الكتب والطبقة الوسطى
لقد اقترنَت — زمنيًّا تقريبًا — الظروف التي جَعلَت التعليم مُتاحًا ووفَّرَت قنوات نقل المعرفة بصورة من الصور، مع ظاهرة من طبيعة مختلفة شَجَّعت على انتقال المعرفة هي الكتب. وهي ظاهرة ذات طابع مادي أثَّرت على سكان القاهرة، كما أثَّرت على غيرهم من سكان مدن الدولة العثمانية، ونَتج عنها أن أصبح الكِتاب في متناوَل أيديهم. وكانت — أيضًا — ظاهرة ذات بُعد إقليمي. والواقع أن انتقال الاهتمام بالكتب من الطبقة العليا إلى الطبقة الوسطى — الذي يطرحه هذا الفصل — اقترن أيضًا باتجاه مماثل في أوروبا في تاريخ سابق وعلى نطاق مختلف. فقد ارتبط انتشار الكتب في أوروبا بالطباعة. ولكن الشرق الأوسط لم يعرف الطباعة إلا في تاريخ لاحِق لاختراعها في أوروبا؛ فلم تعرفها مصر إلا في القرن التاسع عشر. غير أن ثَمَّة تطورات مُهمَّة حدَثَت في بواكير العصر الحديث، أتاحت فرصة انتشار الكتب بين أفراد الطبقة الوسطى الحَضَرية، ويعني ذلك أننا بحاجة إلى تحديد الظروف التي يَسَّرت سبيل ذلك، بعيدًا عن عامِل استخدام المطبعة.
هناك مؤلَّفات ضخمة تتحدث عن انتشار معرفة القراءة والكتابة واقتناء الكتب في بلاد كثيرة، مثل فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وإنجلترا، كشفت النقاب في السنوات الأخيرة عن إقبال سكان المدن على الكتب، وأثرها على ما كان يُكتَب. وقد ارتبطت هذه الظاهرة بنمو المدن الأوروبية واستخدام الطباعة.
إن نمو ثقافة الكتب عند الطبقة الوسطى الحَضَرية القاهرية، التي لم تَكن تنتمي إلى الطبقة الحاكمة التي صُنعَت من أَجْلها الكتب ذات المستوى الفني الرفيع، ولا إلى المُؤسَّسة الدينية التي ارتبط بها التعليم الديني، يُعدُّ ظاهرة ثقافية ذات مغزًى. ولا بد أن يكون لمثل هذه الظاهرة أثرها على الإنتاج الفعلي للكتب، وعلى المادة التي تتضمَّنها، ويهتم هذا الفصل بدراسة هذا الاتجاه وما تَرتَّب عليه من نتائج بالنسبة لسوق الكتب وقرائها.
والواقع أن هذا الاتجاه جاء نتيجة لمجموعة من العوامل المختلفة؛ فقد اقترن اقتناء الكتب بالحالة الاقتصادية للمشتري التي تتيح له فرصة اقتنائها، ومن ثَمَّ لا نستطيع أن نفصل بين دخول قطاعات عديدة من الطبقة الوسطى الحَضَرية في إطار الرأسمالية التجارية، وقُدرَتهم على إنفاق الأموال على سلعة كمالية مثل الكُتب. وهناك عامِل آخَر بالِغ الأهمية هو وجود أدلة على تناقُص أسعار الكتب تناقصًا كبيرًا، وأن الكُتب الرخيصة كانت متاحَة في أواخر القرن السابع عشر لأسباب، سنأتي على ذِكرها فيما بعد.
ويرتبط انتشار الكتب على نطاق واسع باستخدام الطباعة، وهناك دراسات كثيرة تَناولَت أثر الطباعة والتوسُّع الكَمِّي في إنتاج الكتب الذي أدَّى إلى انتشار تداولها ورخص أسعارها بصورة غير مسبوقة. ولكن، هل كانت الحاجَة إلى الكتب نتيجة أو سببًا لاختراع الطباعة؟ إن النظرة السائدة عند مؤرِّخِي مصر أن استخدام الطباعة — بمبادرة من الدولة في عهد محمد علي — جاء نتيجة زيادة الطلب على الكُتب في القرن التاسع عشر، ولكن هذا الرأي لا يصلح لتفسير انتشار الكتب في بواكير العصر الحديث، وحتى نفهم لماذا أصبحت الكُتب سلعة مطلوبة عند الطبقة الوسطى، نحتاج إلى إيضاح عوامل أخرى؛ من بينها الطلب على الكتب. والطلب على الكتب جاء نتيجة تَمتُّع الطبقة الوسطى الحَضَرية بمستوًى معيشي مُريح في فترة زمنية مُعيَّنة، وتحقيقها لمستوًى مُعيَّن من معرفة القراءة والكتابة والتعليم، على نحو ما رأينا في الفصول السابقة. وحتى نفهم العوامل التي ساعدَت على تلبية الطلب على الكتب، لا بد أن نضع في اعتبارنا بعض العوامل المادية، التي أدَّت إلى تخفيض أسعار الكتب بدرجة جعَلَتها في مُتناوَل أَيْدِي أعداد كبيرة من الناس.
وبذلك يمكن القول إن ثمة مرحلة وسيطة، سَبقت إدخال المطبعة والطباعة التجارية، حدث خلالها انتشار ملحوظ للكُتب. ويَفترِض هذا الفصل أن انتشار الورق الرخيص قَدَّم عنصرًا جديدًا في هذا المجال كان من العوامل الرئيسية التي ساعدت على إنتاج وانتشار كُتب رخيصة نِسبيًّا قَبْل الطباعة.
