دولة العصافير!
دولة عجيبة تبسط أجنحتها الصغيرة على الدنيا، وتنشر أفرادها في كل البقاع، لا تخفى من أرض، ولا تخلو منها سماء، كلها في عين الوقت إذا رأت عين الشمس زقزقت، أو إذا خرج الصبح من جوف الليل خرجت هي من الأعشاش، مَن هو المُنادي الخفيُّ الذي يوقظها جميعًا في لحظة واحدة، فتهب إلى العمل وهي تغنِّي، فلا كسلان مُتخلِّف، ولا متثائب مُترف؟!
قال عصفور صغير لأبيه ذات يوم: ألسنا نحن يا أبتِ خير المخلوقات؟
فهزَّ العصفور الكبير رأسه، وقال: هذا شرف لا ينبغي لنا أن ندَّعيه، هنالك مَن يزعم لنفسه هذا الحق.
– مَن هو يا أبتِ؟
– الإنسان.
– الإنسان؟ ذلك الذي يرشق أعشاشنا بالحجارة؟ أهو خيرٌ منَّا؟ أهو أسعد منَّا؟
– ربما كان خيرًا منَّا، ولكنَّه ليس أسعد منَّا.
– لماذا يا أبتِ؟
– لأن في جوفه شوكةً تخزه دائمًا وتُعذِّبه.
– يا له من مسكين! ومَن الذي وضع فيه هذه الشوكة؟
– هو نفسه بيده، هذه الشَّوكة تُسمَّى الجشع.
– الجشع؟ ما هو الجشع؟
– هذا شيء لا تعرفه أنت أيُّها الصغير، بل قد لا يعرفه أحد في دولة العصافير، ولكنِّي أنا عرفته لطول ملاحظتي للإنسان، ولوقوعي في قبضته أكثر من مرَّة، إنه الشيء الذي يجعله لا يشبع ولا يطمئن ولا يرتاح، نحن نعرف الشِّبع، وهو لا يعرف إلَّا الجوع، نحن نعمل لنُرزق، وهو يريد أن يُرزق ولا يعمل، نحن لا نعرف استغلال عصفورٍ لعصفور؛ فعصافير الأرض تخرج كلها للعيش فرِحةً مُغرِّدةً متواضعةً مُتآخية، وهو لا يحلم إلَّا باستغلال أخيه الإنسان ليعمل بدلًا منه منذ الصباح الباكر، ويتمدَّد هو في فراشه يتمطَّى ويتراخى ويتثاءب حتى الضحى، فلا يرى الشمس الذهبيَّة، ولا الفجر الفضيَّ، ولا يستنشق الهواء النديَّ، إنما شمسه ذهبٌ مرصود في المصارف، وفجره فضَّةٌ تزيِّن أدوات حجرته، وهواؤه طمع يملأ صدره.
وسكت العصفور المجرِّب لحظة، ونظر إلى ابنه الناشئ فوجده يُصغي إلى هذا الكلام إصغاءَه إلى أسطورة خياليَّة، إنه يدرك ولا يصدِّق، ويعي ولا يعتقد، تلك أشياء لم يرَها بعينه، ولم يصادفها بعدُ في حداثته الصغيرة، ولم يُمارسها حتى الآن في حياته القصيرة.
ورأى أبوه منه ذلك، فقال: نعم، لا بُدَّ أن تُشاهد بعينيك، إذا رأيت يا بُنيَّ إنسانًا مُقبلًا، فأخبرني وأنا أُريك منه ما يُقنعك.
ولم يمضِ قليل حتى أقبل رجل، فما كاد العصفور الصغير يراه حتى صاح بأبيه يُنبِّهه، فقال الأب لابنه: سأوقع نفسي في يده، وعليك يا بُنيَّ أن تُراقب ما سيحدث.
– تقع في يده يا أبي؟ وإذا حدث لك ضرر؟
– لا تخفْ، إني أعرف طبائع الإنسان، وأعرف كيف أسخر منه وأُفلت من يده.
وغادر العصفور المُحنَّك صغيره، وهبط من فوره حتى وقع على مقربة من الرجل، فصاده الرجل فرِحًا، وضمَّ عليه أصابعه حرصًا منه على الغنيمة، فقال له العصفور وهو في قبضته: ماذا تُريد أن تصنع بي؟
فقال الرجل منهومًا: أذبحك وآكلك.
فقال العصفور الماكر: إني لا أُشبِعك من جوع، ولكنَّني أستطيع أن أُعطيك ما هو أنفع من أكلي.
– ماذا تعطیني؟
– ثلاث حِكم، إذا تعلَّمتها نِلت بها خيرًا كثيرًا.
– اذكرها لي.
– لي شروط؛ الحكمة الأولى أعلِّمك إيَّاها وأنا في يدك، والحكمة الثانية أعلِّمك إيَّاها إذا أطلقتني، والحكمة الثالثة أعلِّمك إيَّاها إذا صرت على الشجرة.
– قبِلت، هاتِ الأولى.
– لا تتحسَّر على ما فاتك.
– والثانية؟
– أطلقني أولًا حسب الشَّرط.
فأطلق الرجل من يده العصفور، ووقف العصفور على ربوة بقربه وقال: الحكمة الثانية: لا تصدِّق ما لا يمكن أن يكون.
ثُم طار إلى الشجرة وهو يصيح: أيُّها الإنسان المُغفَّل، لو كنت ذبحتني لأخرجت من حوصلتي دُرَّتين زِنة كل دُرَّة عشرون مِثقالًا.
فعضَّ الرجل على شفتَيه عضَّةً أدمَتهما، وتحسَّر حسرةً شديدة، ونظر إلى العصفور وقد صار على الشجرة، وتذكَّر شروطه، فقال له بصوت ينزف منه العذاب والتلهُّف: هات الحكمة الثالثة.
– فقال العصفور باسمًا ساخرًا: أيُّها الإنسان الطمَّاع! لقد أعماك جشعك فنسيت الاثنتين، فكيف أخبرك بالثالثة؟ ألم أقُل لك لا تتحسَّر على ما فاتك، ولا تُصدِّق ما لا يُمكن أن يكون؟ إن لحمي وعظمي ودهني وریشي لا يزن عشرين مثقالًا، فكيف تكون في حوصلتي دُرَّتان وزن كل واحدة عشرون مِثقالًا؟!
وكان منظر الرجل مُضحِكًا، لقد استطاع عصفور أن يلعب بإنسان، والتفت الأب إلى ابنه العصفور الصغير قائلًا: والآن رأيت بعينيك؟!
فقال الصغير وهو يراقب حركات الرجل ويُلاحظ ما به: نعم، لست أدري هل أضحك منه، أو أبكي عليه!