أنا الموت!
في سيدي بشر صخرة يحيط بها زبد البحر وحبب الموج كما تحيط قلادة اللؤلؤ بعنق جنية سمراء. فوق قمة تلك الصخرة جلس شاب في يده كتاب لا يُطالعه، ولكنَّه يُطالع الأفق اللانهائي تارةً، وتارةً أعماق الماء ما من شكٍّ في أنه يُصغى إلى همساتٍ تُناجيه وتُناديه، أهي خارجة من بين أسطر كتابه، أم آتية من الشفق البعيد، أم صاعدة من الغور السحيق؟ إنه يسمعها من هنا ومن هناك. إن لغتها مفهومة له، وإن مراميها معلومة لديه، وجاءت اللحظة الحاسمة، فنهض قائمًا كأن شيئًا يجذبه، وألقى بنفسه في الماء.
لم يمضِ قليل حتى شعر السابِحون ورواد «البلاج» أن في البحر غريقًا. هاج الشاطئ بمَن عليه وماج، وعلا الصياح وارتفع الضجيج، وبادرت قوارب الإنقاذ، وهُرع المجازفون من حُذَّاق السباحة، وبدا للناس أن تلك التدابير على غير جدوى؛ فهم يرون على البُعد ذلك الجسد التعِس ينتفض ويتخبَّط في لحظاته الأخيرة، ولم تعد تظهر منه إلَّا الأذرع المضطربة مع الأمواج، ولن يصل المُنقِذون إلَّا وقد صار في القاع. وجعل الناس يتتبَّعون مصير ذلك المجهول بقلوب واجفة، وكثر البكاء عليه من كل رقيقة أو متظاهرة بالرقة، وتمتمت الأفواه بالترحُّم عليه، وقد أيقن الجميع بهلاكه، ولم يبقَ عند أحد شكٌّ في تلفه.
ولكن صيحة فرح لم تلبث أن دوَّت في ذلك الجو العابس، فالتفت الناس؛ فإذا فتاة في «مايوه» تركب قاربًا صغيرًا من المطاط زاهي اللون، قد ظهرت من خلف الصخرة تحمل أمامها، فوق مطيتها، جسم ذلك الشاب كأنها تحمل مقطف مشترياتها من السُّوق، وهي تُهلِّل مرحة في قلب البحر: «هو! هو! هالو! هالو!»
فأدرك الناس أن ذلك الجسم المحمول بين يديها لم يزل ينبض بالحياة.
وهتفت الجماهير على الشاطئ للفتاة، واتجهت إليها جماعة السبَّاحين والمُنقِذين يأخذون منها الغريق، ويُسلِّمونه لرجال الإسعاف. ومشت الفتاة مختالةً بين الحشد المُحيط بها، المُتسائل عن حقيقة الحادث، وهي تُجيب قائلة إنها شاهدت كل شيء من البداية حتى النهاية؛ فقد كانت تُجدِّف فوق قاربها المطاط قرب الصخرة، وأبصرت الشاب وهو يهب مستويًا على قدميه فوق القمة، ويطرح من يده الكتاب ثُم يُلقي بنفسه في الماء، فأسرعت إليه مُجدِّفةً بكل قوتها حتى بلغته، وقد كادت تطويه الأمواج، فقبضت على ذراعه وجذبته إلى مطيتها الخشبية، وهو خائر القوى فاقد الوعي.
– إنه حادث انتحار إذَن! لماذا أراد أن ينتحر؟!
هذا هو السؤال الذي حار على كل الشفاه!
قد يكشف التحقيق عن السر، فالانتحار من الحوادث الجنائية التي يجب أن تتولَّى فيها التحقيق النيابة العمومية.
ولم تكن حالة المصاب الصحية على شيء من الخطر، فلم يكد يُسعَف بالعلاج حتى أفاق، وعاد بعد قليل إلى حياته الطبيعية، ومثل بين يدَي وكيل النائب العام، وكان في قاعة التحقيق تلك الفتاة شاهدة الإثبات تُدلي بأقوالها، فلمَّا فرغت، التفت المُحقِّق إلى الشاب قائلًا: ما هو الباعث لك على الانتحار؟
فلم يُجب الشاب، ولكنَّه التفت إلى الفتاة يتأمَّلها من رأسها إلى كعب حذائها، لا تأمُّل المعجب بحسنها، بل …
وكتم في صدره نفخةَ غيظٍ، ثُم قال: وما هو حقُّ الآنسة في منعي من الانتحار؟!
