في سنة «مليون»
وضعت هذه القصة في سنة مليون «ميلادية»! في ذلك العصر صارت الدنيا إلى وضع يتعذَّر على الخيال تصوُّره، فلقد اختفت الحروب، وانقرض المرض، ومُحي الموت. نعم، لقد تغلَّب العِلم على الموت منذ مئات الآلاف من السنين، لم يعد هناك قوم يموتون، لم يعد هناك قوم يُولدون أيضًا؛ فالزواج للنَّسل انقرض كذلك منذ هذه الأحقاب، فالعِلم هو الذي يُجهِّز بكتيريا النَّسل الآدميِّ في مَعامله، ولقد ظلَّ الأمر يجري على هذا النَّهج ألوفًا من الأعوام إلى أن كفَّ الناس عن الرغبة في إنتاج بشر جديد، فما من ضرورة تقضي بزيادة الناس ما داموا لا يموتون! لقد أصبح البشر الموجودون شأنهم شأن عناصر الطبيعة الخالدة التي لا تتغيَّر، إنهم باقون دائمًا كتلك الشمس الباقية، وذلك القمر وذلك البحر وذلك الجبل، لا شيء يخبو فيهم أو ينقص منهم، فخلاياهم تتجدَّد وغُددهم لا تعرف البلى، كلمة الشيخوخة لم يعد لها مدلول في لغة ذلك العصر، ولا كلمة الشباب، كل ما يعرفه أهل ذلك الزمان هو أنهم «موجودون»، وهل يستطيع البحر، لو كانت له لغة، أن يتحدَّث عن الصِّبا أو الهَرَم؟!
في صيف ذلك العام — المليون بعد الميلاد — دخل عالِم من عُلماء طبقات الأرض على عالِم من عُلماء الكيمياء، وقال له: «يُخيَّل إليَّ أني سائر نحو اكتشاف خطير، سوف يُدهش الناس جميعًا، لقد عثرت على عمق بعيد في جوف الأرض على هذا الأثر، انظر.» وأخرج بحرص وحذر من حقيبته الصغيرة جمجمة آدميَّة! قدَّمها إلى صديقه الكيميائي، فتناولها وفحصها قائلًا: ما هذا؟ هيئة رأس يقرب من رءوسنا! لولا حجمه الصغير، ولولا هذا الشيء.
وأشار إلى الأسنان والفم.
فقال العالم الجيولوجي مُصادقًا: نعم، إن تاريخه يرجع إلى ستِّمِائة ألف سنة!
– عجبًا! وكيف تجرَّد هكذا من لحمه ودمه وشرايينه؟!
– هنا وجه الغرابة!
– وأين بقية الجسم؟!
– لم أعثر إلَّا على هذا الجزء.
ووقف الرجلان مشدوهَين أمام الجمجمة، فهذا شيء جديد لا يوجد له نظير في متاحفهم، فإن الحروب الذَّريَّة قامت في الأرض منذ مئات الآلاف من السنين، فقوَّضت متاحف العهود القديمة ومكتباتها، فلم يصل إلى زمانهم إلَّا خُلاصة التجارب العِلمية التي على أُسسها قامت دنياهم الجديدة.
وظهرت على وجه العالِم الكيميائيِّ عين الحيرة التي ظهرت على وجه قابيل يوم رأى الموت لأول مرة ينخُل في هابيل المقتول.
وهزَّ عالم الجيولوجيا رأسه، ولمس الجمجمة بإصبعه، وقال: لا شكَّ أن هذا إنسان مثلنا، ولكن كيف وصل إلى هذه الحال؟ هنا السِّر.
– نعم، لا بُدَّ أن تكون هنالك قوة تستطيع أن تحوِّل الحركة في الإنسان إلى هذا النوع من الجمود!
قالها العالم الكيميائي وهو يفحص العظام بيده.
– الحركة؟ الجمود؟! يبدو لي أنه لا بُدَّ أن تكون للحركة نهاية!
– كيف؟
– ألم تُسائل نفسك مرَّةً: «وأخيرًا، ماذا بعد ذلك؟» لقد سألت نفسي عن ذلك يومًا، ربما كان عِلم طبقات الأرض الذي أمارسه يدفعني إلى البحث في الماضي، وهذا البحث في الماضي يحملني على التنقيب في المستقبل. ما مستقبلنا؟
– مستقبلنا؟!
– نعم، مستقبل جنسنا الإنساني؟!
