الشهيد
دقَّت أجراس الكنائس ونواقيس الكاتدرائيات احتفالًا بعيد الميلاد، وسرى رنينها في جسد روما كما يسري الروح العُلوي في أبدان الرُّهبان. في تلك اللحظة هبط المدينةَ شخصٌ غريبٌ يمشي نحو الفاتيكان، وهو يرهف السمع إلى تراتيل الأناجيل ترتفع في كل مكان: «العذراء تحبُل وتلد ابنًا، وتدعو اسمه يسوعًا لأنه يُخلِّص شعبه من خطاياهم.» وكانت أصوات الأرغن تحملها إلى أذنَيه صادحةً بألحان «أوراتوريو المسيح» لهاندل، و«أوتوريو الميلاد» لجوهان سباستيان. آيات من الموسيقى الدينية تُشيد كلها بعيسى؛ إذ جاء يحمل إلى الإنسانية، التي نخرت فيها الأنانية، ناموس الحب الذي يُطهِّرها من الآثام.
وبلغت التراتيلُ هذه الفقرةَ من الأناجيل: «قال له إبليس: إن كنت ابن الله، فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا. فأجابه يسوع قائلًا: أنْ ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله! فأخذه إبليس إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه كلها إن خررت وسجدت لي. حينئذٍ قال له يسوع: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب: «للرب إلهك تسجد، وإيَّاه وحده تعبد»!»
هنا انطلقت من الشخص الغريب زفرة، وصاح في أعماق نفسه: «ليتني أطعته في ذلك الحين!»
وكان قد وصل إلى قصر «البابا»، فطلب المثول بين يديه للفور، ولم يكن من الهيِّن الوقوف في طريق ذلك الشخص. لقد كان في عينيه شبه قوة لا تُصدُّ وأمر لا يُردُّ. لم يستطع أحد اعتراض سبيله، لا القساوسة ولا الكرادلة. فُتحت أمامه الأبواب، فدخل مُطرقًا خاشعًا إلى مقر رئيس الكنيسة.
وسدَّد البابا إليه البصر، ورآه في صورة رجل، فقال له بصوت مرتجف: أنت؟!
– نعم أنا.
– وماذا تُريد مني؟
– الدخول في حظيرة الإيمان.
– ماذا تقول أيُّها اللعين؟!
لفظها البابا هامسًا، وهو كالغارق في ذهول، ولكن الزائر الغريب بادر بصوت مُمتلئ بالصدق، ملتهب بالإخلاص يقول: ما عدتُ أستحق هذا الوصف. إني جئت إليك لأتوب، والويل لي إنْ كنت تهزأ بي، أو تشك في قولي. لكل شيء نهاية، وكان لا بُدَّ لي أن أبصر الحقَّ ذات يوم، وأن أعود إلى الصواب، كان من المحتوم أن أحنَّ إلى صدر الله يومًا، وأن أزهد في تلك الحرب الطويلة التي لا نفع فيها، وأن أهجر الإصرار والعناد، وأن أعاف مائدة الشر، وأن أتوق إلى طعم الخير. نعم، خذوا مني ما تريدون، عذبوني أشنع العذاب، أوقعوا بي أفظع العقاب، ولكن برب السموات لا تحرموني مذاق الخير لحظة! ما طعم هذا الشيء الذي تسمُّونه «الخير»، وتملكونه أنتم وتحبسونه عني؟! لقد عشت منذ الأزل؛ طالما كابرت، وطالما تكبَّرت؛ طالما صمدت، وطالما صبرت، طالما قلت إن ما في يدي هو كل شيء، وإني أكفي ذاتي بذاتي، لا حاجة بي إلى غير ما أملك لنفسي ولمن يتبعني في مملكتي، وما من أحد لم يتبعني برهة من الزمن، رعيتي في كل مكان، حتى هنا بين تلك الجدران، على الرغم من المسوح والصلبان، ولكنْ ما قيمة ذلك المُلك العظيم ما دمت أحسُّ الحرمان؟ أنقذوني بربكم! أذيقوني الخير مرةً ثُم ألقُوا بي في الجحيم! لقد ألقيت السلاح ونبذت الكفاح. ما أنا إلَّا مؤمن، ذلك كل مطمحي الآن؛ أنْ أصبح واحدًا من هؤلاء المؤمنين الخيِّرين، مِمَّن تعجُّ بهم الساعة البِيَع والكنائس، ساجدين للرب مرتِّلين الأناجيل، فرحين بعيد السيِّد المسيح، مُردِّدين أقواله مُشيدين بأفعاله. أيُّها البابا يا وكيل المسيح، جئت أركع عند قدميك لتعمدني بيديك، وتُدخلني في الدين، وستراني من خِيرة أبناء الكنيسة الأبرار المُخلصين.
