اعترف القاتل!
كان موقف ذلك المتَّهم عجبًا أمام قُضاته! ذلك الشاب النحيل الجسم، الشاحب الوجه، الهادئ الطبع، الباسم الثغر، أهو قاتل في قفص اتِّهام؟ أم شاعر في خميلة ریحان؟!
كان يُشرف من مكانه على قاعة الجلسة، كأنه مُؤلِّف يُشرف من مقصورته على رواية من تأليفه، كل شيء يجري أمامه في المجرى الذي تخيَّله ودبَّره، وكل شيء سيحدث طبقًا لما ارتضاه وتوقَّعه، لم تكن في نظراته حيرة المُتطلِّع إلى الغيب، ولم يكن في قلبه قلق المُترقِّب لصوت القدر، كأنما يعرف أنه هو الذي نسج غيبه، ووضع قدره.
كانت المحكمة غاصَّة بالحضور، وسياج الشرطة يدفع عن الأبواب أمواج الجماهير، فتلك جريمة اهتمَّت لها البلاد واهتزَّت لها الدوائر السياسية.
وقف النائب العام يطلب رأس المتهم قائلًا: «مهمَّتي هيِّنة يا حضرات القُضاة! فالمتَّهم الذي بين أيديكم مُعترف بجريمته، وقد دبَّرها بدقة ونفَّذها بإحكام، فقد قتل عمدًا مع سبق الإصرار والترصُّد المجني عليه، ذلك القطب السياسي المشهور، بأن أطلق عليه رصاص مسدَّسه وهو في الطائرة بين الإسكندرية والقاهرة، فأصابه في صدره الإصابة المُوضَّحة في تقرير الطبيب الشرعي، والمُؤدِّية إلى وفاته، وتتلخَّص وقائع الجريمة كما شهد بها ضابط اللاسلكي في الطائرة، في أنه في ذلك اليوم لم يكن بها غير راكبين؛ هما المجني عليه والمتهم، وقد لاحظ ضابط اللاسلكي كما لاحظ قائد الطائرة بعض آثار الاضطراب على المتَّهم وهو يهُمُّ بركوبها، ولكنَّهما لم يُعلِّقا على هذه الملاحظة اهتمامًا، إلى أن حلَّقت الطائرة وطارت حتى كادت تقترب من القاهرة، وإذا بضابط اللاسلكي يحسُّ حركة خلفه، وكان الباب الموصل بين مكان الركاب ومكان القيادة مفتوحًا، فالتفت فأبصر المجني عليه يخرج من مقعده والجاني أمامه والمسدَّس في يده، فهُرع إليه وانتزع منه آلة الجريمة، ووضعه تحت الحفظ، وقد سُئل الجاني فاعترف بالقتل العمد، وقد ظهر من التحقيق أن الجاني — وهو مُدرِّس في إحدى المدارس الحرَّة بالإسكندرية — كان كثير التردُّد على القاهرة، وأنه — كما شهد ناظر مدرسته — في حالة ماليَّة مرتبكة، وأنه كثير العزلة، مُحاط بالغموض، وشهد زملاؤه أنه يُكثر من الكتابة خُفيةً في أوقات فراغه إلى جهة مجهولة، وطالما رأوا على وجهه علامات الاهتمام والتفكير إلى حد الانفعال، وهو يتلقَّى أو يقرأ خطابات كثيرة تردُّ إليه لا يعلمون مصدرها، وكانوا يشعرون كأن المتَّهم غريب بينهم، فهو قليل الكلام معهم، بعيد عن مجالس مرحهم ولهوهم، لم يروه مرةً ضاحكًا ولا عابثًا، كان دائم التفكير في أمر لا يدركون كُنهه، وكان يبدو عليه أنه يتحاشاهم ويتجنَّب عشرتهم، وفي يوم الحادث شهد زملاؤه المدرسون أنه تلقَّى برقيَّة، فتغيَّر وجهه بعد تلاوتها، وسأل عن الساعة، وقال وهو مُسرع مضطرب إنه ذاهب إلى المطار ليركب الطائرة إلى القاهرة، وقد أبصروه في تلك اللحظة يُخرج مسدَّسًا من ثيابه، فحصه ثُم ردَّه إلى جيبه. كل هذه الوقائع أثبتها التحقيق وأقرها المتَّهم، نعم، المتَّهم معترف بما اقترفت يداه، ولكن السؤال الحائر على كل الشِّفاه: هل له شركاء؟ ولم يستطع التحقيق، للأسف، أن ينتزع اسمًا واحدًا من فم هذا المجرم، كان في مراحل التحقيق على هذا الهدوء العجيب الذي ترون، يُنكر أن لأحد غيره يدًا فيما وقع، لم يستطع الاستجواب الدقيق، ولا القرينة المحرجة، ولا الحيلة البارعة، ولا الحُجَّة القارعة، أن تستثيره وتستحثَّه وتُخرجه من هذا الثبات وهذه الابتسامة! في حياتي القضائيَّة الطويلة لم أُصادف مجرمًا بهذه القوة ولا بهذا الدهاء، ما من شيء استطاع أن يهُزَّ هذا الشابَّ الباسم لينهار ويُفرِغ ما في جوفه، جبل من الجليد مُحاط بالضباب، بل حصن من الهدوء الصوفيِّ يحمي، ولا ريب، خلفه جماعة من الأعوان وجمعيات من السفَّاكين والإرهابيين، إن النهج الذي سار عليه القاتل قد أوقع المُحقِّقين في حيرة، إنه لم يشأ أن يخوض حتى في الغرض السياسيِّ الذي من أجله ارتكب الجريمة، كان دائمًا كما تبصرونه الآن بعيدًا عن كل زهو أو فخر، لا تخدعه ألفاظ البطولة، ولا يُحاول أن يلبس عمله أردية برَّاقة من عبارات الوطنية أو القومية، ولا يُريد أن يُوجِد لفعلته تبريرًا أو تفسيرًا!»
كل ذلك من فرط حرصه، حتى لا يجعل تحت قدميه مزالق، أو يحفر بلسانه سراديب تنساب من بين أقواله إلى حصن أسراره، كانت كلماته الوحيدة: «لقد قتلت مُتعمِّدًا، واستحقَّ رأسي المشنقة، فعجِّلوا بها، ولا تُضيِّعوا وقتي ووقتكم فيما لا طائل وراءه!»
هذا مجرم أدَّى مهمَّته، ويريد أن يُمحى سريعًا ويُباد، كما تُباد وثيقة تحوي أمرًا يُراد إخفاؤه عن العيون! إن إثم هذا الرجل لا ينتهي بتنفيذ حكم الإعدام فيه، إنه يموت ليُمكِّن لجرائم الاغتيال من أن تستمر بعده، إذا فتحتم جمجمة هذا الإنسان وجدتم سلسلة من الجرائم مقرونةً بأسماء الضحايا الذين يعلم هو متى تدنو ساعتهم، ويعرف هو اليد التي ستبطش بهم!
يا حضرات القضاة، أمامكم رجل خطِر! لا يغرنَّكم هذا القناع الحريريُّ من الوداعة والدماثة، إنه يُخفي تحته نفسًا خبيثة لمجرم من أشدِّ المجرمين فتكًا، وسأشرح لكم ما امتلأت به ملفاتي وصفحاتي من تفصيلات عن نفسيَّة هذا المجرم ودوافعه السياسيَّة!
وسكت النائب العام عن المرافعة لحظةً، ليتناول جرعة ماء من كوب فوق منصَّته بحركة متَّسقة فيها جلال وثقة، وجعل المتَّهم يرمقه بنظرات امتزجت فيها الرقَّة بالسخرية، ومضى النائب العام في الكلام طول ذلك اليوم، والكل مُصغٍ إليه بآذان مرهفة وعيون مشدوهة، إلَّا المتَّهم؛ فقد كان النُعاس قد دهمه منذ ساعات، فنام في مقعده حتى انتهاء الجلسة، فأيقظه الحُرَّاس ليقودوه إلى سجنه، ثُم عادوا به في اليوم التالي، ليُصغي إلى بقية كلام النائب العام، فمرافعته لم تنته بعد، ولا يدري أحد متى تنتهي.