– ماذا في رأسك؟ شيء في رأسك قد اختل!
لفظها عالم الكيمياء وهو يُحدِّق في زميله مرتابًا، فكلمة «المستقبل» عجيبة الوقع على آذان القوم في ذلك العصر، ليس هنالك غدٌ بالنسبة إليهم، وليس هنالك ليل ولا نهار ولا نوم، فالضوء الصناعيُّ أغناهم عن الشمس، والأغذية الكيميائية أغنتهم عن النوم، إنهم حركة دائمة كحركة القلب لا تعرف الهمود ولا الجمود، لا وعي لهم لِمَا يُسمَّى «الغد»، أمَّا وعيهم للأمس فلا يتجاوز عشرات الألوف من الأعوام، لم يتغيَّر خلالها الوضع عمَّا هُم عليه كثيرًا، فهم إذَن لا يعرفون ولا تستطيع مداركهم أن تعي غير زمن واحد، هو «الحاضر» الذي يبسط جناحَيه الهائلَين على أحقاب تبدو كلها لكيانهم الخالد كأنها يوم واحد.
وشَخَص عالِم طبقات الأرض ببصره إلى الفضاء وكأنه يُحاول أن يرى في الضباب، وهمس كالمخاطب نفسه: ما دام هناك وجود، فلا بُدَّ أن يكون هناك عدمُ وجود.
– عدم؟!
– نعم، العدم.
فانتصب عالِم الكيمياء واقفًا، وقال: العدم؟ ما هو العدم؟ لأول مرَّة أسمع هذه الكلمات العجيبة، ماذا جرى لك أيُّها الزميل؟!
– ألا ينتابك أحيانًا هذا الشعور؟
– أيُّ شعور؟!
– الرغبة في ألَّا تُوجد.
– من العسير على ذهني فَهْم ما تعني، أو فَهْم ما بك، شيءٌ فيك قد اختل … شيءٌ فيك قد اختل!
وأسرع العالِم الكيميائيُّ يترك المكان كالهارب، وذهب من فوره إلى دار هيئة العلماء، فعرض عليهم أمر عالِم الآثار وما نطق به من ألفاظ غريبة المعنى مُبهمة المرمى، فتلقَّوا الخبر بدهشة، وطلبوا حضوره، فلما مَثَل بينهم سألوه بيانًا عن تصريحاته، فقال: نعم إن وجودنا الدائم هذا لا بُدَّ أن يكون بعده شيء!
– أيُّ شيء تقصده؟
– الموت.
– الموت؟! ما هذه الكلمة؟
– لستُ أدري، لقد تعبتُ من نفسي الآن، إنه إلهام، إني مؤمن أنه يوجد شيء؛ فلْنسمِّه «الموت». لا بُدَّ أن نصل إليه يومًا، اصدقوني القول أيُّها العلماء، ألم يشعر أحدكم مرَّةً بإغفاءة طارئة عابرة كخفقة الجفن أحسَّ خلالها لذَّة وراحة من نوع غريب؟! هذه اللمحة يمكن أن تطول ويمكن أن تمتدَّ عبر الزمن حتى تُصبح «عدم وجود»، وتنقلب إلى ذلك الشيء الذي أُسمِّيه «الموت».
فهزَّ العلماء رءوسهم أسفًا، وأطرقوا خجلًا، وقد أدركوا أن زميلهم قد شطَّ به الخيال، ورأى أحدُهم أن يُطالبه بالدليل، فقال: لا تنسَ أنك عالِم لا يجوز له أن يجري وراء وهْم أو يستجيب إلى مُجرَّد شعور، قدِّم لنا برهانًا علميًّا على أن هذا الذي تُسمِّيه «الموت» ممكن أن يوجد!
فأخرج عالِم طبقات الأرض «الجمجمة» من حقيبته، وعرضها على العلماء صائحًا: أيُّها الزملاء الأجلَّاء، إن «الموت» قد وُجد يومًا على هذه الأرض، وهاكُم الدليل!
