزمام تجارتهم.
غير أن النظر إلى التطور التاريخي على أنه يسير على خط مستقيم وحَسْب؛ يُقدِّم رؤية مضلِّلة، تفتقر إلى الدِّقة؛ فقد هَيَّأ القرن السادس عشر ظروفًا اختلفَت تمامًا عن تلك التي عرفَتْها الفترة السابقة عليه. فَحدَث توسُّع في العلاقات التجارية ارتبط بالظروف الدولية. وفيما يَتعلَّق بمصر، عبَّرت تلك الظروف عن نفسها بطريقتين؛ أولاهما: التجارة في السلع الاستهلاكية كبيرة الحجم أكثر من التجارة في السلع الفاخرة محدودة الحجم؛ فعلى سبيل المثال لم تلعب التجارة في الأحجار الكريمة في القرنين السادس عشر والسابع عشر ذلك الدور الذي لَعِبَته في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كما أن الفلفل والتوابل الذي كان من السلع الفاخرة في القرن الرابع عشر أصبح في القرن السادس عشر من السلع الاستهلاكية كبيرة الحجم. وأخيرًا، كانت السلع التي تُنْتج في مصر وتُصدَّر إلى إقليم البحر المتوسط والبحر الأحمر وأفريقيا، تتمثل في مختلف أنواع المنسوجات والسُّكَّر.
ومن بين اهتمامات هذه الدراسة البحث فيما إذا كانت تلك الأنشطة التي جَلَبت لأصحابها ثروات ضخمة؛ مرتبطة باقتصاد مصر ككل، وما إذا كانت قد أفادت طبقة مُعيَّنة من الناس؟ وعلى نطاق واسع، يدور السؤال حول العلاقة بين الأنشطة التجارية والاقتصاد ككل.
والحق أن المؤرِّخِين يختلفون حول ما إذا كانت التجارة التي استهدفت أسواقًا خارجية بعيدة ذات تأثير فَعَّال على فئات غير أولئك المشتغِلِين بها. وما إذا كانت التجارة الدولية قد أثَّرَت — عمليًّا — على الاقتصاد اعتمادًا على عوامل متنوعة. هنا يُصبح التعميم من الصعوبة بمكان؛ لأن ما يَصدُق على زمان ما ومكان ما، لا يَنسحِب بالضرورة على جميع الأزمنة والأماكن؛ أي إن الرأسمالية التجارية قد تَتَّخِذ صورًا مختلفة، تتولى تشكيلها العوامل التاريخية ذات النتائج المتبايِنة ودرجات التأثير المتنوعة.
الأحوال في إقليم البحر المتوسط
من أساليب تناول هذا الموضوع؛ عَقْد مقارنة مع مُدن البحر المتوسط التي ازدَهَرت فيها الرأسمالية التجارية. وهذا الإطار الإقليمي له مَغزاه هنا لأسباب عِدَّة، فالاتجاهات الاقتصادية لا تَتْبع الحدود السياسية، ومن ثَمَّ لا نستطيع فَهْم ما تَرتَّب على الرأسمالية التجارية من نتائج في القاهرة دون مُقارنَتِها بالمدن التجارية، التي كانت لها ظروف مُشابهة؛ فتلك المقارَنة تُلقِي مزيدًا من الضوء على موضوع الدراسة، وخاصة في غيبة الأعمال العلمية التي يُمكِن الاهتداء بها. وأهمية تجارة المتوسط، وكثافة المبادَلات التجارية تجعل المقارَنات بين الشمال والجنوب مُناسِبة تمامًا.
