أرني الله
كان في سالف العصر والأوان رجل طيب السريرة، صافي الضمير، رزقه الله طفلًا ذكي الفؤاد ذلق اللسان، فكانت أمتع لحظاته ساعة يجلس إلى طفله يتحادثان كأنهما صديقان، فيلحظ كأن فارق السن وفاصل الزمن ارتفع من بينهما كستارة وهمية من حرير؛ فإذا هما متفقان متفاهمان، لهما عين العلم وعين الجهل بحقائق الوجود، وجواهر الأشياء.
نظر الرجل يومًا إلى طفله، وقال: شكرًا لله! أنت لي نعمة من الله!
فقال الطفل: إنك يا أبتِ تتحدث كثيرًا عن الله، أرني الله!
– ماذا تقول يا بُني؟!
لفظها الرجل فاغر الفم، ذاهل الفكر، فهذا طلبٌ من الطفل غريبٌ لا يدري بمَ يجيب عنه. وأطرق مليًّا، ثُم التفت إلى ابنه مُرددًا كالمخاطب نفسه: تريد أن أُريك الله؟
– نعم، أرني الله!
– كيف أُريك ما لم أرَه أنا نفسي؟!
– ولماذا يا أبتِ لم ترَه؟
– لأني لم أفكِّر في ذلك قبل الآن.
– وإذا طلبت إليك أن تذهب لتراه ثُم تُريني إيَّاه؟
– سأفعل يا بُني، سأفعل.
ونهض الرجل، ومضى لوقته وجعل يطوف بالمدينة يسأل الناس عن بُغيته، فسخروا منه، فهم مشغولون عن الله ومشاهدته بأعمالهم الدنيوية، فذهب إلى رجال الدين فحاوروه وجادلوه بنصوصٍ محفوظة، وصيَغ موضوعة فلم يخرج منهم بطائل، فتركهم يائسًا ومشى في الطرقات مغمومًا يُسائل نفسه: أيعود إلى طفله كما ذهب خاوي اليد مِمَّا طلب؟ وأخيرًا عثر بشيخ قال له: «اذهب إلى طرف المدينة تجدْ ناسكًا هرِمًا لا يسأل الله شيئًا إلَّا استجاب له، فربما تجد عنده بُغيتك!»
فذهب الرجل توًّا إلى ذلك الناسك وقال له: جئتك في أمر أرجو ألَّا تردَّني عنه خائبًا.
فرفع إليه الناسك رأسه بصوت عميق لطيف: اعرض حاجتك!
– أريد أيُّها الناسك أن تُريني الله!
فأطرق الناسك وأمسك لحيته البيضاء بيده، وقال: أتعرف معنى ما تقول؟
– نعم، أريد أن تُريني الله!
فقال الناسك بصوته العميق اللطيف: أيُّها الرجل! إن الله لا يُرى بأدواتنا البصرية، ولا يُدرَك بحواسِّنا الجسدية؛ وهل تسبر عمق البحر بالإصبع التي تسبر عمق الكأس؟!
– وكيف أراه إذَن؟
– إذا تكشَّف هو لروحك!
– ومتى يتكشَّف لروحي؟
– إذا ظفرت بمحبته.
فسجد الرجل وعفَّر الترابُ جبهتَه، وأخذ يد الناسك وتوسَّل إليه قائلًا: أيُّها الناسك الصالح، سل الله أن يرزقني شيئًا من محبته!
فجذب الناسك يده برفق، وقال: تواضعْ أيُّها الرجل واطلب قليل القليل!
– فلْأطلب إذَن مقدار درهمٍ من محبته.
– يا للطمع! هذا كثير، كثير!
– ربع درهمٍ إذَن؟
– تواضعْ! تواضعْ!
– مثقال ذرةٍ من محبته.
– لا تُطيق مثقال ذرةٍ منها!
– نصف ذرةٍ إذَن؟
– ربما.
ورفع الناسك رأسه إلى السماء، وقال: يا رب، ارزقه نصف ذرةٍ من محبتك!
وقام الرجل وانصرف. ومرَّت الأيام، وإذا أسرة الرجل وطفله وأصحابه يأتون إلى الناسك، ويفضون إليه بأن الرجل لم يعد إلى منزله وأهله منذ تركه، وأنه اختفى ولا يدري أحد مكانه، فنهض معهم الناسك قلقًا، ولبثوا يبحثون عنه زمنًا إلى أن صادفوا جماعة من الرعاة قالوا لهم: إن الرجل جُنَّ وذهب إلى الجبال، ودلوهم على مكانه فمضوا إليه، فوجدوه قائمًا على صخرة شاخصًا ببصره إلى السماء، فسلَّموا عليه فلم يرد السلام، فتقدَّم الناسك إليه قائلًا: انتبه إليَّ، أنا الناسك، فلم يتحرَّك الرجل، فتقدَّم إليه طفله جزعًا، وقال بصوته الصغير الحنون: يا أبتِ، ألا تعرفني؟
فلم يُبدِ حراكًا. وصاحت أسرته وذووه من حوله محاولين إيقاظه، ولكن الناسك هزَّ رأسه قانطًا، وقال لهم: لا جدوى! كيف يسمع كلام الآدميين مَن كان في قلبه مقدار نصف ذرةٍ من محبة الله؟ والله لو قطعتموه بالمنشار لما عَلِم بذلك!
وأخذ الطفل يصيح، ويقول: الذنب ذنبي أنا الذي سألته أن يرى الله!
فالتفت إليه الناسك، وقال وكأنه يخاطب نفسه: أرأيت؟ إن نصف ذرةٍ من نور الله تكفي لتحطيم تركيبنا الآدمي، وإتلاف جهازنا العقلي!