قبل وبعد …
(١) نظرات في مسرحنا المعاصر
(١-١) الفرافير … وسقوط الحائط الرابع
لا شك أن بلادنا تمر بما يمكن تسميته «الدورة المسرحية»، وهي المرحلة التي تنشط فيها فنون الدراما بعد طول ركود. ولا شك أيضًا أن الكثير مما يقدم على خشبة المسرح المصري لا يمت بسبب من الأسباب إلى المسرح المصري. فإذا جاء ألفريد فرج ليقدم لنا من كنوز التراث العربي القديم شيئًا جديدًا، وإذا جاء سعد الدين وهبة ليجعل من المسرح شيئًا قريبًا من الفن التشكيلي؛ ففي كوبري الناموس «اعتمد بصورة أساسية على اللوحات الفنية أكثر من اعتماده على الصراع الدرامي، وإذا جاء اليوم يوسف إدريس ليحول «السامر» المصري في الريف إلى حركة درامية على خشبة المسرح بالمدينة …» إذا حدث ذلك كله، ينبغي أن نؤكد ميلاد مسرح قومي في بلادنا، مسرح يضيف إلى الوجدان المصري ما حرم منه طويلًا في ظل التقاليد الأجنبية في المسرح.
لا يعني ذلك أن الحركة المسرحية الناشئة لا تستفيد من تقاليد الدراما الغربية القديمة والمعاصرة على حد سواء … بل يعني في وضوح أن الإفادة هي انصهار التراث العالمي في بوتقة المجتمع المصري والفنان المصري، والنتيجة هي ظهور مسرح مصري لحمًا ودمًا وإن امتزجت في دمائه عناصر عديدة من التراث الإنساني.
بهذه المقدمة، أريد أن أحيي المجهود الذي قدمه يوسف إدريس على خشبة المسرح القومي باسم «الفرافير»؛ فهي أجرأ المحاولات؛ لأن صاحبها استطاع أن يمزج التراث المسرحي العالمي منذ الدراما اليونانية القديمة إلى أحدث صيحة في المسرح الأوروبي المعاصر، وأقول: كانت هذه المحاولة أكثر توفيقًا من غيرها، لأنها استمدت جذورها من أعماق التراث الشعبي في الريف المصري.
إنني أميل إلى تعبير سيمون دي بوفوار «الأدب الميتافيزيقي»، الذي لا تقصد به الأدب المثالي أو الأدب المنشغل بما وراء الطبيعة … وإنما هو الأدب الذي يناقش قضايا المجتمع والوجود في إطار من التجريد الكلي البعيد عن جزئيات الحياة اليومية. على هذا تصبح رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» ومسرحية يوسف إدريس «الفرافير» من الأدب الميتافيزيقي. بل إن بين رواية محفوظ ومسرحية إدريس أكثر من وجه للمقارنة. فالبناء الروائي في «أولاد حارتنا» يعتمد على تتبُّع المجتمع البشري منذ المرحلة البدائية إلى العصر الحديث. وهكذا «الفرافير» فهي تعتمد على تطور المجتمع الإنساني حتى عصرنا الحاضر. ومن ناحية أخرى، فإن العملين يناقشان بالتعبير الفني علاقة المطلق الإلهي بالإنسان، فبينما يدعوه نجيب «الجبلاوي»، يسميه يوسف «المؤلف الأول». على أن رواية محفوظ ومسرحية إدريس يختلفان بعدئذٍ في التفاصيل التي تؤدي بدورها إلى نتائج متباعدة. فنجيب محفوظ متفائل من انتصارات العلم والاشتراكية، ويوسف إدريس حائر وقلق ومعذب، وهو يدعو الإنسانية كلها إلى البحث عن حل.
وتبدأ الفرافير بأن روايةً ما، يزمع تأليفها أمامنا «المؤلف الأول»، بل إن هذا المؤلف قد ألفها بالفعل ووزع الأدوار على الممثلين هكذا: هناك العبد «فرفور»، وهناك السيد، وعلى العبد أن يطيع السيد في كل ما يأمره به. ويبدأ الحوار بين الاثنين على طريقة السامر المصري، فيطلب السيد من فرفور أن يبحث له عن اسم، وينتهي بهما الأمر إلى الاكتفاء باسم السيد. ثم يطلب إليه أن يبحث له عن عمل … وهنا يعمد يوسف إدريس إلى تطوير القافية المصرية فيوفَّق في أجزاء منها ويخفق في أجزاء أخرى. فالفرفور يستعرض كافة الأعمال والوظائف والطوائف، ويسخر منها جميعًا، ويدمغ بعضها بالفساد. وهذا هو منهج المؤلف على طول المسرحية في نقد المجتمع المصري المعاصر؛ فهو يعتمد على القفشات السريعة، ولا يجعل من هذا المجتمع محورًا دراميًّا أساسيًّا، وإنما المجتمع الإنساني الأشمل هو المحور الحقيقي. ثم يطلب السيد من فرفور أن يبحث له عن زوجة. وهنا يسقط الحائط الرابع أو يزول الحاجز بين الممثلين والجمهور. ويختار فرفور لسيده زوجة هي إحدى الجالسات في صفوف المتفرجين (هي إحدى الممثلات طبعًا) … ونفهم أنها سيدة متحررة ومن أسرة راقية، ثم نفاجأ بدخول الزوجة الأولى للسيد، فيشتد الصراع بينها وبين الزوجة الجديدة، إلى أن تدخل زوجة فرفور فيبطل هذا الصراع ليبدأ صراع جديد بين فرفور وزوجته، وينتهي الأمر بأن يصبح السيد زوجًا للاثنتين، وأن يظل فرفور زوجًا للسيدة الفقيرة «المشاغبة» التي لا تفتأ تردد مطالبها اليومية في سوقية وسيادة.
ويبدأ فرفور والسيد في ممارسة عملهما «دفن الموتى»، ولكنهما لا يجدان من يدفنانه، ثم يصل أخيرًا من باب المسرح «الصالة» رجل يريد أن يموت. إنه يعرض عليهما رقبته مجانًا. ويحاول كلٌّ منهما أن يترك هذه المهمة للآخر دون جدوى. ويستقر الأمر على أن يقوم السيد بعملية القتل. وحينئذٍ يثور فرفور على «الفرفورية» ويترك سيده، وينتهي الفصل الأول دون أن يسدل الستار.
فإذا أضيئت الأنوار معلنة الفصل الثاني، نعلم أن فرفور جال في طول البلاد وعرضها مع آلاف من السادة … وها هو ذا أخيرًا يتاجر بالضمائر الفاسدة والقيم الخربة وما إليها من بضاعة العصر العبودي. ونعلم أن نفوذ «المؤلف الأول» بدأ يتضاءل حتى تلاشى تمامًا. الحل إذن أن يؤلفا رواية جديدة. ويدهش السيد من اقتراح فرفور، ويصعق من الدهشة مرة أخرى حين يؤلف فرفور الرواية على أساس تبادل الأدوار فيصبح السيد فرفورًا والفرفور سيدًا.
ويبدآن في ممارسة أدوار الرواية الجديدة فيفشلان لأن السيد القديم لا يقوى على ممارسة عمل الفرافير، إلا أن الفرفور كان قد تمثل دور السيادة ومارسها بأبشع مما كانت عليه في عهد السيد القديم. ولذلك يقرران أن يعملا معًا — جنبًا إلى جنب — كفرافير؛ أي لا سادة هناك، وإنما فرافير فقط. وتأتي جنازة أحد الموتى، فيختلفان حول من يتكلم معه، ويصر الميت أن يتكلم مع «المعلم» لا مع «الصبي» ولكنهما يؤكدان له أنهما يعملان سويًّا فلا معلمين هناك ولا صبيان. وعندئذٍ يتركهما الميت إلى غيرهما. ومن ثم يفشلان في دورهما الجديد، فيقرران أن يشتغلا — على النقيض من الدور السابق — سيدين: الفرفور سيد، والسيد كما هو. ونرى الفرفور مُجدًّا في العمل، بينما السيد يتباطأ ولا يعمل، ولا شأن لأحدهما بالآخر. وهنا تصيح زوجة الفرفور وزوجتا السيد وأطفالهن بأنهن يردن الخبز وأن «الإضراب» الذي عمد إليه كل من السيد والفرفور، سوف يتسبب في دمار الأسرتين.
ويتفتق ذهن فرفور عن فكرة جديدة، هي أن يكونا «دولة» أو إمبراطورية، هي «فرفوريا العظمى» … ويلجأ يوسف إدريس إلى هذا الاقتراح لكي ينقد بصراحة وجرأة أدران مجتمعنا. ومرة أخرى تفشل الدولة في تحقيق المساواة بين الفرفور والسيد؛ وذلك لأن السيد يستولي على أجهزة الإعلام، وبواسطتها «يتسيد» على الفرفور من جديد. فبالرغم من أنهما يعملان معًا على قدم المساواة في خدمة الدولة، وبالرغم من أن الدولة تملك كل شيء، إلا أن الفرفور ليس لديه الاستعداد الذاتي لإدارة أجهزة الدولة. فيتقدم السيد بما لديه من خبرة سابقة ويدير هذه الأجهزة، ويدير معها — بطبيعة الحال — الفرفور. ويختل ميزان المساواة من جديد.
الحل الجديد هو دولة الحرية. ويهتف السيد والفرفور للحرية. ثم يفاجأ الفرفور بأن عنقه معلَّق أمامه في إحدى مشانق دولة الحرية. وتفشل حرية المشانق هي الأخرى في تقديم الحل الحقيقي للأزمة.
ماذا إذن؟ إذا بقي الفرفور فرفورًا والسيد سيدًا بقيت الأزمة، وإذا تبدل الأمر فأصبح الفرفور سيدًا والسيد فرفورًا لم يتبدل الوضع في جوهره. وإذا أصبح الاثنان فرفورين بقيت الأزمة، وإذا تحولا إلى سيدين بقيت الأزمة. ما الحل إذن؟
إن يوسف إدريس لا يقدم الحل، بل يطالبنا به. إنه يرتعد من أن يكون «العلم» إلى جانب هذا الوضع المعقد، فإذا انتحر كلٌّ من السيد والفرفور، وتحولت جثتاهما إلى ذرات بقيت ذرات السيد هي الذرات الثقيلة التي تدور من حولها ذرات الفرفور الخفيفة، ويقهقه السيد قائلًا: إن هذا هو الوضع الأبدي لهما معًا.
من اليسير بالطبع أن نحكم على مؤلف هذه المسرحية بالتشاؤم … ففي الوقت الذي تسود فيه الاشتراكية نصف العالم تقريبًا، وفي الوقت الذي تدخل فيه بلادنا مرحلة جديدة من تطورها، يأتي الدكتور يوسف إدريس ليقول بأبدية العلاقة بين السيد والمسود. إذن فهو متشائم. وأعتقد أنه حكم سريع لا يحتضن العمل ككل، وإنما يلتقط جزئيات صغيرة منه.
-
تقول: إن البحث عن حل معناه التساؤل المستمر عن طبيعة العلاقة الاجتماعية بين البشر. فلا شك أن القدرات الذهنية والعضوية والنفسية تختلف من فرد إلى آخر، حتى في ظل الاشتراكية. ولهذا كانت المشكلة هي مشكلة «العلاقة» بين أصحاب القدرات الأقوى وبين أصحاب القدرات الأضعف. وليست المشكلة هي أبدية هذه العلاقة؛ لأننا لا نزال نطالب بحل. والمطالبة بالحل تفاؤل صريح.
-
البحث عن حل هو محاولة إيجاد «نظرية» للرؤية الصحيحة الصادقة لواقعنا المحلي. فالبحث عن حل هو البحث عن نظرية. والنظرية شيء مختلف عن المنهج. فالمنهج العام الشامل ربما كان موجودًا، ويوسف إدريس أحد الذين يعرفونه جيدًا ويطبقونه جيدًا. ولكننا في مرحلة «استنبات» نظرية خاصة بنا من هذا المنهج العام. فالمنهج العام هو القوانين العلمية الشاملة للكون والعالم. والنظرية الخاصة هي التفسير المنهجي لواقعنا المحلي على ضوء حركة التاريخ في بلادنا، وما يطالب به يوسف إدريس هو هذه النظرية الخاصة. ومعنى ذلك أننا بلغنا مرحلة عالية من النضج إذ نحاول رؤية واقعنا بصدق وبلا تزييف. فالمحاكمة التي أقامها يوسف للمذاهب الكبرى التي حاولت «حل» المأساة البشرية، لا يقيمها لهذه المذاهب في حد ذاتها، وإنما في تصور أن هذه المذاهب حلول جاهزة لمشاكلنا، والحلول الجاهزة عنده حلول سريعة ومبتسرة.