ويبدو من المعلومات التي يمكن جمعها من الدراسات الخاصة بالمراكز التجارية المتوسطية فيما بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، أن ثمة طبقة متوسطة حَضَرية لَعبَت دورًا فعَّالًا في أنشطة رأسمالية مُعيَّنة؛ مثل الاستثمار، والعملِيَّات المالية، والعملِيَّات التجارية على نطاق أكثر تواضعًا من ذلك الذي لَعِبَته نخبة التجار، غير أن له أهميته عندما ننظر إليه نظرة شاملة، بل نستطيع أن نقول بإيجاز إن هذا الاتجاه كان مُتوسِّطيًّا أكثر منه أوروبيًّا أو عثمانيًّا؛ استنادًا إلى الحقائق التي نَتوصَّل إليها عن المدن الإيطالية كالبندقية، ومُدن تابعة للدولة العثمانية كإسطنبول، أو حلب، أو القاهرة. وقد يثير ذلك نقطة مُهمة، هي أن بعض المناطق شمال وجنوب البحر المتوسط مَرَّت باتجاهات اقتصادية متناظِرة أو متوازية — بِغضِّ النظر عن الحدود السياسية — وأن من المحتَمَل أن يكون قد صاحبَتْها اتجاهات ثقافية مماثلة.
واعتمد تأثير الرأسمالية التجارية على مُتوسِّطي التجار والمنتِجِين، والمكاسب التي استطاعوا تحقيقها من روابطهم التجارية لأنفسهم، على عوامل مختلفة. وهكذا، نالت الفئات الدُّنيا نصيبًا من الثروات التي جَلبَته التجارة إلى نخبة التجار في إطار ظروف مُعيَّنة وبدرجات متفاوِتة، وشمِلَت تلك الفئات الباعة، والمنتِجِين، ومُتوسِّطي التجار، وغيرهم؛ ولذلك من الأهمية بمكان تحديد بعض تلك الظروف، وهو ما نحاول القيام به هنا.
وعلى الصعيد العَملي الإمبريقي، يعتمد تطبيق هذا المعيار النظري على وجود دراسات مُعَمَّقة، لم يتم إنجازها بَعدُ في كثير من الحالات، ولا نعرف عن صناعة المنسوجات في مصر خلال الفترة موضوع الدراسة سوى أنها كانت بالغة الأهمية، وأن الطلب كان مُلِحًّا على المنسوجات المصرية كسلعة للتصدير. ولا زلنا نجهل أسلوب الإنتاج في تلك الصناعة، والعلاقات الريفية – الحَضَرية في مجالها، وتأثير طوائف الحرف على الإنتاج، فكلها موضوعات يحيط بها ضباب كثيف يحجب عنا رؤيتها.
وثَمَّة عامِل آخر، نَظَّم مشاركة الطبقة الوسطى، تَمثَّل في درجة انغماس التجار بالإنتاج الحِرَفي للبضائع التي احتاجوها لتجارتهم. واتخذ هذا الانغماس عِدَّة أشكال: من تشغيل العمال مقابل أجر معلوم، إلى تمويل الحِرَفِيِّين، إلى استخدام نظام الإنتاج بِمَد النَّساجِين بالخامات على حين يستخدم النَّساجُون أنوالهم الخاصة بهم. وجاء نُفور التجار من الإنتاج الحضري لصالح الإنتاج الريفي الأرخص عادة، وإن كان ذلك قد أضَرَّ بالحِرَفِيِّين والباعة بالمدينة. وقد استخدمت صناعة الحرير في بورصة نظام الإنتاج؛ حيث كان التاجر يَستأْجِر النَّسَّاج مقابل أجر مُعيَّن، ويُزوِّده بالخامات، ويتَسلَّم منه الإنتاج مُعدًّا للبيع. وكان هذا النظام مناظرًا للنظام المتَّبَع في أوروبا عندئذ.
وانخرطت القاهرة في الأنشطة التجارية الرئيسية، شأنها في ذلك شأن غيرها من مُدُن إقليم البحر المتوسط، فَلعِبَت دَور مركز تجارة العبور ومركز الإنتاج. وقد عادت تجارة التوابل في البحر الأحمر إلى سِيرتها الأولى في القرن السادس عشر، وكان يُظَن أن الوجود البرتغالي في الهند قد أوقفها، وعاد الفلفل يتدفق مرة أخرى عَبْر البحر الأحمر. وإضافة إلى ذلك بَرزَت تجارة البُنِّ نحو نهاية القرن كسلعة ما لَبِثَت بعد بضعة عقود أن تَضاعفَت من حيث الحجم والأهمية. وهكذا ظَلَّت القاهرة تحتل بؤرة الشبكة التجارية باعتبارها مركزًا لتجارة العبور.
