عصر تيمور ومدرسة هراة
ازدهرت المدرسة التيمورية ومدرسة هراة في نهاية القرن الرابع عشر وفي القرن الخامس عشر، وكان أهم مركز لفن التصوير في عصر تيمور مدينة سمرقند التي اتخذها هذا العاهل مقرًّا لحكمه منذ سنة ١٣٧٠ وجمع فيها أشهر الفنانين وأصحاب الصناعات الدقيقة، ولكن تبريز وبغداد ظلتا أيضًا من مراكز هذا الفن.
وأما في عهد ابنه شاه رخ فقد أصبحت هراة محط رجال الفنانين وميدان عملهم. وقد كان تيمور محبًّا للفن والأدب، على الرغم من شذوذه وفظاظته، بينما كان ابنه شاه رخ من أشد ملوك الفرس عطفًا على الفن والفنانين فلا غرو أن كان الفن في عصر تيمور وخلفائه اجتاز مراحل الاقتباس والاختيار من الفنون الأجنبية والتأثر بها، ووصل إلى عنفوان شبابه، وأصبح ما نقله عن غيره من الفنون جزءًا لا يتجزأ منه.
وطبيعي أن عصر تيمور نفسه شهد مرحلة الانتقال من المدرسة الإيرانية المغولية إلى مدرسة هراة كما يظهر من مخطوطين محفوظين في المتحف البريطاني. وأخطرهما شأنًا نسخة من قصائد خواجو كرماني في الحديث عن غرام الأمير الإيراني هماي بهمايون ابنة عاهل الصين. وقد كتبت هذه النسخة بقلم الخطاط الإيراني المشهور مير علي التبريزي في بغداد سنة ٧٩٩ﻫ/١٣٩٦م. وقد جاء في إحدى صور هذا المخطوط إمضاء المصور الإيراني جنيد السلطاني الذي كان في خدمة السلطان أحمد من السلاطين الجلائيريين ببغداد. وقد كان الجلائيريون أسرة مغولية سادت العراق في القرن الرابع عشر واشتغل أحد أمرائها — وهو السلطان أويس — بالتصوير وكان له فيه شأن يذكر.
ومهما يكن من شيء فإن الصور التي ترجع إلى نهاية القرن الرابع عشر تظهر فيها أهم الزخارف والأساليب الفنية التي صارت في القرن التالي من أخص مميزات التصوير الإيراني في مدرسة هراة.
وأهم هذه الأساليب الفنية مناظر الزهور والحدائق، وآثار فصل الربيع، ثم الألوان الساطعة التي لا يكسر من حدتها تدرج ما، ثم الأشجار الطبيعية ذات الجبال والتلال المرسومة على شكل الأسفنج. وفضلًا عن ذلك فإن الفنانين استطاعوا الوصول إلى نسب معقولة بين الأشخاص المرسومين في الصورة وبين ما يحيط بهم من عمائر ومناظر.
ومن مقتنيات دار الكتب مخطوط نفيس من كتاب الشاهنامة للفردوسي (رقم ٧٣ تاريخ فارسي) كتبه لطف الله بن يحيى بن محمد في شيراز سنة ٧٩٦ﻫ/١٣٩٣م، وفيه صحيفة مزخرفة وسبع وستون صورة تختلف في قيمتها الفنية، فبعضها لم يكمل بعد، والبعض الآخر أعيد بالألوان على أجزاء منه في عصر متأخر، أو نقش كله من جديد.
وعلى كل حال فإن العصر الذهبي للتصوير الإيراني إنما يبدأ في عهد خلفاء تيمور ابنه شاه رخ وحفدته بيسنقر وإبراهيم سلطان وإسكندر بن عمر شيخ، إذ أصبحت للصور الإيرانية في عصرهم ذاتية قوية تمثل روح الفن الإيراني، بعد أن هضم كل ما استعاره من أساليب الفنون في الشرق الأقصى.
ومما ساعد على كثرة الإنتاج وإتقان الصور في عصر خلفاء تيمور أن الدولة كانت مقسمة إلى أقاليم مختلفة يحكمها أمراء لهم نصيب وافر من الاستقلال ولهم حاشية وبلاط كما للعاهل الأكبر الذي كان يشرف على إدارة القطر كله، ولذا فقد نشأت مراكز فنية عديدة كانت تتنافس في سبيل النهضة بالفنون ولا سيما التصوير.
وقد أسس شاه رخ مكتبة في مدينة هراة التي أصبحت في عصره أخطر مراكز التصوير شأنًا. ثم جاء ابنه بيسنقر فأنشأ مكتبة أخرى ومجمعًا للفنون استقدم إليه أعلام الخطاطين والمذهبين والمصورين والمجلدين فانتقلت صناعات التصوير والتذهيب من تبريز وسمرقند وشيراز إلى هراة.
ومن المصادفات التاريخية التي ساعدت على نمو الروابط بين الصين وإيران أن سقوط أسرة المغول في إيران سنة ١٣٣٦م تبعه بعد فترة قصيرة سقوط أسرة يوان المغولية في الصين وقيام أسرة منج التي حكمت من سنة ١٣٦٨ إلى ١٦٤٤ فكان طبيعيًّا أن ينشأ الود المتبادل بين الأسرتين الجديدتين بعد نجاحهما في تقويض نفوذ المغول. وتبودلت البعثات بين الصين وإيران في عصر شاه رخ وبيسنقر. ومن الذين أوفدوا في إحدى هذه البعثات بيسنقر مصور اسمه غياث الدين، كلفه عاهل إيران أن يصف كل ما يراه في طريقه وقد وصلنا هذا الوصف في كتاب اسمه مطلع السعدين، كتبه بالفارسية كمال الدين عبد الرازق ونقله إلى الفرنسية المستشرق كترمير. وأكبر الظن أن هذه البعثات كانت تعود من الصين بكثير من المنتجات الفنية في تلك البلاد، كما كانت تحمل إليها بدائع التحف المصنوعة في إيران.
