صياغة ثقافة الطبقة الوسطى
كان تزامُن فترة الرخاء الاقتصادي النسبي الذي شهدته الطبقة الوسطى مع حدوث تَحوُّلات محلية وإقليمية، من العوامل المهمة في بلورة ثقافة الطبقة الوسطى وإكسابهم الشرعية على الساحة الاجتماعية. فعلى الصعيد الإقليمي، نَتج عن ضَعْف مركز السُّلْطة في إسطنبول، والتوترات بين هياكل القُوى المحلية والدولة المركزية، التحوُّل نحو الولايات. ولم يكن ذلك التحوُّل عملية بسيطة؛ حيث حدثت تقلُّبات مُهمَّة في معظم عقود القرن السابع عشر وبعض عقود القرن الثامن عشر. ويصدق هذا على مصر، كما يصدق على غيرها من ولايات الدولة العثمانية، حيث احتدمت العلاقة بين سلطة الدولة المركزية والقوى المحلية الممسكة بزمام السُّلْطة؛ ففي معظم القرن الثامن عشر — على سبيل المثال — حكمت أسرة بعينها ولاية الشام (دمشق) هي أسرة العظم.
كانت سياسة الدولة العثمانية منذ ضَمِّها لمصر عام ١٥١٧م، الإبقاء على الأوضاع القائمة دون التدخل فيها بالتغيير أو التبديل، طالما استمرت عائدات الضرائب في التدفق إلى خزانة الدولة، وأقاموا نوعًا من السُّلْطة الإدارية كفَلَت دوام سيطرتهم على البلاد. وحوالي عام ١٦٠٠م، حدثت تغيُّرات بارزة سياسية وجغرافية أثرت على الإقليم كله، دفعت بالتوازن القائم بين الدولة وقوى السُّلْطة المحلية نحو الميل لصالح القوى المحلية تأكيدًا لوضعها. ومع تزايد درجة الاستقلال الذاتي سياسيًّا واقتصاديًّا في القرن الثامن عشر، أصبحت البيوتات المملوكية تسيطر على الموارد الضريبية، وتُزيد من ثقل وزنها السياسي في مواجهة إسطنبول، مما أدى إلى إبراز الثقافة المحلية واللهجة المحلية. وفيما يتعلق بالطبقة الوسطى، برهنت نتائج هذا التحول على أنها كانت لمصلحتها، كما كانت عكس ذلك في الوقت نفسه. فقد كان ميل التوازن لصالح الولايات على حساب مركز الدولة عاملًا مهمًّا في إضفاء الشرعية على الثقافة المحلية والتي تُعد هذه الثقافة جزءًا أساسيًّا من ثقافة الطبقة الوسطى، ولما كان ذلك قد تحقق من خلال صراع دار بين قوى السُّلْطة المحلية، والدولة المركزية فقد رافقته فترة نَعِمت فيها الطبقة الوسطى بالرخاء ونتج عن ذلك أن أتاح لها هذان الاتجاهان مجالًا واسعًا للتعبير من خلال الثقافة التي كانت مألوفة لهم.
ولكن المشكلة التي جلَبها هذا التغيُّر هو ما أصاب الطبقة الوسطى من قَلق؛ لأن الحكام من العسكر، ممثَّلِين في رجال الحامية أولًا ثم البيوتات المملوكية، قد أصبحت أيديهم مُطلَقة لاستغلال النظام الضريبي لمصلحتهم، بما ينعكس سلبيًّا على مصالح الطبقات الحَضَرية، وكانت تلك الطبقات تحتمي في ظل الاقتتال الذي كان يقع بين الحكام العسكر وبعضهم البعض، ولكن في أواخر القرن الثامن عشر، كان استغلال الحكام للنظام الضريبي عاملًا مهمًّا في إفقار الطبقة الوسطى الذي نتج عنه انحسار مجالها الثقافي.
وكان القرن السابع عشر قد شهد عاملًا آخر جاء لمصلحة ثقافة الطبقة الوسطى، فمن الملاحظ أن اتساع مجالها الثقافي يرتبط بعلاقتها بالمُؤسَّسة الدينية، وبمستوى السيطرة التي يمارسها العلماء على الثقافة والتعليم فيما يخص بقية سكان المدينة. فقد كان العلماء حُراسًا لتعاليم الإسلام، حفظة لشريعته، يأمرون بالمعروف، ويَنهَون عن المنكر، غير أن المدى الذي بَلغَته هيمنة العلماء على المجتمع وثقافته مسألة فيها نظر؛ فهناك وجهة نظر نمطية تُسلِّم بأن المُؤسَّسة الدينية قد سيطرَت على المجتمَع إلى حد كبير، وأنها كانت قادرة على ضبط السلوك على نطاق واسع، ومن ثَمَّ تُعرَّف الثقافة كلها من خلال ما تطرحه المُؤسَّسة الدينية من تعاليم.
وهذه النظرة لم تأخذ في اعتبارها البُعدين الزمني والمكاني، ولم تدرس العلماء في سياق هيكل اجتماعي واقتصادي وسياسي أوسع مدى؛ فالعلاقة بين ثقافة المُؤسَّسة الدينية وثقافة سكان المدينة من عامة الناس، لم يكن لها طابع السيطرة التامة والهيمنة الذي تخلقه الحواجز الثابتة بين الثقافتين. والواقع أن دراسة السياق التاريخي ضرورية لفهم مستوى ونوع التحكم الذي مارسته المُؤسَّسة الدينية، ودراسة سياقات تاريخية بعينها تبين المدى الذي ذهب إليه العلماء في تحديد الثقافة كلها، والمدى الذي يمكن أن تبلغه الأصوات الأخرى في المجتمع للتعبير عن نفسها.
وهناك عامل أساسي في هذه المعادلة يَتَّصل بهيكل المُؤسَّسة الدينية. لقد كانت ثقافة المُؤسَّسة — سواءً كانت دينية أو عسكرية — قوية وقادرة على فرض نفسها خلال الفترة التي بلغت فيها المركزية حدًّا كبيرًا من القوة. بينما كانت ثقافة العامة تحظى بفُرص أفضل للنمو والتعبير خلال الفترات التي تَخِف فيها قبضة السُّلْطة المركزية؛ حيث تكون المُؤسَّسة الدينية أقل قدرة على فرض نموذجها الثقافي من ناحية، واستغلال السكان اقتصاديًّا من خلال الاستغلال الضريبي من ناحية أخرى. فقد كانت أكثر ضعفًا — لأسباب واضحة — في الوقت الذي يتمادى فيه الحكام في استغلالهم، وأدَّى غياب النماذج الجامدة إلى زيادة إمكانية اختراق ثقافة العامة لثقافة مؤسَّسة السُّلْطة إذا توافرت العوامل المهيئة لذلك. فهناك وَضْع يتَّسم بالمرونة يُفسح المجال للتنوع في الرأي والاختلاف، والمعارضة مما عليه الحال في المُؤسَّسة الأكثر تماسكًا، ويساعدنا هذا الطرح — جزئيًّا — في تفسير بعض الظواهر التي ستكشف عنها هذه الدراسة؛ مثل انتشار العامية في التعبير كتابة، أو حقيقة تأثُّر العلماء بأساليب التعبير التي تأتي من جانب العامة.
وفيما يتعلق بذلك، كانت هناك اختلافات إقليمية مهمة بين القاهرة ومدن الشام، وإسطنبول. فقد كان الأزهر أبرز مؤسَّسة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ينضوي تحت لوائه مُعظَم مشاهير العلماء. غير أنه لا وجه للمقارنة بينه وبين هيكل التعليم ذي الطابع البيروقراطي في إسطنبول في الفترة نفسها فيما يتصل بالتراتب (الهيراركي)، وطريقة الترقِّي، والقيادة، وطريقة اختيارها.
ففي أوائل العهد العثماني احتل شيخ الأزهر مركزًا بارزًا بين العلماء. ولكن الأزهر تَمتَّع بدرجة كبيرة من الخصوصية أبعدَته عن تدخُّل الدولة حتى القرن التاسع عشر، عندما قام محمد علي بإخضاع أوقاف الأزهر لإدارة الدولة، ومن ثَمَّ بَسطَت الدولة جناحها عليه، وأصبح الحاكم يتولَّى تعيين شيخ الأزهر بعدما كان اختياره يتم بمعرفة العلماء أنفسهم. ولم تكن هناك خطوات مُعيَّنة ينبغي على شيخ الأزهر اجتيازها قبل الوصول إلى هذا المنصب، فيما عدا توافُر عامِل الكفاءة الشخصية، ومكانته العلمية، وقُدرته على كَسْب ثقة العلماء وغيرهم.
