التصوير الديني في الإسلام
ولكننا لا نستطيع أن ننفي قطعيًّا وجود أي تصوير ديني في الإسلام، فإن بعض المصورين الإيرانيين عمد إلى حياة النبي وإلى بعض الحوادث الجسام في تاريخ الإسلام فاتخذ منها موضوعات لصور كانت تشتمل في بعض الأحيان على رسم النبي ﷺ. بيد أن هذه الصور نادرة جدًّا، ولم تحز رضاء رجال الدين في يوم من الأيام، بل إن أكبر الظن أنهم كانوا لا يعلمون عنها شيئًا، وإلا لما قدر لها أن تعيش بما فيها من تحدٍّ مضاعف، بالتصوير في حد ذاته، وبتصوير النبي نفسه فضلًا عن ذلك.
ومهما يكن من شيء فقد تكون أقدم صورة للنبي جاء ذكرها في كتب التاريخ، تلك التي رآها في الصين تاجر عربي اسمه ابن هبار، زار تلك البلاد في القرن التاسع الميلادي فأطلعه ملكها على صور كثيرين من الرسل منهم نوح في السفينة ينجو بمن معه، ثم موسى وعصاه ببني إسرائيل، ثم عيسى وقد ركب حمارًا والحواريون معه، ثم محمد ﷺ وقد ركب جملًا وأصحابه محدقون به، وفي أرجلهم نعال عدنية من جلود الإبل وفي أوساطهم حبال الليف قد علقوا فيها المساويك. ولسنا نعرف هل كانت هذه الصور من صناعة فنانين صينيين أو مسلمين أو من المسيحيين النساطرة، الذين كانت منهم جالية في الصين منذ القرن السابع الميلادي.
ونشاهد النبي في صورة ثالثة يهم بأن يرفع بيديه الحجر الأسود ليضعه في جدار الكعبة، حين اختلف زعماء قريش أيهم يكون له فخار وضع الحجر في هذا المكان وحكَّموا محمدًا فطلب ثوبًا وضعه فيه بيده وأشار على كبير كل قبيلة أن يأخذ بطرف من أطراف الثوب فحملوه جميعًا إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء ثم رفعه النبي ووضعه في مكانه. كما نرى صورة رابعة تمثله عليه الصلاة والسلام جالسًا في غار حراء يتلقى الوحي، ونجده في صورة خامسة مع أبي بكر بالغار في طريقهما إلى يثرب.
وثمة مخطوط من كتاب الآثار الباقية للبيروني محفوظ في جامعة أدنبرة وبه صور أخرى للنبي ﷺ ويرجع تاريخ هذا المخطوط إلى سنة ٧٠٧ﻫ. ومما يستوقف النظر في صورة أن رأس النبي تحيط بها هالة على النحو المعروف في صور المسيح والقديسين. على أن هذه الهالة فقدت معناها في الفنون الإسلامية، فلم تعد تدل على قدسية ما، وإنما استخدمها الفنانون لتعيين أخطر الأشخاص شأنًا في الصورة، من سلطان أو أمير أو ذي حيثية أو ما إلى ذلك. وهناك هالة من نور يشع إلى الجوانب، استخدمها الإيرانيون لمحمد وللرسل، واستخدمت عند الشيعة عامة حول رأس الإمام علي أيضًا، بينما نرى في الصورة الهندية هالة مستديرة يرسمها الفنانون حول رؤوس الملوك والأمراء وبعض القديسين.
وهناك مخطوط آخر من كتاب روضة الصفا لميرخواند يرجع إلى سنة ١٠٠٣ﻫ/١٥٩٥م وفيه صور بعض حوادث السيرة النبوية، ومنها أسطورة شق صدر النبي وهو يقيم في البيداء عند مرضعته حليمة السعدية، وهي الأسطورة التي تستند إلى المعنى الحرفي للآية القرآنية: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ، وفي هذا المخطوط صورة أخرى تمثل موت أبي جهل في معركة بدر، وثالثة تمثل تحطيم النبي الأصنام في البيت الحرام بعد فتحه مكة، ورابعة تمثل حادث غدير خم وهو الذي يقول الشيعة أن النبي أوصى فيه بأسرته بعد حجة الوداع وأعلن أن سيدنا عليًّا سيكون خليفة له.
وفضلًا عن ذلك فإن بعض المؤلفات المتنوعة في قصص الأنبياء كان يشتمل على صور النبي، وقد وصل إلينا مخطوطان منها، وفي كل منهما صورة تمثل أول لقاء بين النبي والسيدة خديجة. وهناك صور في بعض مخطوطات أخرى، وتمثل النبي عليه السلام جالسًا بين فريق من الصحابة وأهل البيت.
ومهما يكن من شيءٍ فقد كثرت في إيران منذ القرن السادس عشر الصور التي تمثل النبي وسيدنا عليًّا والحسن والحسين، وترى في بعضها حول رأس النبي هالة من الأشعة يغلب على الظن أنها منقولة عن الهالة التي كانت ترسم حول رأس بوذا في الفن الهندي.
على أن أكثر الصور التي جاء فيها رسم النبي ﷺ لا تظهر فيها ملامح وجهه بل نرى عليه نقابًا يحجبها اللهم إلا في الصور القديمة. بل إن بعض الصور المتأخرة كان يكتفى فيها برسم النبي على شكل مجموعة من الأشعة بدون جسم أو رأس. ففي المكتبة الأهلية بباريس مخطوط من كتاب فارسي منظوم في سيرة النبي والخلفاء الراشدين ومؤرخ من سنة ١٠٧٨ﻫ/١٦٣٢م وفيه صورة للنبي من هذا النوع.
وقد رسم المصورون المسلمون في بعض الأحيان صورًا لأنبياء آخرين، ولا سيما سيدنا عيسى عليه السلام. ومن المرجح أنهم كانوا في مثل هذه الحالة يتأثرون بصور هؤلاء الأنبياء في المخطوطات المسيحية والمزدكية، لأن هذا التأثير ظاهر في أكثر الصور التي وصلتنا من هذا النوع، بل إننا نكاد نراه في كل الصور التي تتفق مناسباتها في الديانتين المسيحية والإسلامية. وأما إذا كان ما يراه المسلمون في هذا الشأن يخالف ما يراه الدين المسيحي، فإن الفنانين المسلمين يراعون تعاليم دينهم. ومن أمثلة ذلك بيان المحل الذي ولد فيه السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، إذ إن القرآن لم يذكر ولادته في أخور، وإنما جاء في سورة مريم من القرآن الكريم: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.
وهكذا نرى أن كراهية التصوير في الإسلام لم تمنع من ازدهار التصوير على يد الإيرانيين والهنود والترك بل لم تمنع المصورين من رسم بعض الموضوعات الدينية بغير أن يتخذوا التصوير وسيلة لشرح عقائد الدين الإسلامي وبغير أن يكون للفنانين المسلمين ما كان للفنانين المسيحيين من شعور بأنهم دعامة من دعائم الكنيسة، وبأن منتجاتهم تساعد على بعث روح الصلاح والتقوى في بني دينهم، والمعروف أن بعض النقاد في الفنون الغربية يشكون من هذا الاتصال الوثيق الذي كان بين الفنانين والكنيسة حتى غلب على منتجاتهم الطابع الديني إلى عصر غير بعيد. أما في الإسلام فإن العكس صحيح، إذ كان رجال الفن منبوذين من رجال الدين.