النخب المحلية والطبقة الوسطى في مُستهَل الفترة
في العقود التي أعقبت الغزو العثماني لمصر عام ١٥١٧م، كانت سلطة الوالي العثماني تَحظى باعتراف عام. وقد صحب الغزو العثماني تعديل في هياكل السُّلْطة، تضاءلت معه سلطة القوى المحلية وخاصة أمراء المماليك. وكان من الأهداف المهمة لذلك أن تَضْمن الدولة العثمانية سَيطرَتها على النظام الضريبي من خلال مُمثِّليها في الولاية. ولم تتم تغطية الفترة الباكرة من الحكم العثماني بالدراسة من هذه الناحية، ولكن يبدو أن المعدَّلات الضريبية ظلت عند الحدود المعقولة. وربما جاء ذلك لصالح الطبقة الوسطى الحَضَرية. ولما كانت التغيرات الاجتماعية في أواخر القرن السادس عشر، وفي القرن السابع عشر لم تُدرس بعد — على نقيض القرن الثامن عشر — فإننا لا نستطيع أن نتجاوز حدود النظر إلى الشواهد وحْدَها، ومن بين الشواهد الأساسية سِجلَّات تَرِكات تلك الطبقة.
هذا المستوى من الراحة المادية يعتمد بدرجة كبيرة على معدَّلات الضرائب التي فرضَتْها الطبقة الحاكمة، فالمكاسب من الإنتاج والتجارة يُمْكِن الحفاظ عليها ما لم تقم الضرائب بابتلاعها. فقد كانت الضرائب آلية مهمة، تقوم من خلالها الطبقة الحاكمة بتجميع الأموال من سكان الريف والحَضَر. وكان التعسُّف الضريبي الذي يَتعرَّض له سكان الحَضَر؛ أداة شائعة للحد من مكاسبهم. وعلى حين كان مُعدَّل الضرائب في القرن السابع عشر مناسبًا، أصبح يُمثِّل عبئًا ثقيلًا في القرن الثامن عشر. وجاء التعسف الضريبي نتيجة استقواء النُّخَب العسكرية المحلية التي أساءت استخدام نظام الالتزام، وجعلت منه أداة لتحقيق منفعتها الخاصة، في وقت كانت فيه سلطة الدولة المركزية في إسطنبول أعجز من أن تقوم بتنظيمه. ومن ثَمَّ كانت الضرائب من الأمور المهِمَّة التي أثَّرَت في تكوين ثروات الطبقة الوسطى، فعندما تهبط مَعدَّلات الضرائب تزدهر تلك الطبقة، وعندما ترتفع تلك المعَدَّلات إلى حَدِّ التعسف قد تؤدي إلى هبوطهم إلى وَهْدة الفقر؛ ولذلك كانت العلاقة مع الطبقة الحاكمة عاملًا حيويًّا في تشكيل الأوضاع المادية للطبقة الوسطى؛ لأن الطبقة الحاكمة كانت تخوض غمار التجارة، وتتولى جباية الضرائب، ورغم أن أفراد الطبقة الوسطى ظَلُّوا خارج هيكل السُّلْطة، إلا أنه كان باستطاعتهم الاحتفاظ ببعض روابط المصلحة المشترَكة مع الطبقة الحاكمة في ظل ظروف مُعيَّنة.