وهناك اختلاف إقليمي آخر بين مصر والشام في هذا المجال. ففي بلاد الشام كان كثير من العلماء البارزين ينتمون إلى عائلات كان لها باع طويل في العلم لأجيال؛ مثل: عائلات الرَّمْلي، والكَواكِبي، والمُحِبِّي على سبيل المثال، الذين احتلُّوا موقع الصدارة بين العلماء جيلًا بعد جيل، على مَرِّ القرنين السابع عشر والثامن عشر ببلاد الشام؛ شَغلوا فيها مناصب التدريس والقضاء. وهذه الظاهرة لم يكن لها وجود بالقاهرة، وبذلك كانت المُؤسَّسة الدينية بالشام أكثر هيمنة وتنظيمًا، ولكنها كانت أقل حراكًا اجتماعيًّا من علماء القاهرة؛ حيث كان الأزهر يستقبل الطلاب الذين جاءوا من أصول اجتماعية مُتنوِّعة.
وعلى نقيض ذلك، جاء كثير من العلماء البارزين من أصول ريفية، أو من بين الحِرَفِيِّين، أو التجار، وكان الأزهر سبيلًا للصعود الاجتماعي. وكانت العائلات الريفية تَحرِص على إيفاد أحد أبنائها إلى الأزهر، ومتى التحق بالأزهر سَهُل عليه الوصول إلى مرتبة العلماء ذوي الصلة الوثيقة بِعِلْية القوم. فقد كان الحراك الاجتماعي الصاعد للعلماء سريع الإيقاع حتى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، عندما كان كثير من المستوَيات الأخرى أقل مرونة. ويصور ذلك شيخ الأزهر أحمد الدمنهوري، وعبد الله الشبراوي اللذَيْن جاءا من أصول ريفية فقيرة؛ ولأن العلماء جاءوا من أصول اجتماعية مُتبايِنة ومن مناطق مختلفة، ولأنهم نشطاء اجتماعيًّا فقد جاءوا إلى طبقة العلماء حامِلين معهم ثقافتهم الخاصة بهم.
ويمكننا ملاحظة هذا التغيُّر في العلاقة بين المؤسَّسات الدينية والناس بين صفوف الأقباط؛ خاصة منذ أواخر القرن السابع عشر وعلى مدى القرن الثامن عشر. فمن العوامل المؤثِّرة في الثقافة القِبطية بصورة موازية لما شهدناه فيما سبق؛ ظهور عدد من الأعيان الأثرياء (الأراخنة)، الذين تَولَّوا إدارة أمور الطائفة القبطية بما فيها المُؤسَّسة الدينية (الكنيسة).
وتجمعت عوامل عديدة ساعدتهم على هذا البروز؛ منها ما هو متعلق بالنفوذ الواسع الذي حازوه عند أمراء المماليك (الحكام الفِعليِّين لمصر) لاشتغالهم كمباشرِين عندهم، كذلك الثروات الهائلة التي حازوها تبعًا لزيادة نفوذ الأمراء المماليك وتضخُّم ثرواتهم، ومنها بروزهم على مستوى المجتمع المصري ككل، حيث اختفت الحزازيات القائمة على أساس ديني أو طائفي، وتَقبَّل المجتمع قيام كبار القبط بدور عام؛ فأحد القبط أنشأ سبيلًا عامًّا في الأزبكية، وآخَر كانت تُنصَب له خيمة لاستضافة الزوار في مولد السيد البدوي بطنطا، وعلى ذلك اتَّجَهوا لتولِّي الأمور داخل الطائفة، وظل كبار الأعيان يُرسِّخون نفوذهم داخل الطائفة حتى أذعن لهم البطاركة وسلَّموهم مقاليد الأمور طائعِين — أو مُكرَهِين — واستطاع كبار الأعيان في نهاية المطاف أن يَخترقوا السُّلْطة الكنسية، ويكسروا تقاليد راسخة في التراث القبطي، تقضي باختيار الأساقفة (وهم الطبقة العليا في السُّلْطة الكنسية) من بين الرُّهبان فقط، ونجحوا في زرع اثنين من المباشرِين داخل الهيئة الدينية برتبة أسقف.
من ناحية أخرى، سُلِّمت الكنيسة بزعامة كبار الأعيان للطائفة واعتبارهم المُسيِّرِين لأمورها، وفيما بينهم، استن المباشرون تقليدًا يُشبِه نظام «شيخ البلد» المتعارَف عليه بين الأمراء في ذلك الوقت؛ إذ جرى العُرف بين القِبط على اختيار أحد الأراخنة ليكون بمثابة مُقدَّم الأراخنة ورأسهم، فطالما لُقِّب أحد أهم الأراخنة بلقب يدل على تقدُّمه على سائر القبط، مثل «كبير الأراخنة» أو «الأرخن الرئيس» أو حتى «سلطان القبط» وهذا الأرخن كان يُعتبَر بمثابة رأس الطائفة أمام الحكومة؛ وظهر هذا الأمر بوضوح في المصادر الكنسية. وأصبح الأراخنة يُوجِّهون سياسات الكنيسة وقراراتها.
ثقافة النص المُدوَّن
كان لهذه الظروف التاريخية نتائجها على الطبقة الوسطى الحَضَرية التي لا يسهل علينا تحليلها بسبب مشكلة المصادر؛ لأن تحقيق ذلك يتطلب استخدام مصادر تقليدية كالحَوْليَّات والتراجم بطريقة مختلفة عن تلك التي تُستَخدم بها لدراسة المماليك أو العلماء. كما يقتضي ذلك أيضًا استخدام مصادر من نوع آخر كالمصادر الأدبية — التي لم يستفد منها مؤرِّخو مصر في العصر العثماني — والتي قد تلقي أضواءً على هذه المسألة. ويسعى هذا الفصل للوقوف على ثقافة الطبقة الوسطى من خلال النصوص التي كُتِبت بأقلام أفراد منها، أو كُتِبت من أَجْلها، أو كُتِبت عنها. وسوف تكشف هذه النصوص أيضًا طبيعة ثقافة الوسطى وعلاقتها بالثقافات الأخرى؛ لنرى كيف تأثَّرَت ثقافة الطبقة الوسطى بثقافة الطبقة الحاكمة ومؤسَّسة السُّلْطة. ولا شك أن مثل هذا التحليل سوف يساعدنا على وضع تلك الثقافة في سياق اجتماعي أوسع نطاقًا، والوقوف على التحولات التي شهدها المجتمع كله. وبعبارة أخرى، تساعدنا دراسة التحولات الثقافية على تُبيُّن ظواهر اجتماعية مُعيَّنة لا تدلنا عليها المصادر الأخرى.
والموضوعات التي بين أيدينا تَتَّسم بالتركيب، منها الطريقة التي يمكن أن تُستَخْدَم بها المصادر الأدبية لدراسة التاريخ الاجتماعي، فعلى المؤرِّخ أن يقرر درجة ارتباط نص مُعيَّن بطبقة اجتماعية محدَّدة، وبذلك يسير على أرض زلقة، وهو يبحث عن المواقف التي تُعد مُعبِّرة عن الطبقة الوسطى، أو عند التمييز بينها وبين ما يُعبِّر عن مؤسَّسة السُّلْطة في النصوص الأدبية لتلك الفترة. وعلى المؤرِّخ — أيضًا — أن يرى المدى الذي يذهب إليه النص؛ حتى يُعد وسيلة للتعبير عن قوة اجتماعية مُعيَّنة. فنحن نعرف — على سبيل المثال — أن العلماء استخدموا نوعًا من كتب التراجم والسِّيَر، لا ليسجلوا أعمال العلماء البارزين فحَسْب، بل استخدموها أيضًا للتعبير عن القِيم الخاصَّة بهم، وليرسموا صورة مُعيَّنة لطبقة العلماء. والسؤال الآن هو: هل باستطاعتنا أن نحدِّد النصوص التي أدَّت الوظيفة نفسها في خدمة الطبقة الوسطى؟
وتحديد ثقافة الطبقة الوسطى من خلال تلك النصوص، يعني أن نضع في اعتبارنا عِدَّة أمور؛ مثل: هوية الكاتب، واهتماماته، وخاصَّة اهتماماته الاجتماعية، ولغة الكتابة، والأسلوب المستخدَم فيها، والموضوعات التي يطرُقها. ولكن، على فرض أن حِرفيًّا أو تاجرًا قد ألَّف كتابًا، فهل يكفي ذلك ليكون هذا العمل مُعبِّرًا عن طبقة مُعيَّنة؟ وهل تختلف كتابة المؤلِّف الذي يُمارِس عملًا حِرَفيًّا أو تجاريًّا وكذلك مقولاته، عن كتابة من ينتمون إلى العلماء؟
إن جانبًا من صعوبة الإجابة عن هذه التساؤلات يعود إلى أن هذا المجال لا زال بِكرًا؛ مما يجعل إمكانية عَقْد المقارَنات ضئيلة. غير أن الموضوع على درجة من الأهمية، ليس لدراسة التاريخ الثقافي فحسب، بل ولدراسة التاريخ الاجتماعي أيضًا ويُمثِّل محاولة لفتح قنوات جديدة للتفسير والتحليل. ومن ثَمَّ، فأي إجابات نقدِّمها ذات طابع استطلاعي مَحض، ولا نستطيع أن ندَّعي أنها جاءت بالخبر اليقين.