-
كان للفنان موقف اجتماعي محدد: أنه ضد سيادة أحد على أحد وضد عبودية أحد لأحد، وضد توقف العمل الإنساني من أجل سعادة البشر. كذلك كان المؤلف ناقدًا نافذ البصيرة لمختلف أمراضنا الاجتماعية. فهو يدين المجتمع ككل في محاولة طوائفه المختلفة أن تلقي مهمة التغيير على الطوائف الأخرى. وهكذا.
-
وكان للفنان موقف فلسفي محدد: هو أن المجتمعات العبودية كانت بحاجة إلى القوة الميتافيزيقية أكثر من غيرها. كانت هذه القوة هي الحل، ثم بدأ نفوذ هذه القوة يتلاشى رويدًا رويدًا، وعندئذٍ بدأ الإنسان يعتمد على نفسه. وهنا بدأ الصراع في النفس الإنسانية بين الفرفورية والسيادة. ولم يعد الحل كامنًا في قوةٍ عليا، وإنما هو يكمن في العقل الإنساني والطاقة البشرية وحدهما.
المسرحية إذن ليست مسرحية متشائمة، ولكنها مسرحية «حائرة» تغرس القلق الحي الخلاق في نفوس البشر، بدلًا من النعاس والاستسلام. إن الحلول الجاهزة هي مخدرات لا تقل خطورة عن حلول المؤلف الأول. وهناك فرق شديد بين اليأس والقلق. إن يوسف إدريس فنان قلق. وقد نجح في أن يخلق من قلقه الخاص، قلقًا عامًّا بين أبسط الجماهير.
قلت: إن يوسف إدريس قد أفاد من اتجاهات عديدة في المسرح منذ الدراما اليونانية إلى الدراما الأوروبية المعاصرة؛ فقد أفاد من اليونان «الكورس» الذي يشترك مع شخصيات المسرحية في إضفاء «جو خاص» يوحي بأن ثمة ممثلين آخرين غير الواقفين على خشبة المسرح، ولا شك أن فرقة الكورال التي قامت بأداء «الكورس» كانت في منتهى التوفيق والإجادة. وقد أفاد إدريس أيضًا من مسرح بريخت الذي يكسر الإيهام ويشرك الجمهور في الأحداث الجارية على خشبة المسرح، سواء بتوجيه الحديث المباشر إليهم، أو باعتبارهم جزءًا لا ينفصل من الأحداث الجارية على خشبة المسرح. أفاد المؤلف أيضًا من مسرح لويجي براندللو، خاصة من مسرحيته «ستة شخصيات تبحث عن مؤلف»؛ فهو يجعل الصالة جزءًا من خشبة المسرح يمكن للممثلين أن يروحوا ويجيئوا بين الجماهير. وكانت الإفادة الكبرى ليوسف إدريس من «السامر الشعبي» في ريف مصر وهو ما يعرف بالمسرح المرتجل؛ أي إن الحاضرين يوزعون الأدوار الفورية على أنفسهم وينطقون حوارًا غير معد من قبل. وهو مسرح يعتمد على البديهة الحاضرة، والتلقائية في التعبير عن النفس ومشاكل المجتمع بين الفلاحين. ومن التراث الشعبي أسهم يوسف في تطوير القافية المصرية والقفشات.
وكما قلت: إن انصهار هذه العناصر جميعها في بوتقة المجتمع المصري أعطاها نكهة خاصة تجعل من المسرحية كلها ملكية خاصة ليوسف إدريس، أقول ثانية إن الإطالة في بعض الأجزاء كعلاقة فرفور بزوجته، والمبالغة في أجزاء أخرى كمجموعة القفشات حول طوائف الشعب المصري والتكرار في بعض المواضع كالميت والمنتحر، والتركيز على مشاهد ثانوية من حيث الجوهر كعلاقة السيد بزوجته وأولاده … هذه كلها كانت من العوامل التي أدت إلى التقليل من الأثر العام للمسرحية عند التفكير فيها أو عند مشاهدتها مرة أخرى.
(١-٢) الأرانب … بين الفانتازيا والواقعية
عندما نلاحظ ظاهرة جديدة في حياتنا الأدبية والفنية، يجب أن نلتزم الاحتياط والحذر التام في معالجتها، فربما كانت الظواهر الجديدة بالذات في حاجة شديدة إلى ما يشبه الموضوعية الكاملة، فلا ننحاز بالتعصب والتزمت إلى النتيجة التي نصل إليها … وإنما علينا أن نكتفي بتحليل الظاهرة أو تشخيصها دون التورط في أحكام نهائية؛ ذلك أن الأحكام شيمتها أن تؤدي إلى مواقف مأزومة من جانب صاحب أو أصحاب الظاهرة المطروحة للبحث.
ومسرحية «الأرانب» التي قدمها مسرح الحكيم، من تأليف لطفي الخولي الذي سبق له أن قدم لنا فيما مضى مسرحية «القضية» التي تميزت بالهدف الاجتماعي الواضح والمعالجة الفنية الجادة مهما شابها من عيوب المحاولات الأولى؛ فقد كانت «القضية» هي المسرحية التالية للمؤلف بعد مسرحية «قهوة الملوك» … والملاحظة الأولى الجديرة بالنظر أن المؤلف في كلتا هاتين المسرحيتين كان دءوبًا على توضيح هدفه الاجتماعي خلال الشكل الدرامي الذي يشابه الأشكال التي عُرضت علينا في السنوات الأخيرة على أيدي أدبائنا الشبان.
والأرانب من هذه الزاوية هي امتداد للتأليف الاجتماعي في المسرح المصري … إذ هي تعالج مشكلة «حرية المرأة» كما تنعكس على وحدات من الفئات الاجتماعية المختلفة. ومنذ البداية اعترض على ما يقال من أن الجانب الجنسي هو نقطة الضعف في المسرحية؛ ذلك أن المؤلف لم يناقش قط قضية «جنسية» بالمعنى المألوف، وإنما جاءت الإشارات إلى الجنس كديكور سيكلوجي يحيط المسألة الجوهرية بشيء من «الجو» الذي يؤكد واقعيتها.
وصفة الواقعية تجرنا إلى هذا السؤال: إلى أي مدى يمكن القول بأن الأرانب تعالج من وجهة نظر واقعية مشكلة حرية المرأة؟ يفتح الستار على ضجة ساخرة من النقد والنقاد. والحق أن السخرية من النقد ليست شيئًا جديدًا على الأدباء والفنانين. وربما كان أحدثها في أوروبا ذلك النقد الممتاز الذي جاء في مسرحية قصيرة ليوجين يونسكو؛ فقد أحسسنا بجدية واضحة في مناقشة النقد الذي فوجئ باتجاه مسرحي جديد فحاكمه بمقتضى القيم القديمة في المسرح التقليدي. أما لطفي الخولي فالأمر على خلاف ذلك تمامًا، إنه يكيل مجموعة من الشتائم في بداية المسرحية ومجموعة مماثلة عند نهايتها دون أن نعرف لماذا. يتوجس من النقاد وهو لم يأتِ بجديد يذكر يمكن للنقاد الكلاسيكيين أن يتورطوا في تقييمه بأدوات النقد المسرحي التقليدية؟ بعد هذه المجموعة من الشتائم في المقدمة التمهيدية لفتح الستار نبدأ جولتنا مع المسرحية: الفصل الأول يقدم لنا المشكلة منذ البداية. لقد تزوج الأستاذ أسامة المحامي من الأستاذة قسمت المحامية بعد قصة حب. وبالرغم من أن هذا الحب نما وترعرع أثناء عملهما المشترك بإحدى الشركات، إلا أن الزوج آثر أن يحبس زوجته بين جدران البيت بحجة أن أصدقاءه يعايرونه بأنه يترك زوجته تعمل وأن ترقياته إنما تجيء عن طريقها؛ فهي تعمل في مكتب المدير. وتثور قسمت ثورة عنيفة على هذا الوضع الجديد الذي فوجئت بنفسها فيه.
في نفس الفصل نتعرف على أحد الأطباء الباحثين هو الدكتور يونس، إنه أحد أقرباء قسمت، وهو يعيش على أمل أن تنجح تجربته المعملية في تحويل ذكور الأرانب إلى إناث … وبالعكس حتى يمكن في المستقبل أن يطبق اليونسيزم على البشر فيتحول الرجل إلى امرأة وبالعكس، كلما أراد أحدهما ذلك.
وفي نفس الفصل نتعرف على أحد المشايخ من جيران أسامة وقسمت، إنه يمنع ابنته من تكملة دراستها العالية في الجامعة أو سفرها في بعثة لدراسة الذرة لمجرد أن عليوة ابن الجزار قد خطبها … ونرى زوجة الشيخ تقف إلى جانب ابنتها بصلابة غريبة كما تقف قسمت والدكتور إلى جانب الفتاة أيضًا، أما أسامة فهو حائر مضطرب يؤيد الشيخ في باطنه ويتردد كثيرًا في إعلان ذلك.
فإذا كان الفصل الثاني أضاف المؤلف شخصيتين جديدتين هما: نافع بائع الفول ونوال بائعة الفلافل، فهما يتفقان على فتح دكان مشترك، وهما يحضران إلى أسامة بصفته محاميًا لكتابة العقد المطلوب. ويدهش أسامة كثيرًا حين يستمع إليهما يطلبان من العقد أن يسوي بينهما تسوية مطلقة. وفي نفس الوقت يكون الدكتور يونس قد نجح في تجاربه المعملية؛ ولهذا يقترح على أسامة وقسمت أن يحقنهما بنفس المصل الذي يحقن به الأرانب … فربما نجح في ذلك.
ويحقنهما بالفعل، ويتحول أسامة إلى أنثى، وتتحول قسمت إلى رجل، وتمارس قسمت في أسامة كافة وسائل التعذيب التي كان يستخدمها معها، فتجعله يقوم بتركيب الزراير، ولا تسمح له بالخروج من البيت حتى يكاد يجن، وأخيرًا يثور. وعندما يثور ويسدل الستار على الفصل الثاني تكون النتيجة التي أرادها المؤلف والدكتور قد تحققت.
لهذا يفتح الستار عن الفصل الثالث على جميع الأنماط البشرية التي عرضها المؤلف في الفصلين السابقين. بالإضافة إلى أن أنباء الصواريخ والصعود إلى القمر كانت تتوالى انتصاراتها. حينئذٍ يحقن الدكتور أسامة وقسمت بمصل مضاد يعيدهما إلى الجنس الأصلي لكل منهما بعد أن تأكد أسامة عمليًّا أن فكرة «السجن في البيت» فكرة قاتلة. وكذلك يضطر الشيخ إلى التوقيع على أوراق ابنته «أماني» لتسافر إلى البعثة، ويتناول نافع ونوال صورتَي العقد الذي يسوي بينهما.
-
إن قطاعًا من المثقفين لا يزال كافرًا بحرية المرأة، وإنه لا يستفيد من التجارب اليومية التي يعيشها مجتمعنا.
-
إن الوسيلة الناجعة لإقناع هذا القطاع الرجعي بحرية المرأة، هي أن يعاني شخصيًّا معنى العبودية والسجن في البيت.
-
إن الطبقات الشعبية أكثر تقدمًا — من بعض الزوايا — في هذه القضية، فبالرغم من أن الشيخ المأذون كان رجعيًّا إلا أن زوجته كانت على درجة عالية من النضج والتقدم … كما أن نافعًا بائع الفول كان أكثر تقدمًا من أسامة المحامي بالرغم من تردده فترة قصيرة من الوقت.
-
اعتمد المؤلف على التقابل والتناقض سواء في الحوار أو المشاهد … كان الحوار مليئًا بالمفارقات اللفظية، كما جاءت المشاهد مليئة بتناقضات المواقف … مما جعل من الفكاهة الساخرة الأداة الرئيسية في يد المؤلف.
-
اعتمد المخرج على الأضواء والظلال في كثير من النقاط الهامة، وقد ساعده المؤلف في حكاية الحب الذي نشأ بين أسامة وقسمت.
-
اعتمد الممثلون على الحركة داخل نطاق النص وتعليمات المخرج. والحق أننا نظلم المؤلف كثيرًا إذا قلنا بانعدام وجود مشكلة «حرية المرأة» في بلادنا … ولكنا نظلم أنفسنا أيضًا إذا قلنا بأنها إحدى المشكلات الرئيسية التي يواجهها مجتمعنا الراهن … والمفروض في العمل المسرحي أن يجسد لنا قضية حيوية أو مشكلة فكرية أو نمطًا بشريًّا … ولا شك أن حرية المرأة أصبحت من بديهيات عصرنا بالرغم من الرواسب المريرة التي قد تتركها المشكلة في وجداننا.
أما علاج المشكلة الذي قال به لطفي الخولي فهو بعيد كل البعد عن روح العلم، بالرغم من أنه جعل من التجربة المعملية أساسًا للحل. فالعلم بالنسبة للمشكلات الاجتماعية ليس هو المعمل، وإنما هو التعرف البصير على الظروف السيئة التي أنبتت المشكلة. في بلادنا بالذات، نرى أن التصنيع قد أسهم في تغيير العلاقات الاجتماعية تغييرًا كبيرًا بحيث إن خروج المرأة من البيت أصبح ضرورة حتمية قد ينزعج منها الإنسان الرجعي، ولكنه لا يملك إلا الاعتراف العملي بواقعيتها.
ولقد كان من النتائج الطبيعية لتصور المؤلف لهذه المسألة فنيًّا أن جاءت فكرة التحول من الذكورة إلى الأنوثة وبالعكس فكرة خيالية غير مقنعة، بالرغم من أن أمثال هذه القضايا في حاجة شديدة إلى الإقناع والواقعية. ولهذا السبب لم يعد أمام هذه الفكرة من وظائف إلا إضحاك الجماهير مما يصيب الرجل الأنثى من مظاهر الحمل … وتتلاشى نهائيًّا الوظيفة الأساسية للفكرة من أن حرية المرأة حق بديهي يوفر لها وللزوج وللمجتمع، الراحة النفسية المبتغاة.
على أنه لا يفوتني التنويه بشخصيتين رسمهما المؤلف في إطار ممتاز هما: شخصية المأذون وشخصية الطبيب. لقد استطاع لطفي الخولي أن يحيط إحاطة بالغة الروعة بجوهر هاتين الشخصيتين لا من خلال الحوار البارع بينهما وبين بقية الشخصيات فحسب، بل من خلال تكوينهما الذاتي الذي ينضح بالمفارقة … غير أن الصياغة الجيدة لشخصية أو اثنتين لا تحقق شيئًا ما دامت بمعزل عن الصياغة الدرامية الشاملة.
ولقد جاءت الصياغة الدرامية الشاملة للأسف مفتقرة إلى البعد عن الصراخ والمباشرة والتقريرية. كان الحوار في كثير من مقاطعه صارخًا بالتقرير والهتاف، وكانت الفكرة الرئيسية تقريرًا مباشرًا كذلك. ولربما قيل إن «أدب المعارك» يستوجب ذلك، يستوجب أن يجتمع المؤلف بجمهوره ليخطب فيهم … ولكني أقول: إن هذا اللون من الأدب قد انتهى وإن مؤلف الأرانب نفسه قد شارك في إنهائه منذ وقت طويل.
(١-٣) رحلة خارج السور أم خارج المسرح
منذ البداية أريد أن أتساءل: إلى متى سنظل في نقدنا للمجتمع أسرى المرحلة التاريخية السابقة على الثورة؟ إن مضيَّ اثني عشر عامًا، خلقت جيلًا جديدًا، فيما أعتقد، كفيل بأن يزحزحنا قليلًا عن مجتمع منهار، وكفيل بأن يبصِّرنا بأوضاع المجتمع الجديد الذي نبنيه بالصواب كما نبنيه بالخطأ. فالتجربة الثورية بين الصواب والخطأ مليئة بالمشكلات الحية الجديرة بأن تخلق فنًّا رائعًا. إن فنانًا عظيمًا كنجيب محفوظ كان في منتهى الصدق مع النفس حين أمسك قلمه ليكتب مرة أخرى بعد الثلاثية، ولم يجترَّ الماضي، بل درس الحاضر جيدًا، واستلهم شجاعته العملاقة في تشريح المجتمع وتحليله.
وفي المسرح كان توفيق الحكيم يرتاد تجارب جديدة في الشكل والمضمون — سواء كانت خاصة بالمجتمع أو بالإنسان عمومًا — ولكنه لم يتوقف قط عند حدود الأسوار القديمة للمجتمع البائد.
ورشاد رشدي أحد أولئك الكتاب الذين يهربون من الحاضر إلى الماضي … بينما نجد كاتبًا شجاعًا كيوسف إدريس استطاع في الفرافير أن يحقق نجاحًا لأنه واجه مجتمعنا المعاصر مواجهة جريئة. فالماضي أصبح موضوعًا مبتذلًا مستهلكًا، ومع ذلك فهو المادة الخام لمسرحية «رحلة خارج السور» … فعم كامل لم يقتل زوجته، بل هي انتحرت من تلقاء نفسها، ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يقنع أحدًا ببراءته، حتى أقرب الناس إليه؛ لذلك يعيش في برج من الماضي وذكرياته. كذلك الابنة (زاكية) التي فقدت ابنتها الوحيدة وهي تلعب الكرة، فأصيبت بالجمود والثبات في صورة ابنتها وهي تلعب الكرة «واحدة خضرة وواحدة حمرة». وهكذا أيضًا المهندس فريد، الذي يرى أن عوامات الكوبري فاسدة ولا بد من أن تتغير حتى لا يسقط بعد بنائه، ولكنه يواجه بسور ضخم من المصالح والرشاوي والذمم الخربة.
هذه هي القضية التي يناقشها المؤلف في ثلاثة فصول: الأول تظهر فيه جميع الشخصيات تقريبًا بلا همزات وصل بين أي منها والأخرى: «زاكية» في عالم طفلتها المفقودة، وعم كامل يطلب البراءة المحكمة، وأبو العيون يسامر الخادم سندس مردِّدًا: «هم جالوا يا وله». ومحاسن تعيش في وهم إسماعيل الشاب الطويل الأسمر الذي يملك عربة تتنزه بها كما تشاء، وشهيره تبدو من أعلى تخاطب أبا العيون قائلة إن حبها له كالخاتم الذي في يدها بلا بداية أو نهاية. وكريمة تحلم بأحضان سعيد الذي يهرب منها إلى صابرة وحياة التهريب … وحامد الذي يحلم ويحلم ويحلم. وفريد الحائر بين ضميره والكوبري والعوامات. فإذا أسدلت الستار، فتحت مرة أخرى على مجلس كبار المهندسين الذين جاءوا لسماع تقرير المهندس فريد. وبدلًا من تحقيق هذا الهدف، نرى كلًّا منهم يعيش في عالمه الخاص: فهذا يدافع عن السراي، وهذا يدافع عن الحزب، وذاك يدافع عن نفسه؛ ومن ثَم ينتهي الجميع إلى قرار بالإجماع يقول: إن العوامات فاسدة، ولكنها تصلح! وفي وسط هذا الجو الكاريكاتوري، يبرز أحد المهندسين — هو حسن البارودي — ليصرخ بين الحين والآخر: المهم الأخلاق، سواء كانت العوامات فاسدة أو صالحة، وسواء كان شريف سامي لصًّا أو غير ذلك، وسواء كان فريد ابن ناس أو لم يكن … أما الفصل الثالث فهو لقاء جديد بين شخصيات الفصل الأول، ولكن على نحو آخر؛ فالديكور هو أهالي البلد الذين يهتفون بفريد أن يخلصهم مما هم فيه من عذاب، متوهمين أنه هو الذي تسبب في هذا العذاب «ومصالح البلد اللي عطلانة» ولكن «سعيد» الذي كان قد قبض عليه يعود إلى المنزل، وكريمة التي كانت ترى الثعابين على زهور الياسمين، أصبحت لا ترى سوى الياسمين. وبالرغم من أن الأهالي حسموا الأمر بأنهم سيكتبون العريضة، إلا أن «فريد» يرى من بعيد أن الكوبري قد تم بناؤه على عوامات سليمة، وأصبح الناس يذهبون جماعات إلى البر الثاني الذي سبق له أن جاء منه بعود الياسمين، كحمامة نوح التي جاءت بغصن الزيتون بشرى إلى أن الطوفان قد انتهى … في الوقت الذي تكون فيه أحلام حامد وصلت إلى أن السور العالي الذي يراه حائلًا بين الناس والانطلاق لم يعد مشكلة خطيرة؛ إذ على كل من بنى فيه جزءًا أن يهدمه من جديد … في نفس الوقت عم كامل يقتل الفرس الذي يحاول أن يقفز من أعلى السور.
إننا نشاهد في المسرحية صورًا من العهد الماضي، ونسمع أسماء النحاس وفاروق والسراي، فلا نحس مطلقًا بأن الفنان يستكشف هذا الماضي ليستخلص نورًا هاديًا للمستقبل. ولا هو يحاول أن يجرد المستوى الاجتماعي الواقعي المحض إلى مستوًى فكري شامل يرتفع إلى مقام الرمز. فالمباشرة والتقريرية والهتاف من سمات الجزئيات الصغيرة والبناء ككل على السواء. حتى صهيل الفرس وأحلام حامد وجنون زاكية والزوجة المنتحرة وتشخيص سندس وأبو العيون … تم ذلك كله في جو صارخ لا يحمل في ثناياه شيئًا أبعد من الفكاهة السريعة السطحية. بل إن الفصل الثاني بكامله، والجزء الأخير من الفصل الثالث، لا يربطهما بالموضوع الجوهري في المسرحية إلا ما يمكن تسميته بالتداعي الشكلي.
ولقد كان أمرًا غريبًا ومثيرًا للدهشة إلى أقصى حد، أن يفتعل المخرج سعد أردش جوًّا رمزيًّا شبيهًا بالجو الذي نحياه عند بيكيت أو يونسكو. وهو تناقض سخيف مع مضمون المسرحية وشكلها. وكأن المخرج اشترك في مؤامرة مع المؤلف ضد الجمهور في إيهامه بأنه يشاهد عملًا جادًّا.
خاتمة: «موسم يذهب … وآخر يجيء»
أعتقد أن الموسم المسرحي الذي انتهى منذ وقت قريب، كان موسمًا ناجحًا. وأود لو شاركني القارئ في رصد أسباب النجاح فهي عندي تتمثل في الطابع الفكري الذي ساد معظم مسرحيات الموسم الماضي. وأقصد بطبيعة الحال، المسرحيات البارزة التي أثارت جدلًا طويلًا حول القضايا التي تناولتها بالعرض. وترد على خاطري فورًا مسرحية ألفريد فرج الممتازة «حلاق بغداد»، ومسرحية «كوبري الناموس» لسعد الدين وهبة، ومسرحية «الفرافير» ليوسف إدريس. وأقصد بالطابع الفكري أن البناء الفني للمسرحية تخلَّص من حصار الشرائح الاجتماعية والقطاعات الخاصة بالإنسان في جوهره أو في إحدى مراحل تطوره.
ولقد اكتفيت بذكر «الفرافير» و«كوبري الناموس» «وحلاق بغداد» بالرغم من أن الطابع الفكري الذي أتحدث عنه لم يكن مقصورًا على هذه المسرحيات فحسب؛ فهناك مسرحيات أخرى مثل «البر الغربي» و«رحلة خارج السور» و«الزلزال» وجميعها تتناول قضايا شبه تجريدية بالرغم من استلهامها الواقع الاجتماعي … إلا أن هذه المجموعة الأخيرة من المسرحيات لم ترتفع — فنيًّا وفكريًّا — إلى مستوى يدرجها في باب المناقشة للمسرح الفكري الذي نشاهد نموه هذه الأيام.
فرحلة خارج السور — لرشاد رشدي — جانَب مؤلفها التوفيق في اختيار الإطار المسرحي الملائم لها، لا لأن هذا الإطار كان معقدًا كما قرر البعض بحق، ودون داعٍ لذلك على الإطلاق، وإنما لأن المؤلف تورط في ازدواجية واضحة بين الإطار الرمزي المجرد والإطار الواقعي المباشر … فالفصل الثاني مثلًا يكاد يكون زاعقًا لا مباشرًا فحسب؛ إذ إن المناقشة الكوميدية الطويلة بين أعضاء اللجنة لم تكن ترمي إلى ما هو أبعد من الألفاظ والحركات التي يأتيها الممثلون … بينما نجد الفصل الأخير يكاد يكون رمزيًّا تمامًا.
فالحديث عن البر الثاني والياسمين والسور ليس حديثًا واقعيًّا مباشرًا، وإنما يجب علينا أن نكون قد وعينا الفصل الأول — بالرغم تعقيده المبالغ فيه — حتى نستطيع أن نربط بينه وبين ما جاء في الفصل الأخير.
وهكذا سقط رشاد رشدي في براثن هذه الازدواجية التي جعلت من «الخلط» محورًا أساسيًّا للمسرحية، بحيث كان خيط الأحداث الفكري يفلت من المشاهد مرارًا.
والأمر في «البر الغربي» لمحمد العناني لم يكن على هذا النحو … فقد كان هذا الكاتب الجديد مخلصًا لفنه إلى أبعد مدى حين اتخذ الشكل التقليدي قالبًا فنيًّا لمسرحيته. ولكن الاتجاه الفكري المسرحية لم أسترح أليه تمامًا فضلًا لم يقنعني وجدانيًّا.
وهنا أبادر إلى القول بأن ما غمز به البعض هذه المسرحية من أنها تقصد بالبر الغربي الحضارة الأوروبية أو الاستعمار … أقول إن هذا التأويل للنص شديد التعسف والافتعال. غير أن هذا لا ينفي أن المسرحية تقدم فكرة مهزوزة للغاية ولا تؤيدها شواهد التاريخ القديم أو الحديث؛ فهي تؤكد أن الشعب أو المجتمع هو الذي يلد الدكتاتور دائمًا. ولقد يكون الفنان وقع تحت تأثير بعض التجارب الجزئية في الريف، بحيث إننا لا نستبعد ملاحظة الاستسلام والخمول الذي يقود إلى اللامبالاة إزاء الحركة الاجتماعية … إلا أن هذه الملاحظة تظل ظاهرة جزئية لا تعبر عن الموقف الاجتماعي العام وهو الهدف الذي أراد المؤلف أن يجسده. فما دام محمد العناني قد اختار الشكل الدرامي المناسب لقضية فكرية كبرى تستلزم منه التجريد والاستعانة بالرمز، يسقط حقه على الفور في اختيار مشاهد مؤقتة لا تحتمل التعميم.
أما مصطفى محمود في «الزلزال» فلم يقدم بناءً مسرحيًّا متكاملًا أو قريبًا من التكامل، وإنما جاء هذا العمل حوارًا مطولًا يحذر من بشاعة المصير الإنساني. ولا ريب أن الفكرة إنسانية ونبيلة، ولكنها لا تجد الكاتب المسرحي الذي يحيلها إلى دراما لا تقل عنها إنسانية ونبلًا. إنني لم أجد فرقًا على الإطلاق بين مقالات مصطفى محمود وخواطره وبين «الزلزال»، إلا أن هذه الأخيرة قد تناثرت في أشطر متباينة الطول كالشعر الحديث.
لهذه الأسباب مجتمعة لا أدرج مسرحيات مثل «رحلة خارج السور» أو «البر الغربي» أو «الزلزال» ضمن المسرحيات الناجحة ذات الطابع الفكري.
فبالرغم من أنني أقف على الطرف النقيض لتفكير يوسف إدريس في «الفرافير» وبالرغم من أن يوسف إدريس كاد أن يتورط في أنشوطة الازدواجية في الجزء الحافل بالنكت والقفشات الاجتماعية الخالصة التي لا تتناسب مع قضية الإنسان ذات الأبعاد التجريدية، إلا أن هذه المسرحية نجحت جماهيريًّا من ناحية. ومن ناحية أخرى شغلت النقد طوال مدة عرضها. وكان الجدل يتناول كلا الجانبين في البناء المسرحي: الجانب الفكري، والجانب الفني؛ ففي الوقت الذي يقدم لنا يوسف إدريس هذه الفكرة التجريدية عن صراع الإنسان مع المجتمع والسلطة، وكفاحه المرير من أجل إقامة «إنسانية» عادلة، متآخية، وينتهي هذا الصراع البطولي بمصير مظلم، غامض، يتطلب حلًّا … في هذا الوقت نفسه يقدم يوسف هيكلًا دراميًّا يتسع لمقومات الفكرة التجريدية فيزيح الحائط الوهمي بين الصالة وخشبة المسرح، ويستخدم الكورس، ويحيل الشخصيات «المجردة» إلى شخصيات نابضة بالدم والحياة. ولقد عبرت المسرحية في المقام الأول عن أزمة حقيقية يمر بها يوسف إدريس، هي أزمة فكرية بالطبع. وسوف تفصح أعماله القادمة عن أبعاد هذه الأزمة، أو قد تقدم حلولًا عملية لها.
أما «حلاق بغداد» فقد جسدت أزمة اجتماعية عن طبيعة العلاقة بين الناس ثم طبيعة العلاقة بين الناس والحاكم. فالفضولي — أو شخصية أبو الفضول — لا يرادفها مطلقًا حب الاستطلاع، وإنما هي النداء الذي يوظفه ألفريد فرج في خدمة مجموعة من القيم الإنسانية الرفيعة، في خدمة الضمير الإنساني. وعندما يقول أبو الفضول للحاكم أن يعطي منديل الأمان لكل مواطن، إنما هو يطلق صيحة العدل والمساواة من أعماق العذاب الذي يعانيه البشر. على أنني أختلف مع ألفريد في هذه النقطة بالذات. فليس الحاكم بمفرده هو الذي «يمنح» العدل لمواطنيه … فالعدالة عملية اجتماعية يشترك في صياغتها البناء الطبقي والفكري للمجتمع. ولا أريد لكلماتي هذه أن تأخذ شكلًا رياضيًّا في المحاجاة بصدد عمل فني … لأن مكونات العمل قد ترفض التصور المنطقي للمشكلة. ويكفي هنا أن نقول: إن مسرحية «حلاق بغداد» تدين بنجاحها إلى عدة عوامل هي:
-
(١)
الاستفادة العميقة الرائعة من تراثنا العربي القديم، فقد اختار ألفريد قصتين من ألف ليلة وكتاب المحاسن والأضداد. وهنا يقول المؤلف: «ورغم التصرف الواسع الذي أبحته لنفسي في إنشاء الحكايتين الجديدتين فإني أؤكد تأثري النفسي والذهني بالقصتين الأصليتين، وما قد يجده قارئ القصتين الأصليتين من شبه في الجو والمزاج بينهما وبين مسرحيتي إنما هو دَيني لأدبنا القومي العريق. وما قد يجده من اختلاف إنما أعزوه لأسلوبي في محاولة تطويع هذا التراث الأدبي العظيم لشكل المسرحية الحديث وملاءمته مزاجنا ولروح الفكاهة العصرية.»
-
(٢)
العامل الثاني هو اللغة؛ فقد كان ألفريد فرج موفقًا إلى أبعد الحدود في اختيار لفته من التزاوج الرائع بين الفصحى والعامية بحيث إنه لا «يكلفت» لفة وسطى بينهما، بل هو يستخدم كلًّا منهما في مكانها الدقيق، ثم يستغل هذا المكان في خلق المفارقات «غير اللغوية» بين المواقف المتعددة التي تخلق بدورها الحس الكوميدي الأصيل غير المزيف.
-
(٣)
العامل الثالث هو المونولوج الذي لاحظناه طوال المسرحية؛ فقد جاء تعبيرًا عميقًا عن داخل الشخصية وأعماقها وأبعادها الغائرة في الوجدان … وإن كان هذا المونولوج قد استخدم في بعض الأحيان كثيرًا من التعبيرات «الضخمة» التي قد تشي بالتقرير والهتاف، إلا أن هذه الضخامة بموضعيتها الفنية في الإطار المسرحي العام، والتحديد الدرامي للشخصية … جاءت شيئًا طبيعيًّا للغاية يكمل الصورة ولا يشذ عنها.
وإذا كانت هناك محاولات قد سبقت ألفريد فرج في نقطة أو أخرى من عوامل التجديد في مسرحية «حلاق بغداد» إلا أن هذا العمل الكبير يشير إلى درجة عالية من العمق والنضج، ودرجة ما من الريادة.
لهذا أقول إن العرض المسرحي لحلاق بغداد كان مقنعًا بالرغم من تردد هذا الاقتناع في مكانٍ خالٍ من النظارة وخشبة المسرح على السواء.
وفي مسرحية «كوبري الناموس» يلح سعد الدين وهبة من جديد على فكرة أن المجتمع المصري كان معدًّا الإعداد الكافي للثورة. كانت بلادنا «حبلى» بها … وهي نفس القضية التي سبق أن طرحها في «السبنسة» ولكن في صورة جديدة ابتكر لها الرموز العميقة الدلالة … فجميع شخصيات المسرحية ينتظرون «شيئًا ما» … الكل في حالة الانتظار هذه ويمكن للمشاهد بطبيعة الحال أن يستمتع باللقطات الاجتماعية الخالصة، ولكنه إذا لم يضفها إلى الرصيد الرمزي من الدلالات الخصبة لمختلف الجزئيات من جهة، وللمعنى الشكي للمسرحية من جهة أخرى … فإنه يكون قد ضيع وقته عبثًا؛ لأنه سيصبح أمام مجموعة من المشاهدات الغامضة التي لا تفضي بسرها إلا لمن يصبر طويلًا.
لقد أقبلت الجماهير على هذا اللون من المسرحيات — الفكرية أو التجريدية أو الرمزية، سمِّها كيفما شئت — إقبالًا رائعًا أثبتته بيانات شباك التذاكر التي نشرت. ومعنى ذلك أن توفيق الحكيم كان مخطئًا فيما مضى حين تصور أن مسرحه «الذهني» غير قابل للتمثيل، وأنه خلق للقراءة بين دفتَي كتاب، وتوفيق الحكيم نفسه هو الذي قدم له مسرح الجيب في هذا الموسم مسرحية «يا طالع الشجرة» … وهي مسرحية تتميز بأنها قابلة للتفسير على أكثر من وجه … ويكفي أن تقرأ ما كتبه لويس عوض وعباس صالح ورجاء النقاش وفؤاد دوارة، لتعرف إلى أي مدًى يمكن للعمل الفني الخصب أن يمد المتلقي بعديد من الثمار.
ولا أشك لحظة في أن «يا طالع الشجرة» نجحت على خشبة المسرح أكثر من نجاحها بين دفتَي الكتاب؛ فقد كان تجسيم معالم هذه المسرحية بمثابة الحافز الملهم للمشاهد بأن يسطو على أفكار المؤلف أو أنه يكتشفها على النقيض مما حدث في «الطعام لكل فم».
فقد كانت مليئة بالتقريرية والمباشرة والهتاف. بالرغم من طوباوية العلاج الذي أعطاه الحكيم لمشكلة الجوع … فهو بالتأكيد ليس العلم «المعملي» … وإنما هو العلم الاجتماعي.
(٢) بريخت
(٢-١) نحن … وبريخت
لا شك أن مسرح الجيب في هذه الفترة الوجيزة من عمره استطاع أن يحقق الشيء الكثير لحياتنا المسرحية؛ فقد استطاع أن يربي جمهورًا من المثقفين الواعين بمشكلات الدراما المعاصرة، واستطاع أن يلبي احتياج الكاتب المسرحي في بلادنا إلى الاجتراء على التجريب … واستطاع كذلك أن يمكن لمجموعة من التقاليد الفكرية الهامة كضرورة الانفتاح على كافة التجارب المسرحية في الخارج.
فلقد أصبحت أسماء بيكيت ويونسكو من الأسماء المألوفة لدى المواطن المصري المثقف … وهذا أمر يعتد به في مجال المقارنة بين المستوى المحلي للكتابة المسرحية، والمستوى المحلي لمشاهدي المسرح في بلادنا … أي إن ترمومتر الوعي الدرامي عندنا لدى الجماهير قد أصبح في درجة من النضج تسمح له بالمناقشة الجادة.
ومن فتوحات مسرح الجيب، أنه قدم لنا الكاتب الاشتراكي العالمي «بريخت» وهو الفنان الذي طال انتظارنا له بعد أن فشل المخرج الألماني كورت فيما مضى في إقناع خشبة المسرح المصري بأن تستقبل «دائرة الطباشير القوقازية» استقبالًا خاصًّا يليق بهذه المسرحية وبكاتبها على السواء. أقول: إن مسرح الجيب وهو يقدم لنا «القاعدة والاستثناء» إنما يعتذر عن تقصيرنا في تقديم بريخت منذ زمن طويل.
هو تقصير لا شك فيه لأن بريخت كاتب «اشتراكي» أولًا، وقد بلغت عظمته وعظمة فنه درجة أرغمت «الغرب الرأسمالي» على الترحيب به ترحيبًا حارًّا نلاحظه في تمثيلهم لأعماله بصفة دائمة، كما نلاحظه في الدراسات العديدة التي يكتبها كبار النقاد في أوروبا وأمريكا حول التجديد الذي أدخله بريخت على الدراما المعاصرة، حتى إن مسرحه أصبح صفحة جديدة في تاريخ المسرح العالمي، تعرف بالمسرح الملحمي.
يقول المخرج الشاب فاروق الدمرداش في تقديمه لمسرحية «الاستثناء والقاعدة»: مسرح بريخت من ناحية التنفيذ يستوجب وجود تكنيك كامل للمسرح، ونحن نجد أن مسرحيات بريخت قد كُتبت أولًا لمسرح البرليز إنسامبل «الدوار» الذي يمكنه أن يغير المناظر بسهولة وسرعة، مع إمكان استعمال الفانوس السحري والسينما أيضًا، ومن هنا تصادف كثيرًا من مسارح العالم صعوبة في تنفيذ مسرحياته … وإن كان من الخطير كما يقال اتباع تكنيك بريخت نفسه في إخراج مسرحياته، بل علينا أن نخرج المسرحية إلى حيز الوجود بالطريقة والأسلوب الذي يراه المخرج نفسه، دون التزام باتباع طريقة معينة. وسوف نبحث هنا، إلى أي مدى استطاع المخرج أن يسبر أغوار بريخت في هذه المسرحية. يقف الممثلون في مقدمة المسرحية يرددون هذا المقطع.
بعد أن يردد الممثلون هذه المقدمة يختفي معظمهم ويتبقى أمامنا ثلاثة هم: التاجر، والدليل، والأجير، إنهم في طريقهم إلى «أورجا» حيث توجد آبار الزيت، والطريق إلى أورجا صحراء ممتدة واسعة الأطراف، وقد اعتمد المخرج المصري على حركة الممثلين في المسير دون أن يلجأ إلى المسرح الدائري … والمسرحية كلها تقوم على مشاركة الجمهور في تطور الأحداث؛ فالممثلون يفتتحون المسرحية بهذا النداء إلى الجمهور، ثم يستأنف التاجر محادثة الجمهور بعد ذلك … وهكذا فالدراما مسرحية مفتوحة، يمثل فيها الجمهور بعدًا جديدًا. إن بريخت شديد المباشرة، ومع ذلك فهو فنان عظيم، وهذه نقطة هامة يجب أن نوليها اهتمامًا شديدًا؛ فالأدب الاشتراكي متهم بالمباشرة والدعاية والتقريرية، وبريخت لا ينفي الاتهام، ولكنه يرتفع بقدرة الفنان السحرية إلى مقام الفن العظيم.
شروحات الممثلين للمواقف، تعبير التاجر عن الرأسمالية الشرهة، تعبير الأجير عن الطبقة العاملة الكادحة، تعبير صاحب الفندق عن تضامن الطبقة الرأسمالية والانتهازية، تعبير القاضي عن أن الدولة الرأسمالية تمثل الرأسمالية مهما كان الحق في صف الطبقة العاملة … التعبيرات جميعها تعبيرات مباشرة جدًّا، ولكن بريخت العظيم أحالها إلى فن … كيف تم ذلك؟
تم ذلك بأن المباشرة كانت تنبثق من الداخل … لا من الخارج، كان الفنان يعري شخصياته من الداخل تعرية كاملة فيتحدث التاجر الرأسمالي عن التقدم الذي سيصيب الإنسانية من جراء اكتشافه لآبار الزيت، وكيف أن هذا الكشف سوف يسهم في تطوير العلوم، وفي نفس الوقت نراه يعامل الإنسانية الممثلة عند بريخت في الأجير العامل بوحشية منقطعة النظير، بل إن هذا الأجير ذهب ليعطيه الزمزمية ليشرب فما كان منه إلا أن رماه برصاص مسدسه ظنًّا منه أن الأجير يحمل حجرًا لا زمزمية! إن التاجر ينشد:
هو — إذن — شديد الاقتناع بأنه «يعمل» من أجل الإنسانية، وهو عندما يقتل العامل لا يقل اقتناعًا بأنه يخدم الإنسانية. لهذا يبدو طبيعيًّا للغاية حين يستأنف النشيد الذي يستروح أنسام نيتشه:
هكذا يتعرى أمامنا النموذج البشري قطعة قطعة، فنفهم «الإنسانية» التي يقصدها. إنها إنسانية النازيين والفاشيست. وهكذا يوجز بريخت تاريخ الرأسمالية بأن يصوغ لنا نظريتها النيتشوية في خدمة الإنسان، أما كلمات المسيح على الجبل، فسحقًا لها عند ورثة نيتشه من أبناء الرأسمالية المعاصرة، كلمات المسيح يجب أن تقلب هكذا، كما يقول الدليل:
نيتشه والمسيح، وجهًا لوجه، فلمن تكون الغلبة في المجتمع الرأسمالي الذي يدين بالمسيحية؟ يقول بريخت على لسان القاضي الذي وقف يحكم في مصرع العامل المسكين:
هذه هي المباشرة الرائعة التي يقدمها لنا بريخت.
إنه يقدم الرأسمالية كما تفهم نفسها وكما هي في الواقع، التاجر إنسان مقتنع بما يقوم به، والأجير معذب يعاني من «خدمة الإنسانية» على النحو الذي يفهمه التاجر. ولهذا يموت الأجير، ويحكم القضاء ببراءته، ويجتمع الممثلون في النهاية ليقولوا لنا أمرًا هامًّا:
لقد استطاع فاروق الدمرداش أن يقترب بإخراجه من روح النص، كما تمكَّن أحمد إبراهيم من تصميم الديكور والملابس، وإن كان بعض الممثلين قد بالغوا في أداء أدوارهم مما يتنافى مع فهم بريخت للأداء التمثيلي على خشبة المسرح، هذا الأداء الذي يتطلب تجاهلًا تامًا للانفعال.
ولا يفوتني أن أهنئ المترجم الممتاز الدكتور عبد الغفار مكاوي على تقديمه هذه الترجمة في إطارها الشعري الجميل الذي يستلهم روح بريخت وجوهر مسرحه الملحمي.
(٢-٢) بريخت … والغرب
في سبتمبر من العام الماضي عقدت في برلين الغربية ندوة موسعة للمشتغلين بالمسرح الألماني. وكان موضوع الندوة «بريخت والغرب»، وقد كتب يومها مارتن أسلين — الناقد الذي ألف كتابًا هامًّا عن بريخت — يقول: «من الصعب على المرء إعطاء عرض موضوعي لنقاش كان هو أحد المشتركين فيه. لم تثر مسألة الرقابة صراحة أبدًا، لكنها بدت متضمنة في أكثر الحجج التي استند أليها الذين عارضوا تمثيل بريخت في الغرب؛ ذلك أنه لم يكن ثمة تضارب في الرأي حول كون بريخت واحدًا من شعراء ومسرحيي عصرنا العظام وفنانًا هائلًا، ولم يكن ثمة جدال في أن تمثيل مسرحياته سيبعث اهتمامًا ولا شك في جماهير المتفرجين؛ ولهذا فإن الاحتجاج بأن على مسرحيات بريخت أن تظل بعيدة عن التمثيل لأنها ستعود على المسرح بخسائر مالية أو لأنه لا يوجد طلب عليها، لم يثر مطلقًا.» وفي نفس الندوة علق المخرج البارز أوجست أفردينج بأن «مسرحيات بريخت شأنها في ذلك شأن مسرحيات شكسبير ستظل تمثَّل عندما لا يكون في وسع المتفرجين حتى أن يتخيلوا القضايا السياسية التي شاء أن يضمِّنها أعماله، مثلما لا يمكن لمتفرجي اليوم أن يتيقنوا هل قصد شكسبير بشيلوك أن يكون نذلًا أو شخصية تستدعي الشفقة.»
ولعل من تتاح له فرصة المتابعة الدقيقة لما يكتبه نقاد الغرب عن مسرح بريخت، سواء في مقالاتهم أو في تعليقاتهم أو في الكتب الكاملة التي يصدرونها عن هذا الفنان الاشتراكي، سوف يشعر بأنهم يركزون على نقطة هامة هي خطورة النقلة الفنية التي قام بها بريخت في تاريخ المسرح منذ أن حطم شكسبير نظام الوحدات الأرسطية الثلاث، لهذا كان مهرجان برلين الشرقية لمسرحيات بريخت خلال أسبوع كامل في الشهر الماضي من أهم العروض التي ركزت على معنى هذه «النقلة التاريخية» في حياة المسرح التي حققها بريخت؛ فقد عرض المهرجان الأعمال الخمسة الكبرى «دائرة الطباشير القوقازية» و«الإنسان الطيب» و«الأم شجاعة» و«حياة جاليليو» و«القاعدة والاستثناء»، فأكد المخرجون الخمسة لهذه المسرحيات على «الشكل الملحمي» الذي لا يخضع بموجبه المسرح للتصنيف التقليدي إلى تراجيديا وكوميديا، كما لا يخضع للسمة الغالبة على المسرح المعاصر «التراجيكوميديا»؛ ذلك أن بريخت قد حطم تمامًا فكرة «البطولة التراجيدية»، كما حطم في نفس الوقت فكرة «الإيهام» فاصطنع مسافة موضوعية بين المسرح والجمهور عن طريق الخطاب المباشر بين أحد الممثلين أو الكورس، ناحية، والمشاهدين من الناحية الأخرى. وأكد المخرجون الخمسة كذلك على «الشكل الملحمي» من زاوية الصراع الرئيسي في المسرحية؛ فهو حقًّا صراع خارجي بين مجموعة من الشخصيات وبعض القوى الخارجية، ولكنه لا ينتهي كملاحم العصور الوسطى بانتصار البطل الخير على غريمه الشرير؛ ذلك أن «غياب البطل الفرد» من مسرح بريخت يرفع المشكلة الإنسانية إلى مستوى أكثر تعقيدًا، وبالتالي فهو يجسد المسألة الفنية في بناء أكثر تركيبًا.
وكان المخرجون الخمسة في مهرجان برلين قد اختاروا معظم الممثلين من فرق الهواة غير المحترفين ليحققوا لبربخت فكرة غياب البطل عمليًّا بأن لا يكون هناك «النجم» اللامع والمشهور الذي يجذب الأنظار وقد يركزها على شخصه. وبالتالي يصبح «ضد بريخت» على حد تعبير أحد النقاد، وكذلك كان «العنصر الغنائي» عنصرًا ملحميًّا لا يقترب من الكورس اليوناني في «وصف الكارثة» أو «مناشدة البطل»، وإنما هو جزء متمم للحدث الدرامي يتكامل بنموه ويتطور مع الإنشاد المزدوج أو الجماعي … تمامًا كما يختلف «الشكل الملحمي» في مسافته الموضوعية بين المسرح والجمهور بكسر الإيهام، عن رفع «الحائط الرابع» عند ببرانديللو حيث تمتد الصالة إلى خشبة المسرح أو العكس.
وتعرض القاهرة «الإنسان الطيب» لبريخت على مسرح الحكيم من إخراج سعد أردش، وليست هذه هي التجربة الأولى للقاهرة مع بريخت، فقد حاولنا من قبل أن نخرج «دائرة الطباشير»، ولم توفق الإمكانيات الفنية حينذاك من تحقيق الكثير من رغبات المخرج الألماني الذي انتدبته وزارة الثقافة ليشرف على إخراج المسرحية باللغة العربية. ثم نجحنا بعد ذلك في مسرح الجيب في أن نخرج «القاعدة والاستثناء» ثم «طبول في الليل». وبذلك يصبح الجمهور القاهري من رواد مسرح الجيب على الأقل، ممهدًا لاستقبال «الإنسان الطيب» رائعة بريخت الكبيرة التي يدوم تمثيلها على خشبة المسرح حوالي أربع ساعات.
ونحن نستقبل في البداية ثلاثة آلهة يبحثون عن إنسان واحد طيب في بلدة «شتسوان» فيتعرف عليهم «سقا» يهديهم بعد عناء إلى بيت إحدى المومسات هي الآنسة «شن تيه». ويحاول الآلهة الثلاثة أن يشاركوا في تحويل شن تيه إلى إنسان طيب بإمدادها بالمال المناسب لفتح دكان صغير. ويحتل هذا الدكان معظم مشاهد المسرحية؛ ففيه تستضيف شن تيه من سبق أن مدوا لها يد العون، وفيه تستقبل الطيار المتعطل عن العمل ويريد أن يتزوجها ليأخذ منها المال اللازم لتوظيفه، وفيه تعرف الحلاق الذي يريد هو الآخر أن يتزوجها ليشيد مصنعًا في الأرض الخراب المجاورة. وتزاوج شن تيه بين شخصية الفقيرة وشخصية ابن عمها المزعوم الذي يحتل مكانة اجتماعية موهومة — وإن تكن مرموقة — ليضمنها في مهام البيع والرهن والشراء. وتنتهي المسرحية بأن الإنسان الوحيد الطيب، لم يستطع أن يكون طبيبًا في هذا العالم الشرير بالرغم من تشجيع الآلهة.
لم يبسط سعد أردش المسرحية على هذا النحو الذي قد نتصوره من التلخيص بل حاول جادًّا أن يرتفع إلى المستوى التركيبي المعقد للمسرحية، فأشرك صلاح جاهين بتعريبه لأغنيات بريخت، وسعد مكاوي بتمصير الموسيقى المرافقة للدراما، وسكينة محمد علي بتصميم الديكور الملحمي الذي يومئ بما أراده بريخت وإن أضمره في ثنايا العمل المسرحي. وإذا كان من الممكن أن يقال عن تمثيل سميحة أيوب إنه التقمص الواعي الدقيق لشخصية شن تيه، إلا أنه من جانب آخر يمكن أن يقال إنها فرضت لونًا من «البطولة» يختلف مع جوهر بريخت وتوجيهاته الصريحة بأن يلتزم المخرج فكرة «غياب البطل». وقد تمكن فاروق نجيب من تجسيد شخصية «السقا» الذي يخاطب الجمهور حينًا، والنورانيين — الآلهة — حينًا آخر، ولكنه في معظم الأحيان يخاطب ضمير العصر من موقع الإنسان العادي.
تمكَّن الإخراج المصري للمسرحية كذلك من تحريك المجموعات وفق التطور الدرامي للمسرحية سواء بتوظيف المجموعة نثرًا في إيضاح معالم شخصية شن تيه، أو بتوظيفها شعرًا في تحديد ملامح العالم الخارجي، وإن كان بطء الإيقاع في الجزء الأول من المسرحية قد أصابها ببعض التفكك والابتعاد عن رمزيتها العميقة الدلالة. ولم يستطع عزت العلايلي رغم مهارته في سرعة الحركة ودقته في تمثل النص أن يعوضنا شيئًا من بطء الأجزاء الأولى وصراخ الديكور القائل: «فلسطين لإسرائيل، فيتنام أمريكية» إلى بقية الشعارات التي جسدتها بصورة أكثر وضوحًا الدولارات المكبرة في خلفية المسرح.
(٣) الطائشة
سوف يمضي وقت طويل، قبل أن تزول آثار الأدب الرومانسي من الوجدان البشري؛ ذلك أن الرومانسية كانت تجسيدًا أمينًا لإحدى مراحل التحول الخطيرة في حياة الإنسان هي تلك المرحلة التي تقع على الحافة بين العصر الإقطاعي والبرجوازية؛ فالضبابية والتمزق والأوهام وغيرها من مكونات مجتمع «العواطف» الذي نشأ بين أذرع النبلاء تدل على أن الانسياق المذهل وراء العواطف والرغبات الهائمة كان معادلًا لتلك الشهوة المتأججة في النفوس لتتجاوز أسوار النظام الراهن إلى نظام آخر لا يستطيعون رؤيته ولا تحديد شكله وطبيعته؛ لذلك فهم يسعون إلى هذه الرؤية بالأحلام، وهي غالبًا أحلام حزينة على الأمس في خوف غير قليل من الغد؛ لأن أصحابها — بلا أدنى شك يرتبطون أساسًا بالأمجاد الذهبية التي يحفل بها الماضي، وإن حتمت عليهم الظروف الارتباط بنوع آخر من الأمجاد في المستقبل، ولكنه نوع غير محدد، يتصارع فيه الواقع مع الحلم وتتحقق فيه الغلبة للأحلام لأنها بطبيعتها شيء غير محدد المعالم.
كذلك سوف يمضي وقت طويل قبل أن ننسى الأعمال الرومانسية الكبرى التي استطاعت أن تقف في شموخ أمام الآداب التي يزخر بها التاريخ فيما تلاها من مراحل فنية وتاريخية. فلاريب أن «آلام فرتر» لجوته أو «غادة الكاميليا» لإسكندر ديماس الابن، وغيرها من عيون الأدب الرومانسي سوف تظل في قائمة الأعمال التي حفرت لنفسها أخاديد عميقة في وجدان الإنسانية، لا لشيء إلا لأنها كانت أعمالًا أمينة في تجسيد روح العصر الحزين، وآماله الباهتة أو المنطفئة، فبالرغم من أن الرومانسية في نشأتها كانت رؤية ثورية للواقع بالنسبة إلى الرؤى السابقة، إلا أن غمام الأسى، كان من أهم المقومات التي شكلت بصدقٍ وحرارة وعمق، الرؤية الرومانسية.
وعندما نقوم نحن العرب في الوقت الحاضر بإخراج إحدى هذه التحف «الرومانسية» فإنما لإحساسنا بحرمان شعبنا من معايشة الفنون في مراحلها المختلفة، فترة طويلة من الزمن، فتقديم أوبرا لاترافياتا المأخوذة من غادة الكاميليا، لا يؤكد أننا ما نزال في تلك المرحلة المتخلفة من مراحل الشعور، بل يؤكد أننا نتوق إلى التعرف على تاريخ العالم الفني.
ولا يستطيع الناقد المنصف أن يحدد منهجًا معينًا للاختيار لدى المسئولين، فكم كنت أتوق إلى رؤية أوبرا «عايدة» ﻟ «فردي» نفسه، وقد سبق تقديمها بواسطة الفرق الأجنبية، كم كنت أتوق إلى رؤيتها معرَّبة في حوارها وأغانيها؛ فالتعريب هو التجربة الجديدة التي نمارسها منذ «الأرملة الطروب» وقد أثبتت نجاحها في «لاترافياتا».
إن لاترافياتا — أو الطائشة — بين الموسيقار الإيطالي العظيم جيوسبي فردي والأداء الأوبرالي العربي، هي موضوع هذا الحديث.
يقول الدكتور إبراهيم رفعت الذي قام بتعريب لاترافياتا: «الأوبرا عمل فني متكامل، تشترك فيها سائر الفنون من أدب وموسيقى وغناء فردي وغناء جماعي إلى جانب الهندسة المسرحية بشتى عناصرها … وهكذا يتجلى المجهود الإنساني الذي يبذل في سبيل تأليف إحدى الأوبرات وإخراجها، وقد تمتد خطوات هذا الوجود عبر آلاف السنين التاريخ عندما يستوحي المؤلف الموسيقي قصةً من التراث القديم.»
هذا الإدراك العميق لمعنى الأوبرا هو الذي قاد المعرِّب إلى الوعي العميق بمعنى التعريب؛ فاللغة في هذا العمل هي جزء من كل؛ فالأوبرا هي إحدى الفنون المركبة، تسهم في بنائها عناصر عديدة من بينها اللغة، واللغة في سبيل هذا العمل ليست هي اللغة الأصلية التي وضعها مؤلف أوبرا متخصص، بل هي لغة أبعد ما تكون عن قواعد وأصول اللغة العربية. وإذا كانت اللغة هي جزء من العمل الموسيقي، فإن النطق العربي بعيد كل البعد عن الجو الموسيقي الأوروبي؛ فالطريق إلى التعريب — إذن — مليء بالعقبات.
من أولى هذه العقبات أن يختار المعرِّب من الألفاظ العربية — في المترادفات المختلفة — ما يناسب الجملة الموسيقية الغربية، وأعتقد أن إبراهيم رفعت قد نجح في التغلب على هذه العقبة إلى حد ما، هكذا أصابه التوفيق في تعريب أنشودة ألفريدو في الفصل الأول (الخمرية).
إن المعرِّب لهذه الأبيات، لم تعُقه أوزان الخليل مطلقًا، فقد كسر معظمها ليراعي بعدئذٍ ما هو أهم؛ أي طريقة فردي في الأداء الموسيقي، ومن هنا يثور السؤال إلى أي مدًى تعتبر التقفية ضرورية في مثل هذه الأحوال؟ إن مساوقة موسيقى فردي تتطلب المرونة إلى أقصى حد، ولقد كان المعرِّب مرنًا غاية المرونة حين حطم الأوزان العربية التقليدية، واستطاع أن يعثر على الألفاظ والتركيبات اللغوية التي لا تخلق نشازًا مع الإطار الموسيقي العام، ولكن القافية كانت تجيء في أغلب الأحيان، لتقتل «الروح» المتوهجة في النص اللغوي والموسيقي معًا، كما نرى في هذه الأبيات من أنشودة الوالد جرمونت في الفصل الثاني:
إن المعرِّب هنا يخطئ في النحو والصرف والوزن، ولكنه يحرص أشد الحرص على حرف الروي والتقفية. بالرغم من أن الجملة ومن الموسيقية العربية لا تتآلف أصلًا مع الجملة الموسيقية عند فردي.
كذلك كانت بادرة طيبة من الدكتور إبراهيم رفعت أن يترجم نصوص الأغاني الغجرية بالعامية المصرية. والمبرر الذي يمكن أن يستند إليه هو أن تلك اللمسات الشعبية في النص الأوبرالي يجب أن يتبعها «شعبية مصرية» في النقل. ومن هذه النقطة بالذات أنطلق إلى القول: لماذا لم يجرؤ المعرِّب على المزاوجة بين الفصحى والعامية في ترجمة أجزاء من الحوار والأغاني، ألم تكن هذه المزاوجة نصيرًا له في التلاؤم والتواؤم مع الإطار الموسيقي الأصلي؟ ألا تذخر العامية المصرية بكثير من الألفاظ القادرة على امتصاص المعنى الأصلي مع الاقتراب من الروح الموسيقية للعمل الأوبرالي كله؟ إنه مجرد سؤال لا يستند على تجارب سابقة، ولكن ما دمنا في مرحلة تجريبية، كان علينا أن نخوض التجربة بكاملها.
يقول أحمد سعد الدين في مقدمة البرنامج: «إن التجربة جديدة علينا، والغناء الأوبرالي جديد على جمهورنا العادي والعناصر المشتركة كلها جديدة، منها من لم يسبق له الوقوف على خشبة المسرح، ولكنها الخطوة الأولى» … وأنا أريد أن أقول إن التجربة ناجحة، وإن الخطوة إلى أمام.
يقدم لنا المخرج الفنان شكري راغب هذه الأوبرا في أربعة فصول (هي ثلاثة في الأصل، والفصل الثاني في مشهدين). الفصل الأول في صالون فيوليتا حيث تقيم فتاة المجتمع الأنيقة، الملقبة بالطائشة «ترافياتا» حفلة بمنزلها يحضرها الشاب ألفريدو بعد أن قدمه لها أحد أصدقائها. ويستهل ألفريدو الحفل بخفة روحه ومرحه الذي ينتشر بين جميع المدعوين. وهنا نستمع إلى أغنية الشراب الشهيرة: «لنشرب أيها الصحاب» وقد استهوته محاسن فيوليت فهام بها حبًّا وصمم على أن يكرس لها حياته. وتخلو فيوليتا إلى نفسها وتتمنى أن تشفى من مرضها عن طريق الحب، وهنا نستمع إلى اللحن الذي مطلعه «يا له اضطراب!»
إن منهج فردي في التعبير الموسيقي، تقريري ومباشر؛ ففي اللحظات الشاعرية بين كل من الحبيبين يهمس لنا بأنغامه الخافتة، كما أنه في لحظات البطش القدري الغاشم، تضج أنغامه بالثورة. وكذلك كان منهج شكري راغب في الإخراج. لقد استخدم الإضاءة في درجات لونية متفاوتة، وفي مراحل قوة مختلفة، لكي يوضح لنا مظاهر السعادة والحزن والقلق، بكل ما تحمله الأضواء والظلال من هذه المعاني.
أما اختياره للمجموعات الصوتية وتحريكه لها، فقد كان رائعًا بحق؛ ذلك أن الفصل الأول في جوهره مجموعة من الوحدات الصوتية بالإضافة إلى الغناء الفردي والثنائي. كان شكري راغب معنيًّا بأهمية «التشكيل» و«التركيب» في المجموعة الواحدة، ثم في اللوحة العامة الشاملة لكافة المجموعات. فاختيار الملابس (بالرغم من ضعفه) ورسم الحركة وتصميم الديكور، كان عملًا تشكيليًّا في جوهره. لهذا جاء تصور المخرج للفصل الأوبرالي تصورًا تشكيليًّا بعيدًا عن التصور المسرحي. وهذا أمر هام للغاية، أن يتعود جمهور الأوبرا التفرقة بين هذا الفن، والفن المسرحي. هذا من ناحية التشكيل. أما من ناحية التركيب فقد تآلفت الحركة الصوتية مع الموسيقى مع التمثيل في حدود الإطار اللغوي الموجود.
كان الفصل الأول فاتحة شهية للمأساة، وهي فاتحة تقليدية بلا شك من زاويتَي الإطار والموضوع. فالتركيبة المسرحية تبدأ بأن ألفريدو يحب فيوليت وهما يتبادلان الغرام منذ فتح الستار إلى إسداله. فما إن يخلو ألفريدو وفيوليت حتى يعود جميع المدعوين من الصالة وهم يصيحون:
وبواسطة تبادل الأناشيد والأغاني بين البطلة والبطل من جانب، وبينها وبين بقية المدعوين من جانب آخر تمكن المخرج من تحريك اللقطات الدرامية التي لا تقف بالمشاهد عند لحظة واحدة من الجمود.
ويبدأ الفصل الثاني بمنزل في الريف بإحدى ضواحي باريس. ونعلم أنه منذ ثلاثة أشهر توطد الحب بين فيوليتا وألفريدو، وهما الآن يقيمان معًا بالريف، وقد استطاعا إخفاء سعادتهما عن الأهل والأصدقاء، ويعرف ألفريدو من حديث عابر مع أنينا وصيفة فيوليتا بأنها في ضيق مالي سوف يضطرها إلى بيع أثاث منزلها لتسدد ديونها، فيسارع بالسفر إلى باريس ليعينها في ضائقتها المالية. وفي أثناء غيبته عن منزل صديقته بالريف يجيء والده ويطلب من فيوليتا باسم الشهامة والأخلاق أن تقطع علاقتها بابنه لكي تتيح له الفرصة لأن يتزوج زواجًا لائقًا بمركز العائلة. فتستجيب فيوليتا لدعوة أبيه، ولكن على حساب تضحيتها الكبرى بحبها، وهي تعلم على كل حال بأن أيامها في هذه الحياة أصبحت معدودة. وعند رحيل والد ألفريدو تكتب خطابًا لألفريدو تودعه فيه، ولكنها تضطر لأن تخفيه عندما يفاجئها بالدخول في تلك اللحظة. ثم ترحل فيوليت بعد ذلك ويجد ألفريدو نفسه وجهًا لوجه أمام أبيه الذي يطلب إليه العودة إلى منزل العائلة، وبعد أن يطلع ألفريدو على خطاب فيوليتا يتبين له أن حبه كان سرابًا وأن فيوليتا قد خانته فيقسم على الانتقام منها. وينشد الأب جرمونت:
ماذا يصنع المخرج في مثل هذا الفصل الدامي؟ لقد أشبع خشبة المسرح هدوءًا شديدًا، وأخلاها تقريبًا إلا من ألفريدو والخادمة مرة، ثم فيوليتا والخادمة مرة أخرى، ثم ألفريدو ووالده مرة ثالثة … وبين كل مرة وأخرى، يظهر ساعي البريد يحمل أو يأخذ خطابًا. استخدم المخرج «الهدوء» كعنصر فعال في المشهد الأوبرالي، حتى إذا التحمت الأحداث، كانت الموسيقى الثائرة بالضجيج هي العنصر المكمل لعنصر الهدوء في إبراز التناقض بين السعادة والشقاء، بين الواقع والحلم.
ولقد آثر شكري راغب أن يجعل من الجزء الأخير من الفصل الثاني، فصلًا مستقلًّا دعاه بالفصل الثالث، وهو الفصل الذي يشتمل على حفلة تنكرية راقصة عند فلورا صديقة فيوليتا. فبينما انتحت فيوليتا مكانًا جلست فيه وحدها، راحت فلورا تتحدث مع مدعويها عن انفصال ألفريدو وصديقته المفاجئ. وبعد تقديم عدة مدعوين متنكرين في زي جماعة المنشدين البوهيميين ومصارعي الثيران الإسبان تدخل فيوليتا متأبطة ذراع البارون فتفاجأ بمقابلة صديقها السابق ألفريدو بين المدعوين فيتحدى ألفريدو البارون ويدعوه للمبارزة.
ويعقب ذلك منظر مؤثر بين فيوليتا وألفريدو تعمد فيه تلك الفتاة التعسة إلى كبت عواطفها الحقيقية لتبر بوعدها لوالد ألفريدو، ويمضي ألفريدو من جانبه في السخرية منها بقسوة، ويدخل في هذه اللحظة والده ويدافع عنها ثم يصطحب ابنه وينسحب وتنشد فيوليتا في استسلام حزين:
ولقد كان اختيار ملابس هذا الفصل رديئًا لا يناسب التنكر ولا الإفصاح، فلم يكن ثمة تناسق بين الأحجام والألوان. إلا أن رقصتَي الباليه اللتين تخللتا هذا الفصل في تتابع، كانتا بمثابة الإنقاذ الحقيقي لهذا الفصل من الجو البارد الذي أحاطه.
فإذا كان الفصل الرابع، افترشت المسرح غرفة النوم بمنزل فيوليتا. وبينما تضج الشوارع بالمحتفلين بالكرنفال إذا بفيوليتا على فراشها تحتضر. ويزورها الطبيب ويعلن لوصيفتها بأن النهاية المحتومة وشيكة الوقوع. وتقرأ فيوليتا خطابًا وصلها من والد ألفريدو ويخبرها بأن المبارزة وقعت وقد جُرح فيها البارون، وأما ألفريدو الذي كان قد قسا عليها تلك القسوة فإنه قد علم بالحقيقة، وأنه قادم إليها ليطلب منها أن تصفح وترضى بأن يعود إليها. وهنا تنشدنا فيوليتا لحنًا مطلعه: «وداعًا لكل ما أحب»، ويجيء ألفريدو شاحبًا من فرط ما تملَّكه من مشاعر عنيفة، ويطلب منها الصفح عن قسوته معها، وما يبرح الاثنان ينشدان ألحانًا مؤثرة جميلة حتى تزفر فيوليتا زفراتها الأخيرة.
وأريد أن أسجل أن هذا الفصل الأخير كان أروع فصول الأوبرا؛ فقد ركز المخرج كل قواه في الإضاءة التي كان يعنيه منها في الفصول السابقة أن تبرز فردًا ما أو مكانًا ما — وفي المقابل يهمل المجموعات الأخرى لأن المشاهد ليس بحاجة إلى تفسير كل وجه منها — أقول إن المخرج جعل من الإضاءة في هذا الفصل شيئًا آخر يشبه الحركة فعندما تحتضر فيوليتا يذبل الضوء ويشحب معلنًا بوادر الموت، فتقف على قدميها وتجري نحو حبيبها في مرح، يغمرها الضوء أيضًا بفرحة تشبه الحياة، وعندما يفاجئها الموت وهي في ذروة التمسك بالحياة، يظلل السواد خشبة المسرح كلها.
وبعد، فقد كانت منار أبو هيف رائعة في دور فيوليتا، كما أهنئ يوسف عزت ويوسف صباغ، وتحية حارة إلى المخرج الكبير شكري راغب.
كذلك أصفق من القلب لأوركسترا القاهرة السيمفوني وكورال أوبرا القاهرة وأحمد عبيد وصلاح طاهر، وكل من ساهم في هذا العمل الفني الكبير.
(٤) بين القصرين
إن إخراج قصة «بين القصرين» على الشاشة هو حدث في ذاته … ذلك أن الاتجاه إلى الأعمال الأدبية الكبرى هو اتجاه طيب مهما شابه في التنفيذ ما يبعد به عن الجو الأصلي في القليل أو الكثير.
ولقد أصبح من البديهيات أن إخراج عمل أدبي إلى عالم السينما لا يمكن أن يصل إلى مستوى العمل المكتوب. ذلك أن ميدان الكلمة يختلف تمامًا عن ميدان الكاميرا، بما للكلمة من حريات واسعة لا تملكها الكاميرا.
بالإضافة إلى أن فن الأدب في مصر أكثر تقدمًا، بما لا يقاس، عن فن السينما من حيث إتقان الوسائل التكنيكية في كل منهما.
وبالنسبة لنجيب محفوظ بالذات، هناك عدة اعتبارات لا سبيل إلى تجاهلها حين نقرر أن نخرج أحد أعماله سينمائيًّا: الاعتبار الأول هو أن نجيب محفوظ يقف اليوم في طليعة كتاب الرواية العرب، وهذا الاعتبار يعطي لإنتاجه طعمًا خاصًّا عند المشاهد الذي سبق له أن قرأ هذا الإنتاج في الكتب. كما أنه يعطي رأيًا في هذا الإنتاج لدى المشاهد الذي لم يقرأ هذا الإنتاج من قبل.
والاعتبار الثاني خاص بطبيعة العمل الروائي عند نجيب، فأعمال إحسان والسباعي وأمثالهما عرفت طريقها إلى السينما المصرية بنجاح لأنها لا تختلف من حيث الجوهر عن الأعمال التي تقدمها السينما عندنا لغير الأدباء المتخصصين في الرواية؛ أي إنها أعمال تتلاءم مع المستوى الراهن للسينما المصرية. أما نجيب محفوظ فأمره يختلف تمامًا. والاعتبار الثالث خاص بطبيعة العلاقة بين نجيب محفوظ وبين أعماله عند تحويلها إلى مسرحيات أو أفلام للسينما أو التلفزيون. فهو يقيم هذه العلاقة على أساس الاعتراف بالحرية الكاملة لمن يقوم بتحويل أعماله في تصور هذه الأعمال وتنفيذها؛ فهو يرى أن العمل الخاص به هو العمل المكتوب، أما العمل السينمائي أو المسرحي أو التلفزيوني فلا علاقة له به.
هذه المجموعة من الاعتبارات تحيط إنتاج نجيب محفوظ عند إخراجه للسينما بمجموعة من النتائج. ولقد كان إخراج قصصه «اللص والكلاب، زقاق المدق، بداية ونهاية» شاملًا لهذه النتائج العامة فلعل فيلم «بداية ونهاية»، هو خير الأفلام المأخوذة عن قصص نجيب محفوظ؛ لأن مخرجه (صلاح أبو سيف) تمكن من استلهام روح المؤلف. فأخذ عنه الفكرة الرئيسية ثم رسم شخصياته وحركهم وفق الفن السينمائي. على عكس المخرج المسرحي الذي أخرج نفس الرواية فقد كان أمينًا مع النص أمانة حرفية تبلغ درجة كبيرة من السذاجة.
ورواية «بين القصرين» على وجه التحديد لها وضع خاص. ولقد كتب الراهب جومييه دراسة موجزة عن الثلاثية ضمنها رأيه في «بين القصرين».
وقبل أن أذكر هذا الرأي أنقل تلخيصه لهذا الجزء الهام من الثلاثية. وبين القصرين اسم شارع في القاهرة، فيه بيت أسرة عبد الجواد، في مواجهة سبيل عبد الرحمن كتخدا، على مسيرة خطوات من تلك المجموعة من المساجد التاريخية التي أشهرها جامع قلاوون، وتجري أحداث هذه الرواية بين سنتي ١٩١٧ و١٩١٩م، وهي تروي قصة حياة أسرة من الطبقة البرجوازية التجارية الصغرى، المتمسكة بالتقاليد وتسيطر على الأسرة كلها شخصية ربها السيد أحمد عبد الجواد. ذلك الأب المستبد الصارم الأناني الذي يبدو وكأنه ولا قلب له، بيد أنه لا يخلو من الإحساس بمسئولياته من بعض النواحي.
ويلوح لأول وهلة أن هذه الرواية لا تُعنى إلا بحياة هذه الأسرة؛ أب وأم وخمسة أطفال، وفي مطلعها فصول طوال عن الحياة اليومية لتلك الأسرة. ثم تبدو أمارات التمرد، ممثلة في قرار الأم «أمينة» أن تذهب لأداء الصلاة في مسجد الحسين، الذي لا يبعد أكثر من عشر دقائق عن بين القصرين.
فالمرأة المسكينة — وهي بنت شيخ من شيوخ الأزهر — ظلت طيلة العشرين سنة التي قضتها في هذا الشارع تشعر بشوق شديد إلى زيارة حبيبها الشهيد المقدس في مسجده القريب منها على قيد النظر، بيد أن زوجها؛ ذلك السجان الرهيب، كان يحول بينها وبين الأمنية. وفي طريق عودتها من المسجد صدمتها سيارة «سوارس» فهيضت ساقها، فاستحال كتمان هذا العصيان الذي أقدمت عليه في غفلة من السجان، وكادت هذه الفعلة أن تؤدي إلى الطلاق؛ إذ بعث بها زوجها إلى بيت أمها، وسُويت المسألة بعد ذلك.
