المثقفون الراديكاليون وثقافة الأزمة
شهدت العلاقة بين الطبقة الوسطى والطبقة الحاكمة تغيُّرات مهمة فيما بين نهاية القرن السابع عشر ونهاية القرن الثامن عشر؛ فقد أدت الظروف الاجتماعية التي ظهرت بشكل هُلامي أولًا، ثم ما لبِثَت أن برَزَت ملامحها على مَرِّ القرن الثامن عشر، إلى تغيير القواعد التي حكَمَت العلاقة بين الطبَقَتين. ومع تركُّز السُّلْطة في يد بضعة أمراء — وخاصة علي بك الكبير وخلفاءه — في أواخر القرن الثامن عشر، عانى سكان الحَضَر من النتائج الاقتصادية التي ترتَّبَت على الاستغلال الضريبي، هذا الاستغلال وما نجم عنه من أزمة اقتصادية أصابت السكان، وخاصة سكان الحضر، وصنعت نهاية للشراكة بين الطبقة الوسطى والطبقة الحاكمة التي أصبحت الآن أكثر اهتمامًا بالموارد الريفية، وبدأت عملية تركيز للسُّلْطة استمرت تتأرجح شدة ولينًا على مَرِّ القرن الثامن عشر.
وكان لهذا الاتجاه انعكاساته على المشهد الثقافي، فقد استبدل بالخطوط المَرِنة بين الطبقتين الحاكمة والوسطى، والتعبير عن إحداهما من خلال الأخرى، حدودًا صَلْدة تستعصي على الاختراق. ولا يعني ذلك أن الحدود بين ثقافة الطبقة الحاكمة وثقافة الطبقة الوسطى لم يكن لها وجود من قَبْل، ولكن التداخل بينهما جعل تلك الحدود رخوة، مَرِنة. وبتغيُّر الأحوال والظروف استُبْدِل بمرونة الحدود استقطاب ثقافي حاد؛ فقد أصبحت الهموم الاجتماعية الثقيلة، وكذلك الهموم السياسية ملموسة بين صفوف الطبقة الوسطى، وبدأت تُكوِّن لنفسها هُوِيَّة ثقافية وسياسية خاصة بها بمرور الزمن (رغم ما لحق بأعدادهم من تضاؤل ومجافاة ظروف العمل لهم).
وبعبارة أخرى، ازداد ضحايا الاستغلال المالي من جانب السُّلْطة ترابطًا، وأصبحت آراؤهم حول الظروف الاجتماعية أكثر وضوحًا في الوقت الذي تآكلَت فيه الفُرص الاقتصادية المتاحة للتجار والباعة والحِرَفِيِّين. في إطار تلك الظروف، اتَّخذَت ثقافتهم بعدًا سياسيًّا.
ثقافة الطبقة الحاكمة في القرن الثامن عشر
لم تنل ثقافة الطبقة الحاكمة اهتمامًا كافيًا من جانب الباحثِين؛ ولذلك ظل فهمُها محدودًا في أحسن الأحوال، غائبًا في أسوئها. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا حقيقة أن تلك الثقافة ذات ملامح مختلطة، تجعل وضْعَها في إطار نموذج محدَّد من الصعوبة بمكان.
فعلى مَرِّ ذلك القرن، كوَّن المماليك ثقافة ارتبطَت بما هبط عليهم من ثراء جلَبَه لهم تحكُّمهم في النظام الضريبي. وكلما ازدادت سُلطتهم تركُّزًا، زاد استغلالهم للناس، وحاجتهم إلى تأكيد شرعيتهم بمختلف الطُّرق. والْتَمَس بعضهم سبيلًا لتحقيق ذلك عن طريق المنشآت الدينية والخيرية. فقد شهد القرن الثامن عشر قيام المماليك بتشييد العمائر الدينية والخيرية كالمساجد والمدارس، وكان عبد الرحمن كَتْخُدا — أهم من شَيَّد آثارًا في العصر العثماني — ينتمي إلى القرن الثامن عشر، وعُرف بإقامة عديد من المساجد والأسْبِلة والكتاتيب وغيرها من العمائر بالقاهرة، وكذلك المجمع المعماري الديني الذي شيَّده «محمد بك أبو الدهب» (المتوفَّى ١١٩١ﻫ/١٧٧٧م) على جانِب الأزهر.
وثمة بُعد آخر لثقافة أمراء المماليك، يتمثَّل في رعايتهم لأنشطة فنِّية مُعيَّنة تجمع بين التَّرْفيه والمتعة، لإبراز صورة مُعيَّنة لهم عند الرَّعية. فقد استخدموا جانبًا من ثرواتهم الطائلة في رعاية وتمويل الإنتاج الأدبي، فراج نوع مُعيَّن من النشاط الثقافي من خلال المجالس الأدبية التي كانت تُقام دوريًّا ببيوت بعض الأمراء، فكان بيت رضوان كَتْخُدا الجلفي (المتوفَّى ١١٦٨ﻫ/١٧٥٤م) مركزًا لرعاية الأدباء في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فاشتهر ذلك الأمير بتلك الباقة من الأدباء الذين التَفُّوا حوله. وعندما تولَّى حكم مصر مع إبراهيم بك، حَدَث نوع من الرخاء والاستقرار الأمني. وفي تلك المجالس الأدبية كان الحضور يستمعون إلى الموسيقى ويشاهدون الرَّقص، كما يَستمعون إلى طرائف الشعر، وبذلك جَمعت تلك المجالس بين الترفيه والمتعة. وكان أسلوب الحياة الرَّغدة الناعمة بُعدًا مهمًّا من أبعاد الثراء المفاجئ لتلك الطبقة.
جاءت ثقافة القصور امتدادًا وانعكاسًا للواقع الاقتصادي والاجتماعي للطبقة الحاكمة، فكان لها رعاتها وأتباعها، لها حكامها ورعيتها، ولم تكن مُنفتِحة تمامًا إلا على دوائر مُعيَّنة خارجها. فهي ثقافة أضفت الشرعية على الطبقة الحاكمة، وعبَّرت عن مصالحها. وقد جنى صُناع تلك الثقافة منافع مباشِرة أو غير مباشِرة من خلال اشتغالهم بها، بغضِّ النظر عن الأصول التي جاءوا منها. فالشعراء الذين مدحوا أمراء المماليك جاءوا من أصول متواضعة، ولكن عطاء الأمراء لهم كان سخيًّا، وأكسبهم ارتباطهم برجال السُّلْطة مكانة خاصة بين من كانوا على شاكلتهم.
وكان هناك الكثير من المتعلِّمِين البارزِين خارج دوائر الطبقة الحاكمة، لهم دائرتهم الخاصة بهم، يشتغلون بتنمية مجال ثقافي آخر، كان لثقافة القصور المملوكية صداها عندها، كما كان لها موقفها من تلك الثقافة، فقد اختار هؤلاء لأنفسهم مسارًا آخر.