وسعيًا وراء هذا الهدف، قُمنا بالاطلاع على عدد كبير من النصوص، كان مُعظمها مخطوطًا، ذا طبيعة دنيوية. وانتمت تلك النصوص إلى أجناس مختلِفة من الكتابة؛ مثل: الحَوْليَّات التاريخية، القواميس، وكتب السِّير، والحكايات، والطرائف والنوادر، وآداب السلوك، والحِكم والأمثال. فهي نصوص مختلفة من حيث النوع، بينها بعض الأعمال ذات الطبيعة الأكاديمية كالحَوْليَّات والقواميس، وبعضها الآخر شعبي الطابع كالحكايات والطرائف والنوادر، كما أن بينها نصوصًا أدبية رفيعة المستوى، وقد استخرَجْنا من تلك النصوص معلومات استقيناها من المحتوى واللغة وأسلوب الكتابة، مما يصلح للتحليل الاجتماعي.
ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر، هَيمنَت الثقافة الأكاديمية الخاصة بالعلماء والطلاب على المشهد الثقافي، كما غَلبت على الإنتاج المدوَّن. وهي الثقافة التي عرفها الجَبَرْتي، الذي يُكثر المؤرِّخون المُحدَثون من الرجوع إليه، ويعتمدون عليه مصدرًا لمعلوماتهم عن الفترة. ولذلك كانت ثقافة العلماء هي أهم مصدر استقى منه الباحثون مادتهم، وتَصدَّوا له بالدراسة والتحليل بدرجة كبيرة من الكثافة والتركيز؛ فقد قدَّم العلماء أعمالًا ضخمة في العلوم الدينية، والفقه، والحديث، والتفسير من تأليفهم أو قاموا بتَحشيتها أو تَذييلها بتعليقاتهم وشروحهم، أو عُنُوا بنسخها. ومَثَّلت تلك الأعمال الجانب الأكبر من الأعمال التي تم تدوينها.
وارتبط التعلم في القاهرة — كما في غيرها من المراكز التعليمية — بالمدارس الدينية التي حَظِي علماؤها باحترام الطبقة الحاكمة، وطبقات المجتمع الأخرى. ويمكن أن نشير إليها باعتبارها ثقافة المُؤسَّسة، أو ثقافة العلماء آخذين في الاعتبار طبيعتها التخصصية، والحاجة إلى إنفاق سنوات عديدة لإتقان تَعلُّمها، ولقلة أعداد المشتغِلِين بها نسبيًّا. كما أنها ثقافة ذات بُعد ديني وأخلاقي، تهدف إلى تحديد أُطر نماذج السلوك التي يجب أن يتبعها المجتمع كله. وهي — أيضًا — تطرح رؤيتها لأمور الدنيا والآخرة، ومن ثَمَّ تحفظ للعلماء مكانتهم الاجتماعية، وتساعدهم على الاستمرار في لعب دورهم الديني والاجتماعي.
غير أن ثمة اتجاهًا آخر شقَّ طريقه إلى المقدِّمة، كان أقل انتشارًا من أعمال العلماء، ولكنه بالغ الأهمية لفهم الثقافة والمجتمع خلال الفترة موضوع الدراسة، وما تلاها من تطورات شهدها القرن التاسع عشر؛ فقد أدت الظروف الاقتصادية المواتية للطبقة الوسطى، والتوسُّع الذي أصاب قنوات نَقْل المعرفة من خلال الكتب وغيرها، أدَّت إلى اتساع مجال ثقافة الطبقة الوسطى، وإلى حضورها الواضح في علم الكتابة. وقد عَبَّر هذا المجال المتَّسِع لثقافة تلك الطبقة عن نفسه في مختلف الاتجاهات، كما اتَّخذ أشكالًا عدة، وارتبط بها الأفراد الذين ينتسبون إلى تلك الطبقة، كما ارتبط بها العلماء؛ أي إن ثقافة الطبقة الوسطى تَركت بصماتها على أنواع مُعيَّنة من الكتابات، مما يعني أنه قد أصبح لتلك الثقافة جمهورها من القراء والمتلقِّين، وكان لها حضور بارز في السوق، جعل الآخَرِين يُطوِّعون أسلوب كتاباتهم لمواكبة الطلب، فكانت الطبقة الوسطى هدفًا وموضوعًا معًا.
وكما أوجدت الظروف أساليب جديدة للتعبير من خلال الكتابة، فقد أتاحت — أيضًا — إمكانات التَّحكُّم فيها أو توجيهها. مما جعل الكتب متاحة لقاعدة عريضة من الناس، وليست قاصرة على قطاع محدَّد، أو فئة مُعيَّنة من فئات المجتمع وسوف نرى نتائج حضور الطبقة الوسطى، وما ارتبط به من دلالات فيما يلي.
تأثير الطبقة الوسطى على الكتابة
بينما ظَلَّت أهداف ثقافة العلماء على ما كانت عليه، نستطيع أن نلمس في كتابات بعض كبار العلماء مجالًا للطبقة الوسطى، يشي ضمنًا بالاعتراف باتساع نطاقها. وهذا الاعتراف يعني وجود قُرَّاء جُدد يحاول الكاتب الوصول إليهم، كما يعني البروز الاجتماعي لتلك الطبقة، وما كان لثقافتها من وزن. وجَلِي عن البيان أن الأعمال الكبرى ذات الطبيعة الدينية تخرج عن إطار هذا الحديث، في مجالات: الفقه، والتفسير، والحديث التي كانت لها مناهجها وأسلوب كتابتها، والتي كانت بعيدة عن التأثر بثقافة الطبقة الوسطى. غير أن ذلك التأثير كان أكثر وضوحًا في القواميس، وكتب التراجم، والسِّير، والحَوْليَّات، وجميعها لم تكن — بالضرورة — ذات طبيعة دينية.
وعلى صعيد المنهج، يحتاج هذا الاتجاه إلى تعليق؛ فمساهمة العلماء في توسيع قاعدة الجمهور المتلقِّي للثقافة المدوَّنة في قاهرة القرن السابع عشر له دلالاته فيما يتصل بطريقة النظر إلى أولئك العلماء؛ فصورة أولئك العلماء لا تنطبق على الرؤية النمطية للعلماء كطبقة ذات طابع خاص، غير أنها — من وجهة نظرنا — تساعدنا على فهم مركَّبات طبقة العلماء، والتغلب على المشكلة الرئيسية التي تواجه دراسة تلك الطبقة من حيث اتسامها بالطابع التقليدي الصارم على مَرِّ العصور. فنُظر إليهم على أنهم فئة اجتماعية جامدة لا تقبل التغيير مع تَغيُّر الأحوال والظروف عبر الزمان، فمن بين المشكلات الكبرى في البحث التاريخي اعتبار علماء القاهرة أو إسطنبول أو غيرهما من عواصم الثقافة الإسلامية في القرن الثامن عشر، وكأنهم نسخة طِبق الأصل من علماء بغداد في القرن التاسع الميلادي دون تغيير أو تبديل، وأنه يمكن دراستهم بالمنهج نفسه وإدراجهم تحت التصنيف نفسه.
وعندما نقوم هنا بوضعهم في سياق التحوُّلات الكبرى التي حدثت، وردود أفعالهم تجاه تلك التغيرات، فإننا بذلك لا نخضعهم للظروف التاريخية فحسب، بل نعمل — أيضًا — على فَهْم مركَّباتها. ويمكن أن يلقي هذا الطرح الضوء على موضوع آخر مرتبط بهذه الطبقة هو العلاقة بين ثقافتهم والثقافة الشعبية، التي يُنظَر إليها — أحيانًا — على أنها كانت علاقة صِدام، ويُنظَر إليهما — أحيانًا أخرى — على أنهما متنافرتان، تعصيان على الالتقاء. ويمكننا وضع هذه العلاقة في سياق تاريخي، حتى نرى كيف تَغيَّرت مع تَغيُّر الزمان والمكان.