وتُشِير هذه القضايا الواردة في سِجلَّات المحاكم الشرعية إلى أن الاستثمارات كانت مُتواضِعة في أغلَبها، وشديدة التواضع أحيانًا، ربما كانت تُمثِّل كل المدَّخَرات التي يستطيع البائع أو الحِرَفي المغامَرة به، وكان الحد الأدنى بالنسبة للطبقة الوسطى وُجود مَبْلغ نقدي مُعيَّن يزيد عن حاجة صاحبه. كما أنها تُوضِّح أن أولئك الحِرَفيِّين والباعة لم يستثمروا فائض أموالهم — بالضرورة — في مجالهم المِهَني. وأخيرًا، تشير تلك القضايا إلى أن النشاط المالي تَجاوَز الحدود المِهنِيَّة، بمعنى أنها تَجاوزَت نطاق من كانت مِهْنتهم إقراض الأموال، أو الذين اشتغلوا بالصفقات التجارية الكبرى. وهذا العامِل له مغزاه لِفَهم بعض السُّبل التي استطاع بها نطاق اجتماعي واقتصادي وسياسي عامٌّ أن يَخترق الحدود المِهنِيَّة في مجتمع، قام على أساس الطوائف والهياكل الحرفية.
وحتى يشترك أفراد الطبقة الوسطى في هذه العمليات، علينا أن نَفتَرض أن نشاطهم الاقتصادي الإنتاجي والخَدَمي، قد دَرَّ عليهم مكاسب وفَّرت فائضًا استثمروه في القروض أو المضارَبات؛ ولذلك يُحتمل أن تكون الطبقة الوسطى الحَضَرية قد لَعِبت دورًا مهمًّا في تلك العمليات. ففي المقام الأول، كان أولئك الناس جزءًا لا يتجزأ من شبكة توزيع البضائع، يلعبون دور الوسيط بين التاجر الكبير المستورِد وجمهور المستهلِكِين. وهو نشاط صغير ولكنه يستطيع الانتشار على نطاق واسع ليصبح جزءًا أساسيًّا من شبكة قد تمتد إلى خارج المركز الحضري إلى أطرافه أو إلى المناطق الريفية. ويستطيع أولئك الناس الوصول إلى أماكن ليست في متناول التاجر الكبير، الذي لا يجد مناصًا من الاعتماد عليهم لهذا الغرض. ولذلك رغم صغر حجم نشاطهم وطابعه الفردي إلا أنه كان بالغ الأهمية بالنسبة للاقتصاد المحلي. وفي المقام الثاني، يحظى المستثمر الصغير المتواضع بدور اقتصادي مهم في إعادة توزيع أو تجميع النقود.
محيط الطبقة الوسطى
المركز والأطراف في الطبقة الوسطى
كوَّن المشتغِلُون بالأنشطة الاقتصادية المتَّصِلة بالتجارة والصناعة والخدمات، ومُنتِجو السلع وباعتها؛ قَلْب الطبقة الوسطى الذي يُعَد العُنصر الحاسم فيها. فإذا صَلُح حال القلب انعكس ذلك على الأطراف، وإذا ساء حاله نتيجة وقوع أزمة، بدت آثار ذلك واضحة على الأطراف. فَمَن كانوا يمثلون أطراف الطبقة الوسطى؛ بمعنى ارتباط ظروفهم بها في السراء والضراء؟ بداية، كان هناك كثير من الناس من العسكر والمشتغِلِين بالمهن الدينية يرتبطون بتلك الطبقة بحكم ممارستهم أعمالًا اقتصادية جانبية، أو في أوقات مختلفة، إضافة إلى نشاطهم الأساسي.
تُستَخدم كلمة «العلماء» للإشارة إلى مَن بلغوا مستوًى رفيعًا من العلم والمكانة الاجتماعية، أو إلى مَن احتلوا مراكز مُهمَّة في التعليم أو القضاء. وأحيانًا تُطلق الكلمة على جميع المشتغِلِين بالتعليم أو القضاء، بغض النظر عن مواقعهم فيها. وفي هذه الحالة يجب التمييز بين كبار العلماء وغيرهم ممن يحتلون المراكز المتوسطة أو الدنيا، أو مَن يُطلِق عليهم الناس أحيانًا «صغار العلماء» وهؤلاء هم مَن نُركِّز عليهم هنا، وهم أولئك الذين اشتغلوا بالتدريس في المدارس أو عملوا بالمحاكم أو بالأوقاف، أو اشتغلوا بخدمة المساجد، أو مارَسوا أعمالًا تقتضي الحصول على مستوًى مُعيَّن من التعليم؛ مثل: أمناء المكتبات، والكُتُبيِّين (أصحاب محال بيع الكتب) والمحاسِبِين.
