الأسطى عزرائيل!
الحياة أقوى من الموت، تلك حقيقة يراها مَن يتأمَّل حوادث يوم واحد من أيامه، إن الموت رابض لنا في كل خطوة، ومع ذلك نتفاداه وننجو منه في أغلب الأحيان ونقفز من فوق حبائله؛ لأن يد الحياة تقودنا وتُنقذنا. الموت والحياة يلعبان منذ الأزل لعبةً واحدةً لا يُغيِّرانها، هي اللعبة التي يُسمِّيها الأطفال «استغماية». الحياة والموت أحدهما يختفي للآخر ويتربَّص به في كل مكان، والآخر يقول له: «أراك وأعرف موضعك»! أرواحنا، نحن الآدميين المساكين، مُعلَّقة بكل شيء، وبأضأل شيء، إنها مُعلَّقة بأرجل الذُّباب، وإبر البعوض، ويد سائق السيارة والقطار والطيارة، بل إنها قد تهتز وتتأرجح بين أصابع حلَّاق يتناولك بالتزيين والتجميل وأنت أبعد الناس عن التفكير في شرٍّ أو خطر.
ذهبت في أوائل الصيف أحلق ذقني عند الحلَّاق، وأنا بالحياة فرِح مستبشر أُغنِّي في أعماق نفسي، وأصغي إلى أغاني الفلاحين وهُم يقودون صفوف الإبل مُحمَّلة بالبطيخ في أفخر شوارع القاهرة، وغرقت في المقعد، وأسلمت رأسي للحلَّاق وأغمضت عيني مستسلمًا لأعذب الأحلام، مستقبلًا بوجهي النسيم الصناعي من المروحة الكهربائية، ووضع الحلَّاق على ذقني الصابون الرَّطب، فشعرت بمتعة، وراح يسنُّ الموسى حتى لمع نصلها، وجاء فأخذ رأسي بين يديه، ثُم همس في أذني قائلًا بلهجة غريبة: لا مؤاخذة! إني أتوسَّم فيك … فراستي لا تخيب، لي عندك طلب بسيط.
ورفع الموسى عن صُدغي منتظرًا، فبادرت أقول له: تفضَّل!
فأمسك برأسي واستأنف الحلاقة وهو يقول: هل تعرف حضرتك أحدًا في مستشفى المجاذيب؟
فدهشت، ولكنِّي قلت بهدوء: إذا كانت فراستك التي لا تخيِّب توسَّمت فيَّ أني كنت نزيل الدار، فإني أشكرك!
فأسرع يقول متأسفًا: العفو! العفو! لم أقصد ذلك، إنما أردت أن أقول إني أتوسَّم فيك حب الخير، وأنك لا بُدَّ أن تكون صاحب نفوذ، وتعرف أحدًا من أطباء المستشفى.
– لماذا؟
– لي شقيق مجنون أريد أن أُخرجه.
– مجنون؟ وهل شُفي؟
– إنه لم يكن مجنونًا خطِرًا، ولكنَّها دعوى باطلة من المستشفى كما تعلم حضرتك، إنهم دائمًا يرون حبس الناس بالظلم، كل ما في الأمر أنه أحيانًا تتراءى له خيالات، ويتصوَّر تصوُّرات لا ضرر فيها ولا غبار عليها، فلا هو هاج ولا ماج، ولا صرخ ولا صخب، ولا ضرب ولا بطش، ولا أحدث تلك الغوغاء والضوضاء التي يُحدثها المجانين الذين يُحبَسون في مستشفى المجاذيب.
– عجبًا! وماذا فعل إذَن حتى استحق أن يُحجَر؟
– لا شيء يا سيدي، المسألة بسيطة؛ شقيقي هذا كان حلَّاقًا مثلي، وكان يشتغل ذات صباح في أمان الله، وكان الوقت صيفًا، والحَر يُغري بالعطش كما لا يخفى عليك، وكان في يد شقيقي رأس زبون لا يتخيَّر على حضرتك، فشاءت له تخيُّلاته أن يتصوَّر رأس الزبون بطيخة، وكانت في يده الموسى، فأراد أن يشقَّها بالطول.
فارتعدت وصِحت في الحال: يشق ماذا؟
– يشق البطيخة، أعني رأس الزبون!
قالها الحلَّاق بكل هدوء، وبنبرة طبيعية.
فجمد الدم في عروقي، وكان رأسي وقتئذٍ في يده والنصل الحاد البرَّاق يمر عند الحلق، فأمسكت أنفاسي خوفًا وجزعًا، ولكنِّي لم ألبث أن تجلَّدت وقلت له بوداعة ورفق لأُدخل عليه الرضا وعلى نفسي الاطمئنان: طبعًا شقيقك هذا شاذٌّ في العائلة.
فقال بهدوئه المعتاد ونصله فوق حلقي: الحقيقة أن هذا شيء في العائلة كلها، أنا نفسي أحيانًا تخطر لي تصوُّرات عجيبة، خصوصًا في موسم البطيخ، كلام في سرِّك شقيقي معذور!
ولمعت عين الحلَّاق ببريق عجيب يُضاهي بريق النصل الذي فوق حلقي، فأيقنت بقرب الساعة. وتشهَّدت على نفسي وترحَّمت.
وأغمضت عيني مستسلمًا لا للذيذ الأحلام هذه المرة، بل لمجيء الموت وخروج الروح، ولم أفتحهما إلَّا على صوت رشَّاشة الكلونيا وهي تمطر وجهي، وعلا صوت الحلَّاق وهو يقول لي: نعيمًا!
فانتفضت ونهضت كمَن وُلد من جديد، ودفعت حسابي والحلَّاق في أثري يوصيني بشقيقه والتوسُّط في إخراجه، وأنا لا أسمع منه ولا أعي، وما إن وضعت قدمي في الطريق حتى تنفست الصُّعداء، وأقسمت أن أحلق بيدي، أو على الأقل لا أدخل عند هذا الحلَّاق في موسم البطيخ.