معجزات وكرامات!
استيقظ الراهب مبكرًا كعادته، لم تسبقه غير العصافير الناهضة من أعشاشها، وقام إلى صلاته وعبادته وعمله في تلك البيعة من إقليم الشرق، فقد كان ذلك القسيس روحها ونورها، له عند رجال الدين منزلة، وله عند الناس احترام، وكان أمام الباب نخلة صغيرة غرسها بيده، واعتاد أن يسقيها قُبيل الشروق، وأن يتأمَّل الشمس يبزغ طرفها من الأفق أحمرَ كالبلحة، ثُم ترسل أشعَّتها إلى السعف المُندَّى، فتسقط عنه قطرات الفضَّة لتلفَّه في خيوط كالذهب.
فرغ القسيس في ذلك الصباح من سقي النخلة، وهمَّ بالدخول، وإذا أمامه جماعة يبدو عليهم الغمُّ والحزن، تجرَّأ واحد منهم وقال بنبرة الضراعة: أبونا! أنجدنا! وليس مَن ينجدنا غيرك!
امرأتي على فراش الموت، وهي تلتمس منك أن تُباركها قبل أن تلفظ النفس الأخير.
– أين هي؟
– في قرية مجاورة، والمطايا حاضرة!
وأشار الرجل إلى حمارين مُسرجَين في الانتظار، فقال الراهب: إني لست على استعداد يا أبنائي! تمهَّلوا حتى أُرتِّب شئوني وأُخبر إخواني، وأعود إليكم لتمضوا بي.
فقالت الجماعة في صوت واحد: لا نملك دقيقة! المرأة تحتضر، وربما وصلنا إليها بعد فوات الأوان، امض معنا الآن من فورك إذا أردت أن تكون بنا بارًّا كريمًا، وللمرأة التي تموت مُنقذًا رحيمًا، والمكان قريب، وستذهب وتعود قبل أن تستقر الشمس في الضحى!
– هلُمُّوا بنا!
قالها القسيس بصوت فيه حماسة الشهامة وحرارة المروءة، وتقدَّم والجماعة خلفه حتى اقتربوا من الحمارين، فركبوا أحدهما، وركب زوج المحتضرة الآخر، وانطلقوا خارج البلد.
وجعلوا يضربون الأرض ساعات، والقس يسأل عن الموضع، وهم يحثُّون الحمار بالنَّخس قائلين: «وصلنا.» فما لاحت لهم القرية إلَّا وقد انتصف النهار، ودخلوها فاستقبلتهم كلابها بالنُّباح، وأهلها بالترحيب، وتوجَّه الجميع إلى الدار بالقرب من «داير الناحية»، وقادوا القسيس إلى قاعة وجد فيها المرأة طريحةً على فراش، وقد شخصت ببصرها إلى السماء. ناداها فلم تجب، فهي من المنيَّة قابَ قوسَين! فشرع يستنزل عليها البركة، ولم يكد يفرغ من ذلك حتى لفظت آهةً طويلة شفعتها بشهيق عميق ظنَّ معه القسيس أن روح المرأة تفيض، ولكن أهدابها ارتعشت، ونظرتها لانت، وتلفتت تهمس: أين أنا؟
فقال القسيس دهشًا: أنتِ في دارك!
– عليَّ بشربة ماء!
فصاح أهلها من حولها: هاتوا القُلَّة! هاتوا الجرَّة!
وتسابق القوم إلى الإناء فأحضروه، وشربت المرأة طويلًا وتجشَّأت، ثم قالت: أمَا من طعام؟ إني جوعى!
فبادر كل مَن في الدار يأتي إليها بطعام، وطفقت المرأة تلتهم الأكل، والعيون من حولها تلتهمها دهشةً وعجبًا، ثُم تركت فراشها ونهضت تمشي في الدار كاملةَ الصحَّة موفورةَ العافية!
وعندئذٍ خرَّ القوم على يدَي القس ورجليه، يشبعونها لثمًا وتقبيلًا، ويصيحون: أيُّها الرجل المبارك! لقد حلَّت بركتك في الدار، وأحيت بركتك الميتة! ماذا في قدرتنا أن نُعطيك وفاءً منَّا بواجب الشكر، واعترافًا منَّا بالجميل؟!
فقال القسيس الذي أذهله الحادث: إني ما صنعت شيئًا أستحق عليه أجرًا أو شكرًا، ولكنَّها قدرة الله.
فقال صاحب الدار: سمِّها ما شئت! إنها على كل حال معجزة أراد الله أن تتم على يديك أنت أيُّها الرجل المبارك! ولقد حللت في دارنا المتواضعة، وإنه لَشرف وحظ ونعمة، ولا بُدَّ أن نقوم بحق الضيافة على قدر ما تسمح به حالنا!
