مؤتمر الحب!
كانوا أربعة حول مائدة «قهوة» على شاطئ النيل، ينظرون إلى غروب الشمس صامتين، ويتأمَّلون كالحالمين أشعَّتها الشاحبة تُلوِّن بحُمرة خفيفة قلاعَ المراكب البيضاء، كما كان الحياء — فيما مضى — يُلوِّن وجه العذراء.
هؤلاء الأربعة هُم صحفيٌّ وشاعر وموسيقيٌّ وامرأة، كل شيء فيهم كان ينمُّ على أن المرأة معبودتهم، ولكنَّهم يكتمون، أمَّا هي فلم تُظهر بعدُ إلى أيِّهم مالت، ولا أيَّهم اختارت.
طال صمتهم حتى ضجر أحدهم، فصفَّق بيديه وصاح: أفيقوا وافتحوا لنا.
– زجاجة «شمبانيا»!
قالها الموسيقيُّ على عجل، فقاطعه الشاعر: بل موضوعًا نتحدَّث فيه.
فقال الصحفي: في السياسة بالطبع.
– أعوذ بالله! إني أقابل هذا الاقتراح بالرَّفض.
– أتريد أن يكون لك أنت أيضًا في مجلسنا هذا حق «الفيتو» أو الاعتراض والنقض؟!
فتدخَّل الشاعر حسمًا للنزاع: إذا أردتم الإنصاف فإني أقترح أن يكون الموضوع مِمَّا يُهمُّنا جميعًا، ابحثوا عن موضوع يُهمُّ الجميع!
– الحب.
أطلقتها المرأة كما تُطلق قنبلة صاروخية بسرعة وبغير تردُّد، ونبرة الواثق المطمئن.
– الحب؟!
خرج اللفظ من أفواه الرجال، كما تخرج كلمة «آمين» من أفواه المصلين.
ومضت المرأة تقول: إنه بالتأكيد يُهمُّكم أجمعين، إنه يُهمُّ الصحفيَّ، وهل تستطيع أيُّها الصحفي أن تنكر أن أعجب خبر نُشر في القرن العشرين هو حبُّ ملك الإنجليز ﻟ «ليدي سمبسون»، ونزوله عن العرش الضخم من أجل هذا الحب؟ وأنت أيُّها الشاعر، هل تجحد أن الحبَّ هو الذي أثار حرب «طروادة»، وألهم «هوميروس» الإلياذة أخلد شعر على الدَّهر؟ وأنت أيُّها الموسيقيُّ، هل تنفي أن المزمار منذ وُجد، والقيثارة منذ صُنعت لهما هدف غير التعبير عن الحب؟!
– فقال الجميع بصوت واحد: صحيح.
وسكتت المرأة سكوت المنتصر الذي اعتاد الظَّفر.
ولكن الرجال الثلاثة ما لبثوا أن التفتوا إليها، وسألوها بلسان واحد: وأنتِ؟
– أنا!
وبدت الحيرة في وجهها قليلًا، أمجانين هُم؟ أتُسأل امرأة عن أمر هو بالنسبة إليها البداهة عينها؟ ولكنَّها تماسكت وتصنَّعت ومثَّلت، وهي بالسليقة خير مُمثِّلة، وقالت: الحب؟! لست أدري ما هو أيُّها الصحفيُّ، وأنت أيُّها الموسيقي، ثُم أنت أيُّها الشاعر، أخبروني: ما هو الحب؟ ومَن استطاع منكم إقناعي فاز بقلبي!
وغرقت في مقعدها، وأسندت رأسها إلى كتفها، وتأهَّبت للاستماع إلى الرجال الثلاثة وهم يتبارون أمامها لنَيل الجائزة الكبرى!
تنحنح الصحفي وهرش رأسه، ثُم قال: اللهم اجعل قلبها من نصيبي! تُريدين أن تعرفي ما هو الحب؟ الحب هو «خبر» يُسْتَقَى من القلب، ويُسأل فيه العقل فيكذِّبه، ولكن القلب يؤمن به ويُجازف بإعلانه متحملًا وحده مسئولية النشر!
فقال الموسيقي: بل الحب «لحن» يُعزف على أوتار القلب، وكلما قطع العقل منه وترًا، زاد اللحن طربًا!
وقال الشاعر: إنما الحب «قصيدة» تنفجر من القلب معانيها، وتخبو روعتها إذا وضع العقل أوزانها!