طفق المتَّهم يرقب يد النائب تطوي من ملفاته الصفحة بعد الصفحة، وهو يتمنَّى أن يُطوى مع كلٍّ منها يومٌ من أيامه، فقد بدأ الضِّيق يجثم على صدره، والضجر يأكل من صبره أكثر مِمَّا ينبغي، ما شأنه بكل هذا الذي يسمع؟ إنه لم يعد من سُكَّان هذه الأرض، إنه في طريقه إلى العالم الآخر، مثله مثل راكب قطار قطع صلته ببلده ويمَّم شطر بلد بعيد، فإذا أُناس يستوقفونه ليُسمِعوه كلامًا طويلًا في أشياء لا تُهمُّه ولا تعنيه، ولن تقف البليَّة عند حدِّ هذا النائب، فها هو ذا محاميه عاكف هو الآخر على ملفات أضخم من ملفات الاتِّهام، وسيطلب هو الآخر أن يستغرق دفاعه الأيام، وهو لم يوكِّل عنه محاميًا، ولم يُرِد في قضيته دفاعًا، ولكنَّها المحكمة ندبت له هذا المحامي؛ لأن إجراءات المحاكمة تقتضي أن يكون له مَن يُدافع عنه، رضي أو كرِه، إنها «العدالة».
هكذا أنفق المتَّهم الوقت بين إغفاء ويقظة كالإغفاء حتى انتبه في فترة صمت لمح فيها النائب قد سكت ليرشف جرعة من الكوب ويمسح بمنديله العرق المتفصِّد من الجبين، فلم يتمالك ونهض يُخاطب هيئة المحكمة برفق وأدب، وسخرية، واستعطاف، استطاع أن يخلطها كلها ويضعها في نبرة أرغمت الجميع على الإصغاء: «يا حضرات القُضاة، ما قصدت أن أُقاطع مرافعة النائب العام، فأنا من أشدِّ المُعجَبين به، المُقدِّرين له، المُصغِين بانتباه ومُتعة إلى بلاغته، وإني لمُدرك أن الظرف يستوجب منه هذا الإسهاب؛ فالمجني عليه شخصيَّة كبيرة، والجمهور مهتمٌّ بالقضية، والمجتمع يتحدَّث في بواعثها ومراميها، فلا بُدَّ أن يقف النائب العام بشخصه المحترم يترافع يومًا على الأقل أو يومين بمُبرِّر أو غير مُبرِّر، وأن يُجهِد نفسه حتى يجفَّ حلقه ويسيل عرقه، ليكون جديرًا بثناء الناس في المجالس على همَّته البالغة ومرافعته الرائعة، وإني لمُدرك أيضًا أن تُفسح المحكمة صدرها، وأن تطيل إنصاتها، وأن تمدَّ في الحبال، وأن تُعنى بكل ما يُقال؛ لتظفر بمدح الناس لعدالتها ونزاهتها، بل إني لأفهم حتى هذا المحامي المنتدب للدفاع عني، وهو غارق الآن في ورقه لأذنيه كما ترون يُهيِّئ كلامًا طويلًا لن يُقدِّم عندكم ولن يُؤخِّر، ولن يُبدِّل من مصيري ولن يُغيِّر، ولكنَّه يأمُل من ورائه نجاحًا عند الناس ومجدًا، أنتم جميعًا خُدَّام «العدالة»، ما في ذلك ريب عندي، ولستم موضع لوم إذا جعلتم «مولاتكم» على رأس موكب فخم يتهادى، وسرتم في ركابها صاخبين مُختالين بين أنظار الحشد، متمهِّلين في كل خطوة أو متوقِّفين عند هتاف الجموع، كل رجائي منكم أن تُسرِعوا بالموكب قليلًا، ولا بأس عندي بعد ذلك أن تبنوا لأنفسكم صيتًا على أنفاس رجل يموت!»
وجلس بهدوء كما نهض، وخيَّم صمت بارد على القاعة قطعه رئيس المحكمة أخيرًا بالتفاتة منه إلى النائب العام يدعوه إلى استئناف مرافعته، دون أن يجرؤ أحد على إبداء تعليق.
واستأنف النائب اتِّهامه حتى أتمَّه، وختمه بطلب الحكم على المتَّهم بالإعدام، طبقًا لنصوص القانون.
واتخذ مكانه، وقال رئيس المحكمة: الدفاع.
فوقف المحامي وخلع منظاره ووضعه فوق أوراقه، وقال: «يا حضرات القُضاة! إذا كانت مهمَّة النائب العام هيِّنة كما قال، فإن مهمَّتي أنا عسيرة، لا لأن هدفي إنقاذ رأس قاتل مُعترِف بالجُرم، بل لأن هذا المتَّهم — لأوَّل مرَّة على ما أعتقد في تاريخ الدفاع — يقف من محاميه موقف العدو، نعم، هذا المتَّهم هو وحده عدوِّي في القضية، وهو وحده الذي أخشاه ويخشاني، ويروغ مني وأروغ منه، ويصمت عني وأصمت عنه، لقد شكا النائب العام من فم المتَّهم المغلق وقد اعترف له، فمَن بالشكوى أحقُّ وأولى؟ وأنا لم أظفر من هذا الفم بغير قوله ساخرًا: «إذا كان لا بُدَّ لك من واجب تُؤدِّيه في المحكمة، فاقرأ على روحي الفاتحة بصوت مرتفع!»
هذا متَّهم يريد أن يموت، فكان من الطبيعيِّ أن يتَّخذ من النائب العام صديقًا، ومن المحامي خصمًا، ولست أدري ما الذي جعلني أُصرُّ على منازلته، وأمضي خُفيةً عنه أبحث، وأُنقِّب حتى أهتدي إلى أشياء ستُثير حنقه عليَّ وغيظه مني! ربما كان الباعث لي هو طلب المجد الذي تحدَّث عنه، وتلك الرغبة في الصيت عند الجمهور، فليكن، لا أُحاول الزعم بأن رأس المتَّهم يُهمُّني شخصيًّا، ولكن إنقاذه سليمًا على الرغم منه مسألة تعنیني.
يا حضرات القضاة، لن تسمعوا مني دفاعًا عن المتَّهم، ولكن ستسمعون قصَّة، إليكم الوقائع مجرَّدة، كما تتبَّعتها، بلا تعليق ولا تنميق.
من سنوات قليلة خلت كان المتَّهم طالبًا في كليَّة الآداب، وعارِفوه في ذلك الحين يُصوِّرونه لنا في هيئة شابٍّ مُجدٍّ، دمث الأخلاق، يُؤثر العزلة ويميل إلى الشِّعر، ولم يكن صاخبًا ولا عابثًا ولا مرحًا، فسلخ أعوامه الأولى دون أن يثير التفات أحد، حتى كانت السنة الثالثة، بدأ قليل من إخوانه يشعر بنوع من الزمالة تتوثَّق بينه وبين طالبة معه في عين الفصل، واستمرت هذه الصلة على نحو واضح في السنة النهائية، على الرغم من جهود الفتى والفتاة في إخفائها، لقد كانا من طبيعة واحدة متحفِّظة مغلقة، ولكن الرِّباط الداخلي بينهما بلغ من القوة والحرارة حدَّ الإشعاع، كان مجرَّد وجودهما معًا يُشعُّ معنًى من معاني الإخلاص والتفاني، يُثير في الملاحظ لهما رجفة ودهشة، ولقد ظهر فيما بعد أن حُبَّهما الصامت بدأت جذوره في مطلع السنة الأولى يوم تلاقيا في الدراسة أوَّل مرَّة، ولكنَّه قطع أكثر من عامين ينمو في الخفاء حتى أينعت زهوره، وفُضحت فيهما إرادة الكتمان، وكان بينهما عهد وهدف أن ينجحا ويفوزا معًا بإجازة الآداب، فيخطبها الفتى إلى أهلها، حتى يجد عملًا يكفل الرزق فيتزوَّجها، واقترب موعد الامتحان النهائي، فكدَّ الفتى وكدَّت الفتاة، وبلغ بهما الكدُّ والجهد مبلغًا أنساهما الجسد وقوة احتماله، لقد كان الحبُّ يُلهب بسَوطه هذين الجوادين؛ ليركضا إلى الغاية! وبلغ الجوادان الهدف الأوَّل واجتازا الامتحان، ولكن أحد الجوادين سقط، سقط مريضًا بذات الرئة، كانت هي الفتاة.
ومن هنا تبدأ المأساة، فقد ربط المرض بينهما بحبال ليست من صنع البشر.
وقد أسرع فخطبها إلى أهلها، ولكن كفاحه في سبيل شفائها أمر يُحيِّر العقول.
كانت أُسرتها رقيقة الحال، وكذلك أُسرته، فصنع المستحيل حتى عثر على وظيفة مُدرِّس في تلك المدرسة الحرَّة في الإسكندرية، وجاهد جهاد الأبطال حتى تمكَّن من إدخال خطيبته مصحَّة «حلوان»، وأوصى الأطباء والممرضين ألَّا يدَّخروا وسعًا في العناية بالمريضة العزيزة، فهو على استعداد أن يدفع النفقات، ولو من دمه، وبذل دمه فعلًا وعقله وقوته في إعطاء دروس خصوصيَّة فوق عمله المُرهِق بالمدرسة، حتى يجمع ما يدفع به ثمن التمريض والعلاج، وكان لا بُدَّ له أن يراها في كل أسبوع مرَّة، ليُشجِّعها ويُعينها على احتمال أعباء المرض، فكثرت أسفاره إلى القاهرة، ولكن موارده على الرغم من جهوده شحيحة، فلجأ إلى الاقتراض من إدارة المدرسة، ثُم من زملائه المُدرِّسين، ثُم من المُرابين. لقد صدق النائب العام وهو يُورد شهادة ناظر المدرسة بما وقع فيه المتَّهم من ارتباك ماليٍّ. لو أن الروح التي في الجسد تُرهن في السُّوق أو تُباع، لما تردَّد هذا الشابُّ في رهن روحه أو بيعها لينقذ بثمنها حياة من أحَب، استمعوا إلى خطاب من خطاباته إليها: «لو استطعت أن أشتري كل نسمة تتنفَّسينها بسنوات من عمري! ما أعجز الطبَّ يا عزيزتي! لماذا لا تتقاسمينني رئتي؟ لو كان في مقدوري أن أتنفَّس لكِ! تجلَّدي أيَّتُها العزيزة من أجلي، فالهواء الذي يُحييني هو الذي يحمل رائحة وجودك، يجب أن تعيشي لأعيش!»
وكانت هي بالطبع تُجيبه، ولكنَّني لم أعثر على خطاباتها إليه، لأنه يُخفيها عليَّ كما ذكرت، فكل ما عندي خطاباته هو إليها، وقد أمكنني الحصول عليها، استمعوا أيضًا إلى هذا الخطاب منه ردًّا على رسالة منها: «تُعنِّفينني على فكرة اللَّحاق بكِ ساعة تتركين هذا العالم الأرضي؟ لكأنك تُعنِّفين رجلًا مات مختنقًا إذا فقد هواءه! فيمَ المقام على الأرض بعدك؟ وكيف أستطيع؟ ثقي يا عزيزتي أن السماء قد ربطت روحك بروحي، وأنكِ لحظةَ تصعدين أصعد!».
وتجري الرسائل هذا المجرى، وفي ملفِّي منها رزمة ضخمة، فقد كان — كما ذكر الشهود — يُكثِر الكتابة في أوقات فراغه، ويلمحون على وجهه علامات الاهتمام وأمارات الانفعال، لقد كان يكتب إليها خطابًا كل يوم.
وساءت حالها أخيرًا، ودنا منها الموت، وكان هو في عمله بالإسكندرية، فلمَّا دخلت في الاحتضار وردَّدت اسمه على شفتيها بعث أهلُها إليه ببرقيَّة يسألونه الإسراع بالحضور، فهي في النفس الأخير.