وهذه الأمثلة قد تشير إلى حركة تجاه حِرَف أو خدمات مُعيَّنة، كانت أكثر ربحًا من غيرها وتستطيع استيعاب عدد أكبر من الأفراد في ظرف زمني مُعيَّن، فلا شك أن رواج تجارة الكُتب في القرن الثامن عشر — مثلًا — اجتذب عددًا أكبر من الأفراد المَعْنِيِّين ببعض جوانب تلك التجارة. وكان «صغار العلماء» كغيرهم من الناس يَستثمِرون أموالهم في القروض والمضارَبات، كما شاركوا في التجارة واستثمَروا أموالهم في هذا المجال. وهكذا، رغم أنهم كانوا يحصلون على رواتبهم من الأوقاف، إلا أن البُعْد المهم في حياتهم الاقتصادية كان يُشكِّل جزءًا من اقتصاد أكبر.
وبذلك كان هؤلاء يَرتبطون بالهيئة الدينية بحُكم كَوْنهم من مُتوسِّطِي أو صغار العلماء من ناحية، وارتبطوا بغيرهم من المشتغِلِين بالنشاط نفسه. وبحُكم كَوْنهم ينتمون إلى هيئة العلماء كانوا يستندون إلى «كبار العلماء»، ومن المُحتَمَل — على سبيل المثال — أن يصبحوا مُرشَّحِين لمناصب الأوقاف ورواتبها، ويُحدِّد تلك المناصب الواقِفون أنفسهم أو نُظَّار الأوقاف. وجَعَل ذلك من صغار العلماء عالَة على طبقة الملاك التي تنشئ الأوقاف، أو على كبار العلماء الذين يَرأسونهم ويَتحكَّمون في مصائرهم، وبحُكم كَوْنهم من المشتغِلِين بالحِرَف أو التجارة، فإن بقاءهم في ذلك النشاط يَقتضِي توثيق صِلَاتهم بالآخَرِين المشتغِلِين بالنشاط نفسه.
وتثير إمكانية الدخول في أو الخروج من إحدى الطوائف الحِرَفية تساؤلات عن مَدَى فَهْمنا للطريقة التي عَملَت بها الطوائف؛ خاصة عن مَدَى سيطرة الطائفة على أفرادها، وعن مَدَى استعداد طائفة ما لاحتكار نشاط اقتصادي مُعيَّن. وكانت الفكرة السائدة — في الماضي — بين الباحِثِين أن الطوائف تَحكَّمت في عَدد المُنضَوِين تحت لوائها، وأنه كان باستطاعتها مَنْع مَن ليسوا من هؤلاء من ممارسة نشاط مُعيَّن يدخل في اختصاصها. فإذا كانت مثل هذه الضوابط تُمارَس فعلًا؛ لكانت نتيجة ذلك استبعاد أنشطة اقتصادية مُعيَّنة من قُوَى السوق، والأمثلة التي أوردناها تشير إلى وجود مُرونة في الوضع القائم تَسمَح بالتحرُّك بين الطوائف والحِرَف المختلفة. والأمثلة الخاصة بدخول أو خروج العسكر والعلماء في طوائف مُعيَّنة، ومشارَكة قطاع عريض من سكان المدينة في تجارة المُقَطَّع (التجزئة)، وفي المضارَبات والقروض، تعطينا صورة لطوائف تأخذ في اعتبارها — عند مستوًى مُعيَّن — قُوى السوق.
وهناك مُلمح آخر خَلق روابط وثيقة بين هؤلاء الناس والطبقة الوسطى؛ فقد كان ثمة مُعامَلات من مختلف الأنواع تجري بين أفراد الطبقة الوسطى، والعسكر، ومتوسطى وصغار العلماء؛ فأولئك الذين يعيشون عند مستوًى اجتماعي واقتصادي مُعيَّن، تَجمَعهم روابط ووشائِج من نوع آخر؛ كروابط المُصاهَرة، والعلاقات العائلية، وعلاقات العمل، والصفقات المالية، وعلاقات الجِوار في السكن.