وأمر بحُجرة منعزلة فأُعدَّت للضيف، وكلما استأذن القسيس في الانصراف حلف صاحب الدار بكل مُحرج من الأقسام ألَّا يدع ضيفه المبارك يذهب قبل ثلاثة أيام، أقل ما يجب نحو مَن أنقذ حياة امرأته، وجعل يحفُّه بالعناية ويغمره بالتكريم حتى انقضت مدة الضيافة، فأسرج المطيَّة وحمَّلها بالهدايا من فطير وعدس ودجاج، ووضع في يد القسيس خمسة جنيهات لصندوق الكنيسة، ولم يكد يُشيِّعه إلى الباب ويُقيمه على الحمار حتى أقبل رجل يلهث، وارتمى على قدم القسيس يتوسَّل ويقول: أبونا! حديث معجزتك بلغ القُرى المجاورة، لي عمٌّ في مقام أبي على فراش الموت، وهو يأمُل في بركتك، فلا تترك روحه تصعد قبل أن تُحقِّق أمله!
فقال القسيس مُتردِّدًا: ولكنِّي يا بُنيَّ قد تهيَّأت للعودة!
– هذا أمر لم يستغرق منك وقتًا، ولن أدعك حتى تذهب معي إلى عمِّي.
وأمسك بزمام الحمار وسار به، فقال القس: وأين عمُّك هذا؟
– ها هنا، على مسيرة دقائق.
فلم يرَ القسيس بُدًّا من الإذعان، وسار مع الرجل ساعةً إلى أن دخل القرية الثانية، ورأى فيها دارًا كالدار الأولى، ومريضًا على فراش قد أوشك على الموت، وحوله أهله يتقلَّبون بين اليأس والرجاء، فما إن دنا القس من المريض واستنزل عليه البركة حتى حدثت المعجزة؛ فإذا المحتضر يهبُّ قائمًا يطلب الطعام والشراب، والقوم من الأمر في دهشة، ويحلفون بالأيمان المُغلَّظة أن يُؤدوا نحو الرجل المبارك واجب الضيافة ثلاثة أيام بالتمام.
وانقضت مُدَّة الضيافة بين تكريم ورعاية وحفاوة وعناية، وشيَّعوا الضيف إلى أبواب القرية مثقلًا بالهدايا، وإذا رجل من قرية ثالثة يفد عليه، ويدعوه إلى زيارة قريتهم لتحلَّ البركة، ولو لمقدار ساعة، فإن شهرة القسيس المبارك قد طبقت جميع القرى، وما استطاع القسُّ من الرجل خلاصًا ولا فكاكًا، فقد قاد ذاك الرجل لجام الحمار، وذهب به إلى دار في قريته وجد فيها غلامًا كسيحًا، ما إن لمسه القسُّ حتى نهض يركض على قدميه ويجري بين تهليل أهل الدار وهتاف الصغار والكبار، وأقسم الجميع على واجب الضيافة نحو صاحب المعجزات، فأدُّوها على أحسن وجه ثلاث ليالٍ، لا تنقص ليلة، أُسوةً بغيرهم، حتى إذا انتهت المُدَّة قاموا إلى الضيف فأضافوا هدايا جديدة إلى ما معه من هدايا، حتى كاد ينوء بها حماره، ونفحوه من المال فوق ما مُنِحَ في القريتين السابقتين من مال حتى اجتمع له ما يربو على عشرين جنيهًا، وضعها في كيس أخفاه في صدره وامتطى الحمار وطلب من أهل الدار أن يحرسوه حتى بلده، فهبُّوا كلهم إليه وساروا خلف مطيَّته وهُم يقولون: نحرسك بقلوبنا ونفديك بأرواحنا! ولن نُسلِّمك إلَّا إلى ذويك، فأنت عندنا تساوي ثقلك ذهبًا!
فقال القسُّ ولم يفطن إلى عبارتهم: سأُحمِّلكم بعض المشقة، ولكن الطريق غير مأمونة، والعصابات اليوم منتشرة في الأقاليم كما تعلمون!
فقالوا: حقًّا إنهم ها هنا يخطفون الآن الرجال في رائعة النهار!
فقال القس: حتى السلطة عاجزة عن دفع هذا الشرِّ المُستطير، لقد قيل لي إن عصابات الخطف تستوقف اليوم السيارات العامة في الطُّرق الزراعية، وتصعد تُجيل الأنظار في الرُّكاب، فمَن وجدته على شيء من الوجاهة والثراء أنزلته وجرَّته معها؛ لتُطالب أهله بعدئذٍ بديَّة كبيرة، وقد كان ذلك يحدث أحيانًا وبعض رجال الأمن في السيارات، علمت أن اثنين من رجال الحفظ كانا ذات مرَّة بين رُكَّاب سيارة من تلك السيارات، فلما اعترضتها العصابة، واختارت من الرَّكب مَن اختارت، استغاث برجُلَي الحفظ الحاضرَين، فما كان منهما — لخوفهما من بأس اللصوص — إلَّا أنْ قالا للمخطوف: انزل معهم وخلصنا!