فتردَّد النائب قليلًا، ثُم أراد الكلام، ولكن الآنسة انطلقت تُجيب: لو رأيت منديلي يسقط مني في الطريق، أفلا تنحني وتتناوله وتردُّه إليَّ؟ إذا كان هذا من حقِّك، أفلا يحق لي، وقد رأيت حياتك تسقط منك في البحر، أن أنحني وأتناولها وأردَّها إليك؟!
فقال الشاب بقوة: لا يا سيدتي! موضوعنا عكس ذلك بالضبط. إن منديلك لم يسقط منكِ في الطريق، بل أنتِ بيدك وإرادتك أسقطته عن عمد، فلو رآكِ أحد وأنتِ تُلقين به في الطريق أو في البحر، ثُم تطفَّل وتدخَّل ليردَّه إليكِ، فهل تعتبرين هذا من حقِّه؟
فقالت الفتاة متحدية: ولكن المنديل …
وهنا تململ وكيل النيابة، فصاح: دعونا من مسألة المناديل هذه، هذا كلام لا يُدوَّن في محاضرنا. نحن أمام جناية شروع في انتحار، ولقد وجَّهت إليك أيُّها الشاب سؤالًا صريحًا: ما السبب الذي دفعك إلى ذلك؟ والمطلوب الإجابة عن هذا السؤال بدقة مع عدم الخروج عن الموضوع. تفضَّل!
فقال الشاب: اكتبوا ذلك السبب التقليدي الذي نُطالعه كثيرًا في الصحف: «لضيق ذات اليد.»
فقال النائب: أوَنسيت أنك قرَّرت في المحضر عند سؤالك عن صنعتك أنك من ذوي الأملاك، وأنك تعيش من ريع عقارات ورثتها عن أبويك؟!
– إذَن قولوا: إن السبب هو البله أو الخبل أو الضعف العقلي!
– أغاب عنك أنك قرَّرت في المحضر أنك حائز على ماجستير في الفلسفة من الجامعة؟! الفلسفة من الجامعة؟!
– قل لي يا حضرة النائب، ما شأنكم إذا كنت أريد أن أحيا أو أريد أن أموت؟
– عجبًا! ألا تعرف أن الانتحار جريمة؟
– أعرف أن الانتحار هو رغبة في الانتقال من دارٍ إلى دار، ألا تقرأ في أعمدة الوفيات بالصحف كل يوم: انتقل فلان من الدنيا إلى الآخرة كما ينتقل المُصيِّف إلى الإسكندرية من القاهرة؟ اعتبروني إذَن من المُصيِّفين؛ زهدت في مصايف الدنيا كلها، فخطر لي أن أنتقل من هذا العالم إلى عالم آخر.
– هكذا بدون جواز سفر، أو بدون تذكرة، أو بدون ترخيص؟
– حتى في هذا أيضًا لا بُدَّ من هذه الإجراءات؟
– طبعًا! وهل تظن الأمر فوضى حتى تنتقل من عالم إلى عالم من تلقاء نفسك خفيةً على هذا النحو؟ إن كل مسافر خفيةً يُعتبر مخالفًا، حتى المسافر إلى العالم الآخر!
– إذَن اعتبروني مخالفًا؛ لأني سافرت بدون ترخيص، أو بدون أمر، ولكن لا حقَّ لك في أن تسألني عن سبب السفر! فليكن لتغيير الجو، أو للتهرُّب من الدائنين، أو لمُلاقاة عزيز، أو للتخلص من ثقيل.
– اسمح لي بأن أذكِّرك بأن سبب السفر يُطلب دائمًا في أحوال الانتقال النهائي، والإقامة الدائمة بين بلد وبلد، فمن باب أولى إذا كان الانتقال والإقامة بين دنيا ودنيا …
– أُف! يا لَفضول الناس! ويا لَلحرية المفقودة على هذه الأرض!
وأطرق الشابُّ قليلًا، وجعل رأسه بين كفَّيه، وانتظر وكيل النيابة لحظة؛ رأفةً به وإشفاقًا من الإثقال عليه، إلى أن اعتدل الفتى والتفت إلى المُحقِّق بعينين تقولان: أمُصرٌّ أنت؟
فقال النائب: نعم لا بُدَّ من الإجابة عن سؤالنا.
فقال الشابُّ وهو يتهيَّأ للقيام: اكتب إذَن أن السبب هو مرضٌ نفسي، وهذا كل ما عندي.
ولم يرَ المُحقِّق بُدًّا من الاكتفاء بهذا الجواب، وتمَّم إجراءاته، وختم محضره، وأذِن للشابِّ والحاضرين في الانصراف. لم يكد الفتى يخرج إلى الطريق حتى كانت الفتاة في أثره تقول: أرجو أن يكون سخطك عليَّ قد زال.
فالتفت إليها على الفور قائلًا: لن يزول ما دُمت على قيد الحياة.
– إلى هذا الحدِّ تراني قد أسأت إليك؟
– لولا تدخُّلكِ الطائش لكنت الآن في عالَمٍ أرقى!
– تدخُّلي الطائش؟!
– وداعًا يا سيدتي! وداعًا!
وتركها وقفز من فوق الإفريز ليجتاز الشارع مُسرعًا، وإذا سيارة نقل ضخمة قد داهمته، وكادت عجلاتها تسحقه لولا جذبة من يد الفتاة جرَّته إلى الخلف أعادته سالمًا إلى الإفريز حيث كان، فرماها بنظرة ناريَّة فهمت معناها، وقالت بصوت يقطر حيرةً وأسفًا: لا تؤاخذْني؛ هذا غصب عني.
فهزَّ رأسه غيظًا، وقال كالمُخاطب لنفسه: لا فائدة، ما دُمتِ أنتِ موجودة، فلن أرى الموت بعيني!
فقالت شبه معتذرة: وكيف كان ينبغي أن أتصرَّف؟!
فانفجر حانقًا ثائرًا: كفى! كفى! مصيبة نزلت على رأسي وانتهى الأمر! من أين طلعتِ لي أيَّتها المخلوقة؟ تُفسدين تفكيري وتدبيري، وتعبثين بخُططي وتَحولين بيني وبين مصيري! أخبريني كيف أهرب منكِ؟ قولي لي كيف أهرب منكِ كي أُلاقي الموت!
فلم تستطع الفتاة أن تكتم ما خامرها من ضحك، غير أنها تماسكت وتصنَّعت الجِدَّ، وقالت: مصيبة نزلت عليك؟! ولماذا لا تعتبرني ملاكك الحارس؟
– أنتِ؟ لو كنتِ ملاكًا حارسًا لاستطعت على الأقل أن أُغافلك وأصنع ما أشتهي.
– ماذا تشتهي؟ أن تموت؟
– نعم.
فصوَّبت إليه نظرة فاحصة، ثُم قالت: ما كنت أعرف أن للموت هُواةً كهُواة التنس، والبنج بونج، والتجديف! يجب أن أعترف حقًّا أني أخطأت إذ منعتك من ممارسة هوايتك المفضلة! ولكن الأمر بسيط، في الإمكان إصلاح الخطأ في الحال.
– كيف؟
– ها أنت ذا موجود، والصخرة لم تزل قائمة، والبحر لم ينضب بعد.
– أُلقي نفسي في البحر من جديد؟
– وسأجلس أنا على القمة أطالع كتابك، وأشاهدك تهوي في الماء، فلا أرفع عيني عن الصفحة حتى أُتمَّها على مهل، وبعد ذلك ألتفت إليك وأترحَّم عليك. مبسوط؟ هيَّا بنا!
– نعم، هيَّا بنا!
قالها بصوت فيه القوة والعزم والتحدي، ومضى قاصدًا «سیدي بشر»، والفتاة إلى جانبه في مثل عزمه وتحمُّسه، وفطن إليها فجأة، فاستدار قائلًا: أنا ذاهب إلى الموت، وأنتِ ما شأنك؟
– أُسلِّمكَ إليه بيدي كما أنقذتك منه!
– هلُمِّي بنا!
وبلغا «بلاج» سیدي بشر، وأبصرا الصخرة.
فقالت الفتاة: عندي اقتراح، دعك من حكاية الصخرة، ولْيلبس كلٌّ منَّا «المايوه»، ونسبح فوق «البلسوار»، وبعد ذلك …
– ولكني لا أعرف العوم.
