الاختراع العجيب!
اختراع عجيب، ليس بأعجب المخترعات، فما من شيء اليوم يثير دهشتنا أو يصدم خيالنا بعد أن عشنا العصر الذي نرى فيه ذرَّة لا تُرى تتحطَّم فتخرج منها قوة تُحطِّم مدينة عظيمة، ومع ذلك فإن الاختراع الذي أتحدَّث عنه سوف يكون له أشدُّ الخطر على مستقبل البشر.
هذا الاختراع، كغيره من المخترعات، فكرة ليست جديدة. لقد تخيَّلها «ويلز» في قصته «آلة الزمن»؛ هو «جهاز» مثل جهاز الراديو يستطيع كل إنسان اقتناءه، له جملة مفاتيح، إذا أدرت المفتاح الأوَّل شاهدت في مرآة الجهاز ما يحدث لك بعد عام، وإذا أدرت المفتاح الثاني أبصرت ما يقع لك بعد خمسة أعوام، وإذا أدرت المفتاح الثالث رأيت مستقبلك بعد عشرة من الأعوام. ولم يدخل بعدُ على هذا الجهاز من التحسينات ما يُمكِّن الأفراد من رؤية مستقبلهم أبعد من هذا المدى.
قد يسأل سائل: وأين هذا الجهاز؟ ولماذا لم يُعرض حتى الآن في الأسواق؟
حقيقة الأمر أن الشركة الأمريكية التي اشترت حقوق هذا الاختراع وتكفَّلت بصنعه وتعميمه، قد توقَّفت فجأةً عن المُضيِّ في هذا المشروع؛ ذلك أن المهندس الذي تولَّى تجربة أوَّل جهاز تمَّ صنعه لم يلبث أن انتحر بعد أيام، وأراد أحد مديري الشَّركة أن يُجرِّب الجهاز مدفوعًا بحب الاستطلاع، فلم يلبث هو الآخر أن انتحر بعد أسابيع، وتوالت سلسلة الانتحارات في ذلك المصنع بين العُمَّال والمهندسين والخبراء والمديرين، وكل مَن جرؤ على إدارة مفاتيح مستقبله في ذلك الجهاز العجيب.
قام البوليس الأمريكي عندئذٍ بالتحقيق، فلم يظفر بجواب أو بتعليل أو بتفسير، لأن مَن مات قد دُفن ومعه الجواب والتعليل والتفسير.
إلى أن كان يوم أسعف الناس مهندسًا حاول الانتحار، وأنقذوه هو وسرَّه من الموت، ودفعوا به إلى المُحقِّقين، فسألوه: لماذا أردت الموت؟
– إنني لم أتحمَّل الحياة.
– هل وقعت لك كوارث أثقلت كاهلك؟
– لا، لم يقع شيء بعد.
– إذَن أنت تخشى وقوعها في يوم من الأيام؟
– لم يحدث لي شيء في مدى عشرة أيام.
– هل أنت واثق من ذلك؟
– لقد رأيت ذلك بعينَي رأسي في مرآة الجهاز.
– ماذا رأيت؟
– رأيت نفسي كما سأكون بعد عام، وبعد خمسة أعوام، وبعد عشرة أعوام، لم أرَ شيئًا جديرًا بالنظر أكثر من أن كرشي قد برزت لي وبعض التجعُّدات في الوجه، وبعض الشَّيب، وبعض الترهُّل، وزيادة في مرتبي، وطفلة جديدة أنجبتها امرأتي، لها عويل يُصدِّع رأسي. يا لها من حياة مملة! أأنا أسير إلى هذا الغد السخيف؟! لطالما تخيَّلت المستقبل أجمل من ذلك وجهًا! فإذا هذا الوجه قد أصبح معروفًا لي بملامحه وخطوطه وقسماته وندوبه، كأنه وجه زميل عاديٍّ تافه يُصاحبني في العمل ويُلازمني في المسكن، لا أسمع منه جديدًا ولا أرى فيه طريفًا، كلا، إن المقام مع مثله مُحال، قد يدفعني إلى التريُّث والاحتمال أملي في أن يتغيَّر في الغد شيء، ولكن إذا كنت الآن أرى الغد بعيني فما قيمة الغد؟! وإذا كنت أعيش في انتظار ما تأتي به الأيام. وجاءت الأيام تُلقي في لحظة بكل ما لديها في حِجري، فما معنى الانتظار؟! ما فعلت بكل بساطة، لم أجد للانتظار معنًى بعد أن فقدت عنصر المفاجأة في حياتي!
فتأمَّل المُحقِّق قوله مُطرقًا مفكرًا، ثُم قال له وهو يحك رأسه: لا أستطيع أن أوافقك على هذا اليأس من الحياة.
فقال المهندس الذي شرع في الانتحار: ليس هذا يأسًا من الحياة، إنك لا تستطيع أن تفهم حقيقة إحساسي؛ لأنك لم تَرَ ما رأيت، إنه على كل حال ليس اليأس، بل شعور آخر لا أدري كيف أصفه لك، انتظر، ألم يسبق لك أن ذهبت إلى السينما فشاهدت رواية من آخرها بعد أن فاتك الشَّطر الأول؟
– بالطبع حدث لي ذلك.
– ماذا كنت تفعل بعدئذٍ؟
– كنت أنتظر العرض الثاني لأشاهد ما فاتني من الرواية.
– عظيم، وبعد أن تشاهد ما فاتك وتأتي الحوادث الأخيرة التي تسبق لك مشاهدتها، ماذا كنت تصنع؟
– كنت أنصرف طبعًا.
– قبل الختام؟
– طبعًا.
– ولماذا تنصرف؟
– ولماذا أنتظر وقد عرفت الرواية؟
– هذا بالضبط ما صنعته أنا بمجرد أن شاهدت الحوادث الأخيرة من حياتي في مرآة ذلك الجهاز، عرفت روايتي بكل حوادثها وعُقدها ومفاجآتها، فلماذا تريد مني أن أنتظر؟
هنا فقط فهم المُحقِّقون كارثة ذلك الجهاز المخيف، إنه يُجرِّد «الحياة الآدمية» من عنصر «الغيب» كما تُجرَّد «الرواية السينمائية» من عنصر «المفاجأة»، وبهذا التجرُّد تتفكَّك عُقدة الرواية، فتصبح شيئًا لا يستطيع أحد أن يحياه ولا أن يراه.