وصلت إليه البرقيَّة وهو خارج من أحد فصول الدراسة، فقرأها وامتقع لونه، وخرس لسانه ومضى إلى حجرة المدرسين، فطرح كتابه ودفاتره، واستوثق من وجود مسدَّسه، فقد كان أعدَّ العُدَّة لأمره، وتوقَّع ختام مأساته، وخشي الوصول إليها بعد أن تلفظ الروح، فآثر السفر في الطائرة، كل ذلك شهد به إخوانه المُدرِّسون، وأورده النائب العام، وهذا بحذافيره صحيح.
ركب المتهم الطائرة، ولم يكن فيها غيره وغير مسافر آخر لم يُلقِ إليه بالًا، وارتفعت الطائرة في الفضاء وحلَّقت وحلَّق معها، فكر ذلك الذاهب إلى الموت أيُدركها قبل فوات الأوان؟ لو أسرعت الطائرة قليلًا! لكن ما بالها قد سُمِّرت في الجو؟ لو كان ألف جناح لما سبقت صوابه الطائر ولا قلبه المتلهف، وفجأةً حدث أمر عجيب، سمع صوتها جليًّا يلفظ اسمه، فأحسَّ رجفة في بدنه ثُم شعر بعينيه تريان شيئًا من مادَّة لا علاقة لها بالأرض، شيئًا مرَّ كالشُّعاع الخاطف مخترقًا الطائرة، مصعدًا في السماء، في تلك اللحظة أيقن أنها أسلمت الروح، وكان هذا صحيحًا، فقد روى لي أهلُها أنها صاحت باسمه في اللحظة الأخيرة — وما أشكُّ في أنه سمع الصوت في الطائرة في عين اللحظة، وما أشكُّ في أن الشابَّ قد تبدَّل حاله، وهبط عليه سلام، وأحسَّ هو نفسه أنه من أهل الأبديَّة، وأنه لا حاجة به إلى استئناف السفر، فما شأنه بجثَّة هامدة فوق سرير؟!
إن روحها قد مرَّت به الآن، كأنها تدعوه أن يلحق بها في الحال، وأخرج الشابُّ مسدَّسه، وصوَّبه إلى رأسه وأطلق، وهنا تدخَّل القدر وهزَّ الطائرة هزَّةً عنيفة، فانحرف مجرى الرَّصاصة عن رأس المتَّهم إلى صدر المسافر الآخر الجالس خلف مقعده.
ذعر المتَّهم في أوَّل الأمر، ونسي أمره قليلًا، وبادر إلى المجني عليه يُسعفه، ولكن ضابط اللاسلكي شعر بالحركة، فنهض من مكانه وهُرع إلى المصاب الخطير الشأن، ورأى المسدَّس في يد المتَّهم، فلم يَبقَ عنده ذرَّة من شكٍّ، فانتزع آلة الجريمة من يده ووضعه تحت الحفظ، وفطن المتَّهم إلى الجريمة التي تُلصق به، وفكَّر لحظةً فوجد طريقها مؤدِّيًا إلى ما كان يروم، وأن الاعتراف بالقتل العمد يضمن له الموت الذي يبتغيه.
یا حضرات القضاة، هذه وثائقي في يدي، وليفتح النائب العام باب التحقيق من جديد ليتضح له أن هذا المتَّهم قد ضلَّله، وأنه يضع في هذا القفص قلبًا مجروحًا، كل أمله الآن أن يُدرك قرينته في السماء!»
وجلس المحامي بهدوء تاركًا القُضاة والنائب والحضور غارقين في شِبه ذهول، ولبث الصمت معرِّشًا على القاعة إلى أن سُمع فيها نشيج خافت، فالتفت القُضاة فإذا هم يرون المتَّهم مُطرقًا، وهو يُحاول جاهدًا أن يتجلَّد ويكتم ما به، وغالب نفسه إلى أن غلبته، وخانه هدوءُه الذي كان مثار العجب، وصاح في قاعة الجلسة بصوت متهدج: هذا المحامي كذَّاب مختلق، كل ما قاله كذب واختلاق، أنا القاتل! لقد قتلت عن عمد، قتلت عمدًا، اقتلوني! اقتلوني!
وأجهش بالبكاء.
وسالت عبراته على صفحةِ خدِّه كأنها تُسطِّر حيثيَّات الحُكم.