– وما الضرر ما دُمتَ تريد الغرق؟!
– صدقتِ، وبعد ذلك ماذا؟
– بعد ذلك تتزحلق وأنت من فوق «البلسوار»، وتسقط بين الأمواج في المكان الذي يروق لك. إنها موتة «سبور» طريفة! ما رأيك فيها؟
فهرش رأسه قليلًا، وتفكَّر لحظةً، ثُم قال: لا يا سيدتي، لا تمتهني جلال الموت، أنا الشابُّ الجادُّ طول عمري، أختتم حياتي بموت «سبور» بدل أن أختمها بموت وقور؟! يا لَلنساء! لا يضعن إصبعهنَّ في شيء حتى ينقلب لعبًا وعبثًا ولهوًا. اذهبي عني أيَّتها المرأة!
– لا تغضب! هلُمَّ إلى الصخرة.
•••
لم تمضِ برهة حتى كان الفتى والفتاة فوق قمة تلك الصخرة المعروفة في «سيدي بشر» كأنهما عاشقان هربا بحُبِّهما من ضجيج المجتمع وصخب الأرض. وهل يستطيع الناظر إليهما عن بُعد أن يتوسَّم في أمرهما غير ذلك، مهما أوتي من فراسة؟ مَن ذا يُشاهد هذَين المنفردين الجميلين وهما يتطلَّعان إلى البحر بنظرات حالمة، ويخطر في باله تلك الصلة العجيبة التي تربط أحدهما بالآخر، أو يمر بخلده تلك الفكرة المروِّعة التي تجول برأس كلٍّ منهما الساعة؟!
وطال صمت قطعته الفتاة بقولها: من واجبي أن أنصحك أن تتروَّى.
– لا حاجة بي إلى نصائحك.
– أنت حُر.
– هس! دعيني أسمع تلك الهمسات التي تُناجيني وتُناديني، إنها آتية من الشفق البعيد، بل هي صاعدة من الغور السحيق، ألا تسمعينها؟
فسدَّدتْ إليه نظرة أرادت أن تنفذ بها إلى أعماق نفسه، وقالت: همسات تُناجيك وتُناديك؟ اسمع، أنا لست وكيل نيابة أمامه محضر، وأنت شخص على أبواب الوفاة، ولن أحول بينك وبين الموت كما اتفقنا، فهل تسمح وتفضي إليَّ بسر انتحارك؟ ثِق أني سأحتفظ به لنفسي، ولن أبوح به لأحد، قُل ما سبب الانتحار!
فلم يُجبها، ولم يلتفت إليها، وظلَّ يُحملق في ماء البحر؛ ولبثت هي تنتظر أن تنفرج شفتاه عن كلام، فلما أعياها سكوته طفقت تقول: السبب ظاهر، طبعًا من أجل امرأة!
فاتَّجه إليها بوجهه ورمقها بنظرةِ سخرية، ثُم عاد إلى ما كان فيه من تأمُّل الماء دون أن ينبس بحرف، فأردفت تقول بإصرار: لا بُدَّ أن يكون هذا هو السبب، من أجل امرأة في حياتك، أو لعدم وجود امرأة!
فاستدار يقول لها بهدوء: لماذا تجعلين للمرأة هذه الأهمية في الكون؟!
– إذَن ما السر؟
– يهمك أن تعرفي؟
– جدًّا.
– اعرفي إذَن أنه لا يوجد سر، كل ما في الأمر أني أريد الخروج من الحياة، أريد أن أخرج منها بكل بساطة، ماذا في ذلك؟
– إنك لم تدخل الحياة بإرادتك حتى تخرج منها بإرادتك.
– كدت أخرج منها بإرادتي، لولا فضولكِ وانحشاركِ فيما لا يعنيكِ.
– الحقُّ معك، هذا درس ينفعني في المستقبل، وإنْ كنَّا أحيانًا لا نقوى على منع أنفسنا من تنبيه الغافل. هذه الحياة التي تمقتها، انظر إليها، أليست جميلة؟! أنت لا ترى في الأفق والبحر غير أذرع للفناء تدعوك وتناديك، ولكن الناس من حولك يرون بهجة في كل شيء. انظر إلى الأطفال والنساء والشيوخ والرجال في الماء وعلى الرمال؛ كلهم مرحون ضاحكون لكأنهم يُصغون إلى همسات أغنيات تتصاعد من كل شيء لتناديهم وتدعوهم إلى البقاء!