اهتزَّ البابا في عرشه لهذه النبرات الحارَّة الصادقة، ولكنَّه لم يكُفَّ عن الهمس والدهش!
– أنت؟ أنت إبليس، تدخل الآن في الدين؟
– ولمَ لا؟ ألم يجئ في كلام المسيح: «أقول إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين بارًّا لا يحتاجون إلى توبة»؟
هل فرَّق المسيح بين شخص وشخص؟ أليس الجميع أمام المغفرة سواءً؟ لِمَ تغلقون في وجهي سُبل التوبة؟ إني أتوب. أدخلوني في الدين. استمعوا إلى ما انبثق في قلبي من إيمان!
وقع البابا في حيرة، واضطرب وارتعد للفكرة، وصاح كالمُخاطب نفسه: «لا، لا، لا أستطيع هذا.»
وكان الأرغن يعزف أنغام ذلك «الميس» للبابا مارسيلوس من وضع الموسيقي القديم «بالسترينا»، فرفعت فوق أجنحتها مخيِّلة البابا إلى آفاقٍ من الأفكار: إذا آمن إبليس، ففِيمَ إذَن بعد اليوم مجد الكنيسة؟ وما مصير الفاتيكان ومتاحفه وتحفه ومخلَّفاته الدينية الكبرى؟! كل شيء يفقد معناه وتذهب روعته، وتُولي مقاصده كنيسة «سكستين» التي تُزيِّنها تصاویر ميكايل أنجلو عن «غواية حواء»، «الأنبياء»، «الطوفان»، «يوم الحساب الأخير»، ولوحات القاعات والمقاصير من ريشة روفائيل عن «خلق الله النور»، و«الخروج من الفردوس» و«تعميد المسيح».
إن إبليس هو محور الكتاب المُقدَّس بعهده «القديم والجديد»، كيف يُمحى من الوجود دون أن تُمحى كل تلك الصور والأساطير والمعاني والمغازي التي تعمر قلوب المؤمنين وتُفجِّر خيالهم؟ ما معنى «يوم الحساب» إذا مُحي الشر من الأرض؟ وهل يُحاسب أتباع الشيطان الذين تبعوه قبل إيمانه، أم تُمحى سيئاتهم ما دامت توبة إبليس قد قُبِلَت؟ ثُم ما مصير العالم وقد خلا من الشر؟ هذه الحروب التي جعلت من أوروبا المسيحية سيدة البشر، وهذه المنافسات الروحية والمنازعات الذهنية والمادية التي أوقد احتكاكها شرارة الفكر وضوء العلوم! لا، إن الأمر خطير وليس من حق البابا أن يفصل فيه، إن تحطيم الشر وفصله من الدنيا سيُحدثان انفجارًا لن يدرك الذهن له مدًی!
رفع البابا رأسه، والتفت إلى إبليس بحرجٍ وضيق: ولماذا جئتني أنا دون غيري؟ لماذا اخترت المسيحية دون بقية الأديان؟
– هذا الاحتفال بعيد السيِّد المسيح ذكَّرني وألهمني.
– أصغِ إليَّ يا … لست أدري بماذا أناديك؟ أرأيت؟ حتى اسمك بعد توبتك سيُثير إشكالًا! كلا! إن الكنيسة ترفض طلبك. اذهب إذا شئت إلى دين آخر.
وولَّاه ظهره.
•••
خرج الشيطان من الفاتيكان خائبًا ذليلًا، ولكنَّه لم يفقد الأمل. إن أبواب الله كثيرة، فيلجأ إلى باب آخر، ويمَّم شطر حاخام اليهود.