لقد كان هناك رد فعل من جانب بعض أفراد طبقة العلماء للتغيرات التي حدثت، ولكن استجاباتهم لم تكن بالطريقة نفسها، كما كانت لهم بعض الأهداف الخاصة من وراء ذلك. فقد كان بعضهم يهدف من وراء تطويع أسلوب كتابته؛ ليتواءم مع تلك التغيرات إلى الوصول إلى أكبر قاعدة من القراء ممن يجيدون القراءة، ولكنهم ليسوا ممن تعلَّموا بالمدارس؛ فانتشار ثقافة الكتب أتاح للعلماء توصيل عِلمهم إلى دائرة واسعة من القراء تَتجاوز نطاق دائرة المعلِّمِين والطلاب. فاتساع دائرة من يقرءون تلك الكتب، أو من تُقرأ عليهم، كان له تأثيره على أسلوب كتابة مؤلَّفات العلوم الدينية.
فقد طَوَّع بعض علماء القرن السابع عشر موضوعات كتبهم، وأسلوب كتاباتهم بما يتفق مع حاجات الناس؛ فقد كانوا يعرفون أن الطرق الصوفية تزداد عددًا وأتباعًا، واستطاعت بعض الطرق الصوفية تقديم أفكارها في إطار الصيغة الإيمانية الدينية الرصينة، ولكنْ كانت هناك طُرق أخرى تجاوزت ذلك الإطار، مما مثَّل تهديدًا لسلطة العلماء. ومن ثَمَّ سعى بعض العلماء لتبسيط كتاباتهم — في مواجَهة هذا الاتجاه — حتى يستطيعوا تقديم التعاليم الدينية الصحيحة لجماهير القراء من المؤمنين.
وعلى مَرِّ النصف الأول من القرن السابع عشر، عبَّر علماء من أمثال: المغربي، والإسحاقي، والخفاجي — كل بطريقته — عن الأبعاد التي اتَّخذها تأثير الطبقة الوسطى على أعمال العلماء. ولذلك عندما نتفحص بعض أعمالهم، نرى كيف قاموا بإدماج ثقافة الطبقة الوسطى في كتاباتهم من ناحية، كما نقف على مدى اتساع نطاق ثقافة تلك الطبقة في المحيط الاجتماعي، من ناحية أخرى، ويعني ذلك طرح السؤال بطريقة تخالف ما جرى العمل به، فبدلًا من أن نستكشف التأثرُّ القادم من القمة نزولًا إلى القاعدة، علينا أن نبحث التأثير الصاعد من القاعدة إلى أعلى، آخذين في الاعتبار بعض كتابات العلماء؛ فتأثير العلماء وشيوخ الطرق الصوفية على الناس معلوم تمامًا، بينما لم يُعنَ أحد بدراسة تأثير الناس عليهم.
وفَعلَت الظروف السائدة فِعلها لصالح مثل هذا التأثير. فقد اتسع مجال ثقافة الطبقة الوسطى في وقت كان فيه مركز السُّلْطة يميل إلى التَّشتت وليس التَّمركُز، عندما لم تكن الطبقة العسكرية قد أحكمَت سيطرتها بَعدُ على الموارد المحلية، وقام نوع من الشراكة في المصالح بينها وبين الطبقة الوسطى، فزودت تلك الظروف الطبقة الوسطى بقدر معلوم من الاستقرار الاقتصادي. ونتيجة لهذا الوضع، كان ثمة مستوًى نستطيع عنده أن نلاحظ وجود نوع من المرونة في الحدود الفاصلة بين ثقافة النُّخْبة وثقافة القاعدة الشعبية، فيشير عدد من النصوص التي كَتَبها العلماء إلى أن اتساع المجال الثقافي للطبقة الوسطى كان له تأثيره على ثقافة النُّخْبة.
وقد يتخذ هذا التأثير أشكالًا متنوِّعة. فبالنسبة للعلماء الذين جاءوا من أصول ريفية، أو انحدَروا من عائلات تجارية أو حِرَفية، كانت مرونة هيكل طبقة العلماء تعني أن هؤلاء لم يَتخلَّوا عن ثقافتهم الأصلية عند انخراطهم في مَصافِّ العلماء؛ فقد أعطت مرونة هيكل نخبة العلماء التي سمحت بانضمام الوافدين الجُدد، ولم تعتمد على نظام تراتبي (هيراركي) للتَّرقِّي، نوعًا من الشرعية لثقافة القاعدة الجماهيرية. ولدينا نموذج مهم — ولكنه ليس فريدًا — يتمثل في الشيخ يوسف المغربي (المتوفَّى عام ١٠١٩ﻫ/١٦١٠م)، الذي يَذكر لنا كيف بدأ حياته حِرفيًّا، قبل أن يخطو على الطريق الذي جعل منه عالمًا، فيقول:
هذا النوع من التحويل الإرادي لمسار الحياة الشخصي كان شائعًا؛ حيث كان كثير من علماء الأزهر من أصول ريفية، أو حضرية تجارية أو حِرَفية. غير أن السِّمَة المميِّزة في حالة الشيخ يوسف المغربي، تَكمُن في الطريقة التي استطاع بها أن يدمج ثقافة العامة من سكان المدن في كتاباته، فجلب معه ملامح ثقافته عندما دخل في مَصافِّ العلماء. فقد ألَّف قاموسًا في العامية القاهرية، وبذلك وضع ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية داخل إطار ينتسب إلى ثقافة العلماء، فقد اتبع في قاموسه الأصول المنهجية والفَنِّية المتعارَف عليها عندئذٍ، ولكنه لم يستخدِم لغة العلماء في كتابته. وكان هذا القاموس، الذي لم يختلف من حيث البنية عن غيره من القواميس، الوحيد من نوعه في اللغة العربية الذي اهتم باللهجة العامية القاهرية كموضوع للدراسة العلمية. ومَغزى ظهور هذا العمل الإبداعي في القاهرة قبل أن يظهر نظير له في الشام أو الأناضول، يرتبط بهيكل السُّلْطة وهيكل المُؤسَّسة الدينية، التي كانت واضحة المرونة في تلك الفترة، وأكثر استعدادًا لتقبُّل مثل هذا العمل الإبداعي المبتكر.
ومن الأهمية بمكان أن نقف على الأسباب التي ساقها الشيخ يوسف المغربي لتبرير تأليفه لذلك القاموس؛ فهو لا يرى بأسًا في استخدام العامية، ويُقر بصحة ذلك. وقَدَّم دراسة علمية، بُنيت على ملاحظاته عما سمعه من العامية القاهرية خلال حياته؛ أي إنه استخدم الأصول العلمية لكتابة القواميس على النحو المعروف في عصره؛ ليضفي نوعًا من الشرعية على استخدام العامية في الكتابة. وهكذا، في الوقت الذي كانت تجري فيه دراسات رصينة في اللغة العربية الفصحى في إطار مؤسَّسة العلماء، كان هناك مستوًى آخر للدراسة تناول العامية دون أن يضع قواعد لها، بل تَعامَل معها باعتبارها لغة للتخاطب، استُخدِمت في كتابة نصوص متنوِّعة، فكانت دراسة العامية على هذا النحو تصعيدًا للثقافة الجماهيرية إلى مستوى النُّخْبة.
غير أن ما يستحق اهتمامنا هو أن الإسحاقي استخدم نوعًا معروفًا من الكتابة التاريخية، هو الحَوْليَّات، ليسجل ممارَسات ومعتقدات شعبية محلية كانت شائعة في عصره، وبإدخاله لها في هذا الإطار العلمي، تم ترقيتها إلى الصيغة الأكاديمية، وجدير بالملاحظة أن هذه الترقية تمَّت بطريق التدوين. وبذلك يمكن اعتبار ما فَعلَه الإسحاقي مُعبِّرًا عن اتجاه واسع النطاق، أضفى لونًا من الشرعية على الثقافة المحلية لسكان الحضر عند طائفة العلماء.
وإذا كان العلماء قد وضعوا في اعتبارهم سوق الطبقة الوسطى عند تأليف كتبهم، أو سمحوا لأنفسهم بالتعبير عن ثقافتهم الأصلية عند كتابة مؤلَّفاتهم العلمية، فلم يكونوا وَحْدَهم، ولم يكن التعبير عن ثقافة الطبقة الوسطى كتابة قاصرًا على العلماء دون غيرهم. فالواقع أن أحد الأبعاد المهمة لهذا الاتجاه تَطوَّر على يد أفراد من الطبقة ذاتها. ونظرًا لتركيز الدراسات التاريخية على العلماء، فلا نعرف إلا القليل عن غيرهم من الكُتَّاب الذين لم يكونوا من بينهم.
ومن الصعوبة إلقاء الضوء عليهم؛ لأنهم لا يظهرون في كتب التراجم إلا نادرًا. كما أن أعمالهم لا تحظى بالشهرة لأسباب واضحة، فحجم الأعمال التي كتبها أفراد من الطبقة الوسطى لا يمكن أن يُقارَن بالأعمال الضخمة العديدة التي أنتجها العلماء. غير أننا لا نستطيع تقدير أهميتها فقط من خلال عدد ما تم إنتاجه منها. فإهمال إنتاج أولئك الذين لم يبلغوا قمة النُّخْبة أو إغفال النظر إلى الصورة بمختلف جوانبها قد يقودنا إلى تقديم رؤية مشوهة للثقافة جميعها. ومن الصعوبة بمكان تأكيد ما إذا كان هذا الاتجاه جديدًا أو غير ذلك، في غياب الدراسات الموازية للفترات التاريخية الأخرى. كما أن الخلفيات الطبقية للكتَّاب والمفكِّرِين والمثقَّفِين في الدولة العثمانية عامة، وفي الولايات العربية خاصة، لا تزال في حاجة إلى المزيد من البحث. وغالبًا ما تتم دراسة الإنتاج بمعزل عن الطبقة التي انتمى إليها مبدعوه، ولم تتطرق لذلك إلا القليل من الدراسات التي لا زالت بعيدة عن العمق.
وغالبًا ما تظل شخصيات الكُتَّاب غامضة بصورة أو بأخرى، فلا نعرف عنهم إلا نُتفًا قليلة من المعلومات التي نعثر عليها هنا وهناك. وأحيانًا يُورِد الكاتب بعض المعلومات عن نفسه أو يقدِّم للقارئ سِيرته الذاتية مُتضمَّنة في عمله.
التراث الشفاهي والتدوين
لقد ترتَّبت على الظروف التي سادت ذلك الزمان نتائج انعكست على هذه الكتابة، ولا نستطيع أن ندَّعي من جانبنا أننا قد حصَرْنا هذه النتائج تمامًا أو وضَعْنا أيدينا عليها جميعًا، ولكننا نستطيع الإشارة إلى بعضها. ومن بينها نلاحظ بروز سمات الأدب الشفاهي في الكتابات؛ نظرًا لتزايد أعداد من يعرفون القراءة والكتابة أو نالوا حظًّا من التعليم، ودخلوا إلى دنيا الكتب، كما يمكن أن نَلحَظ وجود اهتمام بالعامَّة لعله يرجع إلى انتشار الكتب، كذلك يمكن أن نلحظ اهتمامًا بسمات الثقافة المحلية، وهو اتجاه مرجعه إلى الموقع الجغرافي الذي احتلَّتْه مصر.
عند تَتبُّعنا للمراحل الأولى لثقافة الكتب — في القرن السابع عشر — نجد الدليل على أن الثقافة الشفاهية عَرفت طريقها إلى التدوين، فَدخلَت عالَم الثقافة المدوَّنة. ويبدو أن الناس بعد تعلُّمهم القراءة والكتابة، جَلبوا معهم تراثهم الشفاهي.
وهناك تأثير آخر للثقافة الشفاهية على الكتابة ظهر في تلك الفترة هو الحِكم والأمثال، فقد أصبحت تُستَخدم بكثافة ملحوظة في الكتابة في القرن السابع عشر. واتخذت أحيانًا شكْل كُتب خاصة بالأمثال، ولكنها غالبًا كانت تأتي ضِمن كُتُب ضَمَّت نصوصًا تناولت مختلف الموضوعات لتأكيد مقولة مُعيَّنة أو بلورة فكرة من الأفكار. وتمثل الأمثال الشعبية تراثًا شفاهيًّا عريقًا انتقل عبر الأجيال. وقد استخدمت الأمثال باعتبارها محصلة لخبرات إنسانية تاريخية وكأداة لضبط أداء الناس وتوجيه سلوكهم. ومن ثَمَّ كان لنقلها إلى عالم الكتابة مغزاه الثقافي البارز.
وتَغْلُب على كتابة «محمد أبو ذاكر» استخدام الأمثال، التي لا تكاد تخلو صفحة من صفحات الكتاب منها، ومهما كان الموضوع الذي يكتب فيه، فهو يتخذ من الأمثال أداة لدعم وجهة نظره. وبذلك تضمن كتابه عشرات الأمثال. وهذا الاستخدام المكثَّف للأمثال في مختلف أنواع الكتابات يدفعنا إلى النظر إليها؛ باعتبارها مصدرًا لاستطلاع المواقف والآراء، التي لا يتم التعبير عنها — غالبًا — بوضوح.
الاهتمام بالشخص العادي (العامِّي)
تَرتَّب على امتزاج مجموعة مُركَّبة من الظروف مع بعضها البعض؛ تأثير آخر على محتوى الكتب، سواء في موضوعاتها، أو لُغتها أو آرائها ومفاهيمها، وبعبارة أخرى، لم يكن تأثير ثقافة الطبقة الوسطى بسيطًا، بل كان تأثيرًا مُركبًا، وهو ما سنقوم بإيضاحه وشرحه في الصفحات التالية. ومن بين المظاهر المهمة لذلك التأثير ظهور الشخص العادي (العامِّي) وحياة العامة كموضوع، وكغرض محوري من أغراض الكتابة الأدبية.
وعلى سبيل المثال، لا تُعدُّ سيرة أحد الشيوخ المرتبطة بأسلوب مُعَّين، تُقدِّم لونًا نمطيًّا من المعلومات عن تلاميذه ومعلميه وكتبه فحسب، بل تعكس — في الغالب — صورة مثالية لشخصية مَعيَّنة تنتمي إلى طبقة العلماء، وتُلقِي بظلالها على تلك الطبقة وغالبًا ما تصوغ سير الشيوخ مثلًا للفضائل، كالعلم، والورع، والكرم، وحب الخير مثلًا ويسري ذلك أيضًا على تراجم شيوخ الطرق الصوفية.
وبذلك يمكن النظر إلى الاهتمام بالشخص العامي العادي كإضافة لبعد مهم إلى ثقافة القرن السابع عشر التي أُغْفِلت لزمن طويل أو أُسيء فَهمُها. كما يكشف ذلك الاهتمام دورًا مهمًّا للطبقة الوسطى في تشكيل هذا التطور. وقد عكست تأثير ثقافة القاعدة الشعبية التي شقت طريقها إلى عالم الكتابة؛ نتيجة زيادة بروز الطبقة الوسطى على الساحة الاجتماعية، وحضورها الكبير في عالم الكتابة.
إن تركيز الاهتمام على الشخص العامي العادي، والحياة العادية يبدو واضحًا في مختلف الأجناس الأدبية، مثل: مجموعات الحكايات، والطرائف والنوادر، والفكاهات، والقواميس، والأدب الرفيع، والحَوْليَّات. كما يَتجلَّى في محتوى الموضوعات حيث تم التركيز على العمل، والبيت والأسرة، على الطعام والشراب، وعبَّر ذلك الاتجاه عن نفسه في الأسلوب واللغة القريبة من الدارجة، والاستخدام المتواتر للأمثال.
وهكذا، في الوقت نفسه الذي تطور فيه أدب سير الأبطال من أمثال الظاهر بيبرس وجنكيز خان، وأصبح يجري على ألسنة الرواة في المقاهي، كُتبت أو جُمعت أعمال أخرى خلال الفترة، كان بطلها الشخص العامي العادي، ومن ثَمَّ ما يحدث له قد يحدث لغيره من الناس. ومن أمثلة ذلك مجموعة الحكايات والطرائف والنوادر مجهولة المؤلِّف، التي تحمل عنوان: «نزهة القلوب» الذي وردت به حكاية المعلم ميسور الحال، الذي توشك زوجته على الوضع، وأخرى عن الزوجة التي تَلقَّت خطابًا من زوجها الغائب، ولم تستطع قراءته لعدم معرفتها القراءة، فأي من تلك الحوادث يمكن أن تقع لأي فرد من الجيران أو الأقرباء.
وإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية وجهة النظر هذه، ويعني ذلك أن الكتاب الشهير الذي كتبه يوسف الشِّربيني في نهاية القرن السابع عشر بعنوان «هز القحوف» يُعدُّ — بصفة عامة — كتابًا فريدًا؛ لأنه عالَج — في المقام الأول — مجتمَع الفلاحِين في الدلتا بمصر، ولأنه كُتب بالعامية، يمكن أن يوضع في هذا السياق. فالكتاب فريد في بابه؛ لأنه يعالج أحوال الفلاحين وَحدَهم، ولم يكن هذا التَّفرُّد قاصرًا على مصر وَحدَها، بل وفي غيرها من بلاد العالم. ففي القرن السابع عشر لم تكن هناك كتب في الشرق الأوسط أو العالم العثماني، أو أوروبا تُخصَّص لتناول أمور الفلاحِين وَحدَهم غير أن ذلك الكتاب كان جزءًا من اتجاه يهتم بالقوى الاجتماعية، التي تفصلها عن الطبقة الحاكمة مسافة واسعة، تقع بينها وبين مؤسَّسة السُّلْطة.
لقد أَوْلَت النصوص الخاصة بالفترة اهتمامًا ملحوظًا لأمور الحياة اليومية كالبيت، والعلاقات الأسرية، والنساء والأطفال، مما يُعبِّر عن الحياة اليومية العادية. ومن ثَمَّ فإن غياب ذكر النساء في كتب الحَوْليَّات في العصر العثماني يعبر عن اتجاه واحد، ولا يُعبِّر عن ظاهرة عامة، على نحو ما فَهِمه البعض وروجوا له استنادًا إلى أن الجَبَرْتي — على سبيل المثال — لا يَرِد ذكر النساء عنده، إلا عندما ذكر امرأة كالست نفيسة زوجة مراد بك على سبيل الاستثناء في حَولِيَّاته التي اقتصرت الترجمة فيها للرجال وحدهم. فالبيت والأسرة لا يَرِدان في الأعمال ذات التوجه النخبوي، ولكنها تظهر في النصوص الأخرى الأقل شهرة، والمُعبِّرة عن عامة الناس.
وبذلك نرى بُعدًا إضافيًّا لحياة المرأة الحَضَرية؛ مما يلقي أضواء على ما نعرفه من خلال سِجلَّات المحاكم الشرعية، والصورة التي نضع أيدينا عليها تَتنافى مع صورة الزوجة المعزولة في خِدْرها، ضحية الاستغلال والقهر، وهي الصورة الرائجة بين الباحِثِين المُحدَثِين في شئون المرأة المصرية أو العربية أو المسلمة من مُنطلَق نظرية التحديث. فعلى نقيض ذلك، تكشف لنا نصوص الفترة عن أن تأثير النساء تَجاوَز حدود دائرة المرأة والأطفال، حتى لو كُنَّ يَقضِين معظم الوقت في البيت، مثلما كانت أحوال المرأة المعاصِرة لها في مجتمَعات البحر المتوسط الأخرى، فهي تُبيِّن الأهمية التي كانت لحكمتها العملية، وسرعة البديهة، وحسن التصرف في أمور الحياة اليومية، ويؤكد — إلى حد ما — ما نعرفه عن المرأة والأسرة من مصادر أخرى مثل سِجلَّات المحاكم الشرعية الخاصة بالفترة.
وتُصوِّر الأعمال الأدبية في تلك الفترة عالَم المرأة بأشكال مختلفة. ولعل أطرَفها ما كَتبه «أبو ذاكر» الذي يروي لنا كيف قام بمهام النساء عندما دفَعَته الظروف العملية لذلك، وقد وَرَد ذلك مرتين في مخطوطته. كان في إحداهما بِقِنا في انتظار مَركب شراعي يحمله إلى القاهرة وقد أصبحت جُيوبُه خالية من المال. واضطرته هذه الظروف أن يقوم بأعمال الطهي الذي يُعدُّ من مَهام المرأة، ولم يكن قد سبق له القيام به من قَبْل، فيقول: «فتح الله عليَّ في فن الطبيخ إلى أن تبحَّرْت فيه وابتكرت أطعمة لم يسبقني بها أحد … من جملة ما صنعْتُ، وما به افتخرت أني أُتيت بورق وفَرَمْته كالملوخية، وحوَّجْت اللحم المفروم بما يحتاج إليه من الملح والفلفل … فسميته «الورقانة» الذي أكله أمر من دخول العرقانة.» والعرقانة هي سجن بالقاهرة.
ويذكر لنا في مناسبة أخرى ما تعلمه في طفولته من النسوة الموجودات بالبيت، وخاصة ما تقوم به القابلات، وقد استفاد بما التقطه في طفولته من معلومات فيما بعد فعرف الخطوات، التي يجب اتباعها لمساعدة امرأة في حالة وضع، وكان سعيدًا بذلك، فقد يضطره الأمر إلى تطبيقه عمليًّا إذا أدرك المخاض زوجته وتعَذَّر قدوم القابلة في الوقت المناسب. فقد لعب الرجال والنساء أدوارًا متنوعة، أو أدوارًا يمكن تغييرها أو تبديلها حسب ظروف الزمان والمكان. وهكذا تبدو النظرة المختلفة إلى المجتمع واضحة جلية، وهي نظرة من خلال زاوية مُغايِرة لتلك التي تُطل منها الأيديولوجية السائدة.
ويمكن وضع مثل هذه الآراء في منظور داخل الإطار الأوسع للمجتمع الذي عرف آراءً مختلفة، وتطلعات مختلفة، وأن تلك الآراء والتطلُّعات كانت تُحدِّدها الاختلافات الطبقية، بدلًا من أن ننظر إلى تلك الآراء على أنها «تقليدية» أو «إسلامية» أو باعتبارها مُعبِّرة عن وضع المرأة، والأفكار المتصلة بها قبل العصر الحديث.
وهذه الحَولِيَّة ليست فريدة في بابها في بلاد الشام، ولكننا نشير إليها باعتبارها نموذجًا لنوضح أن الاهتمام بعامة الناس ووقائع حياتهم اليومية، كان جزءًا من إطار إقليمي أوسع مدى، يدل على اتساع نطاق التحولات الاجتماعية والسياسية. وبذلك كان هذا الاتجاه جزءًا من إطار إقليمي أرحب نطاقًا، كما أن الظاهرة التي لاحظناها بالقاهرة كان لها ما يوازيها في غيرها من مدن الولايات العربية، وهو ما يحتاج إلى مزيد من الدراسة.
الكتابة واللغة الدارجة
يمكننا اعتبار انتشار شكل من أشكال الكتابة قريب الصلة باللغة الدارجة، نوعًا من التعبير عن الاهتمام بالشخص العامي العادي ولغته، التي اتخذها أداة للتواصل مع غيره من طبقات المجتمع. فقد كانت هناك عوامل متعددة وراء تأثير ثقافة الطبقة الوسطى، وكذلك وراء بروز اتجاه آخر مهم في الثقافة المدونة للقرن السابع عشر، يتمثل في انتشار استخدام اللغة الدارجة، من خلال صيغ من العامية أو شبه العامية في كتابة النصوص، مما يسميه اللغويون: العربية المتوسطة، تتجلى في قواميس العامية؛ مثل عمل المغربي، وعمل المُحِبِّي، وهناك اتجاه موازٍ عَرف طريقه إلى النصوص الأدبية وغيرها، مما استخدمت الصيغ والمفردات والعبارات الدارجة في كتابتها.
وشاع التوسُّع في استخدام اللغة الدارجة في الكتابة على نطاق واسع في بداية القرن السابع عشر، ونتيجة لذلك أصبحت الكتب مُتاحة للجميع من الراغبين في القراءة، ولم تَعُد الكتب قاصرة على الخاصة وَحْدَهم، بل كانت سلعة تجارية، تنتج تلبية لطلب السوق، وكلما كان أسلوبها سهلًا مألوفًا، راجت وزاد الإقبال عليها. وكان لهذه العملية أكثر من معنى، فهي تعني أن ثقافة الكتاب اكتسبت معنى جديدًا، وأصبحت في مُتناوَل يد الناس، فهم يستطيعون فَهْمَها وتذوُّقها، والتعبير عن أنفسهم من خلالها. كما تعني أيضًا أن ثَمَّة جرعة كبيرة من الثقافة المحلية فَرضت وجودها في عالم الكتابة، في مواجهة الثقافة «العثمانية» الإقليمية، أو الثقافة «الإسلامية» ذات الطابع العالمي. وهي ثقافة محلية مصرية شاعت بين طبقة متعلِّمة من الناس في سياق عملية تاريخية مُركَّبة، تضرب بجذورها في حقبة زمنية سابقة على قيام الدولة الحديثة، وليست نتاجًا لقيامها. وكان لهذا الاتجاه المهم تداعياته في القرن التاسع عشر. ولذلك تحتل هذه الثقافة مركز الأهمية في فَهْمِنا لثقافة الطبقة الوسطى عند بداية القرن السابع عشر، كما أن لها أهميتها — أيضًا — في التطورات اللاحقة له.
وتلك التطورات بالغة التركيب والتعقيد، ولا يمكن فَهْمها باعتبارها تطورًا لغويًّا مجردًا، أو من خلال الظروف الاجتماعية المعاصرة لها وحدها، فقد امتدت جذورها في حقبة سالفة كما أنها كانت جزءًا من سياق أوسع نطاقًا، يتجاوز حدود التاريخ اللغوي المحض. وكان انتشار استخدام اللغة الدارجة في القرن السابع عشر، نتيجة لعملية تاريخية طويلة المدى، وللظروف الاجتماعية المعاصرة معًا. وانتشار استخدام اللغة الدارجة على هذا النحو كأداة للتعبير بين من يعرفون القراءة والكتابة اتجاه له مغزاه، يستدعي النظر إلى العوامل الاجتماعية المتصلة به. وهكذا يثير استخدام العامية كأداة للكتابة عديدًا من التساؤلات حول سبب حدوث ذلك في زمن معين. ويجب دراسة هذا الاتجاه في إطار أوسع نطاقًا من الدراسات اللغوية لما له من دلالات اجتماعية وسياسية، تتصل بأسباب شيوعه ونتائج مثل هذا التطور.
ويقدم لنا قاموس المغربي بُعدًا آخر له مغزاه، فقد كان عالَم المؤلَّفات الإسلامية في العلوم الدينية كالفقه والحديث والتفسير، وعلومه المساعِدة كاللغة، له بُعد عالمي، فهي تنتقل في رِكاب العلماء الذين ارتحلوا شرقًا أو غربًا؛ لأن الكتب التي كانت تُؤلَّف في مركز إسلامي مُعيَّن، تُقرأ على مستوى العالم الإسلامي كله. وبذلك لم تكن الثقافة الإسلامية تضع في اعتبارها الحدود السياسية، وتصل إلى العلماء والمعلِّمِين والطلاب حيثما وُجدت المجتمعات الإسلامية. غير أن البعد الذي أعطاه المغربي لمجال من مجالات التأليف المعترف به في العلوم الإسلامية، كان بُعدًا محليًّا، رَكَّز على الثقافة المحلية، وليس الثقافة العالمية؛ لأنه اهتم بتأليف قاموس «لغة أهل مصر» واللغة العربية، التي استُخْدِمت في هذا البلد على وجه الخصوص، ولما كان المغربي يدرك أن لغة الحديث في القاهرة تختلف عنها في غيرها من الأماكن، فقد رَكز اهتمامه على الدارجة القاهرية كموضوع للدراسة العلمية، يستمع إليها ويسجلها كتابة؛ وخاصة أنه كان أول من ألَّف قاموسًا في اللغة الدارجة. وبذلك يمثل قاموس المغربي مَعلمًا في تاريخ تدوين العامية، يقوم شاهدًا على اهتمام مؤلِّفه بلغة التحدُّث، وارتقائه بها إلى مستوى البحث العلمي، مستخدِمًا منهج القواميس المتعارَف عليه، مُوردًا للمفردات على أساس الترتيب الأبجدي.
كانت اللغة ميدانًا من ميادين الصراع بين ممن انتموا إلى ثقافة العلماء، وغيرهم ممن لم يتأثروا بها، بين من تمسكوا بما كان تراثيًّا وعالميًّا (الفصحى)، وأولئك الذين أَيَّدوا اللغة التي تتواصل مع أكبر عدد من الناس، اللغة التي تُعبِّر عن الثقافة المحلية. وبذلك كان الصراع في ميدان اللغة بين المحلي والعالمي، بين من تمسكوا بالتقاليد الثقافية المتوارثة، ومن رغبوا في توسيع نطاق المعرفة عن طريق التجديد والإبداع.
ويمكن أن نضع تصاعد استخدام العامية في الكتابة، والاهتمام بها — في تلك المرحلة الزمنية — في سياق الظروف الاجتماعية للفترة. وبروز ثقافة الطبقة الوسطى يمثل أحد العوامل التي تفسر هذا التطور؛ فقد استخدم أفراد تلك الطبقة الكتب قراءة وتأليفًا، ووَجَّهَت الكتابات إليهم، وتَناولَت أمورهم، منذ مطلع القرن السابع عشر. كما أن وضع تلك الطبقة، ووزنها الثقافي والاجتماعي يمثل عاملًا آخر يجب أن نضعه في اعتبارنا؛ فالارتباط بين انتشار استخدام الدارجة في الكتابة وصعود الطبقة الوسطى، وتزامنهما معًا يدعم الرأي القائل بوجود رابطة بين الظاهرتين، أما العوامل الأخرى التي سنتناولها — فيما بعد — فتتعلق بانتشار معرفة القراءة والكتابة، والتعريب، وتطويع اللغة الدارجة للكتابة بها في أغراض أدبية معينة.
واستخدام اللغة الدارجة في الكتابة سابق على القرن السابع عشر بزمن بعيد، فمنذ صدر الإسلام يمكننا تتبع تلك اللغة فيما وصل إلينا من نصوص، وفي ذلك الوقت المبكر، كان استخدام الدارجة مرتبطًا بعملية التعريب، التي بدأت في القرون التالية للفتح العربي. ففي الأوراق البردية التي قام بدراستها أدولف جروهمان، والتي تمثل أقدم ما وصلنا من الوثائق العربية المكتوبة في مصر، والتي يعود بعضها إلى القرنين الثامن والتاسع الميلادي، بعد الفتح العربي بعدة قرون من الزمان، نستطيع أن نجد في هذه الوثائق، العامية مُستخدمة في كتابتها.
وهكذا اقتحمت العامية ميدان التدوين في تاريخ مبكر، وتماثلت في لغة الحديث الدارجة، ومن ثَمَّ لم تلتزم قواعد النحو في العربية، وظلت الفصحى — لوقت طويل — قاصرة على المحررات الرسمية في الإدارة وعلى كتابات ومؤلَّفات العلماء، والنصوص ذات الطبيعة الدينية، بينما استخدم بقية أبناء البلاد الدارجة التي كانت مألوفة لديهم.
ونستطيع أن نجد رابطة بين انتشار الكتابة بالعامية، واتساع دائرة معرفة القراءة والكتابة؛ خاصة بين أولئك الذين لم يلتحقوا بالمدارس أو يتصلوا بمؤسَّسة التعليم، وعندما دخلوا ميدان الكتابة جلبوا معهم — كما أشرنا من قبل — لغتهم الدارجة، ومع تزايد أعداد من دخلوا عالم الكتابة، كان مستوى كثيرين منهم متواضعًا، مما ترك أثرًا على مستوى الكتابة وأسلوبها.
ويوحي عدد الأعمال التي تعود إلى العقود الأولى من القرن السابع عشر بأننا أمام ظاهرة جديدة، وأن ثمة نقطة تحول في تاريخ الكتابة باللغة الدارجة. فأصبحت وسيلة للتعبير عند أولئك الذين توافرت لديهم مهارات لغوية، ولهم معرفة عميقة بالفصحى كما كانت تدرس في المدارس العليا. والأهم من ذلك أن العامية أصبحت موضع اهتمام الدراسة الأكاديمية، تدرس ويكتب عنها بأسلوب علمي، على نحو ما رأينا عند الحديث عن قاموس يوسف المغربي.
وظاهرة تطور الكتابة باللغة الدارجة بالغة الأهمية بالنسبة للسياق الاجتماعي، وتثير عددًا من التساؤلات عن سبب حدوث ذلك التطور عندئذ، ولماذا أصبحت تُستخَدم على نطاق واسع في النصوص الأدبية والحَوْليَّات والقواميس، كما استخدمت من جانب أناس لا يعرفون قواعد اللغة والنحو، وأناس — كالشِّربيني — يعرفونها جيدًا، ويملكون ناصية اللغة على نحو ما نجد عليه الحال في مؤلفاتهم الأخرى؟
ومع بداية القرن السابع عشر يمكننا ملاحظة وجود اتجاهين؛ أولهما: تَزايُد أعداد النصوص التي كُتِبت في مختلف الموضوعات بأسلوب أو آخر من أساليب اللغة الدارجة على يد أناس تنوعت مستوياتهم الثقافية تنوعًا كبيرًا، وثانيهما: نلاحظ اختلاف مستوَيات اللغة الدارجة التي تم استخدامها، فالتصنيف الذي يستخدمه اللغويون للتمييز بين الدارجة وشبه الفصحى لا يمثل تَنوعًا في هذه الناحية. ولا يميز مصطلح «شبه الفصحى» بين كتابات أنصاف المتعلِّمين الذين يخطئون في هجاء كلمات وأسماء شائعة، ويخلطون الدارجة ببعض عناصر من الفصحى، وكتابات العلماء الذين استخدموا العامية لمناسبتها لغرضهم على نحو ما نجده في «هز القحوف»، وهو اتجاه طرق أنواعًا متعددة من الكتابة بأسلوب فريد.
وقد استمر هذان الاتجاهان في القرن السابع عشر؛ فالعلماء الذين يملكون ناصية الفصحى منهم مَن فَضَّلوا استخدام اللغة الدارجة في كتاباتهم لأسباب مختلفة، ربما كان بينها البساطة. أو لِنقْل حديث مباشر، أو في سياق بعينه مثل الطرائف والنوادر. وقد انتقل هؤلاء — في أسلوب كتابتهم — من الفصحى إلى العامية والعكس في النصوص التي كتبوها، بيسر تام، ويُعد كتاب الشِّربيني خير مثال لذلك. واستخدم غيره العامية والفصحى معًا في الكتاب نفسه، ينتقلون من هذا إلى ذاك بسهولة ويسر، فاستخدم «محمد أبو ذاكر» — مثلًا — العامية عندما كان ينقل حديثًا مباشرًا على لسان صاحبه، كما استخدم شبه الفصحى والفصحى.
وتُشكِّل التغيرات والإبداعات في الطريقة التي استُخْدِمت بها اللغة بُعدًا آخر لتغيرات ذات نطاق أوسع أثرت على المجتمع، يمكن وضْعُها في سياق التحولات الإقليمية التي وقعت على مستوى الجغرافيا والسياسة للإقليم، عندما أصبح مركز السُّلْطة في إسطنبول أضعف تأثيرًا؛ لأن تَركُّز السُّلْطة في مختلف الولايات غيَّر من وضع التوازن، الذي كان قائمًا بين الطرفين، وهذه التحولات جَلبَت معها الاتجاه نحو تأكيد كل ما هو محلي، بما في ذلك الثقافة المحلية، واستخدام اللغة الدارجة المحلية.
وهكذا، تزامنت وتجاورت مجموعة من العوامل لتصعيد الثقافة المحلية والطبقة الوسطى. وعلى هذا الصعيد كانت التطورات التي شهدها القرن السابع عشر على درجة كبيرة من الحيوية، باعتبارها جزءًا من التراث الثقافي الذي ورثته الحقبة الحديثة.
وعلى مستوى أرحب، يختلف تفسير هذه النصوص عن التفسيرات النمطية التي قدمت لها. فعلى سبيل المثال، اتجه مؤرِّخو الأدب إلى اعتبار التوسع في استخدام اللغة الدارجة، واستخدام طريقة الحفظ والاستظهار علامة على التدهور؛ لكونه حركة خرجت عن المسار القويم. وعُد ذلك جانبًا من التدهور العام في الثقافة، والاقتصاد، والمجتمع، والتعليم. بينما ينظر المؤرِّخ الاجتماعي إلى هذه النصوص باعتبارها ذات دلالات مختلفة تمامًا. فبإدخال عنصر الطبقة في إطار الصورة، نستطيع تفسير هذا «التدهور» كجزء من عملية مفرطة الثقافة، نتج من حقيقة وجود تأثير بالغ الأهمية للطبقة الوسطى على الكلمة المدونة.
هذا الاتجاه امتد امتدادًا معيَّنًا إلى ما بعد الحقبة التي شهدت توسُّعًا في نطاق ثقافة الطبقة الوسطى، يتمثل في بقائه — بصورة أو بأخرى — خلال القرن الثامن عشر عندما تقلص المجال الثقافي للطبقة الوسطى، الذي يمكن إرجاعه إلى مجموعة من العوامل الأخرى.
فعندما أثقل عبء الضرائب كاهل الطبقة الوسطى، تناقصت مواردها نتيجة للتحولات التجارية التي حدثت في تلك الفترة، ففقَدَت ما كان لها من صدارة، كما شهدت علاقتها بالكتابة تحوُّلات أيضًا. غير أن تأثيرها على الكتابة، والنصوص الشعبية التي اعتمدت على الأمثال، والنصوص الأدبية التي استخدمت العامية — بصورة أو بأخرى — ظل باقيًا في الأعمال الأدبية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولكن هذا البقاء لم يكن استمرارًا للاتجاه، فقد تدخلت عوامل جديدة لتحول دون ذلك.
فقد برز المماليك على المسرح الاجتماعي والسياسي كقوة ذات شأن، على مَرِّ القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولا يزال تعليم المماليك وحالهم الثقافي مجالًا بِكرًا لم يَطرُقه أحد من الباحِثِين؛ فمعلوماتنا محدودة عن تعليمهم، واللغة أو اللغات التي كانوا يتعاملون بها. وكان معيار التمييز الوحيد بين المماليك في القرن الثامن عشر يقوم على أساس ثقافي مهم للتمييز بين المماليك الذين جُلِبوا حديثًا إلى مصر، والمماليك المحليين الذين تُسمِّيهم المصادر المعاصرة «المصرية» الذين كانت هويتهم ومصالحهم أكثر ارتباطًا بالمجتمع المصري.
وهنا أيضًا تلعب عناصر الثقافة المحلية والمصالح المحلية دورًا في تشكيل الصورة؛ فعلى نقيض مماليك القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لم يكن مماليك الفترة المتأخرة مُنغلِقين على أنفسهم لا يقبلون دخول غير المماليك دائرتهم، فمن وُلِدوا منهم بالقاهرة كانوا متأثِّرِين بالثقافة العربية المحلية، وكانوا أقرب إلى البيئة المصرية ثقافيًّا، يتخذون لأنفسهم أسماءً عربية مثل محمد، وأحمد، وعلي، ولا يتخذون أسماءً تركية على نحو ما فعل المماليك الأوائل. وكان من وُلدوا منهم في مصر على معرفة سطحية باللغة العربية، وكان بعضهم يتقن العربية ويقرؤها، وقد خَلَّف بعضهم وراءه مكتبات خاصة مُهمَّة على نحو ما توضحه سِجلَّات التَّرِكات.
وهناك معيار آخر للتمييز من مُنطلَق التعليم، فقد عُرف القليل من المماليك بحبهم للعلم وتشجيعهم للشعراء والأدباء وإقبالهم على اقتناء الكتب. فمن تحصل على قدر من التعليم منهم، ولا يستطيع التبحر في العلم، كانت اللغة الدارجة أيسر سبيلًا عنده؛ لأنه في حالة معرفتهم العربية كان ذلك — في الغالب — قاصرًا على لغة الحديث. فإشارة الجَبَرْتي إلى مجلس رضوان كَتْخُدا الجلفي، يُفهَم منها أن العربية كانت لغة الحوار بذلك المجلس، وأن مستوى معرفتها يرقى إلى تذوقه الشعر والأدب افتراضًا.
ولعل اهتمام عدد من العلماء البارِزين في القرن الثامن عشر بتأليف عدة كتب استخدَمت الدارجة — بصورة أو بأخرى — استهدف توجيه الخطاب إلى هؤلاء، ومن بين أولئك العلماء من تولى مشيخة الأزهر؛ مثل: الشيخ عبد الله الشبراوي، والشيخ العريشي، والشيخ أحمد الدمنهوري، والشيخ محمد المهدي؛ فقد عَبَّرت كتابات هؤلاء عن تأثُّرهم بثقافة القاعدة الشعبية العريضة.
وهكذا، استمر أسلوب التعبير الذي استخدمته الطبقة الوسطى الحَضَرية باقيًا في عالم الكتابة والكتب، بعد تآكُل الدور المؤثر الذي كان لها من قبل في فترات سابقة، وقد استمر وجود هذا الأسلوب من أساليب التعبير عند مجموعة أخرى، لها مطالب مختلفة عن تلك التي كانت للطبقة الوسطى الحَضَرية.