فتململ الشاب ونفخ، نافد الصبر ضيِّق الصدر، وقال: الحياة قبيحة في نظري، أشريكتي أنتِ في حدقة عيني وشبكة بصري؟! رواية في السينما لم تعجبني، وأردت الخروج، هل لمتفرج في القاعة أن يُمسك بيدي ويجلسني على الرغم مني يقول: الرواية ممتعة، امكُث حتى النهاية؟!
فقالت الفتاة بعنف: لا أحد يمسك بيدك، تفضَّل مُت!
وابتعدت عنه وانتحت ناحية من الصخرة، ولبث هو لحظةً في مكانه بلا حرك، ثُم تزحزح قليلًا، واقترب منها وقال: ومن يضمن لي لو ألقيت بنفسي أنكِ لا تنقذينني؟!
فنظرت إليه بعينين واسعتين: مَن يضمن لك؟ هل يحتاج الأمر أيضًا إلى ضمانات وتأمينات؟ اسمح لي، هذا كثير، قلت لك اطمئن من جانبي ومُت كما تشاء، ولكن يظهر أن الشجاعة فارقتك، وأنك تلجأ الآن إلى التعلُّل والتحجُّج و«التمحُّك»، فصاح قائلًا: أنا؟! إنكِ لا تعرفينني، سترَین.
– لقد عرفتك.
– كم الساعة عندك؟ سأموت بعد …
– وما لزوم الساعة؟ قفزة وتصير في الأعماق!
– أنا حُر في اختيار الوقت.
– أرجو أن تُسرع من فضلك، ولا تُعطِّلني أكثر من ذلك.
وأخرجت مرآتها الصغيرة، وجعلت تُسوِّي شعرها بتمهُّل وتأنُّق وعندية، وتنظر إلى انعكاس صورته في المرآة وهو واقف كالصنم، لا يدري ما يفعل، ثُم طفقت تدندن بأغنية معروفة، فقال لها بنبرة حنق: تغنين؟
– أنا في انتظارك!
لفظتها بهدوء دون أن تلتفت إليه، فتركها في حركة عنيفة ويمَّم شطر البحر، وصاح: الوداع! قبل أن ألفظ النفس الأخير، أذكِّركِ بتعهُّدكِ، إيَّاكِ أن تحاولي!
فقاطعته قائلة بفتور: اطمئن!
فاتَّجه إلى البحر ومدَّ يديه، وصاح: واحد، اتنين، تلا…
ولم يُتم؛ فقد انطلقت من فم الفتاة ضحكة عالية، فأرخى ذراعيه، والتفت إليها ساخطًا، فابتدرته قائلة ووجهها في المرآة وإصبعها تمسح شفتيها: سامحني، دهنت فمي بإصبع «الروج» أكثر من اللازم، انظر!
– أهذا سلوك امرأة تُشاهد رجلًا يحتضر؟!
– أنا متأسِّفة. لا تغضب! سأُتِم زينتي فيما بعد، هلُمَّ امضِ فيما أنت فيه، أنا الآن تحت تصرُّفك. تفضَّل.