فتجمَّع العلماء على الجمجمة يفحصونها دَهِشِين أوَّل الأمر، ثُم لم يلبثوا أن تبادلوا نظرات السخرية والشكِّ والارتياب، ونبذها واحد منهم وهو يقول: هذا ليس دليلًا على ما تزعم، ولكنَّه دليل على أنه قد وُجد على هذه الأرض من قديم قوم وصلوا في العلم إلى ما لم نصل إليه اليوم، فنحن يوم كنَّا نصنع بشرًا في المعامل منذ مئات القرون، كُنَّا نُربِّي «النُّطفة» كما نُربِّي البكتيريا، ولكن أقوام ما قبل التاريخ، كانوا فيما يظهر، يصنعون الهيكل الآدميَّ صُنعًا، ثُم ينفخون فيه بعد ذلك، هذه العظام التي تعرضها علينا كانت «مشروع» خلق آدميٍّ لم يتمَّ صُنعه لسبب من الأسباب!
وافقت هيئة العلماء على هذه النظرية بالإجماع، وحذَّروا عالم الجيولوجيا من الاسترسال في أمثال هذه التُّرَّهات؛ خوفًا على بُسطاء العقول في المجتمع مِمَّن يستهويهم جوُّ الخرافات، وانصرف العلماء عن زميلهم الجيولوجي، وتركوه غارقًا في خِزيه وخَيبته.
ولكن اليأس لم يتطرَّق إلى قلبه، لقد كان شعوره الداخليُّ يوحي إليه أنه صادق النظر، ومضى إلى صديق له يأنس إليه ويُعوِّل عليه، من ذلك النوع الألطف الأرقِّ من البشر، الذي كان يُطلَق عليه «الأنثى» منذ خَمسِمِائة ألف سنة، يوم كان وجود هذا النوع ضروريًّا لإيجاد هذا النَّسل، أمَّا بعد هذا التاريخ، فقد زالت هذه الضرورة، وبزوالها ضعف الاتصال بين النوعين لهذه الغاية، حتى بلغ الأمر حدًّا اختفت معه الفوارق الجنسيَّة بينهما، بانتهاء الوظائف العضوية، فإذا هما على مرِّ الزمن قد صارا شِبه نوعٍ واحد، لم يحتفظ أحدهما من خِصال ماضيه بغير شيء من الرقَّة في الطبع واللُّطف في التركيب، ولم يعد المجتمع يُميِّز بينهما أو يذكر ماضيهما. إنما هو صنف واحد من الإنسان، يُطلَق عليه اسم قاطن الكوكب الأرضيِّ؛ لأن الأرض كلها هي الأخرى أمَّة واحدة ومجتمع واحد يعيش في كنف «لجنة من العقول المُدرَّبة» هي حكومة الكوكب التي تُشرِف على إدارة شئونه العامَّة، وتنظيم أسباب الرَّاحة لسُكَّانه. ذهب العالم الجيولوجي إلى صديقه اللطيف، وقال له: هل تثق بي؟
– نعم.
– هل تؤمن بي؟
– نعم.
– إذَن فاسمع.
وروى له القصة، وعرض عليه الجمجمة، وشرح له ما يعتقد باسطًا له في الحُجَج كلما رأى في وجهه علامات الدهشة، فهذا شيء خارق بعيد التصوُّر؛ لأن الألفاظ نفسها لا تُؤدِّي إليه، يجب أن تُفسِّر معنى «الفناء» أو «العدم» أو «الموت» تفسيرًا محسوسًا، وهو أمر لا قِبَل لأحدٍ به في هذا العصر، فلا يوجد شيء يموت حولهم، إنهم لا يذكرون وجود الحيوانات على الأرض، فقد انقرضت كلها منذ مئات الآلاف من السنين، أبادتها الحروب الذَّريَّة والكيميائيَّة التي مسحت وجه الأرض مسحًا، وحلقته حلقًا، وغسلته غسلًا من كل حيوان ونبات وطائر وسمك، فلم يَبقَ للإنسان غير جوف الأرض يعيش فيه بمصانعه وبمعامله، يطعم غذاءً من غازات كيميائيَّة تُطلق في البيوت (تستمد موادَّها من عناصر الجوِّ وإشعاعات الأجرام)، فضمرت معدته القديمة، واختفى جهازه الهضميُّ وفمه وأسنانه؛ فإذا هو رأس يفكِّر، وأنف يستنشق به غذاءه من الهواء، وطعامه من الغازات، ويدان ضعیفتان وساقان هزيلتان لقلة الاستعمال، لم يعد هناك فرق بين إنسان وبحر وكوكب، إنه مثلها خالد، ومثلها لا حاجة به إلى أن يعمل بيدَيه ليعيش، بل إنه الآن شِبه إلهٍ لا يلد ولا يُولد، يجهل الموت ويعرف الأبد ولا يُدرك الأمس ولا الغد.
