في نخب «العصابة»!
اهتزَّت الدنيا لخبرٍ أذاعه البرق في كلِّ مكان: علماء الذَّرة قد اختفوا فجأةً من أمريكا، ولا يدري أحد مقرَّهم ولا مصيرهم.
وعلَّقت الصحف على ذلك الاختفاء الغريب بقولها: إنه، ولا ريب، اختطاف قامت به جماعة من الجواسيس لحساب بعض الدول، ولكن الحقيقة التي وقعت لا يُمكن أن تخطر على بال صحافة ولا خيال صحفيين! فقد حدث الأمر على هذا الوضع؛ رجل مستقر في بهوه الفاخر قرب المدفأة، قرأ في جرائد المساء هذا الخبر: «صرَّح رئيس اتحاد العلماء الذريين الأمريكي بأن الأبحاث الجديدة في شئون الذرَّة ستُتيح بعد عام صُنع قُنبلة تفوق في قوة التدمير القنبلتين اللتين أُلقيتا على هيروشيما وناجازاكي بمقدار ألف مرًّة.»
فألقى الرجل بالصحيفة، ونهض وقد دبَّر في نفسه أمرًا؛ هذا الرجل لم يكن سوى «آل كابوني» رئيس العصابة الخطير وصاحب الملايين الشهير!
كان قد اعتزل العمل الحرام، وقد حذَّره الأطباء من داء القلب، وشعر بدنو الأجل، ولكن موهبة التنظيم والتدبير لم تزل منها في عقله بقيَّة، ونفوذه على مَهَرة القتلة والمُهرِّبين وحُذَّاق اللصوص والخطَّافين لم يزل له قوة، فبذل من المال والحيلة ما لا يقف في سبيلهما شيء، حتى ظفر بخطف اتحاد العلماء الذرِّيين الأمريكيين برئيسهم، ووضعهم في قصره الفخم في «فلوريدا»، ودعاهم إلى مائدته وقدَّم إليهم أطيب الطعام وأفخم الشراب، ثُم قام في آخر العشاء يرفع كأسه قائلًا: في نخب «العصابة»! عفوًا! أقصد «الاتحاد»!
ونظر إليه رئيس اتحاد العلماء قلقًا، وهو لا يدري أكان هذا الخطأ منه مقصودًا! أتُرى هذا الرجل يسخر منهم، أم يحتفي بهم؟!
ولم يُمهلهم «آل كابوني»، فقد مضى يقول: لقد دعوتكم إلى قصري لأُكرِّمكم، ومَن أحقُّ منكم اليوم بالتكريم مني؟! أرجو قبل كل شيء أن تغفروا الطريقة التي أحضرتكم بها، لقد خشيت أن أرسل إليكم بطاقات دعوة، وأكتفي بها، فلا تعنوا بتشريفي ترفُّعًا، أو استغرابًا، أو رهبةً، أو أنفة، فأنتم ولا شكَّ تعتقدون أنْ لا صلة تربط مثلي بمثلكم، ولا تشابه بين مهنتي ومهنتكم، ولا تجانس بين مشاعري ومشاعركم، ربما كان هذا صحيحًا لأوَّل وهلة، وإني لست من الوقاحة حتى أزعم لنفسي أن أقف بين جماعة من الأبطال استطاعوا في طرفة عين أن يقتلوا مئات الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، ما من أحد يُكبر عملكم مثل ما أُكبره، وما من أحد يُقدِّر جهدكم مثل ما أُقدِّره، كلما تذكَّرت أن كل مجدي قائم على عدد من الرجال — الرجال فقط — قتلتهم في شيكاغو أنا وأعواني، عدد لا يزيد على خمسمائة رجل، وأنا كل شهرتي قائمة على تلك المجزرة التي أبَدت فيها كل خصومي عام ١٩٢٩م في جراج «يوم سانت فالنتين»! لقد كان أعواني كثيرين، أكثر منكم عددًا، ولكنَّنا لم نستطع أن نفعل أكثر من ذلك، أمَّا أنتم فقد استطعتم أن تُبيدوا خمسين ألف نسمة دفعةً واحدة، اعذرونا، لقد كانت وسائلنا أوليَّة محدودة، كل ما في أيدينا كانت المسدَّسات والمترليوزات، وهل يخطر في بالنا أن المستقبل سيكشف عن رجال مثلكم، في أيديهم هذه القدرة، وفي قلوبهم هذه الجرأة؟ إني أُخاطبكم وفي نفسي شعور من الخجل والمذلَّة والضآلة؛ فكل عملنا بالقياس إليكم عبث صِبية ولعب صغار، وقد منحوني من أجله لقب «عدو الشعب رقم واحد»، ولست أدري، ما هو اللقب الذي يليق برئيس هذه الجماعة! أعني الاتحاد، أحمد الله أن زماننا قد فات، وبطولتنا المزعومة قد طُويت في بطون الصحف القديمة، أمَّا اليوم فهو يومكم، وهذا الزمان هو زمانكم، ولكل زمن رجاله! فاسمحوا لي بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جماعتي أن أُحيِّي جماعتكم، وأن أرفع كأسي في نخب مجدكم، ليحيا الرجال الجدد! لتحيا العصابة الجديدة! أعني الاتحاد الجديد.
وشرب «آل كابوني» قدحه في جرعة واحدة، وجلس بأدب وتواضع، وقد أرخى أهدابه ونظر إلى الأرض؛ فلم يُبصر رءوس ضيوفه المطرقة، ولا عرقهم المُتفصِّد من الجِباه، ولا خجلهم المتصبِّب قانيًا من الوجوه.
وخيَّم سكون قطعه آخرَ الأمر رئيسُ الاتحاد بنهوضه، فنهض معه كل الأعضاء، وانتهت الوليمة صامتةً كأنها جنازة.
وانصرف العلماء إلى منازلهم واجمين، لا يجرؤ أحدهم على النظر إلى الآخر، واقترح الرئيس في النهاية أن يبقى أمر هذه الوليمة سرًّا.
ولم ينم «آل كابوني» في تلك الليلة، فقد كان تأثُّره شديدًا، لقد أيقن أن آخرته قد دنت، وأن صفحة حياته قد طُويت، وأنه قد ختمها كما ينبغي لها من الرَّوعة، وأنه أسلم الصولجان، ولفظ في خلفائه خُطبة الوداع، على أحسن ما ينبغي وأجمل ما يشتهي، فحُقَّ له الرُّقاد الأخير!
وأصابته آخرَ الليل نوبةٌ قلبيَّة، وأسلم الروح.
وظهرت الصُّحف في اليوم التالي، وكأنه القَدَر هو الآخر أراد أن يتكلَّم على طريقته، أو يمزح أو يجدَّ، لا أحد يدري مراميه!
كل ما حدث هو أن صورة «آل كابوني» نُشرت مصادفةً بجوار صورة «رئيس الاتحاد»!
الأوَّل بمناسبة وفاته.
والثاني بمناسبة عودته، بعد اختفائه هو وأعوانه من «مهمَّة سريَّة فنيَّة»!