وأخفت مرآتها، واعتدلت في جلستها، ولكنَّه أطرق إطراق اليائس لا من الحياة؛ بل من الموت، ثُم جلس ووضع رأسه في كفَّيه، وبدا كأنه فريسة لتفكير ممضٍّ وحيرة مضنية، وأمسى منظره يستدر الإشفاق ويستثير الرثاء، فدنت منه الفتاة قائلة برفق: لا تُعذِّب نفسك، حاول أن تُعيد النظر في الرواية، أعني الحياة، فقد ترى فيها …
فلم يدعها تُكمل عباراتها، وانتفض قائلًا: لا، لن أرى فيها غير سخيف وقبيح. أنتِ لا ترَين ما أرى لأنكِ لا تُفكِّرين برأسك، وأغلب الناس مثلك، أتدرين ما الحياة؟ إنها مرآة لا كمرآتك تعكس لكِ وجهًا جميلًا، ولكنَّها مرآة من مرايا «اللونابارك» تعكس الحقيقة طويلة وقصيرة، ومنتفخة ونحيلة. لقد تأمَّلت فوجدت أنه لا توجد في الحياة حقيقة ثابتة، فما نُسمِّيه الخير والجمال والعدالة والحرية … إلخ، ليست سوى أشياء لا تحتفظ بصفاتها طويلًا دون أن تتحوَّل إلى جواهر جديدة عكسية مناقضة؛ فالحرية إذا امتدَّت في المسافة والبُعد صارت عبودية، والعدالة تمتد إلى نهايتها فتُصبح هي الظلم، والجمال في امتداده ينقلب إلى قُبْح، والخير إلى شر، حتى المواقع الجغرافية في هذه الدنيا ليست ثابتة؛ فإذا امتد الشرق إلى نهايته تحوَّل فجأة إلى غرب، وحسن القمر أو الكواكب الذي يتغنَّى به الشعراء ينقلب إلى هولٍ قبيح إذا تغيَّرت الأبعاد. لا تُوجد في الحياة حقائق ثابتة، كل شيء أبعاد ومسافات، أين الحقيقة فينا في هذا «اللونابارك»؟ إن مرآته تعكس لنا صورًا تختلف في الطول والقصر، والبدانة والنحافة، والحسن والقبح، كُلما غيَّرنا البُعد والمسافة بيننا وبين المرآة، وكانت الحقيقة خارج «اللونابارك» بعيدة عن تلك المرآة! فهل أنا مخطئ إذا سعيت إلى الخروج لأبحث عن حقيقة وجودي؟! ما قولكِ الآن؟ أما زلتِ مُصرة على مخالفتي في الرأي؟
فسكتت الفتاة لحظةً، ونظرت إليه تتأمَّله مليًّا، ثُم قالت: هل تشكو من إمساك مزمن؟
– نعم، كيف عرفت ذلك؟
قالها سريعًا، ولكنَّه لم يلبث أن فطن للمفارقة، فتجهَّم وهمَّ بعتابها وانتهارها، فليس هذا هو التعليق اللائق بتفكيره العميق، ولكنَّها أسرعت تقول بلطف: أتدري لماذا تُفكِّر في الانتحار؟! هذا طبيعي، أنتَ تصعد في القمم، ألا تُلاحظ أن أولئك الذين يصعدون الهرم الأكبر، يشعرون بدوار، ويحسون كأن الأرض تجذبهم وتُناديهم؟ ولولا أيدٍ تسندهم لسقطوا، أو ألقوا بأنفسهم وهم لا يشعرون، ولكن من المستحيل على مَن يمشي فوق الأرض أن يشعر بدوار المرتفعات الذي يغري بالوقوع! عندي لك علاج لدوار المرتفعات، أتدري ما هو؟ أن تتعاطى بعض التفاهات!
فلم يكد الشاب يسمع منها ذلك حتى ثار: التفاهات؟ أنا الذي اعتدت التفكير والتأمُّل طول العمر؟!
فقالت هادئةً: لماذا تجعل للتفكير هذه الأهمية في الكون؟!
– ماذا تقولين؟
– اسمع! اذهب وازدرد «كوزين» ذرة مشوية على «الكورنيش»، واملأ أمعاءك بنصف أقة خيار أخضر بقشره.
– یا حفیظ!
– وتزوَّج امرأة وتُناكفها وتُناكفك، وتملأ جزءًا من حياتك بالسخف والقرف والخلف.
– أتزوَّج؟!
– وإذا طلبت مني هذه التضحية لعلاجك، فإني أُقدِّم نفسي كأنها دواء من «الأجزاخانة» في زجاجة عليها ورقة …
– حمراء!
ونهض من فوره مستويًا على قدميه، ولم تشعر الفتاة إلَّا والشاب في البحر يتخبَّط بين الأمواج، وقد ألقى بنفسه بلا تردُّد قبل أن تفطن إليه، فارتبكت هي لحظةً لا تدري ماذا تصنع، إلى أن دفعتها غريزتها عن غير وعي فألقت بنفسها خلفه في الماء، وانتشلته وجذبته إلى الصخرة، وأسعفته، فثاب إلى رشده وفتح عينيه، ووجد نفسه بين ذراعيها، فقال مرتاعًا: أنتِ؟
فقالت باسمة: ألا تُريد أحضان الموت؟
– نعم.
– أنا الموت!