فضحك القوم، وقالوا للقس: اطمئن! ما دمت معنا فلن تنزل من فوق حمارك إلَّا في بلدك!
– إني أعرف شهامتكم! لقد غمرتموني بكرمكم وتقديركم وسخائكم!
– لا تقل ذلك، أنت كنزنا.
وساروا خلف القسِّ يتحدَّثون بمناقبه، ويفيضون بذكر معجزاته، وهو يُصغي إلى حديثهم ويتأمَّل ما وقع، وأخيرًا صاح: حقًّا هذا شيء عجيب ما حدث لي هذه الأيام! أتُرى إلى بركتي وحدها يعود الفضل كله في هذه المعجزات؟
فقالوا له؟
– وهل تشك في ذلك؟
– إني لست نبيًّا حتى أقوم بذلك كله في سبعة أيام، ولكنَّكم أنتم الذين جعلتموني أصنع هذه المعجزات!
فقالوا جميعًا في صوت واحد: نحن؟! ماذا تعني؟
– نعم أنتم المصدر الأول!
فتبادلوا النظرات، وهمسوا: مَن قال لك هذا؟!
فمضى القسُّ يقول باقتناع: إيمانكم! إنه الإيمان جعلكم تُحقِّقون كل ذلك، إنكم لا تعرفون ما في نفس المؤمن من قوة، الإيمان قوة يا أبنائي، الإيمان قوة! المعجزة ثاوية في قلوبكم كالماء في الحجر، لا يُفجِّرها غير الإيمان!
وظلَّ بمثل هذا الكلام يتحدث، والقوم خلفه يهزُّون رءوسهم، وأمعن في حماسة القول وحرارة الوعظ، فلم يفطن إلى القوم خلفه وهم يتسلَّلون الواحد بعد الآخر، فما بلغ حدود بلده وثاب إلى نفسه، والتفت خلفه يشكر مُشيِّعيه وحارسيه حتى عَقَد لسانه العجب، لم يجد خلفه أحدًا إلَّا الحمار الذي يحمل أشياءه!
ولم تطل دهشته، فقد وجد ذويه وإخوانه ومرءوسيه من رجال الكنيسة يندفعون نحوه، يضمُّونه ويلثمون يده، وعبرات الفرح والتأثُّر تسيل على خدودهم، وتماسك واحد منهم وقال: عدت إلينا سالمًا أخيرًا! لقد وفوا بوعدهم، فليأخذوا الأموال، وليعطونا «أبونا»! كل مال فداك يا «أبونا»!
وفطن القسُّ إلى كلمة المال، فصاح: أيُّ مال؟
– المال الذي دفعناه للعصابة!
– أيُّ عصابة؟
– التي خطفتك! لم ترضَ بأقلَّ من ألف جنيه أوَّل الأمر قائلين: إن ثقلك يُساوي ذهبًا! ولكنَّا توسلنا إليهم أن يقبَلوا النصف، فرضوا أخيرًا، ودفعنا لهم ديَّة إرجاعك من صندوق الكنيسة؛ خمسمائة جنيه!
فصاح القس: خمسمائة جنيه دفعتموها من أجلي؟! قالوا لكم إني كنت مخطوفًا؟
– نعم، بعد اختفائك بثلاثة أيام جاءتنا جماعة، وقالوا إن عصابة خطفتك في الصباح وأنت أمام الباب تسقي نخلتك! وأقسموا لنا إنك هالك إنْ لم ندفع لهم ديَّتك، أمَّا إذا دفعنا فإنك تحضر لنا سالمًا بعد ثلاثة أيام من الدفع!
فتأمَّل القسُّ هذا القول، وكرَّ بذاكرته إلى ما وقع، وقال كالمُخاطب نفسه: حقًّا! هذا معقول، هؤلاء الموتى والمرضى والعجزة الذين هبُّوا ناهضين من بركتي! يا لها من براعة!
وأقبل ذووه من جديد يفحصون جسمه وثيابه قائلين فرِحين: كل شيء يهون إلَّا سلامتك يا «أبونا»! لعلهم لم يُسيئوا إليك في أيام خطفك! ماذا صنعوا لك؟!
فقال وهو ذاهل: جعلوني أصنع معجزات، ولكنَّها معجزات قد كلَّفت الكنيسة ثمنًا باهظًا!