وجد العالم الجيولوجي صعوبة في أن يُصوِّر لصديقه ما يُخامره من إحساس بنظريته؛ لأن الأمر يستوجب شعورًا بالحدود الزمنية، ليس أصعب من أن تُحدِّث «إلهًا» عن ماضيه أو مستقبله، فإن هذَين الوصفَين لا معنى لهما لِمَن «يوجد» دائمًا.
وأصعب من ذلك أن تُحاول إفهام «إله» خالد شيئًا عن «البداية» أو «النهاية»!
ونظر الصديق اللطيف إلى العالم الجيولوجي بسذاجة قائلًا له: إني أصدِّقك، ولكنِّي عاجز عن الفهم.
– حقًّا يا صديقي، إنها لَمشكلة، ومن العسير أن أُطالبك بإدراك شُعاع لا أتبيَّنه أنا نفسي، ربما كنتُ مخطئًا، ربما كان اشتغالي بتاريخ الطبقة الأرضية يُخيِّل لي أوهامًا، إن علمي ذاته لم يعد له محلٌّ، ولم يعد له احترام في نظر العلماء، ولم يَبقَ غيري حريصًا عليه مُتابعًا له، فالعلماء يُؤكِّدون أنه ليس هناك شيء يُسمَّى «التاريخ»؛ لأنه لا يوجد خلف «حاضرنا» الخالد غير وهم المخبولين، الحق أني لا أدري هل أنا مجنون، أو أني أرى شيئًا لا يراه غيري!
– إنك لست مجنونًا.
– إنك تثق بي، وهذا يسرُّني، ولكنَّه لا يُقنعني، إني أريد أن ترى ما أرى.
– سأحاول، ساعدني!
– نعم، أساعدك، قُصَّ عليَّ حياتك!
– حياتي؟! حياتي هكذا … هكذا دائمًا … هكذا … إنك تعرفها، لا شيء فيها يتغيَّر.
– نعم، لا شيء فيها يتغيَّر! ولكن أتذكر ماذا كان أوَّل الأمر؟
– أتذكر؟ ما معنى أتذكر؟
– صدقت! لا يمكن أن تكون لنا ذاكرة ما دُمنا لا نعي الماضي ولا التاريخ.
لماذا تكدُّ ذهنك أيُّها الصديق في هذه الأشياء المُبهمة المُريبة، إني أخشى عليك، أخشى أن يُصيبك من المجتمع نقد وازدراء، إنهم يتهامسون عليك بالفعل وينصحون بالابتعاد عنك، ويقولون: إن بك خللًا غير مفهوم.
– وهل تبتعد عني أنت أيضًا؟
– لا، إني معك مهما يكُن من أمرك.
– أنا أيضًا لا أريد الابتعاد عنك مهما يحدث! ماذا أسمِّي هذا الإحساس؟!
وأطرق عالِم طبقات الأرض لحظةً كأنما يبحث عن تعليل لمشاعره الغريبة، إن كلمة «الحُب» كانت هي الأخرى قد انقرضت منذ مئات الآلاف من الأعوام، انقرضت بانقراض الميل الغريزي بين الذكر والأنثى. بعد أن تولَّت المعامل إفراخ النَّسل وبزوال الحب زال الشِّعر والفنُّ ولم يَبقَ مكانٌ لعاطفة غير عاطفة الزَّمالة أو الصُّحبة بين المواطن والمواطن من سُكَّان الأرض، وقلما التهبت هذه العاطفة حتى صارت إلى هذا اللون الغامض الذي يربط عالِمَ الجيولوجيا بصديقه! لقد زال اتصال «القلوب» وحلَّ محلَّه اتصال «الأفكار»، لذلك كانت الصلة القلبيَّة بين العالِم وصديقه غريبة في ذلك العصر غرابةَ ذلك الشعور الخفيِّ الذي يُحيِّر نفس العالِم الأثري.
وقلق الصديق على حال صاحبه، فقال له: لو استطعت أن توضِّح لي! لأوَّل مرَّة أعجز عن قراءة فكرك!
– فرفع العالِم رأسه ونظر إلى صديقه مليًّا، ثُم قال: لأن فكري مضطرب مُشوَّش، لا أستطيع أنا نفسي أن أستخلص منه شيئًا واضحًا، كل ما عندي إحساسٌ باهت شاحب سحيق الغَور.