الأحوال في أواخر الفترة
تَتَّخِذ هذه الدراسة من نهاية القرن الثامن عشر حدًّا زمنيًّا لنهايتها، عندما وقعت تَغيُّرات درامية فيما يَتَّصل بأنماط العمل التجاري. ففي العقود الأولى من القرن الثامن عشر، بدأ الاقتصاد المصري يُواجِه تهديدًا فيما يتعلق بالطلب على المنتَجات المحلية؛ فقد تأثَّرَت صادرات السُّكَّر — التي كانت من الصادرات الرئيسية — بمنافَسة السُّكَّر المُنتَج في الأمريكَتَين. وبدأَت المنسوجات — التي كانت أيضًا من الصادرات الرئيسية — تُعاني من مُنافَسة المنسوجات الأوروبية المستورَدة في السوق المحلية. أضف إلى ذلك، أن الطبقة الوسطى تَأثَّرت نتيجة التحوُّلات التي أصابت أنماط العمل التجاري؛ فقد أصبحَت التجارة في الواردات الأوروبية التي نافسَت الإنتاج المحلي، أكثر إدرارًا للربح.
وعند نهاية القرن السابع عشر، ظهرت البيوت المملوكية التي ما لَبِثَت أن قامت بالسيطرة على مَوارد مصر الاقتصادية بوضْع أيديهم على النظام الضريبي، وهي عملية أتاحت لهم تحويل الإيرادات — التي تُعَد حقًّا للدولة العثمانية — إلى جيوبهم الخاصة. وأصبحت تلك النُّخبة العسكرية تَتحكَّم في مَوارد الدولة بصورة أكبر، من خلال السيطرة على نظام الالتزام، وما يُدِرُّه من أرباح وفيرة. وكان ضَعف قبضة الدولة المركزية العثمانية على النظام الضريبي قد أَثَّر في ثروات الطبقة الوسطى.
وقد أَخْلى هيكل السُّلطة المسترخِي الطريق أمام قيام هيكل للسُّلطة أكثر تماسكًا وتَراتُبًا (هيراركية)، وأدَّى دَعْم البيوت المملوكية وما تَرتَّب عليه من استقطاب للسُّلطة إلى حدوث استقطاب مُماثِل بين العلماء الذين استفاد كبارهم من توثيق روابطهم بالمماليك. وقام نوع من مركزية السُّلْطة نَجَم عن سيطرة البيوت المملوكية على الموارد الاقتصادية؛ فأصبحَت السُّلطة أكثر قوة، مُتَّخِذة الطابع الهرمي.
وفي أوائل القرن الثامن عشر بَسط بيت مملوكي واحد — بيت القَازدوغلية — سُلْطته على البلاد، وانْتسبَت إليه مُعظَم الشخصيات السياسية المهمة في القرن الثامن عشر. وفي عهد علي بك الكبير الذي قام بتصفية البيوت المملوكية الأخرى، ما لبث أن قام بالسيطرة على الأعضاء الآخَرِين من المماليك الذين يَنتمون إلى البيت نفسه الذي انْتَمى إليه؛ وبذلك بلغت عَملية مركزية السُّلْطة ذروتها. وتراكمت الثروة من وراء احتفاظ المماليك بالموارد الضريبية التي كان يجب إرسالها إلى الدولة العثمانية، ومن خلال فَرْض ضرائب إضافية غير شرعية على سكان الريف والمدن على السواء. وسهَّل تحقيق ذلك غياب النظام الذي يَكفُل للإدارة المركزية للدولة نوعًا من الرقابة الدَّوْرية على الولاية.