والواقع أن الآثار الفنية من مدرسة هراة تشهد بتأثير قوي للفنون الصينية ولا سيما في جلود الكتب التي كانت الحيوانات الخرافية الصينية من أهم عناصر الزخرفة فيها.
ومن المخطوطات التي تحتوي على صور مشهورة تنتمي إلى هذه المدرسة مخطوط من كتاب فارسي عن قصة المعراج اسمه «معراجنامه» كتب لشاه رخ في مدينة هراة سنة ٨٤٠ﻫ/١٣٤٦م، ومحفوظ الآن في المكتبة الأهلية بباريس. وتمتاز صور هذا المخطوط بأن جلها مربع الشكل ومستقل عن المتن ولكن فيها تكرارًا إذ إن أكثرها يمثل النبي عليه الصلاة والسلام راكبًا البراق تحف به الملائكة ويتقدمه سيدنا جبريل ويسير الركب في السموات ويقابل الأنبياء والرسل، والملاحظ في رسوم النبي وأصحابه أن السحنة وتقاطيع الوجوه تدل على أصل عربي، بينما يظهر التأثير الصيني في رسوم الملائكة بوجوههم المستديرة وعيونهم الصغيرة المنحرفة، كما يظهر أيضًا في رسوم السحب الصينية التي تغطي أرضية الصور.
وفي دار الكتب المصرية مخطوطان من طراز هذه المدرسة أولهما من كتاب جمشيد وخورشيد (رقم ١٥٦ أدب فارسي) وقد فرغ من كتابته عماد خباز سنة ٨٤١ﻫ/١٤٣٨م وفي أول المخطوط صحيفتان مذهبتان غاية في الجمال والإبداع، ولكن الصورة الوحيدة فيه غير متقنة الصنعة ويظهر أنه قد أعيد نقشها بالألوان في عصر متأخر. أما المخطوط الثاني فنسخة من كتاب الشهنامة للفردوسي (رقم ٥٩ تاريخ فارسي)، كتبها محمد السمرقندي سنة ٨٤٤ﻫ/١٤٤٠م وفيها خمس وستون ومئة صورة، ولكن أكثرها أعيد نقشه في عصر متأخر فقلَّت قيمته الفنية. والواقع أن دار الكتب المصرية ليست غنية بالمخطوطات المصورة بالرسوم الإيرانية أو الهندسية وما فيها ليس من نوع طيب، اللهم مخطوط واحد فيه صور لبهزاد ويعلو مستواه كثيرًا عن سائر المخطوطات المصورة فيها، والتي تبلغ زهاء الخمسين، ولكن دار الكتب بمصر يحق لها أن تفخر بمجموعتها الفنية بالمصاحف الكبيرة المذهبة.
ويجدر بنا أن نلاحظ أن الصور الإيرانية في القرن الخامس عشر تنسب عادة إلى هراة لأن هذه المدينة كانت أهم ميدان لفن التصوير في ذلك العصر. ومع ذلك فقد كان كثيرون من أعلام المصورين ينتقلون في الدولة الإيرانية من بلد إلى بلد، وكانت المراكز الفنية المختلفة تتبادل المصورين المشهورين. ومن ثم فإننا لا نكاد نجد فرقًا بين الصور التي كانت تصنع في هراة والصور التي كانت تصنع في المدن الإيرانية الأخرى كشيراز، اللهم إلا في ما كان من ريشة غير الممتازين من رجال الفن، لأن مثل هؤلاء مثل الصانع الريفي الذي تظل آثاره الفنية — إن صح تسميتها بهذا الاسم في أغلب الحالات — متأخرة عن آثار زملائه في المدن ممن يتطورون ويسيرون بخطًى أوسع في سبيل التقدم ومسايرة العصر.
وهكذا نرى أن التصوير الإيراني في عصر تيمور وخلفائه خطا الخطوة الأخيرة في سبيل الكمال الذي بلغه على يد بهزاد وتلاميذه من الذين حملوا لواء هذا الفن في صدر الدولة الصفوية.
وذلك على الرغم من أن العاهلية التيمورية دب فيها الانحلال بعد وفاة شاه رخ وبدء النزاع بين خلفائه، حتى استولت قبائل التركمان على غربي إيران وقامت دولة الأوزبك في بلاد ما وراء النهر، بل واستطاعت أن تقضي على نفوذ خلفاء تيمور في شرقي إيران. ولكن هراة ظلت عاصمة التيموريين الذين تقلص نفوذهم بغير أن يؤثر ذلك في ازدهار صناعة التصوير، فكان حكم السلطان حسين بيقرا (١٤٦٨–١٥٠٦) من العصور الذهبية لتلك المدينة في الأدب والفن، وكان هو ووزيره مير علي شير من أكبر رعاة التصوير في التاريخ الإيراني حتى ظهر في خدمتهم بهزاد صاحب الآثار الفنية البديعة في التصوير الإسلامي.