فقالت المرأة: إني لم أسألكم تعاريف، إنما أريد منكم تجاريب، قولوا لي ماذا يحسُّ كلٌّ منكم إذا اخترته حبيبًا لقلبي؛ أنت أيُّها الصحفي بماذا تشعر؟
فقال الصحفي: أشعر أني أغار عليكِ من هذه الشمس الغاربة لو لمست أشعَّتُها خدَّيكِ، خشيةَ أن تخطف وهي ذاهبة شيئًا منكِ، ولن أسمح بابتسامة منك تُلقى إلى هذَين الصديقين، بل اللصين، إنهما سينقلبان في نظري نشَّالَين يتربصان بلؤلؤة من لآلئ بسماتك وكلماتك ونظراتك، لن أدع مخلوقًا يأمُل في ذرَّة من فُتات مائدتك الحافلة بالسحر والفتنة، كل الرجال يُصبحون في عيني قُطَّاع طُرق إذا اقتربوا من كنوزك.
قالت المرأة باسمة: وما بالك الآن هادئًا، لا تحرص لا تغار؟!
– أحرص وأغار الآن على ماذا؟ إن عطفك علينا الساعة نحن الثلاثة لطيف، ولكنَّه يدفعني إلى شيء، وأين هو ذلك الذي يحرص دون الباقين على أن يُسوِّر قطعة أرض يملكها بالمَشاع مع آخرين؟ إذا ملكت أنا وحدي حرصت وغرت وسوَّرت.
– الملكيَّة إذَن هي أساس الحب عندك!
قالتها، والتفتت إلى الشاعر: وأنتَ ما شعورك لو آثرتك بحبي؟
فقال الشاعر: أحسُّ أنكِ قد طلعت من مشرق «قلبي» لتحُلِّي في الدنيا محلَّ تلك الشمس الغاربة، أحسُّ أنك ضياء حياتي، وضياء كل الكائنات، أشعَّة عينيك دفء لي ولكل المخلوقات، سأُدرك أن جمالك لم يُخلق لسعادتي وحدي، وأنك، كهذه الشمس، أكبر من أن تملكها يداي بمفردي، وإنما أنتِ نعمة للناس، لن أغار إذا أرسلت نسماتك كالأشعَّة تملأ قلوب العباد نورًا ورحمةً وسلامًا، سأسير إلى جانبك مزهوًّا فخورًا كلما رمقتك العيون؛ لأني سأعرف أن الجماهير قد رأت فيكِ ما أرى، وأُعجِبت بما أُعجَب، وآمنت بما أومن، إن آية الله في حُسنكِ يجب أن تُبلَّغ للناس كافَّةً، ما أنتِ إلَّا كتاب مقدَّس لم ينزل لأتلوه وحدي دون البشر!
– الشيوعية إذَن هي أساس الحب عندك!
ونظرت إلى الموسيقي: وإذا فضَّلتك أنتَ؟ فماذا تشعر؟
فقال الموسيقي: أشعر أن شمس الفنِّ قد أشرقت في قلبي، ولن يكون لها بعد اليوم غروب، فإن الألحان التي ستخرج من وحيك لن يسمع مثلها بشر، إن قيثارة «أورفيوس» التي قاد بها الضواري والأنعام لن تلحق بقيثارتي التي سأخلب بها العقول وأستلب الأفهام، لن تعرفي موتًا أبدًا أيَّتُها المرأة؛ لأن الخلود هو هديتي إليكِ، أنغامي تهبط من إلهامك كما يهبط الندى من صميم الفجر، ستبقى على الدهر تُردِّدها الأفواه بعد الأفواه.
– الفن إذَن هو أساس الحب عندك!
وأطرقت في شِبه يأس، وطال إطراقها.
فاستعجلها الجميع في صبر نافد: تكلَّمي واحكمي وانتخبي من بيننا.
فقالت: لا أريد رجلًا يحب الامتلاك أكثر مني، ولا أحب رجلًا يعبد ذاتي أكثر من ذاته، ولا أبغي رجلًا يهيم بفنِّه أكثر من شخصي.
وأشاحت بوجهها عن الثلاثة، وطفقت ترسل بصرها إلى الشَّفق الأحمر المُراق على مصرع الشمس عند الأفق.
وخيَّم صمت قطعه الصحفيُّ قائلًا: أرأيتم؟ أمَا كان خيرًا لنا أن نتحدَّث في السياسة؟
فوافق الموسيقي بهزِّه رأسه، ولكن الشاعر قال: وهل تحسبوننا خرجنا عن السياسة؟ يا للمرأة!
– إنها مثل الدنيا لا يدري الإنسان كيف تُفهَم، ولا كيف تُحكَم! تضاربت فيها المذاهب، وتناقضت النظريات من رأسماليَّة إلى شيوعيَّة إلى فنيَّة … إلخ، فما اهتدى أحد إلى مفتاحها، ولا وُفِّق إلى فكِّ عُقَدها ومعضلاتها، ولا إلى فتح مغاليقها، ولا إلى حلِّ رموزها وأسرارها.
فعادت إليهم المرأة بوجهها قائلة: لأنها أبسط من ذلك كله لو تعلمون!