فقد برزت من بين السياقات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية لتلك الحقبة، نخبة متعلِّمة من أبناء الطبقة الوسطى، ابتعدت بقدر أكبر عن مؤسَّسة العلماء وعملية الاستقطاب التي شهدَتْها الفترة. لقد كانوا فئة محدودة العدد من الرجال المتعلِّمِين البارزِين، الذين نظروا على الواقع المحيط بهم من زاوية مُعيَّنة، وسجَّلوا موقفهم منه، والآراء التي طرحوها كانت مختلفة عن تلك التي توصَّل إليها نخبة العلماء. ونستطيع أن نجد في كتاباتهم ردود أفعال وآراء قوة اجتماعية مُعيَّنة، أو قُوى اجتماعية مختلفة عن تلك التي نَقرأ عنها في الجَبَرْتي الذي كان من نخبة العلماء. وعلينا أن نضع في اعتبارنا متى تُعبِّر تلك النصوص عن الآراء الشخصية للكاتب، أو آراء ومواقف الطبقة الوسطى، أو عامة سكان الحَضَر. وما نَتوصل إليه من نتائج سوف يساعدنا على تحديد الطريقة، التي عاشها ساكن المدينة العادي خلال هذه التغيُّرات المهمة في الاقتصاد والسياسة، من خلال كتابات تلك النُّخْبة من مثقَّفِي الطبقة الوسطى.
إن تحليل بعض النصوص الأدبية، يشير إلى أن ثَمَّة رَدَّ فعل للظروف المتغيِّرة يمكن رصدُه؛ خاصة من جانِب أولئك الذين لا يُسمع لهم صوت عادة، ويُلاحَظ أن هؤلاء من خارج هيكل السُّلْطة. ويتطلب الوقوف على هذه الظاهرة مِنَّا أن تقرأ النصوص بطريقة خاصة، تضع في اعتبارها البُعد الاجتماعي دون النظر إلى الخصائص الأدبية الكامنة في تلك النصوص التي قد نَقوم بفحصها؛ مما يعني أن نضع في اعتبارنا النصوص التي قد تكون قيمتها الأدبية محدودة، ولكنها تُلقي أضواءً على البُعد الاجتماعي، أو تكشف لنا عن تحديد الكاتب لموقعه الاجتماعي، كما يتضمَّن ذلك أيضًا وضع تلك النصوص في سياق جهود الطبقة الوسطى لتنمية هُويِّتها الاجتماعية والثقافية.
لذلك أثارت هذه الفئة من الكُتَّاب تساؤلات ذات نسق ثقافي، قد لا يستطيع الأفراد من عامة الناس التعبير عنه كتابة، أو عن بعض الأمور التي شهدها المجتمع، أو عن النظام الاجتماعي والثقافي. وبذلك عَبَّر أولئك الكُتَّاب عن ضيقهم وعدم رضاهم، وكثير غيرهم ممن يعيشون تحت الظروف نفسها، كما عَبَّروا عن قَطْع أواصر الصِّلة بينهم وبين الطبقة الحاكمة ومؤسَّسة السُّلْطة. هذا الانفصال عن الحكام والسُّلْطة واضح في كتابات من كانوا يشغلون وظائف ذات طبيعة دينية، ولكنهم ليسوا من مَصافِّ العلماء، والذين كان ولاؤهم موزَّعًا بين أوضاعهم داخل المُؤسَّسة الدينية من ناحية، وانتمائهم إلى الطبقة الوسطى، من ناحية أخرى.
وتبين تلك النصوص نوعًا من عدم الارتياح إلى النظام الاجتماعي السائد، والاهتمام بالأمور الاقتصادية، تم التعبير عنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فأبْدَى بعضهم — على سبيل المثال — اعتراضه على مظاهر الأيديولوجية السائدة فيما يتعلق بالهيكل الاجتماعي، وانتقد البعض الآخر العلماء ومفهوم المعرفة عندهم، والطريقة التي يتم بها تحصيل المعرِفة، وأحيانًا تساءلوا عن حدود سُلطة العلماء وسلوكهم والطُّرق التي اتبعوها.
هذا الموقف من مؤسَّسة السُّلْطة كان له أثره على الموضوعات التي تناولوها في كتاباتهم؛ خاصة همومهم المالية والخشية من الفقر، كما كان له أثره في الطريقة التي عَبَّروا بها عن آرائهم، مُتَّخذِين من الواقع القائم مرجعًا، معتمدِين على ملاحظاتهم الشخصية، وعلى الرواية الشخصية، وهي طريقة نأت بهم تمامًا عن أدب مؤسَّسة السُّلْطة الذي كان بلاغيًّا، شعريًّا، غارقًا في المديح.
وتُشير النصوص الأدبية المعاصِرة إلى أن ما فَكَّر فيه أو كتبه بعض المتعلِّمِين من خارج مؤسَّسة السُّلْطة لم يكن دائمًا يُماثل آراء وأفكار من كانوا يَلُوذون بمؤسَّسة السُّلطة؛ مما يعني أن آراء ومواقف «كبار» الكُتَّاب والمفكِّرِين المعلومة لنا، لا يمكن اعتبارها معبِّرة تعبيرًا تامًّا عن العصر، ولكنها كانت مسموعة ومرئِيَّة على نطاق واسع؛ ولذلك نحتاج إلى مراجعة بعض الآراء وإعادة النظر فيها بجدية، مثل الفكرة القائلة إن الرَّعية قَبِلوا بأوضاعهم دون اعتراض لأسباب دينية أو غير دينية، وأن المَظهر الوحيد للاحتجاج على مَظالم السُّلْطة تَمثل في مظاهرات الشوارع التي كانت تقع في حالة نُدرة المواد الغذائية أو المجاعة، وأن الاحتجاج لم يَتضمن موقفًا فكريًّا بل كان مجرد صياح للجوعى.
إن هذه الآراء تقع في إطار فكرة «سلبية الشرق»، التي يستخدمه المستشرِقون في دراستهم للمجتمَعات العربية قبل دخول الغرب فيها. ولكن الواقع كان مختلفًا تمامًا على نحو ما تكشف عنه النصوص التي بين أيدينا؛ ولذلك يمكن استخدام هذه النصوص كإطار لتحليل المجتمَع والأيديولوجيات المتصلة به.
وكان الاتجاه المتميِّز عن اتجاه المُؤسَّسة الرسمية — إلى حد كبير — مرتبطًا بالتوسُّع في نطاق ثقافة الطبقة الوسطى، ومنبثقًا منها، ومتأثرًا بالحضور الكبير الذي حَققَته في عالم الكتابة الذي عرضنا له في الفصول السابقة، وكانوا جزءًا من قاعدة القراء، الذين أَثَّروا على الكتب، وما تناوَلَته من موضوعات كَتبوها بأنفسهم أو كَتبها الآخرون من أَجْلِهم.
وعلى كل، إذا كان أولئك الكُتَّاب قد تأثَّروا باللغة الدارجة من بعض الجوانب، وتزايد استخدام الأساليب المرتبطة بلغة الحديث اليومي، كما تأثَّروا عامة باتساع نطاق ثقافة الطبقة الوسطى، إلا أنهم تطوَّروا في اتجاه مختلِف بسبب ارتفاع مستوى تعليمهم، والتغيرات التي أصابت المناخ الاقتصادي. وفي الواقع كانوا أكثر ثقافة — بصورة واضحة — من القاعدة التي كوَّنت الطبقة الوسطى، ونتج عن ذلك أن أصبحت كُتُبهم بعيدة عن مُتناوَل الكثيرين. ويرجع ذلك إلى أن مُروِّجي الآراء الواردة بها كانوا من الفئة «المتعلِّمة» من أبناء الطبقة الوسطى، ممن أتيحت لهم فرصة التعلُّم من مصادر مختلفة ومن المجالات الثقافية المتاحة، وعلى هذا النحو لم يُمثِّلوا الطبقة الوسطى بل مَثَّلوا النُّخْبة المتعلِّمة. غير أن الآراء التي طرحوها والمواقف التي عبَّروا عنها، والاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية التي عبَّروا عنها، كانت كلها تخُص قطاعًا أعرض كثيرًا من الناس. وبذلك كانت طريقتهم في التعبير، ولغتهم، ومواقفهم النقدية وواقعيتهم الاجتماعية تجعل من كتاباتهم بشيرًا، له مغزاه في القرن التاسع عشر.
هذا الاتجاه الإبداعي المهم الذي لم يَنَل اعترافًا كافيًا، يُلقي أضواءً جديدة على فَهْمِنا للقرن التاسع عشر وما تلاه. والواقع أن أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر شهدت ظهور بعد اجتماعي ثقافي استشف المؤرخون وجوده، ولكنهم لم يحاولوا استكشافه تمامًا، ولعل ذلك يرجع إلى أن الإجابة عن تساؤلاتهم لا تتوافر في المصادر التقليدية. وقد تم البناء على بعض ملامح هذه الثقافة في القرن التاسع عشر، ويعطي ذلك لثقافة القرن التاسع عشر عمقًا تاريخيًّا أبعد مما يذهب إليه الباحثون عامة، فهم لا ينظرون إليها إلا في سياق تكوين الدولة الحديثة والتأثير الغربي. فأولئك الذين كتبوا في القرنين السابع عشر والثامن عشر قَدَّموا مستوًى مهمًّا من الفكر الأصيل والطرح الجديد عند تناولهم للواقع الاجتماعي، وفيما طرحوه من آراء حول السُّلْطة ومؤسَّساتها. واتَّخذوا موقفًا من مؤسَّسة السُّلْطة يناظِر الموقف الأكثر شهرة الذي اتخذه يعقوب صنُّوع، وعبد الله النديم. وبعبارة أخرى، قدَّم أولئك الكُتَّاب الأساس الذي قامت عليه بعض التطورات التي حدثَت فيما بَعْد.
وظهور الأشكال الإبداعية الجديدة على يد أناس يَقعون على هامش المُؤسَّسة الرسمية وهيكل السُّلْطة، لا يبدو غريبًا. وقد ثار جدل بين عدد من الباحثِين حول كَمِّ التغيُّرات التي قد تأتي من داخل أو خارج المؤسَّسات، أو حول ما إذا كان التجديد في الثقافة مرتبطًا بمؤسَّسات التعليم أو يتم خارجها. وقد استمر ذلك الجدل لبعض الوقت فيما يتَّصل بالجامعات في أوروبا في العصر نفسه تقريبًا، فيما بين القرون ١٦–١٨. فطرح تساؤلات — مثلًا — حول دور الجامعات مثل كمبردج في التغيُّر الكبير الذي حدث في القرن السابع عشر.
ودار الجدل نفسه حول العالَم العثماني؛ فقد اتَّجهَت الدراسات التاريخية الخاصَّة بمصر والشام وتركيا إلى تأكيد دور الدولة في إيجاد الثقافة غير الدينية، من خلال إصلاح النظام التعليمي في القرن التاسع عشر. ولا خلاف على أهمية تلك الإصلاحات من حيث نطاقها أو ما تَرتَّب عليها من نتائج على بنية الثقافة الحديثة. ولكن من الخطأ التغاضي عن تناظرات مُعيَّنة ربما كان لها تأثيرها على تلك التطورات؛ ولذلك يجب أن نضع في اعتبارنا العوامل البنيوية والجغرافية التي سَبقَت القرن التاسع عشر.
وننتقل الآن إلى تحديد أولئك الكُتَّاب المجدِّدِين، الذين عرفَتْهم مصر في القرن الثامن عشر، وإلقاء نظرة على خلفياتهم؛ ونظرًا لأنهم لم يكونوا جزءًا من مؤسَّسة السُّلْطة، لا نعرف إلا القليل عنهم، وهذا القليل هو ما باحوا به لنا عن أنفسهم في كُتبهم. ومن بين هؤلاء السيرة الذاتية الممتعة «لمحمد حسن أبو ذاكر». فكتابه الذي لا يحمل عنوانًا؛ مَليء بالمعلومات عن سيرته الذاتية، ودقة آرائه عن العالم المحيط به، والتحليل الذي يقدمه لبيئته، ومستوى مناسبة ما يُقدِّمه من تفاصيل، كل ذلك يجعله متفوِّقًا على غيره من الكُتَّاب. كان وضع «أبو ذاكر» من كل جوانبه مُعبِّرًا تمامًا عن كثيرين غيره، فلم يكن غنيًّا أو مشهورًا، ولم يَنَل تقدير معاصريه ككاتب أو كمفكر، غير أنه كان متعلِّمًا واسع الاطلاع، مُستقِل التفكير، واضحًا في آرائه. ولكنه ظل طوال حياته يحتل مركزًا وسطًا، فلم يحقق ما تَطلَّع إليه، كما لم يتوافر له الأمن المادي الذي كان ينشده.
وسيرة «أبو ذاكر» الذاتية لها أهمية خاصة؛ لأنها لا تعتمد على الإنجازات الكبرى، ولكنها — على نقيض ذلك — تعتمد على الظواهر العادية التي قد يواجهها أي طالب، وكغيره من مئات الطلاب، لم يَطل بقاء «أبو ذاكر» طالبًا بالأزهر، فقد اضْطُر لتَرْكه دون أن يُكمِل تعليمه لأسباب مادية؛ لأنه كان عليه أن يَعُول أُسرته. وقد أَثَّرت ظروفه على أدائه أيام الطلب، فلم يكن مُوفَّقًا فيها. وقد شرح ذلك لقُرَّائه، مبيِّنًا كيف اختار أن يترك الأزهر، وعَقد لذلك فصلًا بعنوان «سبب انقطاع كاتبه عن رواح الأزهر»، فأرجع ذلك إلى مواقف بعض العلماء والطلاب منهم، وسخرية البعض منه؛ لأنه كان يُضطر من حين لآخر لتَرْك الدراسة والعمل كسبًا للعيش في الأوقات التي كان عليه فيها تدبير الاحتياجات المادية لأُسرته.
واستطاع بعد ذلك أن يحصل على وظيفة «كاتب» بالأوقاف، بفضل مساعدة زوج أمه، فكان عَمله في وَقْف السلطان محمد، بتلك الوظيفة المتواضعة التي شغلها طوال حياته وحقَّقَت له الوظيفة نوعًا من الاستقرار مما جعله مَدينًا بالفضل لزوج أمه الذي هيأ له حياة مستقِرَّة، من خلال صِلاته الشخصية بالمسئولِين عن الوقف. ولكن استمر يعاني القلق؛ لأن المرتب الذي كان يتقاضاه لم يفِ بكل حاجاته، وكان أشد ما يضايقه أن من حققوا النجاح المادي في حياتهم، لم يكن لديهم أي قدر من الثقافة. وتُعَد سيرة «أبو ذاكر» مثالًا لسيرة كثير من الناس الذين نالوا حظًّا محدودًا من التعليم العالي، دون أن يصلوا إلى غايته التي تتيح لهم فرصة تَولِّي المناصب الكبرى، والذين كان الإخفاق دائمًا نصيبهم عندما يحاولون تحسين وضعهم المادي وزيادة مواردهم بمختلف الوسائل.
ومثل هذه المعلومات التفصيلية عن «أبو ذاكر» لا تتوافر عن غيره من الكتاب الآخَرِين الذين كتبوا في الاتجاه نفسه. ورغم غياب مادة مماثلة عن حياة الآخرين، يمكن أن نلمس عندهم مواقف مُعيَّنة شائعة بينهم؛ فكتابات كل من البدري حسن، ويوسف الشِّربيني، والشيخ عامر العنبوطي تُعبِّر عن أولئك الذين جاءوا من خارج دائرة السُّلْطة، أو يَرَون في أنفسهم اختلافًا عمَّن في مؤسَّسة السُّلْطة، ولا يربطون أنفسَهم بالأيديولوجية السائدة، فقد قَبِلوا ببعضها، ورفضوا بعضها الآخر، وكان كل منهم يَرْقُب المجتمَع باهتمام كما أن لهم اهتماماتهم الاجتماعية.
ويمكن قياس براعة أولئك الكُتَّاب بتعدُّد الطرق التي يستخدمونها للتعبير عن آرائهم. بالحديث عن القوى الاجتماعية، وعن الطعام، واللغة، ومن خلال طريقة مراقبتهم للسلوك الاجتماعي وتفسير دوافعه، وبتعدُّد مستوَيات اللغة التي يستخدمونها مُنتقِلين بين الفصحى والعامية وشبه العامية، ولغة المُؤسَّسة الرسمية، وتُغطِّي حياة أولئك الكُتَّاب من نهاية القرن السابع عشر عندما بدأ ظهور شكل جديد من أشكال هيكل السُّلْطة، وتنتهي عند أواخر القرن الثامن عشر، عندما استطاع هيكل السُّلْطة التحكم في الموارد الاقتصادية، وأن يقلص المجال الثقافي للطبقة الوسطى، الذي استفادت منه ردحًا من الزمان.
وعلى يد بعض الكُتَّاب — الذين كان معظمهم مغمورًا — ظَهر نوع من الكتابات التي عبَّرت عن الاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية من مُنطلَق ثقافي، ومن مُنطلَق سياسي أحيانًا، ولا نعرف مدى تأثيرهم على معاصريهم؛ لأنه لم يَرِد ذِكْر إلا لِلبعض منهم في كتب الحَوْليَّات والتراجم، ولعلهم لم يكونوا مَعرُوفين بالقدر الكافي حتى يهتم كُتَّاب الحَوْليَّات والتراجم بالكتابة عنهم، ولعلهم لم يُمثِّلوا تهديدًا لمؤسَّسة السُّلْطة يتطلب الاهتمام بهم والتحرك للرد عليهم، مثلما تفعل السُّلْطة — عادة — عندما يتعرض النظام لما يَتهدَّده، ومن ثَمَّ لا نستطيع تقدير الوزن السياسي لأولئك الكُتَّاب، ولكن أهميتهم عند المؤرِّخِين الآن لا ترتبط بما كان لهم من تأثير مُحتمَل على معاصريهم.
ولكن الاهتمام بهم هنا، ومناقشة كتاباتهم؛ يرجع إلى وجود بعض من عبَّروا عن اهتمامات ومواقف قطاع اجتماعي كبير، يتمثَّل في مختلف القوى الاجتماعية لسكان الحَضَر؛ فقد صاغ هؤلاء الكُتَّاب بالكلمات المدوَّنَة ما كان غالبية سكان المدينة — ممن يجيدون القراءة والكتابة أو يجهلونها — يُردِّدُونه فيما بينهم، وربما كانوا لا يستطيعون كتابته، ومن ثَمَّ كان أولئك الكُتَّاب لسان حال سكان المدينة الذين عَبَّروا عن همومهم وآرائهم تعبيرًا واضحًا جليًّا، وقدَّمَوا لنا صورة لمجتمع زمانهم كما رأتها القاعدة العريضة من الناس.
ومِن بين أولئك الكُتَّاب الذين عاشوا في القرن الثامن عشر؛ مَن تَوافَر لديهم وَعْي طبقي جعلهم يشعرون باختلافهم عن غيرهم؛ خاصة عن أولئك الذين كانوا يَلُوذون بهيكل السُّلْطة أو يَنتمون إليه، وعَبَّروا عن القلق الناجم عن ضيق ذات اليد في ظِلِّ الظروف الاقتصادية القائمة، وعن الحرمان الذي عانَوه وقت الأزمات. واستخدَموا أسلوبًا للكتابة يختلف عما اعتاده كُتَّاب مؤسَّسة السُّلْطة، يَتَّسم بالواقعية ويُعبِّر عن الواقع المحيط بهم، ولا يهتم بزخرفة الأسلوب والبلاغة الجوفاء، مما يعطي لما أبدَوْه من ملاحظات وزنًا كبيرًا. فقد عبَّر كل منهم عن رأيه الشخصي، وليس عن الرأي الجمعي، فيما أبداه من آراء حول الأحوال الاجتماعية للناس، أو عن الفقر، أو ما اتصل بالمال. وقد ظل تأثير أولئك الكُتَّاب محدودًا طوال القرن. ويبدو أن الظروف التي سادت النصف الثاني من القرن قد أَلْقَت بظلال كثيفة عليهم، وعلى ما طرحوه من آراء.
ومن الناحية المنهجية، تقوم هذه الدراسة بفحص النصوص الأدبية لأولئك الكُتَّاب من عدة زوايا؛ أولًا: باعتبارها مصدرًا من مصادر التاريخ الاجتماعي؛ خاصة وأننا قُمنا باختيارها لتعبيرها عن الهموم الاجتماعية لطبقة اجتماعية مُعيَّنة. وثانيًا: لأنها تعبر عن فئات اجتماعية مُعيَّنة من الطبقة الوسطى الحَضَرية والعامة من سكان الحضر. وهذا الموضوع بالغ الدقة لم يطرقه المؤرخون بعد، ولا زلنا في حاجة إلى البحث عن وسيلة للتعامل معها واستخدامها في سياق تاريخي.
فقد أدى الوضع الاجتماعي الاقتصادي إلى بَلْورة مواقف، وآراء، وأشكال للتعبير اختلفت تمامًا عن المُؤسَّسة الرسمية والطُّرُق التقليدية، فاتَّسم أسلوب التعبير عندهم بالتجديد؛ خاصة فيما اتصل بطرح الآراء وإبراز الملاحظات.
والواقع أننا نرى في تلك المجموعة من كُتَّاب القرن الثامن عشر طرازًا مُعيَّنًا من المثقَّفِين، الذين كانوا من المتعلِّمِين الواعِين، والذين لم يعتبروا أنفسهم، ولم ينظر إليهم الناس، على أنهم من العلماء، أَضِف إلى ذلك أن تعبيرهم عن أزمة الطبقة الوسطى الحَضَرية، واهتمامهم بها، لم يكن — بالضرورة — شخصيًّا محضًا، بل كان معبِّرًا عن متوسِّطِي التجار، والشيوخ، والباعة، والحِرَفِيِّين. ومستوى تعليمهم كما تُبيِّنه النصوص التي كتبوها، كان مُتقدِّمًا يفوق بمراحل مستوى التعليم الأساسي الذي كان مُتاحًا بالكتاتيب؛ فقد حصَّل كثيرون منها قَدرًا من التعليم بالمدارس العليا، وخاصة الأزهر، ثم دَعَّموا ثقافتهم بالتوسُّع في القراءة لمختلف المصادر، بل لَقَّب بعضُهم نفسَه بالأزهري على نحو ما فعل — مثلًا — كل من حسن البدري، و«محمد حسن أبو ذاكر».
ورغم أننا لا نعرف شيئًا عن تعليم يوسف الشِّربيني، إلا أن كتاباته تَنمُّ عن معرفة واسعة، فقد كان يعرف أعمال الغزالي وابن خلكان، وأدب أبي العلاء المعَرِّي، والحريري، والأعمال الجغرافية للمسعودي. كذلك يتضمن كتاب «أبو ذاكر» إشارة إلى الغَزالي، والمَقريزي، والسيوطي، والمناوي، وابن الوَرْدي، وابن سودون؛ مما يعني سعة اطلاعه في مجالات التاريخ والأدب والعلوم الدينية، ومعرفته تعود إلى القرن الثاني عشر، والعصر المملوكي، والقرنين السادس عشر والسابع عشر.
غير أن ظهور أولئك الكُتَّاب لم يأتِ في إطار تصنيفهم كعلماء، ولم يحرص أي منهم على أن يقدم نفسه بهذه الصفة، رغم أن كتاباتهم تكشف عن معرفة بالعلوم الدينية وبالتراث الإسلامي، بل نجدهم يُكثِّفون اهتمامهم بموضوعات دنيوية خالصة، عَبَّروا فيها عن هموم الطبقة الوسطى الحَضَرية. ومن ثَمَّ جاء موقع هؤلاء على هامش طبقة العلماء بحكم المواقع المتواضِعة التي شغلوها، وكذلك أوضاعهم الاقتصادية، ولكنهم — من ناحية أخرى — جاءوا على قمة المتعلِّمِين من أبناء الطبقة الوسطى، فعبَّروا عن همومهم الاجتماعية لمشاركتهم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية نفسها التي عاشتها تلك الطبقة. ومع احتدام الأزمة في القرن الثامن عشر، برزت في كتاباتهم روابطهم بالطبقة الوسطى الحَضَرية، كما شفت تلك الكتابات عن إرهاصات الوعي الطبقي عندهم.
وهكذا، نرى في كتاباتهم التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها مجتمَع القاهرة، بعيون من وَقع عليهم الغُرْم، وليس بعيون من كان الغُنْم من نصيبهم، ونعني بذلك مؤسَّسة السُّلْطة ومن انتسبوا إليها ولاذُوا بها. ومن كانت الثقافة التي عبَّروا عنها في أعمالهم إنما تُعبِّر من عدة جوانب عن جموع الناس، الذين عاشوا التجارب نفسها، وخَبَروا المعاناة نفسها دون أن تتوافر لهم القدرة على التدوين حتى تصل أصواتهم إلينا، فكانت تلك الأعمال لسان الحال الذي أغنانا عَمَّا كنا نتوقعه من تلك الجموع، من المقال. وبذلك نستطيع القول بتوافر درجة مُعيَّنة من الوعي عند الطبقة الوسطى تعكسه ثقافتها.
كان كثيرون من أولئك الكُتَّاب مُتأثِّرِين في كتاباتهم بالشعبية التي نالتها الكتب، والرواج الذي حقَّقَته على نحو ما ذكرنا في فصل سابق، كما تأثروا أيضًا بمستوى اللغة المستخدَمة فيها، وما احتوت عليه من موضوعات، واستخدموا كذلك الحكم والأمثال، والطرائف؛ أي إنهم عبروا عن أفكارهم في الإطار الثقافي المألوف عند القاعدة العريضة من سكان المدينة. فكانوا — في كتاباتهم — ينتقلون بين ثقافتين وهُوَّيتَين مختلفتَين: ثقافة أولئك الذين ارتقى تعليمُهم مثلهم، وحَقَّقوا قدرًا كبيرًا من المعرفة بالتراث الإسلامي، وثقافة الطبقة الوسطى والعامة من سكان المدينة التي صاغوا آراءهم حولها، وقدموا وصفًا لمعاناة أهلها.
هذه الازدواجية في الهُوِيَّة، كانت تُعبِّر عن قَدر مُعيَّن من التردد والتذبذب بين الانتماء إلى النُّخْبة الدينية، وكونهم ضحية لمن يملكون زمام تلك النُّخْبة. هذا التذبذب أصابهم بالإحباط، ولعله كان وراء طرحهم للآراء الجديدة، وابتداع السبل والأساليب المختلفة للتعبير عنها. وهكذا، بينما كانت تلك الحيرة والقلق سلبية على الصعيد الشخصي، فإنها كانت بما طرحته من آراء في كتبها إيجابية على صعيد المجتمع.
لقد قادت التجارب والملاحظات الشخصية «أبو ذاكر» إلى التوصُّل إلى استنتاجات مُعيَّنة، اصطدمت بالتقاليد الاجتماعية والثقافية في زمانه. استفزَّتْه التقاليد التي تضع العلماء عند قمة المجتمع، وجعَلَته ينتقد أفعال وسلوك العلماء نقدًا مرًّا، ولكن كتاباته — في الوقت نفسه — تنضح بانتمائه إلى الأزهر — بصورة أو بأخرى — وتكشف تَأثُّره ببعض مُعلِّميه هناك، وما تعلمه على أيديهم. هذا القلق والتَّردُّد ربما كان سائدًا بين كثير من الناس، الذين حُسِبوا على العلماء دون أن يكونوا بين مَصافِّهم، ودون أن يكون لهم ارتباط بمؤسَّسة السُّلْطة.
ومن ناحية أخرى، لم تكن الآراء التي طرحها أولئك الكُتَّاب حول الأيديولوجية السائدة أو ثقافة مؤسَّسة السُّلْطة وتَحدِّيهم لها يعني رَفْضَهم لتلك الثقافة. فلا اعتراضات عليها — صريحة كانت أم ضمنية — تعني الدعوة إلى الإطاحة بها أو الثورة ضدها. إنما تدل على الغموض الذي شاع بين المثقَّفِين الذين لا ينتمون إلى هيكل السُّلْطة؛ فالمثقَّفون من أمثال «أبو ذاكر» وحسن البدري الحجازي (الذي كان شاعرًا معروفًا وأزهريًّا) لم يَقبَلوا بالأيديولوجية السائدة قبولًا مُطلقًا، ولم ينظروا إلى الهيكل الاجتماعي من الزاوية التي رآه منها رجال السُّلْطة، بل قَبلوا ببعض الأشياء ورفضوا بعضها الآخر. وفيما يَتَّصل بالعلماء — على سبيل المثال — نجدهم يَتحدَّثون عن الفرق الشاسع بين ما حَقَّقه هؤلاء من ثراء عريض، وما توافر لهم من قُدرات ذهنية وثقافة.
ومالَ الكُتَّاب الذين اهتموا بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية إلى الواقعية في نظرتهم إلى البيئة الاجتماعية التي عاشوا فيها، ووضَعُوا أنفسهم في موضع المراقبة للواقع من حولهم، وتشير كتاباتُهم إلى أمور الحياة المادية للناس من حيث المأكل والملبس وغيرها من متطلَّبات الحياة، بأسلوب مُغايِر تمامًا لما اعتدنا قراءته في مؤلَّفات مَن ينتسبون إلى مؤسَّسة السُّلْطة، فقد أَلْقَت كتاباتهم الضوء على الحقيقة المرَّة العارية. وكان اتباعهم منهج الملاحَظة مخالفًا للمنهج التقليدي الذي اتبعه العلماء من حيث التركيز على السوابق المأثورة، وأقوال الثقاة من علماء الزمان، حاضِره وغابِره.
ولكن أناسًا مثل «أبو ذاكر» لا يمكن تصنيفهم في إطار الثقافة الشعبية التي قام باختن بدراستها، فقد كانت كتاباتهم رصينة وقراءاتهم واسعة. وكانت الكلمة المكتوبة هي أداتهم للتعبير، وليس المهرجان أو الكارنفال، مُستفيدِين في ذلك من رخص أسعار الورق، واتساع دائرة تَداوُل الكتب.
ويمكن طرح سؤال آخر يَتَّصل بالطابع غير الرسمي لثقافة مُتعلِّمي الطبقة الوسطى، وطَرْحِهم لهموم البيئة الاجتماعية المحيطة بهم، هو عن علاقتهم بالمجال العام للمجتمع؛ إذ لم تكن هذه الثقافة مُقيَّدة بالضوابط التي فَرضَتها مؤسَّسة التعليم، أو بمنهج الدراسات الأكاديمية، أو بالهيكل العلمي لتلك المُؤسَّسة على اختلاف مَراتبها. فقد عَبَّرت الكتابات بِحرِّية عن الآراء الفردية الخاصة لصاحبها، التي قامت على أساس فكري عقلاني، تجاهل القواعد المعمول بها، وانطلق خارج إطارها. وبهذه الملامح نقترب من «المجال العام» الذي قال به يورجن هابرماس، وهو الفضاء الذي يتم فيه الجدل بين العقلاني والتقليدي، حيث يكون ما يُقال أهم من قائله. وقد شَكَّل تطوُّر الصحافة، وظهور النوادي حيث كان الناس يتبادلون الآراء، «المجال العام»، الذي استطاعت البرجوازية عن طريقه تحديد السُّلْطة والنُّظم التقليدية.
بروز الهُوِيَّة الثقافية والسياسية للطبقة الوسطى
من الأبعاد المهمة التي يُمكِن رَصْدُها في النصوص التي بين أيدينا بروز الهُوِيَّة الثقافية والسياسية فيما عَبَّر عنه أفراد الطبقة الوسطى من المُبرَّزِين بين صفوف متعلِّمِيها. وتحتوي تلك النصوص على آراء ومواقف مخالِفة لآراء مؤسَّسة السُّلْطة والأيديولوجية السائدة، عَبَّروا عنها صراحة أو ضِمنًا، هذا الاختلاف يَتَّضِح في الطرح، وفي الطريقة التي فهم أو فسر بها المحيط الاجتماعي، وفيما اتصل بالمعرفة الحقة والسُّبل المناسبة لبلوغها، وفي اللغة والأسلوب. والتعبير المهم عن هذه الهُوِيَّة تَمثَّل في اهتمامها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، ونظرتها إلى العالم نظرة واقعية وليست نظرة مثالية. ومن ناحية اللغة والأسلوب، عَبَّر أولئك الكُتاب عن أنفسهم بأسلوب واقعي عملي دقيق، وبلغة واضحة وصريحة؛ فظهور الواقعية والطابع العملي (الأمبريقي) في الكتابة يمكن رَبْطُه بالجماعات التي تقع خارج مؤسَّسة السُّلْطة، ممن لا يُعبِّرون عن الفكرة السائدة التي تُضفِي الطابع المثالي على هياكل اجتماعية بعينها.
واللغة مَظْهَر من مَظاهر التغيُّر الاجتماعي والاحتقانات الطَّبقِيَّة. فالتزام قواعد الكتابة، واتباع قواعد النحو، وإتقان أصول البلاغة في التعبير التي تُعدُّ أساسية عند كُتَّاب مؤسَّسة السُّلْطة، يتم التغاضي عنها عَمدًا باستخدام لغة التعبير الدارجة التي لا تلتزم قواعد محدَّدة. وقد ناقَشْنا في الفصل السابق العوامل التي أدَّت إلى انتشار الدارجة في النصوص المكتوبة بشيء من التفصيل. وقد قَدَّم «أبو ذاكر» انطلاقة جديدة لاستخدام الدارجة أو شبه الدارجة في الكتابة؛ ففي زَمَنه استُخدم شكل من أشكال العامية الدارجة على نطاق واسع في مختلف أنواع الكتابة: كالنصوص الأدبية، والحَوْلِيَّات، وشَجَّع على ذلك تطوُّر ثقافة الكتب وشيوع الإقبال على قراءتها واقتنائها بين عامة الناس.
وهناك عدد من النصوص التي كُتبت في القرن الثامن عشر، تشير إلى أن أشباه المتعلِّمِين كانوا يُقبِلون على قراءة تلك الكُتب، وأن الكُتَّاب الذين نالُوا حظًّا محدودًا من التعليم كانوا لا يستطيعون التعبير إلا باللغة الدارجة التي اعتادوها. غير أن تعليقات «أبو ذاكر» على استخدام اللغة لها مَغزاها؛ فهو يُعبِّر عن التَّغاضي المقصود من جانب الكاتب عن استخدام الصِّيَغ اللغوية التي تلتزمها مؤسَّسة السُّلْطة. وبَرَّر المغربي اهتمامه بالعامية — قبل ذلك التاريخ بقرن من الزمان — بأنه أراد أن يُبيِّن أنها تَتبع بالضرورة الشكل الصحيح، وأنه هدف مهم للدراسة؛ لأنها — في رأيه — لا تختلف كثيرًا عن الفصحى.
ويمكننا رَصْد تطوُّر حَدَث في ما بين القرن السابع عشر ومنتصَف القرن الثامن عشر، يُعبِّر عن التحوُّلات التي حدَثَت عندئذٍ، فيما يتعلق بالاهتمام بالمال وبالفقر. فقد أفسح التفاؤل بالاحتمالات المادِّية المتاحة في بداية الفترة الطريق أمام الشعور بالحرمان والقلق المتعلِّق بالمال. وحوالي نهاية القرن السابع عشر، ألَّف يوسف الشِّربيني كِتابًا بعنوان: «كِتاب طرح المدد لحل اللآلئ والدرر» ذا أهمية كبيرة في هذا السياق؛ فإذا تغلَّبْنا على صعوبة قراءة المخطوط، حيث اختار الشِّربيني أن يكتب كل الكتاب بحروف غير منقوطة، نجده مُعبِّرًا عن رؤية الكاتب للعمل والمال.
فالشاعر يُعبِّر هنا عن الطعام الذي تَمَنَّى تَناوُله، ولكن الحلم دون المكانة الاجتماعية والقدرة المادية، فلا يبقى متاحًا إلا طعام الفقراء، ونستطيع أن نرى في هذه الأبيات دلالات اجتماعية وسياسية، وتتَّصِل التعليقات المرتبطة بها بالهيكل الاجتماعي، كما يراه شخص ممن كانوا في الكفة الخاسرة.
وكان «أبو ذاكر» أكثر تَحدِّيًا من الشِّربيني فيما يتعلق بالمال، فكان دائم الاهتمام بقيمة المال، والقوة التي يُوفِّرها المال، والمشاكل التي يسببها غيابه، وكَتب عن الفقر من حين لآخر، ولكنه يختلف عن الفقر الذي نجده في الحَوْليَّات، فنحن نعرف ما كان يَعنيه الفقر في القرن الثامن عشر؛ فحَولِيَّات القرن كالجَبَرْتي أو أحمد شلبي بن عبد الغني — مثلًا — تُقدِّم لنا صورة واضحة لما شهده كُتَّابها في زمن المجاعات، عندما يَتدفَّق سكان الريف على المدينة، ويزداد الزحام أمام المخابز، وترتفع أسعار المواد الغذائية كالقمح، وأسوأ من ذلك اضطرار الناس إلى أَكْل النفايات. ورغم أن «أبو ذاكر» كَتب عن الفقر، إلا أن ما كتبه لا صلة له بتلك الظروف التي يرد وصفها بالحَوْليَّات.
وهكذا، رغم أن حَولِيَّات الفترة، مثل الجَبَرْتي، لم تُهمِل ذِكْر الأزمات الاقتصادية، سواء ما كان منها بسبب الفيضان، أو المجاعات أو غيرها من الأسباب، وما تَرتَّب على ذلك من اندفاع الجياع إلى الشوارع، فإن طرح «أبو ذاكر» لموضع الفقر جاء مختلفًا. وعندما كتب عنه كان يصف تجربة عاشها، فهي بمثابة شهادة شخصية لظاهرة لم يكن سببها الكوارث الطبيعية أو المجاعات، ولكنها جاءت نتيجة لضغوط اجتماعية تَعرَّضت لها هذه الطبقة التي ينتمي إليها، وكان يدرك تمامًا معنى الوقوع في وَهْدة الفقر، ويسعى لِتجنُّبه دون جدوى، لقد أثر هذا الإحساس بالحرمان على نظرته العامة لموقعه في المجتمع.
وسواء اهتَمَّت تلك الكتابات بالحُّب أو المال أو الطعام فقد تَضمَّنَت رسالة ذات طابع سياسي، رغم أنه لم تتم بلورتها على هذا النحو، كما أنها لم تَحتوِ على مَطالب مُعيَّنة أو تطرح هياكل بديلة مُقترحة.
«أبو ذاكر» ونَبْذ الفكرة السائدة عن العلم
ثَمَّة مَظهَر آخر للاختلاف في الآراء بين الطبقات الاجتماعية، اتَّخذ طابع التحوُّل الثقافي، تَضمَّن موضوعات عن مُكونِّات العلم النافع، والسبيل الأمثل لبلوغه، وكان العلم قاصرًا على طبقة العلماء، تَطوَّرت مناهجه وفق أساليب أكاديمية مُعقَّدة لم تكن في متناول من لم يكن من زُمْرة العلماء. ومن هنا كانت الأصوات الناقدة للعلم (بهذا المفهوم) تمس موضوعًا أساسيًّا، يُعَد وقوفًا منه موقفًا مُضادًا للوضع القائم.
فقد أقدم «أبو ذاكر» على التقليل من شأن «الفتوى» كإحدى آليات علم الفقه في واحد من أكثر تعليقاته جرأة، ولما كان قد دَرَس حينًا بالأزهر فهو يعرف ما يَتحدَّث عنه، مما يعطي لنقده وزنًا. ففي مادة كَتَبها عام ١١٧٣ﻫ/١٧٥٩م انتقد الأسلوب الذي اتبعه علماء عصره في إصدار الفتاوى، منتقِدًا تلك الفتاوى لبُعْد الشُّقة بين المعرفة النظرية للعلماء والواقع القائم، فالعلماء يكتبون عن أمور مُجرَّدة لم تحدث في الحياة العملية، وهو لا يشكك في صدق فتاواهم، ولكنه يؤكد عدم جدواها؛ لأن العلماء يَضعون في اعتبارهم أصعب الاحتمالات التي لا يُتوَقع حدوثها، فهم في وادٍ، والواقع العملي في وادٍ آخر، ومن ثَمَّ يشك في نفع فتاواهم.
ودعا «أبو ذاكر» إلى أسلوب آخَر لتناوُل هذه الأمور، إلى نوع آخر من العلم، أكثر تحديدًا وواقعية، وأكثر دراية بما يجري من أمور الحياة. علم يُتيح للإنسان القدرة على التصرُّف عند التعرض للأزمات. فإذا وَجد الرجل نفسه وَحْدَه مع امرأته الحامل، وجاءها المخاض، فيجب أن يعرف كيف يقوم بعمل القابلة لو اضْطُر إلى ذلك اضطرارًا. ويمضي «أبو ذاكر» في شرح كيفية القيام بمثل هذا العمل، وذكر لنا أنه عرف ذلك من نساء الأُسرة، عندما كان شابًّا عن طريق السماع والمشاهدة ولم يجد غضاضة في ذِكْر تلك المعلومات والملاحَظات التي تَعلَّمها من النساء في صباه، فهو عندما يُوردُها يتعامل معها تَعامُلَه مع المعلومات التي تَلقَّاها على يد العلماء في الأزهر.
وما يقوله «أبو ذاكر» هنا، هو أن ظروفًا كتلك التي تحدَّث عنها، تَتطلَّب معرفة عملية يَستمدُّها المرء من بيئته، من نسوة الدار، ومن منابع الثقافة في بيئته، وأن هذه المعرفة أكثر نفعًا من العلم النظري المجرَّد الذي يُتَّخَذ إطارًا لصياغة الفتاوى. فهو يضع «علم» العلماء و«خبرة» القابلات على المستوى نفسه من الأهمية. وما تعلمه من مشاهداته من أمور الحياة العملية على مستوى ما حصله من الكتب من معرفة نظرية. فهو لا ينتقد «الفتوى» كأداة فقهية، ولكنه ينتقد العلماء الذين لا يعرفون شيئًا عن أمور الحياة الفعلية اليومية، ويُركِّزون على الأمور المجرَّدة، ومن ثَمَّ يكسو الغموض فتاواهم. ولكن المعنى الذي يَقصِده أعمق من ذلك بكثير، فهو يريد الإشارة إلى وجود نوع آخر من المعرفة يجب أن يُحصِّلها الناس، وليس العلم وَحْدَه هو ما يُحصِّله «العلماء» من المدارس.
كان اهتمام «أبو ذاكر» بموضوع العلم جزءًا من تجربته الشخصية، ولكنه كان أيضًا جزءًا من جدل دار حول مُكوِّنات «العلم»، ولم يكن ذلك الجدل قاصرًا على علماء المسلمِين وَحدَهم، بل كان له إطار أوسع في مَطلع العصر الحديث. وقد تحدث بيتر بيرك عن هذا الجدل فيما يتصل بأوروبا في كتابه «تاريخ المعرفة الاجتماعية»، وبيَّن كيف اتخذ شكل المنافسة، والصراع، والتبادل بين ما أسماه بالنُّظم المثقَّفة والنُّخب الأكاديمية والأشكال الأخرى من المعرفة، أو ما اعتبره «المعرفة البديلة» مثل معرفة الأمور اليومية، معرفة الفلاحِين والحِرَفِيِّين في مواجَهة مَعرفة الأكاديمِيِّين.
وغالبًا ما كانت الرواية الشخصية تَرِد ضمن مختلف أجناس الكتابة الأدبية، ولا تُشكِّل جنسًا أدبيًّا قائمًا بذاته؛ فترجمة الجَبَرْتي لوالده الشيخ حسن، التي تُعد أطول ترجمة في كتابه تجمع بين العناصر التقليدية للترجمة (شيوخه، ومعلميه، وتلاميذه، والكتب التي قرأها، وتلك التي ألَّفها) والعناصر الذاتية كتاريخ الأسرة وبعض المظاهر الاجتماعية الحميمة المتعلقة بها، وبأسلوب الحياة في البيت، ومثل هذا النوع من الرواية الشخصية قد يحتل مساحة كبيرة أو صغيرة من المجال، الذي خُصص الكتاب له في أي جنس أدبي.
ولكن كتابات «أبو ذاكر» في هذا الموضوع اختلفت عَمَّا حفل به الأدب العربي من تراث في هذا المجال؛ فقد اتَّخذَت كتابته طابعًا شخصيًّا محضًا، حيث يقدم تحليلًا لحالته الشخصية، وما بذله من جهد للبحث عن علاج نفسي لحالته؛ حتى يتخلص من آلامه الجسدية والنفسية ويتغلب على عجزه الجنسي.
ويُعد هذا النوع من الرواية الشخصية التي قَدَّم فيها «أبو ذاكر» مشاعر ومشاكل من يدرك السبعين في ذلك الزمان، على هذه الدرجة من الحميمية والبوح، يُعَد من العناصر وثيقة الصلة «بالحداثة» التي تَطوَّرت — بعد ذلك بزمن طويل — وانتشَرَت، ومن العناصر التي تَتبايَن تمامًا عن الأشكال السائدة من الكتابة في ذلك الزمان، وتتناقض مع ما بين أيدينا من تراجم العلماء التي تُقدِّم الشخصية موضوع الترجمة من زاوية مختلفة تمامًا: تعليمه، وشيوخه، ومُعلميه، وما قرأ، وما كَتب من كُتب، ومن تَعلَّم عليه من التلاميذ، وغير ذلك من أمور تتصل بالصورة العامة للمُتَرجَم له التي يريد الكاتب أن يوصلها إلى قرائه، أما اللون الآخر الذي قدمه «أبو ذاكر» فيتسم بالذاتية والبوح الذي يحقق نوعًا من التواصل مع القارئ. وشتان ما بين الصورة العامة التي تتوافق مع قواعد تقليدية نمطية معينة، والصورة الذاتية التي تصنع قواعدها الخاصة بها.
خلاصة
إن ما يمكننا أن نَخلُص إليه — في التحليل النهائي —لِمَا دار على مَدى قرنين من الزمان، أن ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية قد مَرَّت بتطورات ذات مغزًى، فقد وفَّرَت التجارة والرأسمالية التجارية لكثيرين منهم المجال والموارد والفُرص، وأن الأزمة التي عانت منها الطبقة الوسطى مع مرور عقود القرن الثامن عشر كانت لها نتائج مُركَّبة. فقد أَفْرَزت سنوات الرخاء نوعًا مُعيَّنًا من الثقافة، التي لحقت بها تطورات مهمة خلال سنوات الأزمة. فنَتَج عن تغيُّر الظروف وعي جديد أضاف بُعدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا إلى ثقافة الطبقة الوسطى، وكان البُعد السياسي تَطوُّرًا لاحقًا طَفَا على سطح الأزمة الاقتصادية. كذلك أَدَّت هذه الظروف إلى ظهور بعض الكُتَّاب المتميِّزِين في نظرتهم للحياة والتعبير عن مكنون النفس، تجاوزوا نطاق المُثُل التي حكمت المجتمع في ذلك الزمان.
ويكاد يضع المؤرِّخون أيديهم على الخطوط الرئيسية للقرن الثامن عشر في مصر وغيرها من ولايات الدولة العثمانية، فالولايات العثمانية خضعت بصورة متزايدة لسيطرة القوى المحلية، كما سيطر الحكام المحلِّيون على موارد الخزانة العثمانية. ولكن ما زال بعيدًا عن مُتناوَل أيديهم معرفة تاريخ الطبقة الوسطى، التي جاءت بعد طبقة الحكام في المنزلة الاجتماعية، الذين كانوا خارج إطار هيكل السُّلْطة، على نحو ما رأينا فيما سبق، والذين لم يكونوا مجرد جزء من التغيرات التي حدَثَت، بل كانوا أصحاب اتجاهات بعينها، ظهرت على أيديهم، ولا نستطيع أن نفهم الفترة ككل إلا بالاعتراف بهم كأحد مكونات العملية التاريخية والتاريخ الثقافي للفترة، على طريقتهم الخاصة، وبما حققوه من نجاح وإخفاق معًا.