ثورة يوليو …
لم يكن توقف مجلتَي الرسالة والثقافة قبيل ثورة يوليو بأشهر قليلة، إلا تعبيرًا أصيلًا عن نهاية مرحلة كاملة في تاريخ الأدب العربي الحديث، وهي المرحلة التي تتخذ لها إطارًا سياسيًّا بين عامَي ١٩١٩ و١٩٥٢م. ولم تكن المجلتان كلتاهما مجرد صفحات دورية تنشر الأدب والنقد، وإنما كانتا منبرًا فكريًّا رئيسيًّا لمختلف التيارات التي ولدت مع الحرب العالمية الأولى وبداية العشرينيات، وازدهرت مع إرهاصات الحرب العالمية الثانية وماتت في أوائل الأربعينيات، ثم انبثق عن موتها جيل جديد أسهم صراعه مع الجيل القديم في التعجيل بنهاية المجلتين. كذلك كانت المجلتان استيعابًا شاملًا للأقلام العربية التي أنضجتها الأحداث في المنطقة خلال أربعين عامًا أو يزيد. لهذا يتوقف المؤرخ الأدبي طويلًا أمام احتجاب المجلتين في بداية الخمسينيات فلا يعده حدثًا عابرًا ضمن العديد من المجلات والمنابر الثقافية التي ظهرت واحتجبت فيما بين الثورتين، وإنما يتناول هذا الحدث بالذات كظاهرة تنبع أهميتها من أنها تضع خطًّا فاصلًا بين نهاية مرحلة وبداية أخرى، في حياة الأدب العربي الحديث. وليست ثورة يوليو إلا تجسيدًا سياسيًّا لتلك الظاهرة الموضوعية التي أحاطت بالوطن العربي إبان تلك الفترة، وكان الأدب من معالمها البارزة، ظاهرة الثورة الحضارية الشاملة التي ولجنا أبوابها منذ ذلك التاريخ.
ولقد كانت الاتجاهات الفكرية المتصارعة عشية الثورة، بمثابة الصورة المصغرة للوضع الاجتماعي في مصر والمنطقة العربية بأسرها. كما كان الصراع بين القديم والجديد بعد الحرب العالمية الثانية تحديدًا أمينًا لمعالم الوضع الثقافي، فقد تحوَّل دعاة التجديد عند بداية هذا القرن إلى قلاعٍ للرجعية الفكرية والأدبية عند نهاية منتصفه؛ ذلك أن الثورة الوطنية التي شاركوا في أتونها الفكري كانت قد تجاوزتهم في الكثير من مواقعها منذ أن نبهت الحرب وويلاتها إلى ضرورة المضمون الاجتماعي للثورة.
ولقد نشأ جيل ما بين الحربين في الأدب العربي الحديث، وهو يتلمس آفاق هذه الضرورة الجديدة كما نلاحظ في الكتابات المبتكرة لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمد مندور ولويس عوض وعمر فاخوري والزهاوي والجواهري وطاهر لاشين ومحمود البدوي ويوسف حلمي وصلاح ذهني وإسماعيل أدهم وعيسى وشحاته عبيد وغيرهم من أبناء ذلك الجيل العربي المناضل في إطار مجموعة من القيم البرجوازية، وفي ظل مجتمع يطحنه القهر الأجنبي والاستبداد الداخلي والتخلف الحضاري.
وكان هذا الجيل بمثابة الوريث الشرعي لأكثر القيم إيجابية في جيل الثورات العربية المتقاربة قبيل العشرينيات. وكان وريثًا لمعظم الاتجاهات الغالبة على التكوين الأيديولوجي لهذه الثورات، ومن هذه الاتجاهات استمد خطوط مساره الثوري التي التقت في نقطة تقاطع حاسمة وهي أن الثورة العربية القادمة لا ينبغي أن تكون محصلة سياسية لما سبقها من ثورات. وإنما ينبغي لها أن تكون نقطة انطلاق حضارية تضيف إلى الثورة الوطنية بُعدها الاجتماعي والفكري والنفسي بحيث لا يقتصر نضال إنساننا الجديد على زاوية دون أخرى وبحيث لا يتوقف هذا النضال مرحلة دون أخرى. وإنما تدخل الحضارة العربية بإنسانها الجديد أبواب الثورة الدائمة التي تعوض الأجيال المعاصرة مرحلة طويلة من الانحطاط عاشتها المجتمعات العربية في هوان. الثورة التي ترتفع بنا إلى مستوى العصر.
هكذا انغمست أعمال الحكيم في حياة الشعب المصري التي طالعنا وجهًا لها في «يوميات نائب في الأرياف» ١٩٣٨م ووجهًا آخر في مسرحية «اللص» ١٩٤٨م. وهكذا ولدت أعمال نجيب محفوظ: «القاهرة الجديدة»؛ «خان الخليلي»؛ «زقاق المدق»؛ «بداية ونهاية»، وقد صدرت جميعها إبان الفترة الواقعة بين ١٩٤٤ و١٩٤٩م. وفي النقد الأدبي حفرت مقدمات لويس عوض في أذهاننا صورة جديدة لعلاقة الأدب بالحياة، مقدمات «فن الشعر» و«بروميثوس طليقًا» و«الأدب الإنجليزي الحديث» و«بلوتلاند». والتقينا بالصورة نفسها عند مندور، وعمر فاخوري حين كتب «الباب المرصود» و«أديب في السوق». وكانت أشعار الزهاوي والشابي ومحمود حسن إسماعيل بمثابة المشعل الذي يضيء ما تغمض عنه الأبصار في جلبة الحياة وضجيج الواقع المرئي والمألوف. وليس غريبًا بعد ذلك كله أن تتجاور هذه الأسماء جميعها أو معظمها على صفحات «الرسالة» و«الثقافة» جنبًا إلى جنب الرواد القدامى من أمثال طه حسين والعقاد والزيات وزكي مبارك والرافعي، الذين لم يتخلوا عن مواقعهم في «قيادة» الحركة الأدبية العربية … وليس غريبًا أن تحتجب هاتان المجلتان؛ فتعلنا بموتهما سقوط «القيادة» القديمة جماهيريًّا، كما تعلنان نهاية مرحلة كاملة في أدبنا الحديث، هي مرحلة الفكر اللبرالي السائد حينذاك على كافة أشكال الأدب. وإذا كان احتجاب المجلتين إيذانًا بسقوط القديم، فإنه أيضًا كان تأكيدًا بأن الجديد لم يستطع بعدُ أن يقف على قدميه فلو كان قادرًا على الوقوف وحده في الميدان، لما تحطمت المنابر التي كان يمثل فيها القطب الضعيف غير الجاذب. لقد مات القديم حقًّا، ولكن الجديد ما إن يمد قدميه الضعيفتين حتى يصطدم بكيانٍ صلب من «المجتمع» القديم بكل ما يمثله من قيم وعلاقات اجتماعية وبناء سياسي واقتصادي.
وكانت ثورة يوليو ١٩٥٢م هي الضربة الأولى لهذا البناء الراسخ المتهالك في آنٍ؛ الضربة التي أتاحت للوليد الجديد أن يمد قدميه ويثبتهما شيئًا فشيئًا. وقد فاجأت الثورة بعض الأدباء من ناحية الشكل وإن لم تفاجئهم من ناحية المضمون، ولكنها بغير شك قد فاجأت البعض الآخر شكلًا ومضمونًا؛ لذلك تختلف انعكاساتها على الأدب العربي الحديث من كافة الزوايا الفكرية والفنية.