ولهذا التفسير عدَد من المزايا؛ فهو يُلقِي الضوء على ظاهرة مُعيَّنة شهدها القرنان السابع عشر والثامن عشر في القاهرة وربما في غيرها من المدن؛ مثل: حلب، ودمشق، وإسطنبول، لم نضع أيدينا — حتى الآن — على تفسير لها، وتتمثل هذه الظاهرة في وجود أعداد كبيرة من الكتب التي تم نَسخُها، وكذلك أعداد كبيرة من النصوص الشفاهية تم تدوينها، ثم نوعية الأسلوب اللغوي المستخدَم في كثير من هذه النصوص (الذي نعالجه في فصل مستقل)، وأيضًا الطبيعة الشعبية لكثير من النصوص التي كُتبِت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأخيرًا تُقدِّم هذه الظاهرة تفسيرًا لاتجاه آخر يعرفه المؤرِّخون المشتغِلون على أرشيف المحاكم في العالَم العثماني، وهو أن الورق — في صورة الوثائق المدوَّنة — له أهمية خاصة في هذا الإطار، فمن المعروف أن شهادة الشهود أمام المحكمة دليل كافٍ لإثبات صحة الوثيقة من الوجهة الشرعية الإسلامية، وفي حالة نشوب نزاع بين طرفين يُقدِّم الشهود شهادتهم بطريقة أو بأخرى لصالح هذا الطرف أو ذاك. ولكن، حدَث خلال القرن السابع عشر تعديل في الإجراءات؛ فقد استُخدِمت الوثيقة المدوَّنة كثيرًا كدليل أخذت به المحاكم الشرعية باعتباره أداة إثبات معترَفًا بها. هذه الحقيقة تقوم دليلًا على التوسُّع في استخدام الورق.
وهناك أيضًا بُعد إقليمي لهذه المسألة، فقد شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا بدراسة الكُتب وانتشار قراءتها، فأُجرِيت بحوث في هذا المجال على إسطنبول، وتسالونيك، ودمشق، ولبنان، وألبانيا وغيرها من الأماكن، على معرفة القراءة والكتابة، وعلى المكتَبات الخاصة والعامة. غير أن الاهتمام بدراسة الظاهرة لم يتجاوز مُدنًا بعينها داخل الدولة العثمانية، ولم يَمتدَّ إلى خارج حدود الإقليم. غير أن حقيقة وجود توسُّع ملحوظ في اقتناء الأفراد للكتب في بضعة مدن عثمانية أخرى، لا يجعل تفسير تلك الظاهرة محدودًا بظروف مدينة القاهرة، أو دمشق، أو إسطنبول، أو محصورًا داخل حدود مُعيَّنة، بل علينا أن نلتمس تفسيرًا أوسع نطاقًا منها جميعًا.
وتُبيِّن هذه الدراسات الفردية التي ركَّزت على مواقع محلية بعينها مدى الحاجة إلى تقديم تفسير عام لظاهرة تجاوَزت الحدود الإدارية للولايات، وإلَّا توصَّل الباحث إلى نتائج مضلِّلة، عندما تصل إحدى الدراسات إلى أن معرفة القراءة والكتابة واقتناء الكتب كانت ملمحًا بارزًا لفئة مُعيَّنة مثل المسيحيِّين في سوريا ولبنان مثلًا. فلا يتضح معنى الظاهرة إلا من خلال منظور أوسع مدًى، يضعها في السياق العام.
ومن السهولة بمكان تبَيُّن أعداد المخطوطات التي كتبت خلال الفترة بالرجوع إلى كتالوجات المخطوطات بالقاهرة وغيرها من المدن والبلاد. فكتالوجات المخطوطات العربية في العالم العربي، وتركيا، وأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية تحتوي على مئات الآلاف من تلك المخطوطات، كُتبت أو نُسخ كثير منها في مطلع العصر الحديث، وتشير إلى ما كان لثقافة الكُتب من أهمية بالِغة. إن إمعان النظر في كتالوجات المخطوطات العربية الموزَّعة على مكتبات العالم يُعد دراسة ممتِعة يمكن من خلالها تَعرُّف الفترات التي نشط فيها إنتاجها تأليفًا ونسخًا، وكذلك تغير أذواق القراء بالنظر فيما تم إنتاجه من كتابات.
وتؤيِّد الكتالوجات الرئيسية للمخطوطات العربية الاتجاه نفسه، وخاصة الزيادة الملحوظة في أعداد المخطوطات التي نُسخَت في القرن الثامن عشر، بِغَض النظر عن تاريخ تأليفها، فقد فاقَت أعدادها بكثير أعداد المخطوطات التي نُسِخَت في الفترات السابقة على ذلك القرن. وينسحب ذلك على كثير من مجالات المعرفة؛ مثل: العلوم، والأدب، والتاريخ، والحَوْليَّات، وغيرها. ومن أمثلة ذلك الحَوْليَّات التي كُتبت في عصر المماليك، فالكثير مما وصلنا منها نُسِخ في العصر العثماني وليس في عصر المماليك. كما أن غالبية المخطوطات العلمية تحمل تواريخ نسخِها في العصر العثماني في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بما في ذلك كثير مما تم تأليفه قبل ذلك بقرون عدة، وهي حقيقة يؤكِّدها فهرست المخطوطات العلمية المحفوظة بدار الكتب المصرية الذي أعده دافيد كنج. فقد تضمن مجموعة كبيرة من المخطوطات التي تم نسخُها في القرن الثامن عشر في الفَلك والرياضيات، وغيرها من العلوم الأخرى، يفوق مُجمَل ما تم نسخُه في غيره من القرون. ويشير كتالوج المخطوطات العربية بالمكتبة الوطنية بباريس إلى الظاهرة نفسها؛ حيث تفُوق أعداد المخطوطات التي نُسِخَت في القرنين السابع عشر والثامن عشر مُجمَل ما نُسِخ في القرون السابقة عليهم؛ خاصة في الأدب، والحكايات، والطرائف والنوادر، والتاريخ، والحَوْليَّات، وبذلك يتأكد شيوع هذه الظاهرة.