– إحساسٌ بماذا؟
– إحساسٌ بأنه يجب أن يقع شيء بعد «وجودي»، يجب أن أُحسَّ لهذا الوجود «نهاية»!
– نهاية؟!
وبدا الجهد المُرهِق على وجه الصديق، عين ذلك الجهد الذي كان يُرهِق البشر منذ مليون سنة عندما كانوا يحاولون تصوُّر «اللانهاية»!
– نعم يا صديقي اللطيف، هناك سرٌّ مُغلق علينا، هناك سعادة منتظَرة خلف باب موصَد، هنالك لذَّة غريبة وراحة عجيبة في حجرة ممنوعة لم تطأها قدم.
– ألنا أن نأمُل فيها؟
– نعم لو استطعنا أن «لا نكون»!
– لست أفهم؟ تلك الحجرة الممنوعة علينا، تلك الحجرة التي تجثم فيها راحة من نوع مجهول لدينا، أُسمِّيها أنا «الموت».
– الموت؟
– نعم الموت.
لفظها العالِم في شِبه همسٍ كأنه يحلم، وكأنه يستعين بإلهامه الخفيِّ، ويستنير بإشراقه الداخليِّ ليلمح على ضوئه شبحَ ما يتخيَّل، إنه لَعسير على الخالدين أن يتخيَّلوا «الموت»، وإنْ كان الإله يعجز عن شيء، فهنا مكان عجزه، أن يكون في مقدوره أن يموت، وإنْ كان قد حُرِم شيئًا فهذا، ولا ريب، موضع حرمانه.
– هذه الراحة، هذه اللذة، هذه السعادة، هذا الذي تُسمِّيه «الموت» لا بُدَّ أن تصل إليه، نصل إليه معًا، ما دُمت تؤمن به، وأومن أنا بك.
قالها الصديق اللطيف برقَّة ملأت نفس العالِم ثقةً ورجاءً، وانتهى بذلك الحديث بينهما في تلك الجلسة، ولم يكن بالطبع حديثًا بالمعنى المعروف قديمًا؛ فإن هذا الإنسان في ذلك العصر لم يكن له فم، ولم تكن له لغة، إنما هي الأفكار تُنقل من رأسٍ إلى رأس، وأصحابها جلوسٌ في صمت.
•••
ذاع خبر العالم الجيولوجي، وشاعت فكرته، واستفحل أمره، انضم إليه كثيرٌ من المُتشيِّعين له، وأحاط به وبصديقه المُتحمِّس رهْطٌ من المؤمنين به، وكان هذا أوَّل نبيٍّ ظهر منذ مئات الآلاف من الأعوام، فإن زوال الألم والأمل لم يدَع حاجة إلى رسالة أو رُسُل، أمَا وقد ظهر الأمل من جديد في صورةِ تَعطُّش إلى راحة مجهولة، يُبشِّر بها ذلك الإنسان الحالم الآمِل المؤمن، فلا أيسر من أن يجد أتباعًا يدينون بما يدين، ويسيرون إلى حيث يسير!
ولكن كانت أمامه عقبة، هي «المعجزة» التي يُطالبه بها كُفَّاره والجاحدون لأفكاره، وهم ما كانوا يَرضَون منه بغير معجزة واحدة؛ أن يُميت لهم الحي!
تلك كانت ساعة حرجه الكبرى، كيف يستطيع ذلك بمفرده؟ إن علماء الكيمياء وعِلم الأحياء يقفون منه موقفَ الخصومة والتكذيب.
لا بُدَّ أن تُعينه قوة خفيَّة، إذا كان حُلمه حقًّا، ووحيه صدقًا، وإلهامه صحيحًا.
وهنا لأوَّل مرَّةٍ أيضًا منذ أكثر من مليون سنة، يعود الشعور بوجود «الله» الأكبر إلى الظهور في النفس الإنسانية من جديد!
وصاح ذلك النبيُّ في أعماق نفسه: إذا لم أكن خدعت نفسي وخدعت أتباعي، فلا بُدَّ أن تُعينني على «المعجزة» قوةٌ في الكون أعظم من جميع القُوى!
وتجلَّت هذه «القدرة» كما تجلَّت لبعض الأنبياء من قبل؛ لأنها أرادت أن يكون هنالك تحوُّل في مجرى الإنسانية في ذلك العصر.