استقبله الرئيس الإسرائيلي كما استقبله الرئيس المسيحي، واستمع طويلًا إلى أمنيته، ثُم التفت إليه وقال: تريد أن تكون يهوديًّا؟
– أريد أن أصل إلى الله.
فتأمَّل الحاخام قوله مليًّا، إذا عفا الله عن إبليس ومحَى الشر من الأرض، ففِيمَ إذَن التمييز بين شعبٍ وشعب؟ بنو إسرائيل شعب الله المختار، لن يكون بعد اليوم مُبرِّر لاختيارهم دون بقيَّة الشعوب، ولامتيازهم على بقيَّة الأجناس، حتى السيطرة المالية التي صارت إليهم منذ أجيال ستذهب عنهم بذهاب الشر عن النفوس، وزوال الجشع وموت الطمع، وفناء الأثرة والحرص والأنانية. إيمان إبليس سيدكُّ صرح التفوُّق اليهودي، ويهدم مجد بني إسرائيل.
ورفع الحاخام رأسه، وقال بنبرة استهزاء: ليس من عادتنا التبشير، والاهتمام بأن يدخل في ديننا الغير حتى ولو كان إبليس! اذهب عنَّا إلى دينٍ آخر!
•••
فخرج إبليس من عنده مخفقًا مرذولًا، ولكنَّه لم يقنط، لم يزل أمامه باب؛ هو دين الإسلام.
واتَّجه لوقته إلى شيخ الأزهر.
واستقبله شيخ الأزهر، وأصغى إلى قوله وما يسعى إليه، ثُم التفت إليه وقال له: إيمان الشيطان عمل طيب! ولكن …
– ماذا؟ أليس من حق الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجًا؟ أليس من آيات الله في كتابه الكريم: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا؟
ها أنا ذا أسبِّح بحمده وأستغفره، وأريد أن أدخل في دينه خالصًا مُخلصًا، وأن أُسْلِم ويحسن إسلامي، وأكون نعم القدوة للمهتدين!
وتأمَّل شيخ الأزهر العواقب، لو أسلم الشيطان، فكيف يُتلى القرآن؟ هل يمضي الناس في قولهم «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»؟ لو تقرَّر إلغاء ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن؛ فإن لعن الشيطان والتحذير من عمله ورجسه ووسوسته لَمِمَّا يشغل من كتاب الله قدرًا عظيمًا. كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون أن يمسَّ بذلك كيان الإسلام كله؟!
رفع شيخ الأزهر رأسه ونظر إلى إبليس قائلًا: إنك جئتني في أمر لا قِبل لي به. هذا شيء فوق سلطتي، وأعلى من قدرتي. ليس في يدي ما تطلب، ولست الجهة التي تتجه إليها في هذا الشأن.
– إلى مَن أتجه إذَن؟ ألستم رؤساء الدين؟ كيف أصل إلى الله إذَن؟ أليس يفعل ذلك كل مَن أراد الدنوَّ من الله؟!
– نعم، ولكنَّك لست مثل الآخرين.
– لماذا؟ إني لم أُرد أن أميِّز نفسي عن الآخرين، لم أُرد الارتفاع مباشرةً إلى السموات العُلى أُحادث الملائكة وأُقابل الأنبياء. كان ذلك في مقدوري، ولكنِّي أبَيت الاعتصام بقدرتي والاعتزاز بشخصيتي. لم أشأ طرق باب السماء بصولجانٍ كما يطرقها ملك، وإن كان ملك الشر. لم أشأ جلجلة السماء بضجيجي ولا زلزلة الأعالي بصياحي، وأنا أضع سیفي وأُسلِّم سلاحي، وأخضع كما يخضع تاج لتاج، ولكنِّي أردت أن أدخل باب الدين كمسكين، وأن أزحف على ركبتي مُعفِّرًا رأسي الملكي بتراب الذُّل، ملتمسًا الهداية والمغفرة من البِيَع والكنائس والمساجد كما يلتمسها أحقر البشر وأضعف الآدميين.