ويُلاحَظ أن ثَمَّة كثافة في نسخ في القرون السابقة عليهم؛ خاصة في الأدب، والحكايات، والطرائف والنوادر، والتاريخ والحَوْليَّات، وبذلك يتأكد شيوع هذه الظاهرة.
ويمكن استخلاص نتائج مماثلة من مصدر آخر هو قوائم التَّرِكات؛ فقد تضمَّنَت الكتب التي ذُكرت بياناتها تفصيليًّا: العناوين، والأعداد، والقيمة المادية، وبذلك نستطيع أن نُكوِّن فكرة واضحة عن المكتبات الخاصة بالأفراد، وقيمة الكتب وأحجامها، ولَمَّا كانت سِجلَّات المحاكم عديدة؛ وتغطي فترة زمنية طويلة، فإن باستطاعتنا أن نرصد اتجاه اقتناء الكتب فيما بين أوائل القرن السابع عشر وأواخر القرن الثامن عشر، وهنا نستنتج من تَعدُّد تلك المكتبات الخاصة أن الكتب قد أصبحت في متناول أيدي عديد من الناس.
ويمكن ملاحظة آثار هذا الاتجاه على مستوَيات متعدِّدة؛ فالأرقام الواردة بسجلات التَّرِكات تشير إلى وجود زيادة واضحة في عدد الأفراد الذين امتلكوا مكتبات خاصة فيما بين أوائل القرن السابع عشر حتى نحو منتصف القرن الثامن عشر. ونظرة فاحصة إلى تلك السِّجلَّات في محكمة القسمة العسكرية، حيث كان يتم النظر في تَرِكات العسكر، ومحكمة القسمة العربية حيث كان يتم النظر في تَرِكات الرعايا المدنِيِّين، ففي السنوات العشر (١٦٠٠–١٦١٠م) تبين وجود ٧٣ مكتبة خاصة.
وفي القرن الثامن عشر زاد هذا الرقم زيادة كبيرة على نحو ما يتضح من سِجلَّات تَرِكات السنوات العشر (١٧٠٣–١٧١٤م)، حيث بلغ عدد المكتبات الخاصة ١٠٢ مكتبة (أي إنها زادت بمقدار الثلث خلال قرن واحد). وتشير سِجلَّات الفترة (١٧٣٠–١٧٤٠م) إلى وجود زيادة كبيرة في أعداد تلك المكتبات لتصل إلى ١٩٠ مكتبة خاصة. ونحو منتصف القرن بدأت أصداء الأزمة الاقتصادية تترَدَّد بين مختلف قطاعات المجتمَع، ومن ثَمَّ حدث انخفاض في عدد المكتبات الخاصة؛ ففي الفترة (١٧٤٩–١٧٥٩م) بلغ عدد المكتبات الخاصة بالتَّرِكات ١٠٢ مكتبة.
التاريخ | عدد المكتبات | عدد الكتب |
---|---|---|
١٦٠٠–١٦١٠ | ٧٣ | ٢٤٢٧ |
١٧٠٣–١٧١٤ | ١٠٢ | ٣٥٣٥ |
١٧٣٠–١٧٤٠ | ١٩٠ | ٥٩٩١ |
١٧٤٩–١٧٥٩ | ١٠٢ | ٢٠٧٧ |
يلاحظ أن عدد الكتب لم يُذكَر في بعض الحالات، ويُشار فقط إلى أن التركة تضم كتبًا (دون تحديد لأعدادها أو عناوينها)، وبالتالي لا تُعبِّر أعداد الكتب المذكورة بالجدول عن الواقع. |
ولهذه الأرقام مَغزاها، خاصة إذا تَذكَّرنا أن التَّرِكات لا ينتقل أَمرُها إلى المحكمة إلا في حالة نشوب نزاع حَوْلها بين الورثة، أو عندما يكون بين الورثة قُصَّر. وكان بعض أصحاب المكتبات الخاصة يقومون بوقفها، ومن ثَمَّ لا تظهر ضمن تَرِكاتهم. ومعنى ذلك أن أعداد المكتبات الخاصة بالبيوت لا بد أن تكون أكبر كثيرًا، مما يمكن استخلاصه من قوائم التَّرِكات.
كذلك أضافت القيمة الإجمالية للكُتب التي تَضمَّنَتها تَرِكات أصحاب المكتبات الخاصة مبالغ مالية كبيرة (بمعايير العصر)، وإن كانت القيمة الموضحة بالجدول التالي تَقتصر على المكتبات الخاصة، التي حُدِّدت أسعار ما تضمَّنَته من كُتب في قوائم التَّرِكات.
السنوات | القيمة (بالنصف فضة) | القيمة التقديرية (بالقرش) |
---|---|---|
١٦٠٠–١٦١٠م | ٣٦٥٩٦٤ | ١٢١٩٩ |
١٧٠٣–١٧١٤م | ٣٣٢٢٢٠ | ١١٠٧٠ |
١٧٣٠–١٧٤٠م | ٧٩٧٧٠٣ | ٢٦٥٩٠ |
١٧٤٩–١٧٥٩م | ٦٠٠٧٠٦ | ٢٠٠٢٤ |
ملحوظة: النصف هو البارة، وكل ٣٠ بارة — تقريبًا — تساوي قرشًا واحدًا. |
وسعيًا للوقوف على أسباب التوسع في إنتاج الكتب، وانتشار تداولها، لا بد أن نستنبط بعض تلك الأسباب؛ فبالنسبة للورق، هناك أدلة ثابتة على وفْرَته، وأن أسعاره جعَلَته في مُتناوَل الجميع. وهذا الجانب يمكن توضيحه من خلال إلقاء الضوء على إنتاج الورق وتجارته.
ويجب أن نضع في اعتبارنا وفرة كميات هائلة من الورق الرخيص الثمن؛ حتى نفهم السبب وراء إنتاج تلك الأعداد الضخمة من المخطوطات التي تُكوِّن الجانب الأكبر من مجموعات المخطوطات العربية، التي تم إنتاجها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي نُسِخَت ضِمنها أعداد كبيرة من المخطوطات السابقة على ذلك العصر، بما في ذلك المخطوطات القِبْطيَّة. ومن الملاحَظ أن إنتاج وتجارة الورق في ذلك العصر لم تَنل حظَّها من الدراسة بالقَدْر الكافي، ولكن من الواضح أن السوق عَرفت أنواعًا مختلِفة من الورق، تَفاوتَت — تبعًا لذلك — أسعارها. وكان من بينها نوع فائق الجودة؛ فالأوراق التي صُنعت منها دفاتر المحاكم الشرعية سميكة ومتينة، قاومت عوامل الزمن — رغم سوء الطريقة التي حُفِظَت بها — لتظل باقية على مَرِّ القرون ولا بد أن نوعية أوراقها كانت ممتازة، غالية الثمن. غير أن إلقاء نظرة على كتالوجات المخطوطات العربية توحي لنا أن الأمور لم تكن دائمًا على هذا النحو الإيجابي، فالوصف المُقدَّم لتلك المخطوطات يُوضِّح أن بعض المخطوطات نُسِخَت على نوعية رديئة من الورق.
وثمة عامِل آخر يجب إضافته إلى المعادَلة، له علاقة بالنَّسخ والنسَّاخِين؛ فيذكر الجَبَرْتي أن بعض النسَّاخين كانوا يستفيدون من مهارات الكتابة؛ ليزيدوا من سرعة إنتاجهم، فقد درج الشيخ رمضان الخوانكي (المتوفَّى ١١٥٧ﻫ/١٧٤٥م) على استخدام أسلوب فني أتاح له مُضاعَفة عدد الكتب التي يقوم بنَسخِها من أجل بيعها، فينتج بضعة نُسخ في وقت واحد، حتى إنه كان ينتج من الصفحة الواحدة أربع أو خمس نُسخ معًا، وبذلك استطاع إنتاج العدد نفسه من النُّسخ لكتاب واحد معًا في وقت واحد.
ونتيجة لذلك، كان عدد الكتب ذات النوعية المتميِّزة التي بَرزَت فيها جودة الصَّنعة وجمال الخط، واستخْدَمت أحسن أنواع الورق، قليلًا نسبيًّا، بينما كانت الأعداد الكبيرة من الكتب تُنتَج لتلبية حاجة السوق، لمستهلِك لا يهتم كثيرًا بالنوعية أو الإخراج الفني. وكان لذلك نتيجتان؛ أولاهما: أن الكتاب قد أصبح سلعة تجارية، وليس قاصرًا على رُعاة الثقافة أو التعليم الديني وحده؛ وثانيتهما: أن إنتاج الكتب لم يكن مُكلِّفًا؛ وتؤكد ذلك الأسعار الرخيصة نسبيًّا للكتب.
غير أن هذا الهبوط في مستوى نَسخ الكتب وإخراجها، لم يُؤثِّر على مُستوى الكتابة أو إنتاج الكتب تأثيرًا سلبيًّا. فقد استمر الطلب على النُّسخ عالية المستوى ذات الخط البديع، وخاصة في القرن الثامن عشر عندما كوَّن المماليك ثروات كبيرة، ولم تكن ملامح المشهد الثقافي عندئذٍ تُعبِّر عن غياب الكتب ذات المستوى الفني الرفيع، طالما كان المماليك يَسعَون لاقتناء النُّسخ الثمينة رفيعة المستوى منها طوال القرن الثامن عشر، ولكن كان ظهور النُّسخ المتواضعة المستوى نَسخًا وإخراجًا هي المَلمح البارز عندئذٍ.
ونستطيع أن نُخمِّن أسعار الكتب بين هذه الفترة، والفترة اللاحقة لها من خلال قوائم التَّرِكات التي تُعَد مصدرًا غنيًّا لتعرف أسعار الكتب؛ فقد كانت الكتب التي تتضَمَّنها تَرِكة المتوفَّى تُباع بالمزاد في سوق الكُتب، ويتم توزيع عائد البيع على الورثة حسب الأنصبة الشرعية. ولذلك يُمثِّل ما نجده في سِجلَّات التَّرِكات سعر البيع لكتب مستعمَلة.
الفترة الزمنية | عدد التَّرِكات | القيمة بالنصف وعدد الكتب لكل فئة | ||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|
١–٣٠ | ٣١–١٠٠ | ١٠١–٣٠٠ | ٣٠١–٥٠٠ | ٥٠١–١٠٠٠ | ١٠٠١–١٠٠٠٠ | فوق ١٠٠٠٠ | ||
١٦٠٠–١٦١٠ | ٢٥ | ٧٢٣ | ٦١٦ | ٣٩١ | ٩٨ | ٤٥ | ٣٧ | ٠ |
١٧٠٣–١٧١٤ | ٥٣ | ١٤٥٩ | ٩٩١ | ٥٢٧ | ١٣٠ | ٦٢ | ٤٥ | ٠ |
١٧٣٠–١٧٤٠ | ١٠٣ | ٢٣٢٢ | ١٦٩٢ | ٨٨٢ | ١٩٧ | ١٥٥ | ١٠٥ | ١ |
١٧٤٩–١٧٥٩ | ٤٦ | ٨٩٨ | ٥٠٤ | ٢٨٦ | ٦١ | ٥٨ | ٥١ | ٠ |
الإجمالي | ٢٢٧ | ٥٤٠٢ | ٣٨٠٣ | ٢٠٨٦ | ٤٨٦ | ٣٢٠ | ٢٣٨ | ١ |
وتشير الأسعار الواردة بالجدول إلى أن نطاق الأسعار كان متَّسِعًا، فأرخص الكتب سعرًا هو ما بِيعَ بثلاثين نصفًا أو أقل، ولعلها رسائل صغيرة الحجم حيث كانت الخمس منها تباع بعشرة أنصاف، وأغلى الكتب ما بِيعَ بما يزيد قليلًا عن ١١٠٠٠ نِصف، وكان ضِمْن تَرِكة أحد العلماء؛ أي إن قيمته تبلغ مئات أضعاف الكُتب الرخيصة الثمن، كما يشير الجدول إلى أن غالبية الكتب كانت من الفئات الرخيصة الثمن، بينما القليل من الكتب (٢٣٨ من إجمالي عَدد الكتب الذي بلغ ١٢٥٦٢ كتابًا؛ أي بنسبة أقل من ٢٪) تراوحت أسعارها بين الأَلْف والعشرة آلاف نِصف، وهو ثَمن يَدل على أن المستوى الفني لإنتاجها كان رفيعًا، سواء من حيث الخط أو الزخرفة أو نوعية الورق. ولكن العدد الأكبر من الكتب هو ما بلغ ثَمنه ثلاثين نِصفًا فأقل وتبلغ نِسبَته نحو ٤٣٪. وهذه الأرقام لها دلالاتها؛ لأنها تُؤكِّد وفرة الكتب الرخيصة، ووجود فرق كبير في السعر بين الكتب العادية التي يُقبل عليها عامة الناس، والكتب الفاخرة التي تُنْتَج لطبقة مُعيَّنة من المستهلِكين.
ويمكن أن يرجع الفرق الكبير في السعر بين هذه النوعية وتلك إلى عوامل مختلفة؛ مثل: حالة الكتاب، ونوع الورق، ونوع الخط المستخدَم في النَّسخ، ووجود الزخرفة أو غيابها، وحجم الكتاب، وكلها عوامل لا تظهر في سِجلَّات التَّرِكات. واتساع نطاق الأسعار على هذا النحو يشير إلى أنها لم تكن جميعها مخطوطات فاخرة. والواقع أن مؤرِّخِي الفنون يَروْن أن تقاليد زخرفة ورسم المخطوطات قد تدهوَرت تمامًا في ذلك العصر.
ومن ناحية أخرى، نجد عناوين الكتب تظهر في تلك السِّجلَّات تحت أسعار مختلفة (للعنوان الواحد)، ويدل ذلك على اختلاف حالة النُّسَخ أو مستوى إخراجها، وهي أمور لا نستطيع التأكد منها. ولكننا نعلم — أيضًا — أن الكتب يتم إنتاجها لتلبية طلب نوع مُعيَّن من القراء ممن يستطيعون أو لا يستطيعون اقتناء النُّسخ الفاخرة. وتوضِّح المكتبات الخاصة الواردة بسجلات التَّرِكات وجود أعداد كبيرة من كُتب التصوُّف؛ مثل مؤلَّفات الشَّعراني، أو «دلائل الخيرات»، وهو كتاب في الأوراد الصوفية، فنجده دائمًا في جميع المكتبات الخاصة، سواء تلك التي تخص الطبقة الحاكمة أو التجار أو الحِرَفِيِّين.
وتشير هذه السِّجلَّات إلى وجود نُسخ زهيدة الثَّمن من «دلائل الخيرات»، وأخرى متوسِّطة الثَّمن، وثالثة غالية الثمن. فيباع الرخيص منها بسعر يتراوح بين ١٠–١٥ نصفًا، بينما تُباع النسخة الفاخرة منها ببضع مئات من الأنصاف. ويسري ذلك أيضًا على مؤلَّفات الشيخ عبد الوهاب الشَّعراني (المتوفَّى عام ١٥٦٥م)، وهو صاحب طريقة صوفية وشيخها، حَظِي بشعبية كبيرة في القرن الثامن عشر، وتوجَد نُسخ من كتابه متنوعة الأسعار في التَّرِكات الخاصة بأفراد ينتمون إلى مختلف القوى الاجتماعية.
لقد وقع ذلك في أواخر القرن السادس عشر، في زمن كانت فيه هذه الطريقة تُمثِّل إحدى الوسائل العديدة للحصول على كتاب جديد. ولكن طلب نَسْخ نسخة من الكِتاب لم يَعُدْ أسلوبًا شائعًا بعد ذلك بوقت طويل، فالكثير من الكتب (المؤلَّفة أو المنسوخة) كان يُنتَج لاستخدام العلماء والطلاب ولكنها لم تكن سلعة في سوق الكتب. وكان الكثير من الكتب يُنتَج بِناء على طلب أفراد الطبقة الحاكمة، فعندما ازداد المماليك نفوذًا وثراءً، اتَّجَه كثيرون منهم إلى اقتناء المكتبات الخاصة التي تضم عددًا كبيرًا من الكتب.
غير أن إنتاج الكتب للسوق، أضاف عنصرًا جديدًا للصورة، حتى لو كان يُمثِّل نسبة محدودة مما تم إنتاجه من الكتب؛ فرغم أن الكتب التي أُنتِجت للمعلِّمين والطلاب غَلبت على غيرها من الكتب التي تم إنتاجها؛ فإن كثيرين من الناس أَقبلوا على اقتناء هذه الكتب؛ مما جعل إنتاجها يَتَّجه إلى تلبية الطلب عليها في السوق.
ومن الأهمية بمكان — بالنسبة للمؤرِّخ — الوقوف على تأثير حركة الطلب على الكتب من حيث المحتوى، والموضوعات، ونوعية الإنتاج وحجمه، وكلها أمور جديرة بالدراسة لأهميتها بالنسبة لتاريخ الكتب، وتَطوُّر إنتاجها قبل دخول المطبعة وشيوع استخدامها، كما أنها ذات أهمية بالغة لهذه الدراسة التي نحن بصددها، وما تُبيِّنه لنا من نوعية الناس أو المجتمَع الذي تُنتَج هذه الكتب من أجْل تلبية حاجته.
ولا يعني ذلك أن كل من اقتنى «دلائل الخيرات» قد قرأها، فقد يفعل البعض ذلك، بينما اعتاد البعض قراءتها بصوت جهوري في بيته، واحتفظ بها البعض الآخر تَبَرُّكًا بها دون أن يحاول قراءتها، وخاصة عندما تُمثِّل الكتاب الوحيد الذي لديهم، كما حَفظ البعض مُقتطَفات منها. وهكذا تَنوَّعت طريقة استخدام «دلائل الخيرات» والتعامل معها بتنوُّع الأصول الاجتماعية والثقافية لأصحابها، غير أنها كانت الكتاب الفريد الذي اهتم الجميع باقتنائه.
أضف إلى ذلك، أن الأرقام المتعلقة بالمكتبات الخاصة تدل على وجود تَقدُّم واضح في الإقبال على اقتناء الكتب عند أفراد ممن يشتغلون بالوظائف الدينية المتوسِّطة والصغرى، ومن الباعة وأرباب الحِرَف، وغيرهم ممن لم تُحدَّد مِهنهم، ولكنهم جميعًا لا يَنتمون إلى المُؤسَّسة الحاكمة.
ومع انتشار اقتناء الكتب، واتساع دائرة قُرَّائها، ومع دخول الكتب بيوت كثير من الناس، ظَهرَت أشكال أُخرى للقراءة، فَتغيَّرت المواقف تجاه القراءة والطريقة التي كانت تُقرأ بها الكتب. فقد كان أحد تلك الأشكال هو القراءة مع أحد المعلِّمين أو القراءة جهرًا؛ فكان الشيخ يَحتلُّ بؤرة عملية نقل المعرفة؛ لأن التلاميذ يقرءون النصوص عادة مع شيوخهم. وكان التلاميذ يُنسَبون إلى شيوخهم الذين دَرَسوا عليهم، فكانت ترجمة العالِم تستند إلى الشيوخ الذين دَرَس عليهم، وإذا أسْعَده الحظ، امتَدَّ ذلك إلى تلاميذه الذين نَقل إليهم خِبْرته؛ لِتتكوَّن بذلك سلسلة ممن اشتغلوا بنقل المعرفة.
وقد تَكون القراءة — أيضًا — عملًا تَدريبيًّا يُشرِف عليه الشيخ بصورة أو بأخرى. هذه العلاقة بين التلاميذ ومعلِّمِهم قد تنمو من خلال المؤسَّسات التعليمية أو بطريقة بعيدة عن الطابع الرسمي، فيحدثنا الجَبَرْتي عن تلاميذ أبيه الشيخ حسن الجَبَرْتي الذين عاشوا في بيته سنوات؛ حتى يَستفيدوا من الاتصال اليومي به، ويُوضِّح هذا الشَّكل من أشكال نقل المعرفة أن الشيخ كان يَتولَّى توجيه التلاميذ إلى القراءة، ويُعِينهم على فَهْم النص.
وبمجرد أن أصبح الكتاب سلعة تجارية متاحة في السوق للراغِبِين في شرائها، بعد أن كان ذلك قاصرًا على الطبقة الحاكمة، أصبح باستطاعة التجار والباعة والحِرَفِيِّين وشيوخ الطوائف وغيرهم اقتناؤها؛ دخل عنصر جديد في هذه العلاقة فقد أصبحَت الكتب تُقرَأ وتُفْهَم بالجهد الفردي ودون حاجة إلى توجيه مُعيَّن. ومن ثَمَّ ارتبطت القراءة الخاصة بوفرة الكتب وسهولة اقتنائها، ولا يعني ذلك أنها لم تكن موجودة من قَبل، ولكن يعني أنها لم تكن تحظى باهتمام كافٍ، ولم تكن على درجة كبيرة من الانتشار.
وهكذا، نَتج عن التحوُّل الذي جاءت به الظروف المادية؛ قيام علاقة من نوع جديد بين الفرد والكِتاب، ويمكن أن نستنتج من ذلك وجود رابطة بين هذا الموقف الفعلي ووفرة الكتب نتيجة رخص أسعار الورق.
أثر انتشار الكتب على الطبقة الوسطى
تُعد سِجلَّات التَّرِكات مصدرًا غنيًّا لتحديد الفئات الاجتماعية التي اقتنت الكتب. وما يَتضح بجلاء من الأرقام الواردة بتلك السِّجلَّات أن اقتناء الكتب لم يكن — إلى حد كبير — قاصرًا على العلماء، والطبقة المشتغِلة بالتعليم.
الفترة الزمنية | ١٦٠٠–١٦١٠ | ١٧٠٣–١٧١٤ | ١٧٣٠–١٧٤٠ | ١٧٤٩–١٧٥٩ | المجموع |
---|---|---|---|---|---|
عسكر | ١٤ | ١٠ | ٤٥ | ١٨ | ٨٧ |
أفندية | ٨ | ١٤ | ١٩ | ١٢ | ٥٣ |
تجار | ٩ | ١٠ | ١٤ | ١٥ | ٤٨ |
علماء | ٣٣ | ٦ | ١٣ | ٧ | ٥٩ |
متوسطو العلماء | ٢ | ٩ | ٢٣ | ١٢ | ٤٦ |
حرفيون | ٥ | ١٧ | ٢٤ | ١٤ | ٦٠ |
نساء | ١ | ٥ | ٦ | ||
غير محدد | ١ | ٣٦ | ٤٧ | ٢٤ | ١٠٨ |
المجموع | ٧٣ | ١٠٢ | ١٩٠ | ١٠٢ | ٤٦٧ |
لقد اقتنى الكتب أفراد قلائل من الطبقة الوسطى عند بداية القرن السابع عشر، وخلال العقد الأول من القرن نفسه كان حوالي ١٢٪ من المكتبات الخاصة، التي وردت بسجلات التَّرِكات تعود إلى أفراد الطبقة الوسطى، ممن يَشغلون وظائف دينية أو تجارية أو حِرَفية. وقد ارتفعت هذه النسبة في القرن الثامن عشر، فمن بين ١٠٢ مكتبة خاصة جاءت بالتَّرِكات في الفترة ١٧٠٣–١٧١٤م، كانت منها: عشر تعود إلى التجار، وسبع عشرة لحرفيين (عطارين، قبانية، صياغ)، مما يعني أن هناك ٢٧ من بين ٩٢ من السكان النَّشِطين اقتصاديًّا امتَلَكوا مكتبات خاصَّة، أي بما يعادل الثلث تقريبًا.
وكان هناك ١٤ مكتبة خاصة اقتناها الأفندية من رجال الإدارة. وعلى النقيض تضم هذه العَيِّنة ١٥ فردًا يشتغلون بمهن ذات طبيعة دينية مثل العلماء وأئمة المساجد وموظَّفي المحاكم مما يجعلها بعيدة تمامًا عن الحضور الغالب لرجال الدين. ويَصدق الشيء نفسه على الفترة ١٧٣٠–١٧٤٠م (١٩٠ مكتبة خاصة) منها ٣٦ مكتبة تعود إلى التجار والحِرَفِيِّين (١٢ للتجار، و٢٤ للحرفيين) وكان من بين أولئك الحِرَفِيِّين قبانية وعطَّارون وحريرِيُّون ونسَّاجون، و٤٥ مكتبة تعود إلى أمراء، و١٢ للعلماء، و٢٣ للمشتغلِين بالمهن الدينية الأخرى، و١٨ للأفندية. وفي السنوات العشر الأخيرة ١٧٤٩–١٧٥٩م كانت هناك ١٠٢ مكتبة خاصة، منها ١٥ للتجار، و١٤ للحرفيين (قبانية، باعة بُن، باعة سُكَّر، طحَّانِين)، و١٢ للأمراء، و٧ للعلماء، و١٢ للأفندية ومثلها للمشتغِلِين بالمهن الدينية الأخرى؛ مثل القضاة (وهذه الأرقام تعود إلى أناس تضمَّنت تَرِكاتهم كتبًا، ولكنها لا تضع في اعتبارها عدد الكتب أو حجم المكتبات التي تكوَّنَت منها).
ويمكن قراءة هذه الأرقام — من مُنطلَق اجتماعي — بصورة أخرى. وفي كل الأحوال نحصل من تلك السِّجلَّات على صورة مُركَّبة، فعدد أولئك الذين يحتفظون بمكتبات خاصة في بيوتهم من الطبقة الوسطى الحَضَرية سواء كانوا من التجار أو الحِرَفِيِّين، كان ملحوظًا، وهي حقيقة تُناقِض المقولة السائدة من أن انتشار الكتب قبل استخدام الطباعة كان محدودًا. وأن أفراد الطبقة الحاكمة والعلماء وَحْدَهم كانوا قادِرِين على اقتناء الكتب، وأن أفراد الطبقة الوسطى لم يستطيعوا ذلك إلا في القرن التاسع عشر، كما أن وجود مكتبات خاصة بالبيوت لا يعني أن صاحبها وحده كان ينفرد بقراءتها، بل امتد ذلك إلى جميع أفراد الأسرة الذين قد يقرءونها مباشرة أو يستمعون إلى من يقرؤها بصوت جهوري؛ حيث كان ذلك النمط من القراءة شائعًا.
وإذا نظرنا إلى ظاهرة إقبال كثير من أفراد الطبقة الوسطى على اقتناء الكتب من منظور أوسع، فقد نجد أن هؤلاء كانوا من أكثر أفراد تلك الطبقة تمتُّعًا بالراحة المادية، ومن أكثرهم تعلُّمًا؛ أي أولئك الذين يعرفون القراءة ويستطيعون الإنفاق على شراء الكتب. ولكن نظرًا لكثرتهم العددية عن أفراد الطبقة الحاكمة أو العلماء، فقد كانوا عنصرًا مُهمًّا في رواج سوق الكتب. فقد تزامن رواج تجارة البُنِّ مع انخفاض أسعار الورق والإقبال على اقتناء الكتب، حتى إن قيمة الكتب التي خَلَّفها أفراد من الطبقة الوسطى ضِمن تَرِكاتهم كالحِرَفِيِّين ومتوسِّطي العلماء ومن لم تُحدَّد مهنهم، تُمثِّل نسبة كبيرة من القيمة الإجمالية للكتب الواردة بسجلات التَّرِكات في تلك الفترة؛ ففي الفترة ١٧٣٠–١٧٤٠م بلغ إجمالي قيمة الكتب بالتَّرِكات ٧٩٧٧٠٣ أنصاف، كان نصيب أفراد الطبقة الوسطى منها ١٧٢٥٠٣ أنصاف، بنسبة قدرها ٢١٪، وقد تناقصت هذه النسبة إلى ١٦٪ في الفترة ١٧٤٩–١٧٥٩م (٩٥٣٩٣ أنصاف من إجمالي قدره ٦٠٠٧٠٦ أنصاف)، وبذلك لم يكن وزن الطبقة الوسطى في سوق الكُتب كمُشترِين يمكن إغفاله، ولا شك أن ذلك أثَّر على نوعية الكتب التي طُرِحَت للبيع.
ولا شك أن إدخال الطباعة في عهد محمد علي كان أمرًا بالغ الأهمية أتاح فرصة انتشار الكتب بصورة أوسع نطاقًا مما كانت عليه الحال من قبل؛ خاصة وأن المطابع التجارية أخذت في الظهور، فقد أصبحت الكُتب زهيدة الثمن، مُتاحة لكثير من الناس، وزاد من اتساع نطاق تداولها الإصلاحات التعليمية، وإقامة نظام المدارس الحديثة، وزيادة أعداد من يعرفون القراءة والكتابة. غير أن هذه الحقائق لا يجب أن تجعلنا نغفل التطورات المهِمَّة التي سَبقت استخدام الطباعة، والتي لم تَكن لها نتائجها الاجتماعية فَحسْب، بل كان لها أثرها في استخدام الكتاب أداة للتعبير، كما كان لها أثرها فيما احتوت عليه الكتب.
فعلى الصعيد الأول، كانت هناك نتائج اجتماعية لانتشار الكتب والإقبال على اقتنائها، فوُجِدت أساليب جديدة للقراءة حَقَّقت نوعًا من التوازن بين الطبقة الوسطى المتعلِّمة والمدارس الدينية. ويمكن أن نضيف إلى التلاميذ الذين تَحلَّقوا حول مُعلِّمهم يقرءون معًا أحد الكتب، والأمير المملوكي الذي استمتع بالكتب المذهبة والمزخرفة، قطاعًا عريضًا من الناس أقبلوا على قراءة نوع مختلف من الكتب، قرءوها بطريقة مختلفة، وكان باستطاعتهم اختيار ما يقرءون من كُتب دون توجيه من أحد، على نحو ما كان يحدث بالمدارس حيث يحدد الأستاذ ما يقرؤُه تلاميذه من كُتب، ولعل ذلك كان عاملًا مهمًّا في ظهور طبقة وسطى متعلمة تختلف عن طبقة العلماء.
وأدى انتشار الكتب إلى إيجاد أبعاد جديدة للعلاقات بين مختلف القوى الاجتماعية، فكان إقبال أناس من مختلف الطبقات، تفاوتت مستوياتهم المادية، وكذلك مستوياتهم التعليمية، على قراءة الكتب نفسها، حَقق نوعًا من التمازُج الثقافي بين مختلف القوى الاجتماعية. كما أن الكتابة أصبحت بمثابة الساحة التي تستطيع مختلف الاتجاهات الثقافية والفكرية أن تعلن فيها عن نفسها. وحدَّدت الظروف السائدة في زمن ما المساحة التي شغلتها الطبقة الوسطى على تلك الساحة، كما كان ذلك يعني اتساعًا لنطاق التعبير عن المصالح، وأن قوًى أخرى — غير العلماء — استطاعت استخدام الكتابة وسيلة للتعبير، وسوف نناقش في الفصلَين التاليين درجة ذلك التعبير.
أضف إلى ذلك، أن تلك التطورات أتاحت للطبقة الوسطى فرصة تنمية قدراتها الثقافية بمعزل — إلى حد ما — عن المُؤسَّسة الدينية. وأتاحت لهم أداة يستطيعون من خلالها التعبير عن أنفسهم، كأناس كانت ثقافتهم شفاهية أساسًا، تم إدماجها في الثقافة المُدوَّنة.
وهناك أيضًا نتائج ثقافية تَرتَّبَت على انتشار الكتب على نطاق واسع، فقد كان ذلك يعني إتاحة وسيلة جديدة لانتقال المعرفة، استطاعت الطبقة الوسطى استخدامها. واعتمَدَت طريقة استخدامها كأداة للتعبير أو التواصل مع القُرَّاء على عوامل مختلفة.
ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا، فنشير إلى ارتباط التوسع في إنتاج الكتب وانتشارها بالعصر الذي دَعَّمَت فيه الظروف التجارية وضَعْف السُّلْطة؛ ثقافة الطبقة الوسطى، ونحتاج إلى تَعرُّف الكيفية التي ساعدت بها ظاهرة انتشار الكتب على تشكيل تلك الثقافة وتمكينها من اجتذاب أناس من مؤسَّسة السُّلْطة إليها. ويحتاج الأمر إلى مزيد من البحث لتحقيق هذه الغاية، ولكن الفصلين التاليين سوف يحاولان إلقاء الضوء على هذه التساؤلات، ومحاولة تقديم إجابات مناسبة حولها.