وطوال القرن السابع عشر، ظَلَّت ثروات الطبقة العسكرية — التي كانت تسيطر تدريجيًّا على النظام الضريبي — محدودة، فيما عدا بعض الاستثناءات، ولم تَكن قد ظهرت مظاهر الحياة الرَّغْدة التي عاشها أمراء المماليك عند نهاية فترة الدراسة. ولكن أوضاعهم تَغيَّرت في القرن الثامن عشر، وارتبط ظهور البيوت المملوكية بالبذخ المُريب في الإنفاق؛ حيث اقتنى كثير من المماليك قصورًا، وأعدادًا كبيرة من الجواري والعبيد. وقام كثيرون منهم ببناء المساجد والمدارس، فقام عثمان كَتْخُدا — على سبيل المثال — بتطوير الجزء الجنوبي من بِرْكة الأزبكية. وعلى مَرِّ عقود القرن الثامن عشر أصبح المماليك يعيشون حياة التَّرَف والبذخ، وأنشئُوا عديدًا من المباني على نطاق واسع، مثل عبد الرحمن كَتْخُدا الذي لم يَكْن هناك نظير لبرنامجه الإنشائي على مَرِّ العصور العثماني كله؛ فقد مَكَّنَتهم الثروة التي جَمَعوها من السكان من خلال الضرائب، من العيش الرَّغد والإنفاق ببَذَخ على مُتَع الحياة الناعمة التي عاشوها، والتوسع في شراء العبيد والمماليك والجواري، ونَتَج عن ذلك إفقار أولئك الذين ناءوا بحمل الضرائب.
وشهد أواخر العصر العثماني زيادة نفوذ نخبة العلماء وزيادة ثرواتهم، وهو اتجاه وثيق الصِّلَة ببروز أمراء وبَكوات المماليك. وكان بعض العلماء البارزِين يَرتبِطون ارتباطًا وثيقًا بالمماليك، مما مكَّنهم من تكوين ثروات ضخمة، وبذلك ظَهر كبار علماء القرن الثامن عشر بين مَصافِّ الأثرياء.
وصحب هذا التَّغيُّر؛ مُستوًى مُعيَّن من الاستقطاب، ليس في المجتمَع ككل فَحسْب، بل بين فئة العلماء؛ فَتركَّزت الامتيازات والمَغانِم عند القمة؛ مما أَضر بصغار العلماء الذين فَقدوا نصيبهم الذي كان لهم من قبل، وازداد إحساسهم بالحرمان مما كان حقًّا طبيعيًّا لهم، وأنهم استُبعِدوا من الاستفادة من خيرات الأوقاف ومُرتَّباتها ووظائفها التي أصبحت تَتركَّز — بصورة أكبر — في أيدي القِّلة من كبار العلماء ومن لاذوا بهم.
ونتيجة لذلك، كانت هناك صلات وثيقة بين المماليك والرعية؛ فثمة روابط أفقية تتمثل في المصالح المشتركة، خَفَّفت من وَقْع سياسة الاستغلال أكثر من العلاقات الرأسية. ولهذا السبب، كان على الملتزِمِين والإنكشارية أن يَتوصَّلوا إلى نوع من الشراكة مع سكان المدينة؛ نظرًا للأهمية البالغة لاستغلال الموارد الحَضَرية.
رَدُّ الفعل من جانِب السكان
وهذه الدراسة لا تُعْنَى كثيرًا بهذه الأحداث في حَدِّ ذاتها، ولكنها تُعْنَى بالطريقة التي عَبَّر المتعلِّمون بها عن رأيهم حِيالها، كما تُعْنَى بتحليل كتاباتهم المتَّصلة بها.
ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية
على مَرِّ الفترة الواقعة بين التحوُّلات الكبرى في التجارة الدولية، والتي تم خلالها استبدال السُّلْطة المركزية بهيكل السُّلْطة الأقل مركزية، عاشت الطبقة الوسطى حياة ذات مستوًى مادِّي مُريح، وتَدعَّمت ثقافتها، وحَصَلت على نوع من الاعتراف. وقد تضامَنَت مجموعة من العوامل شَكَّلت أساس ثقافة الطبقة الوسطى؛ لتحقيق ازدهارها المادي. وخلال ذلك العصر الذي كانت فيه الطبقة الوسطى تُمثِّل جزءًا أساسيًّا من الاقتصادي الحَضَري، تصاعدت مكانتها الاجتماعية، وحَظِيت ثقافتها باعتراف وشرعية على نطاق واسع.