(١) الرواية والقصة القصيرة
من الطبيعي أن يكون انعكاس الثورة على الأدب المصري أكثر وضوحًا وحدَّة عن انعكاساتها على الآداب العربية الأخرى، خاصة في سنوات عمرها الأولى حين صبت اهتمامها على البناء الداخلي للمجتمع المصري. ومن الطبيعي أيضًا أن تكون الرواية والقصة القصيرة في مقدمة أدوات التعبير الفني قدرة على امتصاص الحدث الثوري الجديد؛ لأن الشعر غالبًا يجنح في مثل هذه الظروف إلى «الهتاف» المتعجل أو الصمت التام؛ ولأن المسرح لم يكن قد تشكل بعدُ بما يناسب دوره في تجسيد الثورة، أما النقاد فقد شغلهم الجانب السياسي عما عداه في انتظار «أدب الثورة».
وكانت الرواية والقصة القصيرة في مصر قد استطاعت أن تتبلور في نهاية الأربعينيات عند حدود مدرستين واضحتين: المدرسة الرومانتيكية التي استقطبت في صفها يوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله ويوسف جوهر وسعد مكاوي؛ والمدرسة الواقعية التي استقطبت في صفها نجيب محفوظ وعادل كامل ويوسف الشاروني وصلاح حافظ وفتحي غانم وألفريد فرج ونعمان عاشور. كانت أحلام البرجوازية وغرامياتها هي عماد المدرسة الأولى، وكانت حياة الشعب الكادح عماد المدرسة الثانية، وما إن أقبلت الثورة حتى زاد الاستقطاب تبلورًا، وتحددت أبعاد المدرستين.
على أن الثورة وقد شرعت في بناء مجتمع جديد يخلو من أدران كثيرة زينت فيما مضى جدران المجتمع القديم، فإنها وضعت المدرسة الرومانتيكية في مأزق حرج. فلم تعد مخادع القصور وأندية القمار والملاهي الليلية بالمادة الصالحة لأن تكون «حلمًا» للإنسان الجديد. ومن ناحية أخرى لم تكن بصيرة هذا الفريق من الأدباء بقادرة على النفاذ إلى أعماق الثورة ومعايشة نتائجها عن قرب؛ لذلك اتجه الرومانتيكيون المصريون نحو هدف جديد هو نقد النظام القديم وتصوير مفاسده، أو مواكبة الحاضر وتصوير مكاسبه. ورأينا سيلًا من الروايات والقصص القصيرة يتخذ من الملك والباشوات والإنجليز خامة إنسانية لفنه. ولم يكن القارئ العربي قد طالع لهذه الأسماء شيئًا على هذا النحو فيما قبل الثورة، حين كان الملك ملكًا والباشوات والإنجليز سادة الحياة أقبلت أعمالهم الجديدة تفتقر إلى الصدق والأصالة، وتتميز بنفس النظرة الرومانتيكية القديمة. فإذا نحن قرأنا رواية «الحصاد» لعبد الحميد جودة السحار، أو «شيء في صدري» لإحسان عبد القدوس، لاكتشفنا أن المحور الرئيسي لهما ولغيرهما من الأعمال المشابهة هو المحور الأخلاقي الذي تدور من حوله صور الفساد الخلقي عند الإقطاعيين، أما مواكبة الحاضر التي نراها في أوضح أشكالها عند كاتب كيوسف السباعي تخصص تقريبًا في التأريخ للثورة من «رد قلبي» إلى «جفت الدموع» فإننا نلاحظ «المشهد الرومانسي» هو هو بعينه المشهد الرئيسي في الرواية وإن تغيرت الأسماء والأثواب والأماكن والأحداث، كما نلاحظ أن الثورة — وهي موضوع الرواية — قد غدت حدثًا قدريًّا مفاجئًا.
ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة للاتجاه الواقعي في الرواية المصرية والقصة القصيرة؛ فبالرغم من تعدد الروافد ضمن المدرسة الواقعية إلا أنها استطاعت أن تقيِّم الماضي تقييمًا مختلفًا وأن تواكب الحاضر بصورة مغايرة، بل وأن تتطلع إلى المستقبل وهو الأمر الذي لم يخطر على بال المدرسة الأخرى.
وتعد «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، وثلاثية «بين القصرين» لنجيب محفوظ في مقدمة الأعمال الواقعية التي تصدت لتقييم المجتمع القديم تقييمًا فنيًّا وفكريًّا. القصة الأولى ناقشت هذا المجتمع في الريف، والقصة الأخرى ناقشته في المدينة. وقد صدرت الطبعة الأولى من رواية «الأرض» عام ١٩٥٤م تجسد ذلك التناقض الحاد بين مصلحة كبار الملاك ومصلحة الفلاحين الصغار. وتدور أحداثها الرئيسية حول ذلك النزاع الحاد الذي نشب بين أهل القرية من جانب، والحكومة من جانب آخر، حول فترة الري القصيرة التي تهدد زراعة الفلاحين الفقراء بالجفاف، بينما تغمر المياه أرض الباشا بغير مواعيد ولا قوانين. وتدور أحداث الأرض في الثلاثينيات من هذا القرن إبان حكم إسماعيل صدقي. ويربط الشرقاوي ربطًا فنيًّا عميق الدلالة بين ما يحدث في القرية وما يحدث في المدينة وكيف تنعكس مشكلات النظام وتناقضاته على أصغر جزئيات الحياة اليومية في واقع الفلاح الصغير. وقد صدرت ثلاثية بين القصرين في طبعتها الأولى عامَي ١٩٥٦ و١٩٥٧م على التوالي. وكان نجيب محفوظ قد بدأ كتابتها قبل ذلك التاريخ بسبع سنوات، ولم يتصور أن هذه البانوراما الهائلة لمجتمعنا الحديث يمكن أن ترى النور في ظل النظام القديم، حتى قامت الثورة وأطلقت لقلمه العنان في تكملة أعظم الوثائق الفنية في تاريخنا الأدبي.
والثلاثية تتناول تلك المرحلة الواقعة بين قرب نهاية الحرب العالمية الأولى (١٩١٧م) وقرب نهاية الحرب العالمية الثانية (١٩٤٤م) وهي تلك المرحلة الحافلة بأخطر حدثين في تاريخ البشرية المعاصرة، وهي أيضًا تلك المرحلة الحافلة بأخطر إرهاصات ثورة يوليو منذ فشل ثورة ١٩١٩م، وتتناول «بين القصرين» — وهي الجزء الأول — معالم الثورة الناشئة في ظل القهر الأجنبي والمجتمع شبه الإقطاعي. بينما تتناول «قصر الشوق» — في الجزء الثاني — ما طرأ على المجتمع من تطور في الثلاثينيات حيث تمكنت الرأسمالية المصرية من المشاركة في الحكم، وحيث نجحت بعض القيم البرجوازية في أن تمسك بعجلة القيادة الاجتماعية بدلًا من القيم الإقطاعية. وتتناول «السكرية» — في الجزء الثالث والأخير — مرحلة الاستقطاب الفكري العنيف بين اليمين واليسار في الحركة الوطنية كانعكاس لتطور قضية الاستقلال الوطني نحو المضمون الاجتماعي للثورة.
وفي كل من الأرض والثلاثية محاولة فنية لاكتشاف القوانين الضابطة لحركة المجتمع حتى يمكن الاستنارة بها في توجيه الإنسان الجديد. وهذا هو الفرق بين هذين العملين وغيرهما من أعمال آثرت العمل «التسجيلي» والنظرة «الأخلاقية» لمجتمع ونظام ما قبل الثورة. غير أن مواكبة الحاضر عن كثب كانت المهمة الأولى أمام الأدباء الواقعيين الذين تزايد عددهم واتسعت أمامهم فرص النشر ومجالات حرية التعبير. ومن ثم كان طبيعيًّا أن يظهر جيل جديد يتجه أساسًا إلى القصة القصيرة كيوسف إدريس ولطفي الخولي ومحمد صدقي وعبد الله الطوخي وصالح مرسي وفاروق منيب وصبري موسى وفهمي حسين ومحمد سالم وسليمان فياض وبدر نشأت ومحفوظ عبد الرحمن ومحمد أبو المعاطي أبو النجا إلى جانب بعض الروايات التي كتبها أمين ريان ولطيفة الزيات ومحمود دياب وصالح مرسي وشوقي عبد الحكيم.
ولم تعد البرجوازية الصغيرة في هذه الأعمال هي الخامة البشرية، وإنما شاركتها جموع الفلاحين الصغار والأجراء والترحيلة والعمال. وقد تسببت خاصية «استمرار الثورة» في تغير الصورة الاجتماعية في الأدب تغيرًا واضحًا. وأصبح تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، ثم قرارات يوليو ١٩٦١م وبناء السد العالي من المعالم البارزة في حياتنا التي أكدت استمرارية الثورة. وازداد وضع أدباء نقد الماضي وتسجيل الحاضر من بقايا المدرسة الرومانتيكية حرجًا. إذ كانت التحولات العميقة الجارية في باطن المجتمع من التعقيد بحيث إن الهروب إلى السخرية من النظام القديم، أو التسجيل السطحي للنظام الجديد لم يعد من الممكن لدى الجماهير أن تسيغه. وهكذا توقفت بعض الأقلام التي ضربت أرقامًا قياسية في التوزيع فيما مضى، وكانت تحتج بهذه الأرقام على أهميتها وتفوقها. بالميزان الذي اختارته لنفسها سقطت في المعركة، ولم تعد مطولات الجنس أو بطولات الغرام الفاجع أو التشهير الفج بالماضي والهتاف السطحي للحاضر، لم تعد هذه كلها بقادرة على إغراء القارئ بالإقبال عليها. وسجلت أرقام التوزيع انتصارات متفاوتة لكتاب المدرسة الواقعية بمختلف تياراتهم الفنية.
ولعل صمت نجيب محفوظ طوال الفترة الواقعة بين صدور الثلاثية، وظهور «أولاد حارتنا» على صفحات الأهرام عام ١٩٥٩م يوضح إلى أي مدًى كانت الصورة الاجتماعية من التعقيد بحيث تتطلب من الفنان الأمين أن يتريث طويلًا أمام الظواهر الجديدة التي تقتحم وعيه بكل ما تزخر به من ثراء وعمق. وعندما ظهرت «أولاد حارتنا» كانت إعلانًا صادقًا يقول بأن النضال الوطني لم يعد هو الكفاح من أجل الاستقلال السياسي وأن القضية الاجتماعية لا ينبغي أن تظل شفرة سرية يتبادلها الكتاب وقراؤهم في صمت؛ وإنما أمست الاشتراكية والعلم الطريق الحتمي الوحيد أمام تطورنا الاقتصادي والفكري والاجتماعي. وبالرغم من أنه قد سبقت «أولاد حارتنا» عشرات الأعمال التي تصوغ عذاب الجماهير الكادحة في «أرخص ليالي» و«جمهورية فرحات» و«رجال وحديد» و«الأنفار» و«الأيدي الخشنة» و«حيطان عالية» و«الشوارع الخلفية» و«قلوب خالية» … إلا أن «أولاد حارتنا» كانت من الوضوح والمباشرة في إطارها الرمزي بحيث إنها كانت العمل الروائي الأول في تاريخنا الذي يثير حفيظة الرجعية لدرجة تضع الفنان في نقطة الصدام وجهًا لوجه مع فئات الرجعيين. ولم تكن العاصفة التي أثيرت في وجه نجيب محفوظ إلا صورة مصغرة للعواصف الكبرى المستمرة التي واجهتها الثورة بعد أن قررت المسير بحزم نحو الطريق الطويل إلى الاشتراكية.
وبقدر ما كانت الاشتراكية هدفًا رئيسيًّا عند أبناء الجيل الجديد من المدرسة الواقعية، بقدر ما وضعت هذا الجيل أمام العديد من علامات الاستفهام: إذا كان النظام قد أخذ بما ناضلوا من أجله فيما مضى، فما الذي يستطيعون تقديمه للناس من جديد؟ وهو سؤال هام طرحته جميع الثورات على معاصريها من الأدباء. وقد اختلف الروائيون وكتاب القصة القصيرة في مصر فيما قدموه من إجابات عملية اختلافات واسعة.
كتب نجيب محفوظ «اللص والكلاب» يحذر من رءوف علوان أينما وجدت مبادئه ترتدي أثوابًا مختلفة الألوان تناسب كل زمان ومكان. وقال الفنان في شجاعة رائعة إن سعيد مهران هو الثمرة المجهضة لكل ثوري يحوله المناخ الانتهازي إلى متمرد يجيد الاغتيال الفردي. ثم كتب «السمان والخريف» ليقول إن الطريق ليس مسدودًا أمام الدباغ المناضل الوفدي القديم إذا استطاع أن يلحق بذلك الشاب الطويل الأسمر الذي يمسك بيسراه وردة حمراء، وكتب «الطريق» باحثًا عن معنى الحرية والكرامة والسلام، وكتب «الشحاذ» باحثًا مع عمر عن سر الأسرار، متعاطفًا مع عثمان خليل في نضاله الذي لا يكل من أجل حياة أفضل. ثم كتب «ثرثرة فوق النيل» واضعًا يده مع أنيس زكي على التشابك المعقد لمختلف التناقضات التي تصنع حياتنا الراهنة.
وفي هذه الأعمال جميعها لم يتورط نجيب محفوظ — روائي المرحلة والعصر على النطاق العربي — في تلك الوهاد السطحية التي سقط فيها غيره ممن لم يوفَّقوا إلى الجمع بين الالتزام والحرية، فانحصرت أعمالهم بين أسوار العموميات وباعدت بينها وبين الجزئيات والتفاصيل. وتلك هي المهمة التي شغلت نجيب محفوظ في كل ما كتب طيلة هذه المرحلة. فلم تضق نظرته حتى لتبدو وحيدة الجانب ترى الإيجابيات بمعزل عن السلبيات، ولم تقف هذه النظرة عند أحد النقيضين دون آخر بحيث تصبح نظرة استاتيكية جامدة. وإنما استطاع هذا الفنان بوعي نافذ إلى مكونات الثورة وإدراكٍ جاد بمقوماتها أن يعكس «الحركة» الثورية سلبًا وإيجابًا بنظرة دينامية حية.
وتقف إلى جانب أعمال نجيب محفوظ بعض الأعمال الهامة التي انعكست عليها خطوات الثورة في أشكال متباينة منها «الباب المفتوح»، وقد اتخذت مؤلفتها الدكتورة لطيفة الزيات من العدوان الثلاثي بناءً روائيًّا لأزمة الجيل الذي تنتمي إليه. و«الحرام» ليوسف إدريس، وقد جعل من عمال التراحيل أرضية العمل الروائي الذي يمهد للإصلاح الزراعي و«الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم، وقد بلور أبعاد الحركة الاجتماعية في أزمة المثقفين، و«الأفيون» لمصطفى محمود وقد عالج نفس القضية من زاوية مختلفة هي ضراوة التناقض بين الأجيال المختلفة.
والملاحظ أن المعركة الرئيسية التي دارت من حولها صراعات المجددين مع الجبهة الرجعية من أدباء الأمس، هي معركة اللغة. ولم يكن الصراع بين العامية والفصحي أمرًا طارئًا على الحقل الأدبي. ولكنه ازداد حدة إبان تلك الفترة حين استولى بعض الأدباء الرجعيين على مقاليد السلطة الأدبية وتمكنوا من فرض قوالب «رسمية» على الأدب عن طريق الجوائز التشجيعية التي رصدوا لها من الشروط ما يحرم المجددين من مجرد التقدم لها. ولم تكن معركة العامية والفصحى إلا ستارًا يخفي أنياب الرجعية التي أرادت أن تنال من الفكر الجديد عن طريق اللغة الجديدة التي استوجبها السياق الفني في صياغة الشخصيات والأجواء الشعبية.
ولقد اتجه معظم أبناء الجيل الجديد في السنوات التالية للثورة نحو القصة القصيرة، وأضحت ساحة الرواية خالية إلا من التجارب القليلة التي كتبها محمود دياب «الظلال في الجانب الآخر» وصالح مرسي «زقاق السيد البلطي» وشوقي عبد الحكيم «أحزان نوح». ولكن موجة القصة القصيرة بدأت في الانحسار مع ازدهار المسرح الجديد، وقد كان من نقاط التحول الرئيسية في تاريخنا الأدبي الحديث، التي عكست بصورة مباشرة — بالسلب والإيجاب — منجزات الحركة الثورية المعاصرة.
ولم تكن الرواية العربية بمعزل عن تطورات الرواية المصرية في الاستجابة لأحداث الثورة؛ ذلك أن ثورة يوليو في إطارها القومي كانت قد طرحت مجموعة من القضايا على الصعيد العربي حين أخذت في اعتبارها أن توحد الشعب المصري في معركة مصيرية وحضارية مشتركة مع بقية أبناء الوطن العربي. تلك هي معركة القومية العربية التي انبثق الوعي الحاد بأصالة مضمونها التقدمي مع فجر المأساة الفلسطينية. وتعد أعمال غسان كنفاني وحليم بركات وسهيل إدريس وأبو بكر خالد وعبد الله القويري في مقدمة الأعمال التي عبرت في أمانة وصدق عن الأبعاد العربية الجديدة للثورة المصرية. فروايتا «رجال في الشمس» و«ستة أيام» لغسان كنفاني وحليم بركات على الترتيب، يجسدان تجربة المأساة في ارتباطها الوثيق بأزمة الأجيال المعاصرة. أما «الحي اللاتيني» و«الخندق العميق» و«أصابعنا التي تحترق» للدكتور سهيل إدريس؛ فهي أقرب ما تكون إلى ثلاثية روائية تسجل بالتعبير الفني تطور جيل ما بين الحربين على النطاق العربي ويقظته الثورية في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م إلى العدوان الثلاثي في ١٩٥٦م، وكيف كان هذا التاريخ انبثاقًا مجددًا لوحدة الثورة العربية. وتكاد روايات سهيل إدريس الثلاث أن تقترب من أعمال يوسف السباعي من ناحية، ومن أعمال نجيب محفوظ من ناحية أخرى؛ فهو مؤرخ للثورة حقًّا، ومن زاوية رومانتيكية كما يفعل السباعي، وهي تترجم عن شخصية صاحبها وأزمة جيله وحضارته كما يفعل نجيب محفوظ.
وقد صدر في بيروت ودمشق سيل من الروايات والقصص القصيرة التي انعكست عليها أحداث الثورة سلبًا فوقف كتابها إلى جانب القوى المعادية للثورة، سواء تم ذلك بطريقة تقريرية مباشرة في تلك القصص التي صورت الانفصال الرجعي في سوريا تصويرًا معاديًا للثورة العربية، أو ما تم منها بصورة فنية ركزت على جوانب السلب والتمزق عند بعض قطاعات المثقفين. ولقد كانت الارتباطات الفكرية بين هؤلاء الكتاب والثقافات الرجعية التي نشط الاستعمار في تصديرها وترويجها هي مصدر ذلك الانحراف النفسي والفكري في تقييم الثورة فنيًّا عند هذا الفريق من الأدباء. ولقد شاركهم بطرق ملتوية بعض الكتاب المصريين وإن لم يكتب لأعمالهم البقاء الطويل.
ولم يقتصر انعكاس الثورة على مضمون الرواية العربية والقصة القصيرة، بل شمل هذا الانعكاس قوالب التعبير وأبنية الفن. وكان أمرًا شبه محتم أن يثمر التفاعل بين الفكر والفن في القصة العربية أشكالًا جمالية جديدة؛ فقد صاحب نكوص الرومانتيكية وازدهار الواقعية تحول «الأسلوب» في مستواه اللفظي من الكلمات العامة المطلقة إلى الكلمات الدالة على معنًى محدد، والموحية بانفعال خاص. كما تحول «الراوي» الذي يذيع القصة في مستوًى انفعالي موحد إلى عديد من الشخصيات الحاضرة والغائبة والمخاطبة، والتي تتلون نغمات كلماتها وفق نفسياتها المتباينة وأحوالها المتغيرة. وكذلك تحولت «الشخصية» من النمط والنموذج إلى الكيان الذاتي المتفرد. ولم يعد «الموقف» الفني مجرد حادث مفاجئ أو عابر، وإنما أصبح تكوينًا دراميًّا متكاملًا مع بقية العناصر الفنية. بل لقد تغير البناء العام للرواية والأقصوصة في الفترة الأخيرة، ولم تعد السيادة للتفاصيل المادية المألوفة للعين، بقدر ما تحول الهيكل الروائي إلى ما يشبه المونولوج الداخلي الذي يوجز الأحداث ويكثف الشعور ويبلور الرؤيا. ولعل «حجم» الرواية عند نجيب محفوظ الذي تطور من الثلاثية إلى ثرثرة فوق النيل أوضح دليل على الإنجازات الجديدة في حقل الرواية العربية من حيث معنى البطل والحدث والموقف والحوار والسرد وغير ذلك من أدوات الصياغة. على أن هذه الإنجازات لم تتم بمعزل عن مكتسبات القصة في العالم؛ إذ إن الآداب الأوروبية المختلفة ما تزال لها القدرة والفعالية على تطعيم آدابنا وفنوننا. كما أن تجربتنا الفنية نفسها في مجال الرواية والأقصوصة ما تزال بحاجة إلى هذا التأثر المشروع. غير أن الجدير حقًّا بالتسجيل هو أن تجربتنا المحلية الأصيلة أمست هي العنصر الرئيسي في كافة مكتسبات الرواية والقصة العربية القصيرة. ولا ريب أن هذه المكتسبات لم تلون إنتاجنا القصصي كله؛ فهي لم تتضح إلا في الأعمال الممتازة، ولكن مجرد رسوخها كتقاليد في تاريخ الرواية في بلادنا يتيح الفرصة كاملة أمام الأجيال اللاحقة لمزيد من الأصالة ما دام تراثنا سيزداد مع الأيام قوة وعمقًا واتساعًا.
(٢) المسرح
إذا كان للرواية والقصة القصيرة تراث سابق على ثورة يوليو يمتد إلى أوائل القرن حيث نلتقي بحديث عيسى بن هشام للمويلحي، وزينب للدكتور هيكل، ثم أعمال الحكيم الثلاثة «عودة الروح» و«عصفور من الشرق» و«يوميات نائب في الأرياف» وإنتاج تيمور ولاشين وغيرهم من رواد القصة المصرية، فإن تراثنا المسرحي لا يشترك مع التراث القصصي سواء من ناحية الكم أو الكيف. ذلك أنه باستثناء المسرح الشعري لأحمد شوقي والمسرح النثري لتوفيق الحكيم لن نعثر على إنتاج جاد في غمرة النشاط الواسع لحركة الاقتباس والترجمة والتمصير التي سادت على المسرح العربي عمومًا — لا المسرح المصري وحده — خلال النصف الأول من هذا القرن.
وبالرغم من أن مسرح الحكيم خلال أعوام الثورة يتميز بخبرات جديدة في الفن والحياة كما تدل على ذلك أعماله الموازية لسنوات التجربة الثورية في بلادنا (إيزيس، السلطان الحائر، رحلة قطار … إلخ) إلا أن ما لا ريب فيه هو أن الجيل الجديد الذي ظهر بعد الثورة (نعمان عاشور، لطفي الخولي، يوسف إدريس، سعد الدين وهبة، رشاد رشدي عبد الرحمن الشرقاوي، ألفريد فرج) هو الجيل الذي جسَّد بصوابه وأخطائه جميعًا، معظم انعكاسات ثورة يوليو على إنساننا الجديد، ونهضتنا الحضارية الوليدة.
ولربما تعد مسرحية «الناس اللي تحت» بمثابة نقطة التحول المسرحية في التعبير الفني عن الحركة الاجتماعية المصرية. على أن هذا لا ينسينا أن الهموم الاجتماعية ظلت المادة الخام للمسرح المصري أمدًا طويلًا قبل أن يكتب نعمان مسرحيته، بل إن أعمالًا عديدة للحكيم تناولت مشكلات المجتمع المباشرة من وجهة نظر تعاطفت كثيرًا مع الطبقات الكادحة. غير أنه يتبقى لمسرحية نعمان عاشور بعد ذلك أنها قدمت رؤيا اجتماعية قريبة من التكامل هي انعطاف حقيقي بالتفكير السائد على خشبة المسرح المصري آنذاك. فلم يعد الأمر مجرد «تعاطف» مع الكادحين بقدر ما أصبح كشفًا يتسم بروح العلم لتكوين المجتمع المصري والمركبات الطبقية التي تحركه. ولم يعد الأمر إحساسًا ميلودراميًّا بالرثاء لتعاسة الفقراء بقدر ما أصبح رؤية تاريخية ترى المستقبل من خلال الماضي والحاضر. والمستقبل الذي أومأت به مسرحية نعمان «الناس اللي تحت» وما تلاها من أعماله الأخرى «الناس اللي فوق» و«عيلة الدوغري» هو الاشتراكية. وهو المستقبل الذي عالجته — فيما بعد — بصورةٍ أو بأخرى أعمال لطفي الخولي «قهوة الملوك»، «القضية» ويوسف إدريس «ملك القطن»، «جمهورية فرحات». ولم يستمر هذا الاتجاه التبشيري إن جاز التعبير عما يوحي به من آمال في الاشتراكية، فقد جرت الأحداث بمعدل أسرع من أحلام كتاب المسرح. وهكذا بدأت موجة درامية جديدة، بعضها يبرر قيام الثورة كما نلاحظ في أعمال سعد الدين وهبة «المحروسة»، «السبنسة»، «كوبري الناموس» وأحد أعمال رشاد رشدي «رحلة خارج السور». وبعضها الآخر يطرح للمناقشة التحديات الجديدة التي تواجه الثورة في المرحلة الاشتراكية، مثل «الفرافير» و«سكة السلامة» و«اتفرج يا سلام» و«حلاق بغداد» و«الفتى مهران». على أن هذه الموجة لا يحركها تيار واحد، ولا تنتهي عند شاطئ محدد.
أحد هذه التيارات يمكن أن تطلق عليه مسرح القضايا الفكرية، ويمثله يوسف إدريس في «الفرافير» و«المهزلة الأرضية». والفرافير تعالج قضية الأنظمة الاجتماعية التي خلقها الإنسان فاستبدت به وأصبح عبدًا لها. والكاتب يطلق هذا الحكم ويعممه؛ فالعبودية والإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية، كلها سواء في اغتيال إنسانية الإنسان. ومطلوب أذن — عند المؤلف — أن نبحث جميعًا عن حل. ولكن شعار «البحث عن حل» يصبح شيئًا بلا جدوى حين يسد الفنان جميع الأبواب. و«المهزلة الأرضية» امتداد طبيعي للفرافير؛ فهي تقول بأن الملكية الفردية أصل كل الشرور، ولكنها أمست على مر العصور جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية لا مفر من قبولها كما هي. وتقول أيضًا أن لا حقيقة موضوعية واحدة في هذا العالم؛ فالحقيقة ذاتية يراها كل إنسان من زاوية خاصة قد تتعارض مع رؤية الآخرين ولكنها مبررة دائمًا.
وهناك تيار آخر يمكن تسميته بمسرح القضايا الاجتماعية، ويمثله نعمان عاشور ولطفي الخولي، الأول في «عطوة أفندي قطاع عام» و«الليالي الثلاث» والثاني في «الأرانب». كلاهما يعرض قضية اجتماعية مطروحة للبحث، هي قضية الانتهازية والاستغلال في ظل تناقضات البناء الاشتراكي عند نعمان عاشور، وهي قضية المرأة كما تراها الفئات الاجتماعية المختلفة في ظل مرحلة التحول التي تعيشها تلك الفئات عند لطفي الخولي.