وتتلو هذا غراميات ابنَي أحمد عبد الجواد، وأكبرهما ياسين شهواني، وهو بكر أولاد الرجل من زوجة سابقة وموظف كتابي زير نساء، مولع بالساقطات والقريبات المنال، لا يكاد يعرف من ذلك المنهل الكدر شبعًا. ونجد كذلك الفتاة عائشة ذات السبعة عشر ربيعًا تختلس من وراء الوصاوص نظرات إلى ضابط حديث السن من ضباط البوليس يمر في الشارع، وهذا أقصى ما تستطيعه فتاة تحت حكم الحريم القاسي.
أما فهمي، ففي التاسعة عشرة، لطيف الحس، خجول، ونراه يتدبر الأمر بحيث يراجع لشقيقه الصغير كمال دروسه على سطح البيت ساعة الغروب، وهي الساعة التي تصعد فيها بنت الجيران مريم صديقة أختيه إلى سطح بيتها لتنشر غسيلها في تباطؤ مقصود وفي حذر شديد، يتراشق الشابان بالنظرات، لكن في محاذرة بالغة، فأي شك يحوم حول أمرهما قمينٌ أن يثير فضيحة ضخمة. ويحاول العاشقان أن يذهبا إلى أهليهما لعقد خطبتهما، ولكن هذه المحاولات تذهب أدراج الرياح؛ فوالد فهمي هو الذي يزوج أبناءه، وهو يرفض عقد هذا الزواج رفضًا حاسمًا.
وأخيرًا نرى ياسين وأختيه خديجة وعائشة يتزوجون تباعًا زيجات فرضها الأب، ولم تكن لأحد من ثلاثتهم فيها إرادة أو رأي، وجر النسيان ذيوله على الضابط الشاب، وحينما يرتكب ياسين أخطاء فاحشة في حق عروسه بنت صديق أبيه وصفيِّه، فأبوه هو الذي يقرر طلاقة لا هو!
وهذا الجزء من الرواية قد أُعد بإحكام شديد بحيث تلقي كل واقعة من الوقائع المتعاقبة ضوءًا على شخصية أحمد عبد الجواد الصارمة القاسية المستبدة. فتراه في هذا القسم رجلًا متزمتًا في بيئته، حريصًا على أوقات الصلاة، بيد أن له شخصية تبدو للناس في الخارج متى أرخى الليل سدوله، فإذا هو رجل أخو كأس ووتر، حليف صبوة وسمر، يعشق الطرب والمنادمة واللذات الأخر.
وتبدي لنا الرواية الأثر العميق الذي يتركه تكشُّف هذا الوجه الآخر من حياة الأب، لعينَي أعضاء أسرته. ونتبين أيضًا مسارب الوراثة من هذا الأب ذي الحياتين إلى فريق من أبنائه؛ فهذا ياسين قد ورث عنه يقظة الحس وشهواته العارمة. وهذه ابنته خديجة ورثت عنه صلابة الرأي والاستبداد. ثم تأتي مرحلة المظاهرات الوطنية بين سنة ١٩١٨م وسنة ١٩١٩م على أثر توقيع الهدنة في أوروبا. وطالب المصريون بالاستقلال فردَّهم الإنجليز ردًّا عنيفًا. وسقط في هذه المظاهرات قتلى كثيرون.
وقد خصص القسم الثاني من الرواية لهذه الحقبة. بحيث نرى أحداثها من خلال شخوص أبطال الرواية. وتكتشف الأسرة شيئًا فشيئًا نشاط فهمي السياسي، فقد كان عضوًا في لجنة الطلبة، وثار غضب الوالد المستبد، ومع أن هذا الوالد وطني لا غبار على وطنيته فقد رأى في اشتغال ابنه بالحركة الوطنية من غير أذنه خروجًا على طاعته لا يغتفر؛ فالأب هو الذي يقرر وحده مصائر واتجاهات جميع أعضاء الأسرة. وصمد فهمي للعاصفة. ونرى الأب لا يقوى على فرض إرادته لأول مرة في حياته. وتنتهي حياة فهمي شهيدًا في إحدى المظاهرات، من المفارقات أن هذه المظاهرة التي قُتل فيها قامت بترخيص من الإنجليز، على أثر إطلاق سراح الزعيم سعد زغلول من منفاه في جزيرة مالطة.
ماذا صنع المخرج السينمائي بهذا العمل الأدبي؟
في الرواية مغريات كثيرة للتهريج الجنسي … فأحمد عبد الجواد رجل ذو كأس، ولذات أخر، هو عاشق قديم للعالمة «جليلة»، وعاشق جديد للعالمة «زبيدة». والفنان «نجيب محفوظ» لم يقصد بتبيان هذا الجانب من حياة عبد الجواد إلا أن يجسد الازدواجية في تكوين هذا النموذج البشري، أما حسن الإمام فقد استغل الإيحاءات الخاصة بهذا الجانب وأبرزها كعالم مستقل لا علاقة له ببقية الأحداث.
إن التكوين المستقل لكل شخصية من الشخصيات هو العامل الحاسم في مصيرها وهذا هو السبب في أننا نتعاطف كثيرًا مع أم ياسين بالرغم من خطاياها، ولكن هذا التعاطف يفسد علينا في الواقع أهمية التشابك المعقد بين الشخصيات ووضوح المحور الدرامي بين حركة الأحداث.
كذلك نستطيع أن نتساءل: إلى أي مدًى كان المخرج حريصًا على الفكرة الرئيسية عند الكاتب؟ إن الفكرة العامة عند صاحب بين القصرين هي أن الصراع الكامن بين جوانب البرجوازية الصغيرة، ينتصر دائمًا للجانب الأكثر تقدمًا، لقد كانت القضية الوطنية تدق على الأبواب بعنف معلنة ثورة ١٩١٩م، وكانت عشرات الضحايا تسقط في دمائها كل يوم، فأين تقف هذه الأسرة التي يعتمد عائلها على التجارة وأبناؤها على الشهادات وبناتها على الزواج والنسب العريق؟ إن هذه الأسرة لها تكوينها المركب المعقد … فعائلها يعبد ربه بحق، ويعشق لياليه بحق أيضًا، ولم يرَ المخرج في هذه المفارقة إلا جانبها الظاهري، فأبرز التناقض بين الجانبين هكذا: تتجول الكاميرا بين مجون عبد الجواد وزبيدة لحظات، ثم تنتقل فجأة إلى الرجل في المسجد وهو يصلي … ومن ثم تكون الاستجابة الجمهور هي الضحك الحاد! فالرجل — أمامهم — يحاول أن يخدع الله. وليس هذا هو عبد الجواد وليست هذه هي الفكرة الجوهرية في الرواية. إن «بين القصرين» تبلور صراعًا حقيقيًّا يدور في داخل الشخصيات المزدوجة والأحداث المتناقضة؛ أي إن الازدواج والتناقض أصيلان. وليس بهما من الافتعال نصيب.
ويُخيل إليَّ أن المخرج تورط في تتبع العمل الأدبي المكتوب تتبعًا حرفيًّا، فبينما يسلك نجيب محفوظ هذا المنهج المتسلسل لأن التعبير الفني في الأدب يتحمله ويجيزه، خاصة في هذه الأعمال التي تصور قطاعًا عريضًا من البشر والأحداث والمواقف، إلا أن السينما حين تفعل ذلك تتجاهل قيمتها الحقيقية في أنها تملك الأداة التي تتحرك بواسطتها وهي الكاميرا، والكاميرا لها حرية الطبيعة في الحركة. فإذا كان التسلسل في الرواية الأدبية يصوغ الأحداث والشخصيات في إطار طبيعي، فإن نقل هذا التسلسل بحرفيته يلغي هذا الإطار الطبيعي ويُفقده طبيعته تمامًا، أما الكاميرا فعليها أن تعيد تشكيل الموقف بما يتفق مع شاشة السينما من ناحية ومع الفكرة الرئيسية في الرواية من ناحية أخرى.
إن يوسف جوهر الأديب الفنان قد استشعر خفقات قلب نجيب محفوظ الأديب الفنان، وهو يكتب هذه القصة الرائدة، كان يوسف جوهر يدرك بلا شك أن زميله الروائي كتب «بين القصرين» كجزء من عمل كبير هو الثلاثية.
لذلك كانت المهمة الأولى أمام يوسف جوهر هي تركيز مشاهد السينما بحيث تبدو بين القصرين كما لو كانت قصة مستقلة مكتملة، وبحيث يفلت من قيود التفاصيل الكثيرة التي تكتظ بها الرواية خلال أكثر من خمسمائة صفحة من القطع المتوسط، وربما كانت هذه التفاصيل في القصة أحد عوامل «الإيهام» بالواقع والواقعية. إلا أن يوسف جوهر ككاتب سيناريو كان يعلم أن واقع السينما شيء مختلف عن واقعية الأدب. إن التفاصيل التي تستهلك من المؤلف عشرات الصفحات يمكن أن تستوعبها لقطة واحدة لا تأخذ أكثر من ثانية واحدة على شاشة العرض.
وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للتفاصيل الوصفية، فماذا يكون الأمر بالنسبة لتفاصيل المواقف، وتعدد الشخصيات؟
لقد حذف كاتب السيناريو شخصية أم مريم ولم يعرض لزوجها إلا في لقطة واحدة وهو يسعل وبحاجة إلى كوب ماء من ابنته، إن أم مريم في الرواية الأصلية تقوم بدور ثانوي ولكنه هام، أما في السينما فقد استطاع يوسف جوهر أن يحذف دورها كله دون أن يصيب البناء الروائي بخدش يذكر.
وكم كنت أود أن يسلك نفس الأسلوب في معالجته لشخصية الأب وشخصية ابنه ياسين، إن الإفراط في تسجيل الشهوات الوراثية كاد يُفقد هذه الأحداث مدلولها الحقيقي الذي جاءت به الرواية الأصلية، فكان من الممكن الاقتصار على مشهد واحد لياسين وهو يغازل امرأة، ومشهد آخر وهو في بيتها، ومشهد ثالث وهو يحاول الاعتداء على أم حنفي أو جارية زوجته. إن الاقتصار على هذه المشاهد الثلاثة وحذف كل ما تبقى إنما يتفق مع طبيعة السينما من جانب هام هو التركيز على «جوهر» الشخصية؛ لأن تقليد الحياة أو الرواية الأصلية، فوق أنه مستحيل، فهو أمر شاذ، وهكذا الأسلوب في معالجة شخصية عبد الجواد فما كان يعنينا من مجونه سوى تلك اللحظة التي يكتشف فيها ياسين شخصيته الحقيقية.
وكان المصور موفقًا غاية التوفيق في التقاط الزوايا الخاصة بالمشاهد الجماعية الكبيرة: كالمظاهرات والحفلات، فهو يختار أكثر هذه الزوايا تعبيرًا عن الفرح أو الحزن بواسطة ما تشتمل عليه من أضواء أو ظلال. أما في المشاهد الفردية فلم يتمكن من اجتلاء «داخل الشخصية، أو «جوهر» الحادثة المعروضة أو الموقف المطروح للحل.»
ومن المعروف أن الكاميرا قادرة على ذلك بما تستطيعه من تصغير وتكبير، ومن تقريب وإبعاد … وهكذا.
ولا أنسى في هذا الصدد أن المصور يتبع المخرج والسيناريست في هذه النقطة … ومع ذلك فإن التصرف جائز في هذه الحدود ما دام سيخدم الهدف النهائي للفيلم.
وكان اختيار المصور لأمينة (آمال زايد) زوجة عبد الجواد (يحيى شاهين) بعيدًا عن التوفيق … فهي ليست هذه الشخصية القوية التي تخفي قوتها وراء الضعف الأنثوي الرقيق. ربما كانت أمينة رزق أقدر على أداء هذا الدور الصعب من غيرها. لقد كانت مفارقة رديئة أن يتودد الزوج (عبد الجواد) وهو في غاية الأبهة والجمال إلى هذه الزوجة التي تكبره بعشر سنوات على الأقل.
كذلك كان اختيار عبد المنعم إبراهيم لأداء دور ياسين بعيدًا عن التوفيق … لقد كان يبكي عبد المنعم ونحن نضحك في موقف يستحق الرثاء! إن دور ياسين لا يقترب في القليل أو الكثير من الكوميديا التي يتفوق فيها عبد المنعم إبراهيم حسب العادة.
أما يحيى شاهين وصلاح قابيل في دورَي عبد الجواد وابنه فهمي فقد كان اختيارهما موفقًا. لولا المبالغة في بعض الأحيان.
وبعد … فبالرغم من أن «بين القصرين» من أروع ما كتبه نجيب محفوظ، إلا أن «بداية ونهاية» ستظل أروع ما أخرجته السينما لهذا الكاتب الكبير.