وأوجدت أهمية الثروة الحَضَرية للطبقة الحاكمة مستوًى من المصالح المشترَكة بين سكان الحَضَر، جلب معه تفسيرًا أكثر صراحة للمَصالح، وتَرتَّب عليه مرونة كبيرة في ثقافة الحكام تجاه ثقافة سكان الحَضَر، وجاءت النتائج مُركَّبة الطابع، فقد اتَّسع نطاق ثقافة الطبقة الوسطى، واستطاع أفرادها المساهَمة بفاعلية أكبر في الإنتاج الثقافي، وكان بمقدورهم إنفاق كثير من المال على أغراض كمالية، مثل شراء الكُتب، وبذلك فتحوا قنوات جديدة للتعلُّم والمعرفة. وفرضت ثقافتهم — نتيجة لذلك — وجودها، وتَركَت أثرًا واضحًا على الكتابة وموضوعاتها وأسلوبها، كما تركت أثرًا على اللغة ذاتها. وفي الأوقات التي أتاحت لهم فيها الأحوال الاقتصادية وزنًا اجتماعيًّا مُعيَّنًا، حَظِيت ثقافتهم بالقبول عند القُوى الاجتماعية المختلفة بما في ذلك العلماء. ونستطيع أن نرصد بينهم بعض الأفراد الذين نالوا قَدرًا من التعليم خارج إطار نظام التعليم القائم، ودون أن يَكونوا من العلماء يَقرءون ويَكتبون، ولكنهم يَعملون في مِهَن أخرى لا صِلة لها بحَقل العلم، ولكن لهم اهتمامات اجتماعية واسعة النطاق. كما يُمكِننا رَصْد نوع من الثقة بالنفس، وتأكيد الذات عند هذه الثقافة الصاعدة.
والحق أن الفترة التي وُجِدت فيها روابط المصالح المشترَكة بين الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى الحَضَرية سَمحَت بمرونة نِسبية بين حدود الثقافة الرسمية وثقافة الطبقة الوسطى، حتى أصبحت الأخيرة أكثر ظهورًا، وأكثر انتشارًا على المشهد الثقافي كله. وبعبارة أخرى، اخترقت ثقافة الطبقة الوسطى — عند مستوًى مُعيَّن — مجال الثقافة الرسمية؛ لتجلب معها نوعًا من الديموقراطية في جوانب بعينها من الثقافة العلمية. وسوف نتناول الشواهد الدالة على ذلك بالتفصيل فيما بعد.
ومع تَغيُّر الظروف، وتَبايُن المصالح بين الطبقة الحاكمة والطبقة الوسطى، عكست ثقافة الطبقة الوسطى هذه القطيعة مع الطبقة الحاكمة والمؤسَّسة التعليمية الرسمية. فقد عانت الطبقة الوسطى تَدنِّيًا حادًّا في المجال الثقافي الذي تَمتعت به لفترة زمنية طويلة، نتيجة تَغيُّر الأحوال والصعوبات الاقتصادية التي عانى منها الناس جميعًا، وتَرتَّب على تحوُّلات الهيكل الاجتماعي وعملية الاستقطاب الاجتماعي في القرن الثامن عشر؛ وقوع الطبقة الوسطى في وَهْدة الفقر، وتَناقصت أعدادهم التي زادت على مدى ما يزيد عن القرن؛ بسبب انحدار الكثيرين إلى مَصافِّ الفقراء.
وظهر بُعد سياسي في كتابات بعض أفراد تلك الطبقة، الذين عَبَّروا في كتاباتهم عن الانعزالية واللامبالاة. وهكذا عندما تَلاشى زمان المكانة البارزة التي كانت لهم من قبل، وأصبحت ثقافتهم مُحاطة بحدود مُعيَّنة لا تُجاوِزها، اكتسبت تلك الثقافة — أيضًا — أبعادًا جديدة.