وهناك تيار ثالث يمكن تسميته بالمسرح التاريخي، وهو يجمع ألفريد فرج وعبد الرحمن الشرقاوي ورشاد رشدي، ويستثني سعد الدين وهبة من التسمية التاريخية، ولكنه ينضم إلى هذا الفريق من حيث الجوهر، وهو طرح قضية «الثورة» في أبعادها المختلفة، والمد والجزر في مرحليتها أو استمراريتها. وهو تيار مزدوج؛ لأن ألفريد فرج في «سليمان الحلبي» وعبد الرحمن الشرقاوي في «الفتى مهران» يعالجان البطولة الثورية أكثر من معالجتهما للنظام الثوري. بينما يتجه رشاد رشدي وسعد الدين وهبة إلى معالجة النظام نفسه. ومهما كانت الأردية التاريخية التي ترتديها معظم مسرحيات هذا الفريق فإن «المعاصرة» هي السمة البارزة في أعمالهم. وبالتالي فإن استجابة المشاهد أو القارئ لمفهوم الاغتيال الفردي عند سليمان الحلبي، ومفهوم البطولة الاجتماعية — ولو تكن مهزومة — عند مهران، هي استجابة معاصرة لا يلغي حرارتها الاندماج في الموضوع التاريخي. وكذلك فإن الاستجابة لمواقع الهزيمة والسلب في «سكة السلامة» و«بير السلم» و«اتفرج يا سلام» هي استجابة معاصرة لا تنفي واقعيتها كثافة الرمز.
ويتبين لنا من هذا العرض أن المسرح المصري طيلة العشر السنوات الأخيرة كان انعكاسًا حادًّا ومباشرًا لمنجزات الثورة في مجال الحركة الاجتماعية والفكرية ونستطيع أن نضيف الفنية أيضًا؛ فقد تهاوت الأبنية الكلاسيكية مع التجارب الجديدة، وأصبح مسرح نعمان عاشور مسرحًا قوامه «الشخصية» وحدها لا البناء الدرامي؛ ولذلك تلتحم عناصر التراجيديا بعناصر الكوميديا في أعماله التحامًا يجعل من الصعب تصنيفها في إحدى خانات الدراما التقليدية. ويميل لطفي الخولي في «الأرانب» إلى قالب الفانتازيا الكوميدية التي تحله من الكثير من قيود المسرح الكلاسيكي، ولكنها لا تدخل به في نطاق الفارس أو الفودفيل. ويتجه سعد الدين وهبة ورشاد رشدي إلى «الاستعراض» بدلًا من بناء الأحداث والشخصيات والمواقف.
وبالرغم من أن المسرح المصري في نشأته الأولى يتفرع عن دوحة مصر العربي الذي أسسه مارون نقاش والقباني في سوريا ولبنان، إلا أن النهضة المسرحية في مدها وجزرها تركزت لأسباب عديدة في وحدها، وظلت بقية أرجاء الوطن العربي في أسر حركات الترجمة المخلة والتعريب المبتسر إلى وقت قريب. وعندما نشطت حركة الخلق المسرحي لم يتجسد في اللغة العربية إلا القليل النادر؛ إذ إن كاتبًا جزائريًّا مثل كاتب ياسين، أو كاتبًا لبنانيًّا مثل جورج شحادة، يكتب مسرحه بالفرنسية. بينما تقتصر الكتابة العربية على قلة نادرة تعد على أصابع اليد، مثل غسان كنفاني في مسرحية «الباب» وأنطوان معلوف في «بابل» وعبد الله القويري في مسرحياته القصيرة. ويغلب الإطار التاريخي على معظم هذه الأعمال، وتناقش في حدود هذا الإطار أحداث الحياة العربية المعاصرة. ويكاد ينحصر تأثير الثورة العربية التي انطلقت في مصر أولًا ثم تجاوزتها إلى بقية أنحاء المنطقة على المسرح العربي الجديد في أنه يستلهم ما يجري بالأرض العربية من ثورات في بعث «البطولة العربية» على خشبة المسرح. هذه البطولة التي تجمع بين الجذور القومية وما استجد في الحياة العربية الحديثة في وحدة درامية متكاملة أو قريبة من التكامل.
(٣) الشعر
لم يحدث صراع جادٌّ بين قديم وجديد في المسرح والرواية، طوال خطوات الثورة في المجال الاجتماعي. أما الشعر وقد رافقت نقطة تحوله الخطيرة بداية الثورة وإرهاصاتها فإن صراعا حادًّا هائلًا نشب بين المحافظين والمجددين أسفر في بعض الأحيان عن نتائج هامة. فالمسرح والرواية لا تراث حقيقي لهما فيما تركه السلف، بل هما من الأشكال الفنية المستوردة في جوهرها من الحضارة الفنية للغرب. أما الشعر فهو ديوان العرب كما يقال. هو فن راسخ في الأرض العربية منذ القديم، لنا منه تراث قرون وأجيال وأزمان. هكذا أقبلت مرحلة تحوله قبيل الثورة بقليل وبعدها بقليل، إيذانًا بمعركة ضارية بين الرجعية الأدبية وصفوف المجددين.
وأعتقد أنه من العبث أن نؤرخ للشعر العربي الحديث بقصيدة مفردة كتبها السياب أو الملائكة في العراق عام ١٩٤٧م؛ وإنما يجب أن نحدد هذا التاريخ بعد ذلك بخمسة أعوام على الأقل حين أصبحت هناك «حركة» شعرية حديثة لا تعتمد على استثناءات فردية، وإنما على «تيار» جماعي زاخر بالحياة والقدرة على الاستمرار. ويخيل إليَّ أن عام ١٩٥٢م الذي ظهرت فيه الأعمال المبكرة لعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب هو العام الذي يمكن أن يتخذ دليلًا على أن ثورة يوليو كانت نقطة انطلاق حضارية شاملة للمنطقة العربية كلها؛ ذلك أن الحضارة العربية — والشعر من معالمهما البارزة — كانت ترهص إبان هذه المرحلة الهادرة من تاريخها بثورة تتجاوز حدود الإطار السياسي إلى آفاق التكوين البشري العام.
وقد كانت ثورة يوليو عاملًا حاسمًا في حرث الأرض العربية لاستقبال بذور الشعر الحديث في شيء من الثقة والاطمئنان. فلقد كانت حصون الرجعية من الحكام والأنظمة الاجتماعية المتخلفة من العوائق الضخمة التي ارتفعت في وجه المجددين قبل الثورة باسم التقاليد العربية والتراث وأحيانًا الأصالة القومية والدين. حالت القوى الرجعية طويلًا بين ثورة الشعر الحديث ومنابر التعبير الجماهيرية، فامتنعت عليه الصحافة والإذاعة والندوات وأصبح مقصورًا على الهمس بين جدران البيوت الصديقة للشعر الجديد. بل كثيرًا ما طاردت بعض السلطات هذا الهمس حين بالغت القوى المحافظة في اتهام الشعراء الجدد بالاتهامات السياسية المختلفة.
ولقد ظلت هذه الاتهامات قائمةً بعد قيام ثورة يوليو، ولكنها لم تعد قادرة على سد الطريق أمام الشعر الجديد؛ إذ خصصت له المنابر الرسمية وغير الرسمية فرص التعبير القوي الحر. واستطاع هذا الشعر من جانبه أن يواكب انعكاسات الثورة على الوطن العربي والحضارة العربية فقدم تأكيدًا عمليًّا بذلك، على أنه أكثر طواعية وقدرة على التقاط أبعاد الثورة وتجسيدها وشحنها في الوجدان العربي. لم تكن القضية مجرد تغيير للشكل العمودي الصارم بأوزانه الخليلية وعروضه وأبحره، واستبدالها بالتفعيلة الواحدة. وإنما كانت القضية — على وجه التحديد — هي تغير المضمون الشعري واستلهامه قضايا العصر والمجتمع والحضارة بدلًا من البكاء على الأطلال التي غناها الشاعر القديم منذ مئات السنين.
ومضمون الشعر الحديث هو «الجديد» الذي هز عروش الرجعية الأدبية، ولم يكن الشكل الجديد إلا انعكاسًا حتميًّا لهذا المضمون الجديد. وإذا كان المحافظون قد تستروا خلف أردية الشكل المتوارث في الهجوم على هذا الشعر، فإنهم لم يغفلوا قط أن المضمون هو هدفهم، وأما الشكل فهو سلاحهم الذي يمكنه التأثير على الوجدان العربي وتقديسه للتراث. إن الصدق وحده هو الذي استوجب الشكل الجديد للمضمون الجديد. ولو أن هذا المضمون الجديد قد استطاع التعبير عن نفسه في الشكل الموروث، لقامت نفس المعركة الضارية بين الفريقين تحت أسماء وعناوين أخرى.
وهذا ما حدث بالفعل حين أشعلت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب نيران الفتنة الرجعية التي أثارها بيانها الشهير منذ عامين. وكانت التجربة الشعرية الجديدة قد تمكنت من إثبات وجودها بعد خمسة عشر عامًا من النضال المرير، ونجحت في تغيير الذوق العربي العام حتى يسيغ ما طرأ على بناء القصيدة العربية من تطورات، واستطاعت في النهاية أن تسحب الأرض من تحت كثير من الأقدام الراسخة في البناء التقليدي. وجاءت لجنة الشعر عام ١٩٦٤م وقد رأت الدولة تخصص مجلة شهرية للشعر العربي قديمه وجديده فراحت في بيان رجعي مدمر تتهم الشعراء العرب الحديثين بأنهم يعادون في شعرهم القومية العربية والإسلام، ولم يذكر البيان — ولو في كلمة واحدة — أن هؤلاء الشعراء خرجوا على عَروض الخليل، بل أمسك بأطراف القضية الفكرية مباشرة وقال إنهم يزلزلون مجموعة من «القيم» الباقية على مر العصور. أما أشكال التعبير — ويا للعجب — فإنها قابلة للتغير والتطور!
ولقد كان بيان لجنة الشعر في واقع الأمر انعكاسًا أيديولوجيًّا صادقًا لما تمور به أرض الواقع العربي من تطورات تستقطب الشعر الحديث في معظمه إلى جانب التقدم، كما تستقطب أعداءه في أغلبهم إلى جانب الرجعية. على أنه لا سبيل إلى إنكار ردود الفعل التي أصابت الحركة الحديثة في الشعر العربي بالمبالغة والتعسف. وذلك حين نذكر مجلة «شعر» التي صدرت في بيروت خلال سبع سنوات من ١٩٥٧م إلى تاريخ صدور بيان لجنة الشعر المصرية. كانت مجلة «شعر» تطرفًا عنيفًا إلى جانب الحضارة الفنية في الغرب فأثمرت تجارب في «قصيدة النثر» تبعد نهائيًّا عن الوجدان العربي الحديث وهموم الأجيال المعاصرة. وقد توقفت هذه المجلة — فيما أتصور — لأنها لم تستطع التعبير عن أعمق خلجات الحضارة التي نعيشها. كما توقفت مجلة الشعر القاهرية لطغيان الرجعية الأدبية عليها، ومبادرة السلطة الثورية إلى إيقاف المد الرجعي.
وفي موازاة تقدم الثورة وإنجازاتها المادية لم تعد هناك صراعات «شكلية»، بل تعددت ألوان الحركة الجديدة نفسها، وأمسى الشعر الجديد ميدانًا لعديد من التيارات الوافدة مع التحولات الثورية في أجزاء كثيرة من الوطن العربي. تطور الاتجاه الواقعي الاشتراكي عند بدر شاكر السياب (صاحب الأسلحة والأطفال، وحفار القبور، والمومس العمياء)، وعبد الوهاب البياتي (صاحب المجد للأطفال والزيتون، وكلمات لا تموت، وعشرون قصيدة من برلين) إلى اتجاه يمزج الحس الاجتماعي بالأشواق الميتافيزيقية، كما نلاحظ في «شناشيل ابنة الجلبي» للسياب، و«الذي يأتي ولا يأتي» للبياتي. وتطور الاتجاه القومي عند نازك الملائكة وأحمد حجازي إلى ما يشبه الصمت والعودة إلى الوراء عند نازك، والاندماج في تجارب ذاتية موغلة في التفرد عند حجازي، فما أبعد الشقة بين قصائد «مدينة بلا قلب» و«لم يبقَ إلا الاعتراف». وبينما نجد نفس المسافة عند شاعر آخر كصلاح عبد الصبور بين «الناس في بلادي» و«أحلام الفارس القديم»، نرى أن غلالة من الفكر هي التي تباعد بين المرحلتين في شعر صلاح عبد الصبور، غلالة تكسو في رفق ولين أعماله الأخيرة. ولعل شفافية هذه الغلالة تزداد كثافتها عند شاعرين من لبنان هما «خليل حاوي» و«أدونيس»؛ الأول يتخذ من قضية «الحضارة» عمادًا لبنائه الشعري، والآخر يتخذ من قضية «الوجود» نسيجًا لهذا البناء. الأول يسرف في التجسيد، والآخر يسرف في التجريد. وهما معًا يصوغان التجربة الشعرية في إطار من الرمز الأسطوري.
ولا تدل هذه التطورات الآخذة في الازدياد في حركة الشعر العربي الحديث، إلا على أن تفاعلها مع الثورة الحضارية المعاصرة هو تفاعل خصب وخلاق، يتجاور فيه السلبي والإيجابي، انعكاسًا موضوعيًّا لما يجري في أرض الواقع من ثورة مستمرة.
(٤) النقد والدراسات الأدبية
لعل ثورة يوليو لم تنعكس على فن من الفنون كما انعكست على النقد العربي والدراسات الأدبية. وربما كانت المعركة التي اشتعل أوارها حوالي عام ١٩٥٤م بين المحافظين والمجددين هي بداية الانعكاسات الثورية للتطور الاجتماعي على النقد الأدبي، والفن عمومًا. فلم يكن النقد إلا استيعابًا شاملًا للفنون الأدبية التي يقوم الناقد بتقييمها من قصة وشعر ومسرح. أي إنه إذا أثارت القصة الجديدة مشكلة العامية والفصحى، وإذا أثار الشعر مشكلة الشكل، والمضمون، فإن النقد الأدبي يحتوي هذه المشكلات جميعها، ويضيف إليها الإطار النظري الذي يحيط ما جسدته هي بالفن الخالق من قضايا. ومعركة ١٩٥٤م لذلك هي معركة فاصلة في تاريخنا الأدبي الحديث؛ لأنها أثمرت استقطابًا واضحًا في الفكر بين المحافظين والمجددين، كان يقود الفريق المحافظ الدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد، وكان يمثل المجددين محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ولويس عوض وحسين مروة وعلي سعد وغائب طعمة فرمان وصلاح خالص ومحمد مندور. كان النقد — مثل الشعر — من أكثر الأشكال الأدبية اهتمامًا بالمستوى العربي في طرح المشكلات؛ وبالتالي من أكثرها تأكيدًا على أن الثورة التي نعايشها هي ثورة حضارية شاملة لا ثورة سياسية فحسب، أو ثورة اجتماعية في مرحلة تالية. إن تطور الثورة من المستوى الوطني الذي يحرر المجتمع سياسيًّا، إلى المستوى الاجتماعي الذي يحرره اقتصاديًّا، إلى المستوى القومي الذي يطوره حضاريًّا، كان هو المحور الذي دارت من حوله معارك النقد الأدبي طوال الفترة الواقعة بين بداية الثورة وحلقات تطورها.
وقد تبلورت المعركة الأولى عام ١٩٥٤م في أن فريق المحافظين لا يرى غاية اجتماعية للأدب، وأن هذه الغاية إن وجدت فهي تهدد الجمال الفني بالانحدار. أما فريق المجددين فقد رأى أن الفنان ليس كائنًا معزولًا عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا بد له لكي يكون صادقًا أن يعكس الحياة التي تضطرم من حوله فيما ينشئه من آثار فنية. وإذا كان طه حسين قد شاء أن يحفظ للقضية الأدبية المثارة أصول المناقشة الموضوعية فاكتفى بأن يصف ما قال به محمود العالم من أنه «يوناني لا يقرأ» وأن يصف العمل الفني بأنه كالزهرة الجميلة تُمتع من يراها ومن يشمها دون أن تجيب أو تنتظر من يسألها عن سر جمالها وروعة عطرها، فإن العقاد شاء أن يحيل القضية إلى المستوى السياسي الصرف ليتمكن من أن يشهر السلاح السياسي في وجه خصومه من أبناء المدرسة الواقعية الجديدة.
وعلى غير هذا النحو ثارت نفس القضية بعد خمس سنوات حين صمت طه حسين وأمسى العقاد يقول كلامًا يرادف الصمت. ثارت القضية بين الدكتور محمد مندور من جانب، والدكتور رشاد رشدي من جانب آخر. ولا بد لنا في مناقشة هذه المرحلة من مراحل تطور النقد العربي من أن نقول إن انتصار المدرسة الواقعية لا يعني مطلقًا أن دعوتها قد خلت من الأخطاء. لقد رافقت نشأتها عيوب «رد الفعل» من المبالغة والحماس والتطرف. إذ أغفل الكثيرون من نقاد الاتجاه الواقعي أهمية الشكل الفني في توصيل المضمون الجيد، وسقطت من موازينهم بعض الاعتبارات الموضوعية التي لا يصبح الفن بغيرها فنًّا. وهكذا داهمتنا سيول من طوفان الأدب المزيف باسم الاشتراكية والنضال الاجتماعي، ممهورة بتوقيع كبار النقاد الواقعيين في مقدماتهم لعديد من الأعمال الهابطة فنيًّا. تغلب «العام» من شعارات سياسية وكليشيهات أيديولوجية على الصورة الفنية الموحية، وأصبح من الطبيعي أن تناقش المدرسة نفسها، أو أن تستعد للقاء رد فعل جديد لا يقل عنها مبالغة في الطرف النقيض من القضية. وظهر رد الفعل الجديد فيما كتبه الدكتور رشاد رشدي طوال عامَي ١٩٥٩ و١٩٦٠م من مقالات ترفض الوظيفة الاجتماعية للأدب، وترى العمل الفني كيانًا جماليًّا مستقلًّا عن صاحبه والظروف المحيطة به. بل إن الفن العظيم في رأيه، هو ما ازداد استقلالًا عن الكاتب ومجتمعه. وتتسم هذه المقالات بغير شك بكثير من الدقة والموضوعية لم تحظَ بها كتابات الرواد المحافظين عام ١٩٥٤م؛ فقد كانت استيعابًا متمثلًا لكتابات إليوت المبكرة في نظرية «البديل الموضوعي» في التجربة الأدبية. لذلك تصدى لها الدكتور محمد مندور تصديًا علميًّا دقيقًا دافع فيه عن الأصول العامة للنظرية الواقعية في الأدب. وتميز دفاع مندور عن النقد الواقعي بما لديه من حرص أصيل على جماليات العمل الفني فقد خلا هذا الدفاع من حماس السنوات الأولى للواقعية وتطرفها وجنوحها إلى العام دون الخاص. وأثمرت هذه المعركة بالرغم من كل ما شابها في بعض الأحيان من حدة وعنف، انتصارات جديدة للاتجاه الواقعي لا ريب في أهميتها يمكن إيجازها في تأصيل الوحدة الدينامية بين الشكل والمضمون في الأثر الفني.
غير أن المعارك لم تكن تشكل إلا وجهًا واحدًا للنقد الفكري الذي تضطرم به الأرض الاجتماعية للثورة، فقد كان هناك وجه آخر يضطرم بالصراع هو الآخر، حينًا بين أسوار الجامعات، وحينًا آخر، هو الصراع على صفحات المجلات الأدبية أو الجرائد اليومية. فلا شك أن مؤلفات عبد الحميد يونس «الأسس الفنية للنقد الأدبي» وشكري عياد «البطل في الأدب والأساطير»، وعبد المحسن طه بدر «تطور الرواية العربية في مصر» من أعمق ما أخرجه لنا النقد الجامعي المتقدم. ولا شك أيضًا أن هناك مؤلفات أخرى لأساتذة من أمثال محمد حسين وعمر الدسوقي تتسم بضيق الأفق والتخلف على أحسن الفروض، وتعبر عن الرجعية الأدبية الجديدة في نفس الوقت. على أن هناك فريقًا جامعيًّا ثالثًا يتخذ موقفًا وسطًا متلفعًا بثياب الأكاديمية، كما يبدو في مؤلفات شوقي ضيف وسهير القلماوي ومصطفى ناصف وعز الدين إسماعيل.
ولكن عددًا من الأكاديميين دفعته الثورة العربية إلى أن يهجر الانحصار بين أسوار الجامعة مثل الدكتور عبد القادر القط في مقالاته بالصحف والمجلات وكتاب «في الأدب المصري المعاصر» الذي اتخذ فيه موقفًا تقدميًّا من قضايا الأدب والمجتمع. وكذلك أنور المعداوي الذي تطور من المرحلة الرومانتيكية في كتابه «علي محمود طه» إلى موقف الناقد الملتزم في مجموعة مقالاته التي نشرها بعد ذلك.
وتقف الصحافة من النقد الأدبي موقفًا يرتفع أحيانًا إلى مستوى المسئولية؛ إذ أصبح لكل صحيفة ناقدها، وبالرغم من الاختلافات الفكرية الواسعة بين نقاد الصحافة إلا أنهم يشكلون بهذه الاختلافات منبرًا قويًّا للفكر العربي يعكس كافة الصراعات الحية في باطن المجتمع.
لقد أبرزت ثورة يوليو جيلًا كاملًا من النقاد الشباب، وأتاحت فرصة التعبير الحر لمختلف المدارس النقدية. وكان من النتائج الأساسية لهذه الحرية أن ازدهرت حركة النقد العربي ازدهارًا لم يسبق له أن كان ظاهرة حضارية شاملة في تاريخنا الأدبي الحديث، بالرغم من كل ما يعلق به من شوائب الانفعالات الشخصية والأقلام السطحية المغامرة.
وليس من اليسير في النهاية أن نرصد انعكاسات ثورة يوليو على الأدب العربي دون أن نقع في كثير من التعميمات التي قد يغتفرها القارئ، إذ إن في هذه الكلمات مجرد خطوط عريضة أو إشارة تحدد اتجاه السهم.