أطرق شيخ الأزهر لحظةً، وهرش لحيته، ثم قال: نية طيبة ولا ريب! لكنْ على الرغم من ذلك أصارحك أن اختصاصي هو إعلاء كلمة الإسلام، والمحافظة على مجد الأزهر، وأنه ليس من اختصاصي أن أضع يدي في يدك.
– لك الشكر.
•••
قالها إبليس بذلة ومسكنة، وخرج واليأس ملء نفسه، ومشى في طرقات الأرض، على غير هُدًى، ينظر إلى براءة الأطفال، فيذوب قلبه حنانًا إلى كل شيء طاهر بريء، ويرى الخير في أعمال الطيبين من الناس، فيتحرَّق شوقًا إلى كل خير، ويُطالع ثمار الصلاح والتقوى والإيمان، معروضة في قلوب الأخيار المؤمنين، كأنها في واجهات الحوانيت، يمد إليها يدًا قاصرة عاجزة، ويشيعها بنظرة ملتاعة والهة. الحرمان من الخير، تلك هي النقمة الكبرى التي صُبَّت على الشيطان!
وصاح صيحةَ ألمٍ بدَّدت السحب، ونفذت إلى السماء، ولم يُطق صبرًا، فانتفض انتفاضةَ مَن كادت روحه تزهق، وتجرَّأ وصعد إلى الأعالي!
دقَّ بيديه أبواب السماء دقًّا، وطرق بروجها طرقًا، وقد طار صوابه، كأنه شحاذ صائم يقرع بابًا من أجل لقمة عند الغروب.
فظهر له الملاك جبريل: ماذا تريد؟
– التوبة.
– الآن؟!
– هل جئت متأخِّرًا؟
– بل جئت قبل الأوان! ليس لك الساعة أن تغيِّر النظام الموضوع، ولا أن تقلب ما استقر من أوضاع. عُدْ من حيث أتيت، وعشْ في الأرض كما عشت.
– أنت أيضًا؟ آه! ما عُدت أستطيع، أذيقوني الخير!
– الخير محظور عليك، إيَّاك أن تمدَّ إليه يدًا!
– شجرة مُحرَّمة؟
– عليك نعم، ولن تجد ما يُعينك على عصيان هذا الأمر كما عاونتك حواء من قبل، يوم أذاقت آدم من شجرة الشر!
– أليست هناك رحمة ومغفرة؟!
– ليس للرحمة ولا المغفرة أن تمسَّا نظام الخليقة.
– ما أنا إلَّا حقير في المخلوقات!
– نعم، ولكن زوالك من الأرض يزيل الأركان ويزلزل الجدران، ويضيع الملامح ويخلط القسمات، ويمحو الألوان ويهدم السمات؛ فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة، ولا للحق بغير الباطل، ولا للطيب بغير الخبيث، ولا للأبيض بغير الأسود، ولا للنور بغير الظلام؛ بل ولا للخير بغير الشر؛ بل إن الناس لا يرون نور الله إلَّا من خلال ظلامك. وجودك ضروري في الأرض ما بقيت الأرض مهبطًا لتلك الصفات العليا التي أسبغها الله على بني الإنسان!
– وجودي ضروري لوجود الخير ذاته؟! نفسي المعتمة يجب أن تظل هكذا لتعكس نور الله! سأرضى بنصيبي الممقوت من أجل بقاء الخير، ومن أجل صفاء الله. ولكنْ هل تظل النقمة لاحقة بي، واللعنة لاصقة باسمي، على الرغم مِمَّا يسكن قلبي من حسن النية ونبيل الطويَّة؟
– نعم، يجب أن تظل ملعونًا إلى آخر الزمان، إذا ما زالت اللعنة عنك زال كل شيء.
– عفوك يا ربي! لماذا أحمل هذا الوقر العنيف؟! لماذا كُتب عليَّ هذا القدر المخيف؟ لماذا لا تجعل مني الآن ملاكًا بسيطًا من ملائكتك، يُباح له حبك وحب نورك، ويُثاب على هذا الحب بالعطف منك والحمد من الناس؟ ها أنا ذا أُحبك حُبًّا لا مثيل له ولا شبيه، حُبًّا يستوجب مني هذه التضحية التي لم تُدركها الملائكة ولم يعرفها البشر، حُبًّا يقتضيني الرضا بارتداء ثوب العصيان لك، والظهور في لبوس المُتمرِّد عليك، حُبًّا يستلزم مني احتمال لعنتك عليَّ ولعنة الناس، حُبًّا لا تسمح لي حتى بشرف ادِّعائه، ولا بفرح الانتساب إليه، حُبًّا يستلزم مني احتمال لعنتك عليَّ ولعنة الناس، حُبًّا إذا كتمه النُّسَّاك ملأ صدورهم نورًا، وأنا أكتمه، ولكن نوره يأبى من صدري اقترابًا.
وبكى إبليس.
وإذا دموعه تتساقط على الأرض لا قطرات من ماء السحب، بل قِطعًا من النيازك المعتمة وأحجار الشهب!
فبادر جبريل مُرتاعًا يُسكِّنه: حسبُك! إنها تتساقط على غير هُدًى فوق رءوس العباد!
فكفَّ إبليس في الحال عن البكاء، وقال بمرارة أليمة وكأنه يُخاطب نفسه: نعم، حتى عبراتي كوارث!
وكفكف من دمعه مُتجلِّدًا، ولطَّف جبريل من لهجته قائلًا: تحمَّل مصيرك، وقُم بواجبك، وامضِ في مهمتك، لا تتململ ولا تتوجع ولا تثُر.
– أثور؟ لو أني أردت الثورة حقًّا لثُرت وعصيت وخرجت على النظام، وشققت عصا الطاعة بمجرد صمتي لحظة، ووقوفي عن أداء مهمتي برهة، وامتناعي عن إيحاء الشر دقيقة، ولكانت الأرض الآن يا جبريل كما وصفت: مُهدَّمة الأركان مُزلزَلة الجدران، ولكنِّي أُحب، ولست أثور، وحُبِّي لله وحده سر هذا التماسك في بناء أرضه! وسر هذا التناسق في قوانينه ونظمه!
– اسمع نُصحي! عُد إلى عملك!
– سأعود مُتدثِّرًا بعباءة لعنتي دون أن أدري متى أخلعها!
إن المُمثلين على الأرض يرتدون أحيانًا أدوار الخيانة والغدر، وهم يعلمون أن لخلعها ساعةً موقوتةً يعودون بعدها شُرفاء أطهارًا، وقد رُدَّ إليهم الاعتبار. أمَّا أنا …
– اهبط الأرض وتحمَّل؛ مَن يحب فلْيتحمَّل!
– إني أفعل أكثر من الاحتمال. إنَّ مَن يَمُتْ في معركة من أجل الله يُكتَب عنده في الشهداء، وأنا أتحمَّل في سبيله أكثر من الموت. ليتها كانت معركة! ليته كان الموت! ليتني كنت من جنوده!
يجب أن أعيش لأُخالف مَن أحب! إني أمقت نفسي وألعنها في كل لحظة مرَّاتٍ، لا أستطيع أن أموت حتى أقتل نفسي أو أدفع بها إلى القتل في سبيل الله! ولكنِّي أُنزل بها من صنوف الكُره وضروب البغض ما هو أبشع من القتل، وليس لي مع ذلك أن أتطلَّع إلى رحمة، ولا أن أطمح إلى مغفرة، ولا أن أطمع في أن أسلك في عداد المجاهدين.
ولمح جبريل في عينيه تلك القطرات تترقرق، فعاجله قائلًا: لا تبكِ! لا تبكِ! لا تنسَ أن عبراتك كوارث، وضحكاتك كوارث، لا تُكثِر من الانفعال رحمةً بالناس. اذهب، واصبر، والزم الاعتدال.
أطرق إبليس مليًّا وفكَّر طويلًا، ثُم تحرَّك أخيرًا وهو يقول في شبه همس: صدقت!
•••
وترك السماء مُذعِنًا، وهبط الأرض مُستسلمًا، ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره، وهو يخترق الفضاء، ردَّدت صداها النجوم والأجرام في عين الوقت، كأنها اجتمعت كلها معها لتلتقط تلك الصُّراخة الدامية: إني شهيد! إني شهيد!