وإذا بنَيزك ضخم من نيازك السماء يضرب وجه الأرض ويغور فيها، فيسحق رأس إنسان فوق سطح بيته بجوف الأرض، عندئذٍ أسرع النبيُّ وأتباعه إلى ذلك الإنسان ليرقُبُوا ما وقع له، ولكن الحكومة علِمت بالأمر، فبادرت تستخلص ذلك الإنسان من أيدي الأتباع، لتشرع في ترميم رأسه، ورفض الأتباع تسليمه، وأصرَّت الحكومة، فوقعت الفتنة، وحدث شغب هو الأوَّل منذ عشرات الآلاف من السنين، وانتصرت الحكومة آخر الأمر، وحملت الرجل المسحوق الرأس حيث عالجوه أو أخفَوه، لا أحد يدري، أمَّا النبيُّ فاعتقلوه وقدَّموه إلى المُحاكمة، فشهد عليه زملاؤه العلماء بأنه مخبول، وأن خياله خطير فحُكِم عليه بما يُحكَم على المجرمين والمفسدين، أيْ باستبدال رأسه، وهي عقوبة تُعادل إطاحة الرأس في الأزمان القديمة، فقادوه إلى معمل كهربائيٍّ وسلَّطوا على خلايا تفكيره أشعَّة خاصة؛ فإذا هي تضعف، فأحلُّوا محلَّها تفكيرًا آخر هادئًا دمثًا بسيطًا، لا شخصيَّة فيه ولا عنف ولا إرادة.
وهكذا اختفت شخصيَّة النبيِّ وإنْ لم يختفِ جسمه، ولكن رسالته ظلَّت باقية، فقد لبث صديقه وأتباعه ينشرون فكرته خفية عن الحكومة، مُؤكِّدين للناس أنهم رأوا «الموت» في شخص ذلك الإنسان المسحوق الرأس، ولولا أن الحكومة سارعت باختطافه لكانت «المعجزة» بادية للعيان في كل مكان.
•••
مضى ألف عام اشتعلت خلالها العقيدة الدينية كما تشتعل الجمرات تحت الرماد، وآزر الحركةَ بعضُ أصحاب العقول الممتازة، ففصَّلوا في مبادئ الرسالة وشرَّعوا، ووضَّحوا فكرة «الله» الأكبر الذي في مقدوره مَنح الإنسان سعادة رُوحية، وراحة عُلوية.
إلى أن أتى يوم أدرك فيه الأتباع أن النظام القائم وحده هو الحائل دون تحقيق ذلك الحلم الإلهي.
فإنْ يعلم ذلك الحارس الصارم لجسم الإنسان، الذي يُحيط بقاءه بسياج من حديد، ويُعنى بخلود الجسد هذه العناية قد حجب عن الإنسانية عوالم الروح ومفاتنها.
وتمكَّنت هذه الفكرة من نفوس الأتباع، فقاموا ذات يومٍ بثورة جارفة اقتحموا فيها المعامل وحطَّموا الآلات، فاضطرب النظام وسادت الفوضى، وتعذَّر وصول الغازات المُغذِّية إلى كثيرٍ من السُّكَّان، فظهرت أعراض المرض على البعض.
وساءت حال البعض إلى حدِّ الخطر، وتوالت هجمات الأتباع، وزاد عددهم، واشتد ساعدهم، حتى استطاعوا يومًا أن يتجمَّعوا ويعتصموا بناحية من الأرض استقلوا بها، أقاموا عليها صرح دينهم الجديد، فطرحوا سلطان الإله القائم «العِلم» الذي أعطاهم جبروت «العقل» وسلبهم نعمة «القلب» ولذَّة «الغريزة»، وآمنوا بإله الكون الخالق للطبيعة، فتركوا له وللطبيعة الأمر.
ومرَّت مئات الآلاف من السنين، فظهر «الموت»، وبظهوره ظهر «الخوف»، ثُم غريزة المحافظة على النوع، ولمَّا كانت معامل النَّسل قد دالت دولتها فقد بعثت الطبيعة في الأجسام رغبة الجنس، وعندئذٍ بدأ النوع يتفرَّع من جديد إلى ذكر وأنثى، وظهر «الحب».
وبظهوره ظهر «الفنُّ» و«الشِّعر».
وهكذا حكمت الطبيعةُ بإلهها الأكبر الأرضَ مرة أخرى، وعادت الأديان السماويَّة، وعاد الشُّعراء يُنشدون ويقولون: