في أزمة القصة القصيرة
إلى أين تمضي القصة العربية القصيرة في مصر؟ عشرات المجموعات القصصية الجديدة تتزاحم بعضها فوق بعض على سور الأزبكية، وتقدم لنا هذا السؤال: هل هي ظاهرة مرضية أن يتزايد عدد كتَّاب الأقصوصة ويتناقص قراؤها في نفس الوقت؟ إن أقاصيص نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي وأمثالهم تجيب بالنفي. الواقع أيضًا يضيف بديهية تقول: إن عصرنا يستجيب للقصة القصيرة أكثر من أي فن أدبي آخر؛ لأنها تكتسب أخطر سماته من ناحية المظهر، وهي السرعة. ومع ذلك فالصحافة — ترمومتر عصر السرعة — بدأت تتجه إلى الرواية بشكل ملحوظ، بينما هي الأم الشرعية للقصة القصيرة في بلادنا المجلات الأسبوعية والصحف اليومية على السواء. ماذا حدث؟ لقد سجلت في غير هذا المكان «ظاهرة» أدبية هي أن جيل الشباب الراهن يتجه إلى القصة القصيرة، على النقيض من الأجيال السابقة التي عُنيت بالرواية إلى درجة كبيرة. ويبدو أن المناخ غير الصحي الذي تعيش فيه آدابنا وفنوننا ينبت «ظواهر كاذبة» في أكثر الأحيان. إذ تبين لي من خلال مسابقة نادي القصة للرواية وما قدمه بعض الشباب من إنتاج روائي إلى المؤسسة المصرية العامة للتأليف؛ تبين لي أن هناك أعمالًا جيدة في مجال الرواية ينتجها الشباب وتحجبها أزمة النشر.
ومعنى ذلك أن ما نلحظه من إنتاج كمي ضخم في مجال الأقصوصة ليس إلا ظاهرة كاذبة، تنفيها أولًا من حيث الكم الأعمال الروائية المكدسة عند أولئك الشباب. وتنفيها ثانيًا من حيث الكيف جودة هذه الأعمال الروائية من جهة، وضعف مستوى القصة القصيرة من جهة أخرى.
ألأن الرواية تغري بالجدية والتروي، بينما الأقصوصة تغري بالسهولة واليسر؟ ربما. ولكنه على كل حال سبب سطحي لا يقبل التعميم، ولا ينسحب على كل كتَّاب الرواية والقصة القصيرة؛ لأننا سوف نكشف في الفريقين من يأخذون الفن عمومًا على أنه قضية جادة، ومن يأخذونه لهوًا وتسلية.
أمامي الآن ثلاث مجموعات ترسم فيما أرى معالم الأزمة: «الجورب المقطوع» هي المجموعة الأولى للسيدة ملك عبد العزيز. سوف تلحظ تعاطفًا إنسانيًّا عميقًا بين المؤلفة وشخصياتها. وسوف ينعكس هذا التعاطف الجميل على وجداناتنا بالمرارة والدهشة والفرح … إلخ. هذا التجاوب الصادق بين الفنانة وموضوعات قصصها، والقراء، هو السمة البارزة في مجموعتها الأولى. وهذا التجاوب، بعينه، يفصح عن مزلق خطير يقع فيه أغلب كتاب القصة القصيرة عندنا، وهو نابع من التقاءٍ واعٍ واختيار دقيق لما «يماثل» همومنا وظروفنا وآلامنا. والتماثل لا يتطلب من الكاتب سوى حشد أكبر مجموعة من الأحداث المادية التي تنبثق عنها العبرة في النهاية. التماثل ليس تصويرًا فوتوغرافيًّا للواقع: هو التقاء معه، لا يسبقه ولا يتخطاه ولا يتجاوزه. لذلك تهزنا كلمات الخادم الصغير في قصة «قلب كبير» عندما يرفض الطعام الفاخر الذي أرسلته إليه أمه من القرية، يرفض لأنه يعلم حرمان أسرته، بينما يأكل مثل هذا الطعام وأفخر منه. تهزنا هذه الكلمات، ثم تغادرنا كما هي، ونبقى على الحال التي كنا عليها قبل هزتها العابرة. أمثال هذه الهزات تحدث لأن الكاتب يستلقي بمهارة فائقة في التجاويف النفسية الجاهزة بداخلنا. عملية الاستلقاء هذه تريحنا فنهتز بسرعة ثم ننام.
في قصة «الهاربة» ترى المرأة الصغيرة طفلها الأول من زوجها القديم، فتنثال على مخيلتها كافة التفاصيل التي أودت بها إلى موقفها الراهن من الشك والحيرة والارتياب. التفاصيل صور من التتابع المنطقي المألوف في حياتنا اليومية: يجب أن تتزوج من ذلك الرجل لأنها تعيش «عالة» على عمتها، يجب أن تتحمل الشح والبخل في حياة ذلك الرجل لأنها لا تريد العودة إلى عمتها، يجب أن تخفى جراحها في أعماقها حتى لا تزداد هذه الجراح عمقًا، يجب أن تعثر على المبررات دائمًا، للصمت. يجب، يجب، يجب؛ ولهذا، ومن أجل أن، ولأنها … إلى نهاية هذه السلسلة العقلية من الصور التي أرغمت المؤلفة بطلتها على تذكيرها حتى «نقتنع» بجذورها النفسية أولًا، وبثورتها أخيرًا. هذا المفهوم للقصة القصيرة بدائي للغاية، لا لأنه يفترض غباء القارئ فحسب، بل لأنه يؤدي إلى عكس ما يريده المؤلف. فإننا لن نشعر بتلقائية الأسباب وعفوية النتائج من خلال هذا الترابط الشكلي بين المقدمات والنهايات. سوف يستقر في وعينا أن ركيزة ما في داخل الشخصية أو جوهر الحدث. ومن ثم لن ندهش كثيرًا حين تروي لنا سعاد قصة حياتها كاملة في بضع صفحات تتخللها هذه التساؤلات: هل الأخلاق تورث؟ في عداد أي نوع يدخل البخل؟ أليس له ولو في السن المبكرة علاج؟ ولن ندهش كذلك من الشروح المطولة بين المواقف المختلفة، ولن ندهش أيضًا من النهاية عندما تفيق الأم من ذكرياتها، فتطلب ابنها وتمسح على رأسه وتقبله! هكذا تتم «الحدوتة» ولا أقول الحكاية؛ لأن هذه الأخيرة تركز في بعض المواضع، أما الأولى فتفترض أننا ننشغل عنها أحيانًا، فتكرر المطلوب في صيغ مختلفة.
في قصة «نفوس غليظة» تبدأ الشخصية قائلة: «لقد كنت امرأة شقية، فلاحة فقيرة، تزوجت في صباي ثم مات زوجي ولم أعقب أطفالًا، فارتددت إلى بيت أسرتي» … وهكذا على نفس المنهج في سرد مجموعة هائلة من الأحداث التي تؤدي بالطبع إلى نتيجة محددة. يضاف إلى هذه القصة بالذات عيب خطير ومزية هامة، العيب هو المسافة غير المبررة بين تفكير الشخصية وسلوكها الواقعي، الكاتبة تضع عقلها ولسانها في رأس الشخصية وتدعها تتحرك وفق طبيعتها الخاصة. هذا التناقض الصارخ كان ينعكس على الأسلوب اللغوي نفسه، كأن تتساءل الفلاحة الفقيرة الجاهلة: ومتى كانت الحصاة المنحدرة من أعلى الجبل تستطيع التوقف أو الرجوع؟ غير أن أروع ما في القصة هو تلك المواجهة الفذة في تاريخ الإنسان حين يلتقي بمصيره في هدوء وثبات. إن هذا الموقف وحده كان كفيلًا بأن يتحول بالأقصوصة إلى غاية إنسانية عميقة تتجاوز المدلول المحلي القريب، لولا أن الكاتبة تفهم القصة على أنها «عرضحال» يشتمل على سيرة حياة كاملة في بضعة أسطر، ويؤدي غرضه في أن يهزنا لحظة ولا نلبث أن نحوله إلى «الأرشيف» من غير أن يحتفر في وجداننا أخدودًا جديدًا نستشعر لعمقه وقع التجربة الجديدة. ولكي تقترب الكاتبة من المفهوم الحديث للقصة، فإنها تغلفها في إطار من الذكريات أو الأحلام ظنًّا منها أن يكون هذا هو المونولوج الداخلي، إلا أن المونولوج الداخلي أداة للتعبير عن أزمة أولًا، وأداة تعبير عن الداخل ثانيًا … وأعتقد أنه بات واضحًا أن سياجًا من الذكريات يحمي بضعة أحداث متراكمة تستهدف العظة والعبرة لا يثبت مطلقًا أنه شيء قريب من المونولوج الداخلي.
الفنان صبحي الجيار يزيد هذه القضية وضوحًا. إنه يرقد على فراشه لا يغادره منذ عشرين عامًا. النافذة التي يطل منها على العالم الخارجي هي الأقارب والأهل والأصدقاء ثم التليفون أو الراديو والتلفزيون والكتاب؛ لذلك فنحن لا نتوقع منه تجربة شديدة الاتساع والعمق — إلا في هذه الحدود الضيقة.
صبحى الجيار في مجموعته الأولى «يستر عرضك» كان يقدم للأقصوصة بثلاث صفحات أو أربع يمكن حذفها بلا تردد. وكانت أعصاب القارئ تكاد تفلت منه أمام البلاغة القديمة التي تسود بقية الصفحات بما فيها من تقريرية وجمل شارحة بعضها بعضًا. في المجموعة الجديدة «سوق العبيد» يتخلص الكاتب من أغلب هذه العيوب. غير أن المجموعتين كلتيهما تحملان العيب الأكبر الذي تلمست آثاره على أقاصيص ملك عبد العزيز: هذا الفيض الذي لا ينقطع من الأحداث، فتراكمها في الرأس من خلال ذكرى أو حلم، فصياغتها لقطرات من دمع أو علامة تعجب أو قهقهات فرحة. قصة «سوق العبيد» تحكي لنا قصة امرأة خانها الحظ في الحياة فلم تتزوج، وانتهت بها الأيام إلى مستشفى الأمراض العقلية. هذه مأساة إذن؟ كيف عالجها صبحي الجيار؟ أقصد كيف «رآها»؟ القصة تبدأ براوٍ يعرف طبيبًا بإحدى المستشفيات العصبية، أخبره صديقه الطبيب أن لديه نواة لقصة «كذا!» وراح يحدثه عن أمر الزبونة الجديدة التي تتصور كل شخص تراه بأنه جاءها خطيبًا. ثم ناوله رسالة (لا بد من الرسالة طبعًا في هذه القصص؛ لأن الشخصية غالبًا ستحكي لنا قصة حياتها كاملة). توهمت المسكينة أن الطبيب المعالج خطيب جديد. إنه الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يساعدها؛ فقد تخلت عنها الأسرة شيئًا فشيئًا؛ تزوجت شقيقتها الكبرى بغير عناء، هربت أختها الصغرى مع حبيبها ثم تسلموا جثتها ذات يوم بعد انتحارها احتجاجًا على زواجها الفاشل. أما هي فاكتفت بأحاديث صديق أخيها في التليفون. وأخيرًا تبين لها أن الصديق العزيز متزوج وله ثلاثة أطفال. هكذا رأى الكاتب هذه المأساة، وهي رؤية — كما نرى — من الخارج إلى أبعد حد، رؤية تتحسس القشرة بالتفصيل، بل لأنها تناولت القشرة جاء التفصيل. تقول صاحبة الرسالة في منتصفها تقريبًا: «عجبًا لك يا أبي! أتأبى على ابنتك الاختلاط البريء بين زملائها الطلبة في رحاب العلم، ثم تعرض جسدها لطالب الشراء ليقرر، بعد المعاينة، إن كان يقبل الصفقة أم يرفضها؟» وذلك، عندما نودي عليها ذات يوم لتستقبل خطيبًا، رفضها بعد ذلك. لو أن الفنان قد التفت محتوى هذه العبارة لربما كان في استطاعته أن يغير من منهجه في التعبير الفني. فأزمة التناقض بين الشكل والمضمون في حضارتنا الراهنة هو ما تؤمن به هذه الكلمات. ولكن الكاتب في تركيبه للأحداث على نحو تراكمي جعل منها جزءًا من كل، مجرد سطرين أو ثلاثة في حشد منتظم من الأسطر … أعتقد أنه لو رأى في هذه العبارة هيكلًا شاملًا للأزمة كلها، لو أنه اكتشف من خلالها العنصر المأساوي، لما كان بحاجة لأن يحشد هذه التركيبة الضخمة من الأحداث التي تؤدي فيما بينها إلى مستشفى الأمراض العقلية. غياب معنى الأزمة، وتضخيم الجذور الاجتماعية والنفسية، يتحول بالأقصوصة إلى «حكاية» لها بداية ووسط ونهاية. ولكنها تفتقر إلى الرؤية العميقة إلى الداخل، ولا تتيح للقصة أن تتحول إلى موقف فني كبير الدلالة.
والدلالة الكبيرة تختلف عن العظة اختلاف القصة القصيرة عن الحكاية أو الحدوتة. ففي قصة «شمعه تحترق»، مثلًا، تتساوى مجموعة الأحداث بجزئياتها الصغيرة مع ما تدل عليه فقط. أي إن الزوج المسن المحطم وظروف الزواج غير المتكافئ ووجود الأطفال وظهور شاب تبرق في عينيه نيران الفتوة والحب، كل ذلك يقوده في النهاية إلى قدر مماثل من الانفعال يشير إلى أزمة المرأة في المجتمع. إنه «يشير» ولا يقتحم، لا يفجر، لا يغوص إلى الأغوار الخفية عن عيوننا التي اعتادت هذه المشاهد؛ لذلك ينتفي مفهوم القصة القصيرة ليقدم معنى الحكاية: فكرة اجتماعية في عشرة أسطر يخطها العاشق الولهان، رثاء للنفس تسوقه الشخصية باستجداء عنيف لتجاوبنا، افتعال اضطراري لتحريك الأحداث كأن تصحو الطفلة وأمها تستعد للهرب، أو عيناها تتركزان على الأطفال وهم يودعون الأهل في المحطة حتى «تيقظت فيها مشاعر الأمومة»، كما يقول المؤلف بالحرف، ثم النهاية المصنوعة حيث تعود المرأة في عربة تكاد تصطدم بطفل، فيصرخ السائق: «مالهمش أهل دول؟ دي القطة بتحافظ على أولادها … وبني آدم يرمي ضناه في الشارع!». وحينئذٍ يصوب الكاتب إلى ضمائرنا مدفعًا رشاشًا إذ تقول المرأة الكلمة الأخيرة: «صدقت!» وهكذا عادت الأم الزوجة العاشقة إلى البيت، بعد أن كادت تعبر عن خطورة أزمتها وتفر إلى الحبيب النائي … كل جزئية صغيرة في القصة تقود إلى النهاية التي رآها الكاتب فعلًا … ومن هنا الخطأ: لأن الأقصوصة من خلال الجزئيات القليلة للغاية، تكشف لنا ما هو أكبر وأجلُّ وأعظم؛ تكشف لنا غير العادي وغير المرئي وغير المعروف. القصة القصيرة «موقف» و«رؤيا». القصة الحديثة تبرهن على أن «واحد زائد واحد يساوي عشرة!» أما العكس فمن شأن الحكاية والحدوتة وحدهما: رقم لا نهائي من الجزئيات والمبررات والحيل يؤدي إلى رقم أصغر منه بكثير في النتائج والعظات والعبر.
سيد جاد في مجموعته الأولى «الجدار» يضيف إلى أزمة القصة القصيرة معنى آخر. إن قصصه أنضج بكثير من المجموعتين السابقتين؛ فهو أقرب من الجيار وملك عبد العزيز إلى مفهوم القصة القصيرة. كذلك فهو يعالج أزمة المثقفين. وهو موضوعٌ بِكر لم يناقشه أحد سوى كتَّاب المسرح القليلين في مجال الرواية. سيد جاد يصمم الأقصوصة على ضوء الذكريات أيضًا، من خلال التداعي الذهني الذي يحدث للشخصية في لحظة مركزة. لحظة التمرد في قصة «عالم جديد» حيث تنقله المعدية من بور فؤاد إلى بورسعيد. إنه لا ينسى كلمات أمه: «يا ابني ما تعذبنيش.» هذه الكلمات هي همزة الوصل بين كافة الأفكار التي تتداعى على ذهنه: «تعودوا أن تكون أنت محور حياتهم. لم يتوقعوا أن تبتعد عنهم هكذا فجأة ولو ليوم واحد. لقد صرت أكرهك، وأكره حنانك، وأكره هذا البيت وهذا الحي، وأكره حتى هذه الحياة التي نحياها. أبدًا ما أحببت أمينة وأردت الزواج منها إلا من خلال مفاهيمك المحافظة التي رضعتها من عائلتك. إنها تصلي وتصوم وخجولة وشعرها طويل ومحافظة ولا تكلم أحدًا من الرجال حتى زملائها في الكلية. وشعرت وأنت تطوح الحقيبة الصغيرة في يدك مبتعدًا عن البيت أنك تطوح بكل هذا الجو الخانق وأنك تولد من جديد. وكنت تود من أعماقك لو تقذف بكل ماضيك إلى أغوار هذا البحر.» ويود لو يستطيع ركوب إحدى هذه البواخر وأن يرحل إلى عالم جديد. في قصة «الجدار» أيضًا يستخدم المفارقات، بين العالم الخارجي والعالم الداخلي هكذا: «الأضواء والإعلانات المثيرة والفترينات والنساء الوضيئات. كل شيء كان منطفئًا في قلبي. الناس من حولي كثيرون جدًّا، إلا أنه خيل إليَّ أني وحيد. الشقة مضاءة وفيها ضوضاء، ضحكات وأصوات عالية. ودون أية كلمة دخلت حجرتي وأغلقت الباب خلفي. اقترب ميعاد برنامج كافكا. والنبي يا ماما أقول لاخويا نسمع ساعة لقلبك.»
القصتان سلسلة من الخواطر التي تتمطى وتهرول وتتثاءب وتجري، لا تتملق الواقع بأن تماثله في جزئياته الكثيرة، المتراكمة، ولكنها تتخذ لحظة واحدة معمقة، وتناقش أزمة. ولعل الخطأ الوحيد عند سيد جاد هو التجربة الضيقة أولًا، والتجربة المباشرة ثانيًا. ضيق التجربة في القصتين يتضح من حصر الفنان للأزمة في حدود الأسرة. صحيح أن الحجاب بين المثقف والمجتمع يقوم أولًا بينه وبين البيت في أكثر الصور حدة وعمقًا، ولكننا حين نناقش بالتعبير الفني أزمة المثقف المعاصر في بلادنا، ينبغي أن نتجاهل مظاهر الأزمة مؤقتًا لندخل في جوهرها — وهو الحرية. حينئذٍ سوف تتسع أبعاد التجربة، فلا تضيق على التناقضات البديهية بين المثقف وأهل منزله. يجب أن يتسع هذا المنزل فيشمل المجتمع والكون بأسره. اتساع التجربة وشمولها ينبع من اتساع بصيرة الفنان وشمولها. هذه السعة الفنية ستلغي التشابه بين قصتين متجاورتين: في الأولى «محور حياتهم»، وفي الثانية «الأخ الأكبر والمسئول الأول». في الأولى «ألف بنت تتمنى الزواج منك»، وفي الثانية «هو اللي خلق عواطف مخلقش غيرها … البنات كتير.» السعة الفنية أيضًا تلغي وسائل التخاطب التقريرية المباشرة: «لا أدري لماذا أشعر أن هناك هوة نفسية كبيرة … تفصلني عنهم، وهل هي أنانية مني؟ لا ليست أنانية؛ فالواقع أنهم يتسامرون معًا وأنا الوحيد الغريب بالنسبة إليهم وإلى جوِّهم وكلامهم؛ فلا أقل من أن يتركوني في حالي ولا يقتحموا وجودي الخاص.» السعة الفنية كذلك سوف تلغي الحلول التوفيقية الساذجة، كأن يلتقي المثقف مع أهله فيدعوهم إلى سماع «ساعة لقلبك» ويدع كافكا مصلوبًا على الجدار. كما تلغي الحلول الهروبية، كأن يبهره منظر البواخر المبحرة ويتمنى الرحيل إلى عالم جديد. أي إن سيد جاد لا يفتقر إلى المفهوم الحديث للأقصوصة، ولا يفتقر إلى القضية الملحة على وجداننا بعنف. ولكنه بحاجة شديدة إلى التخلص من الأبنية التقريرية المباشرة، فيتخلص حينذاك من التجارب الضيقة، ويتفتح عالمه القصصي على دنيا كبيرة واسعة الأرجاء.
معنى ذلك أنَّ تخلُّفنا العظيم في فهم القصة القصيرة هو الآفة الرئيسية التي تأكل أكوام المجموعات الجديدة على سور الأزبكية في القاهرة. معناه أننا ما زلنا متعلقين بنماذج القرن التاسع عشر في إنتاج تشيكوف وموبسان وغيرهما من رواد القصة القصيرة في العالم. وهو تعلق طفولي لا ينم عن نضج في التفكير الفني. فالرواية عندنا رابضة بين أسوار القرن الماضي. ولكنها كتعبير مستريح عن مراحل تطورنا الاجتماعي لا يضطر مؤلفوها إلى الافتعال. بينما القصة القصيرة، كالشعر الحديث، إذا لم تستجب لأحداث منجزات الحضارة في العالم، فإنها تتخلف عن التعبير السريع عن حضارتنا وعصرنا.
معنى هذا التخلف، أيضًا، أن النقد عندنا لم يؤدِّ واجبه كما ينبغي. الكتاب النظري الوحيد في القصة القصيرة لرشاد رشدي لا يقترب من حل الأزمة في الكثير أو القليل. فهو يعتمد أساسًا على مفهوم القرن التاسع عشر الذي نريد تجاوزه، وهو يستمد نماذجه من الآداب الأجنبية فحسب، فيستشعر أدباؤنا مسافة كبيرة بين أزمتهم المحلية والحلول التي تبدو لهم — خطأً — وكأنها مستوردة.
ومن يشك في ضراوة هذه «الأزمة» التي تجتاح القصة العربية القصيرة … أدعوه إلى التجوال معي — مرة أخرى — بين مجموعات من القصص، تجاوز أصحابها مرحلة الشباب، فربما نتعرف على جذور الأزمة.
(١) ليلة عاصفة
إحدى فتيات روما، قابلت شابًّا مصريًّا ذات ليلة، على رصيف أحد المقاهي … مضت الليلة كلها بينهما في حديث ديني حول التوراة؛ فقد كانت الفتاة يهودية. وأحس الشاب المصري بأنه أمام نموذج غريب لفتيات أوروبا بوجه عام، وبنات اليهود بوجه خاص؛ فقد ظلت «إستر» تسرد أمامه قصص التوراة بخشوع ورهبة عظيمتين. وفي مساء اليوم التالي صادفت عينا الشاب منظرًا مثيرًا بإحدى العربات الواقفة في الطريق الجبلي؛ فقد كانت «إستر» بداخلها شبه عارية بين أحضان رجل. وأقبل الليل وأقبلت الفتاة معه إلى موعد اللقاء بينهما (هي والشاب المصري) وحينئذٍ صارحته بالحقيقة. أجل، إنها بغي، ولكن ليس بسبب الفقر أو الشهوة أو انحطاط النفس … كلا … وإنما هي تلقت ذات يوم هاتفًا داخليًّا عميقًا بأنها سوف تتزوج من المسيح المنتظر. لهذا تقدِّم نفسها إلى كل من تتوسم فيه المسيح المنتظر. ثم التفتت إلى الشاب قائلة: ألم يهمس في أغوارك هامس ذات ليلة بأنك المسيح المنتظر؟
هذا ما تقوله «البغي المقدسة» في المجموعة القصصية الجديدة التي صدرت للأستاذ عبد الحميد جوده السحار تحت عنوان «ليلة عاصفة». وهي نموذج لما يمكن تسميته بأزمة القصة العربية القصيرة حيث يغلب طابع الحدوتة أو الحكاية على مجموعة من الأحداث أو الجزئيات التي لا تشكل فيما بينها موقفًا فنيًّا عميقًا هو ما ندعوه بالقصة القصيرة. فاللحظة الإنسانية التي اختارها الأستاذ السحار لا تسلط الأضواء على دلالة أو زاوية خاصة من زوايا هذه العلاقة العابرة. كما أن أيًّا من الشخصيتين لا يقدم لنا «حالة» معينة من حالات الوجدان أو الضمير الإنساني التي تستوقف النظر. وإنما استرعى المؤلف هذا «البناء» المكون، من بداية ووسط ونهاية. أما علاقة هذا البناء بما يحتويه من شحنة عاطفية أو فكرية؛ فهذا ما لا يلتفت إليه الكاتب مدفوعًا بإحساس فني مثقل بمعنى الحدوتة والحكاية، وبعيد تمامًا عن معنى القصة القصيرة … هكذا نقرأ له القصة المعنوية «فتاة من تل أبيب» فلا يسترعي انتباهنا إلا «شطارة» الفتاة اليهودية التي تنجح في سبع صفقات تجارية لحساب إسرائيل في إحدى المناطق الأفريقية، مقابل سبع ليال رخيصة تبتذل فيها الروح والجسد. غير أن الأستاذ السحار من كتَّابنا القلائل الذين لا يتعبون من الإلحاح والتأكيد على أهمية القيم الإنسانية في بناء المجتمع، مهما كان هذا التأكيد والإلحاح معوقين في بناء الفن.
(٢) رصيف العذراء السوداء
الهداية في الأدب موضوع قديم، وليست رائعة أناتول فرانس «تاييس» بأقدم الأعمال الأدبية التي عالجت هذا الموضوع، لكنها من أشهرها.
فالراهب القديس الذي يتوجه إلى غانية الإسكندرية لهدايتها، يعود بها وقد لعبت الشهوة بقلبه فزلَّت روحه، بينما تتحول الراقصة إلى قديسة حقيقية. هذه الفكرة نفسها هي التي أغرت سومرست موم فيما بعد أن يكتب قصة «الأمطار» التي تدور فوق ظهر إحدى السفن، حيث يتولى قسيس شاب هداية إحدى العاهرات، ولكن الجميع يشاهدون في صباح أحد الأيام جثة المبشر الإنجليزي طافية على سطح الماء؛ إذ هو قد أقدم على الانتحار، لا لفشله في رسالته الروحية، بل لأنه انزلق هو نفسه إلى مهاوي الخطيئة. وهناك أيضًا قصة تشيكوف التي يترك فيها أحد الرهبان ديره ليتجول في المدينة ويرى «مفاسد العالم» ثم يعود ليروي مشاهداته أمام زملائه الرهبان … فلا تكاد أشعة الفجر تبدو في أفق اليوم التالي حتى يكون جميع الرهبان قد غادروا ديرهم إلى غير رجعة؛ فقد استهوت قلوبهم ملذات العالم وشهواته.
في هذه الأعمال، وغيرها، تبدو الهداية موضوعًا للأدب، ولكن الفنان الأوروبي استطاع أن يكيف الموضوع وفق ما يشغله من قضايا الفكر والحياة. أي إن الهداية في ذاتها لم تكن في تلك الأعمال سوى الهيكل القصصي الذي يكسوه الأديب باللحم والدم من بقية عناصر العمل الفني الأخرى كوجهة النظر الفكرية والدلالة الاجتماعية والخبرات النفسية والجمالية، وما إليها. أما قصة «رصيف العذراء السوداء» التي كتبها الدكتور عبد السلام العجيلي، فإنها تستلهم أحداث هذا الموضوع دون أن تضيف شيئًا جديدًا … فنحن أمام شاب عربي يقطن أحد أحياء باريس المعروفة باللهو، ونعلم أنه أخفق في دراسته من كلية إلى أخرى لأن هوايته الكبرى كانت أحضان الغانيات. وذات يوم يلتقي بفتاة فرنسية على أحد المقاهي فتلفت نظره بهدوئها وجدِّيتها ووقارها الذي تتناقض مع طبيعة الأغلبية الساحقة من بنات باريس. ويبدأ التعارف، بينهما، فيفهم أنها شديدة العناية بالدراسات الدينية، وتبدأ هي معه جولة «الهداية» فتزور معه الكنائس والأديرة وتناقشه في أمور الروح، وتهيم به في سموات عليا.
«طريقانا مختلفان يا عباس، بل لعلهما متعاكسان من المعرفة نحو المحبة، وأنا بدأت من المحبة لأنتهي بالمعرفة … في هذين الطريقين المتعاكسين لا يمكن أن نلتقي إلا مرة واحدة … ويبدو أننا التقينا في تلك المرة. تقاطع طريقانا مرة واحدة فالتقينا؛ وذلك على رصيف العذراء السوداء … هل نسيت؟!»
وتنتهي القصة … وهي أساسًا تعتمد على التجريد والتعميم في معالجة قضية لا تحتمل التجريد والتعميم … وهي بذلك قريبة الشبه من رواية عبد الحميد السحار «جسر الشيطان»، على الرغم من تناقضهما؛ ففي قصة السحار يحاول الشاب العربي هداية الفتاة الألمانية، في إطار من المناقشات التقريرية حول الدين وأهميته في هذا العصر … وفي نفس الوقت أراها بعيدة الشبه عن قصة سهيل إدريس «الحي اللاتيني» العلاقة بين الشاب اللبناني والفتاة الفرنسية بالرغم من رمزيتها إلى تفاعل الشرق والغرب، كانت علاقة إنسانية مدعمة بالشخصيات الحية والأحداث والتجارب والمواقف التي تحمل قيمة مزدوجة؛ فهي لا تقتصر على الرمز، وإنما تتجاوزه إلى مسارب الحياة ودنيا الواقع بكل ما تشتمل عليه من نبض حي وتشابك معقد. أما «رصيف العذراء السوداء» فإنها تخلو من أية قضية فكرية تمنحها الحق في التجريد والتعميم الذي يتحول عن مهمته الأصيلة في البناء الفني إلى أن يكون مجموعة من التقارير المباشرة.
(٣) انتصار الحياة
محمود تيمور أحد رواد القصة العربية القصيرة، هذا ما لا يستطيع تجاهله أي باحث جاد، ولكن هذا الباحث من ناحية أخرى لا يستطيع أن يتجاهل نوعية الاتجاه الذي ارتاده محمود تيمور في مجال الأقصوصة. هذا الاتجاه الذي استلهم بكل تأكيد خطى الكاتب الفرنسي المعروف جي دي موباسان. وهو اتجاه يقوم أساسًا على المفارقات اليومية في الحياة ثم عكسها على صفحات الفن، في صورة المفاجأة والمصادفة ضمن إطار «الحبكة» المحكم.
ولئن كان الأستاذ تيمور قاد هذا الاتجاه في بواكير هذا القرن، حيث كانت الاستجابة واضحة لدى فريق كبير من الكتاب المصريين آنذاك، فإن هذا التيار لم تعد له السيادة منذ عشر سنوات على الأقل؛ فقد حلت مكانه اتجاهات فنية أخرى لا يعنيها في الكثير ما تحفل به الحياة من مفارقات ومفاجآت أو مصادفات ربما كانت تتضمن في أعماقها وجذورها ما يبعد بها عن صورة المفارقة. واجتهد أدباؤنا في البحث والاستقصاء عن العوامل الدينامية التي تكشف عن مدى تعقد الواقع وتشابكه بحيث أصبحت المفاجأة مجرد مظهر لجوهر أعمق.
على أنه بالرغم من انصراف أدبائنا — أو معظمهم على وجه التحديد — عن هذا الاتجاه التيموري الذي يستمد تقاليده من موباسان، إلا أن الرائد الأول لهذا الاتجاه لا يزال، إلى الآن، أمينًا له ولتقاليده على السواء. ولعل أحدث المجموعات القصصية للأستاذ محمود تيمور «انتصار الحياة» تؤكد لنا هذا المعنى.
وفي هذه القصة التي اختارها المؤلف عنوانًا لمجموعته كلها — وهي أطول قصة في الكتاب — تبدأ الأحداث في عيادة أحد الأطباء الشبان، عندما كان يستعد لقضاء السهرة مع أصدقائه احتفالًا بترقية أحد زملائهم أستاذًا بكلية الطب. وفي اللحظة الأخيرة التي كان يهم فيها الطبيب بمغادرة عيادته أقبلت فتاة شابة تطلب مقابلته، وكانت «المفاجأة» الأولى أن الفتاة ليست مريضة تطلب الشفاء، وإنما هي إحدى قارئات مقالاته حول الانتحار … وكان قد وعد قراءه بمقال هام حول أحدث وأخطر أنواع طرق الانتحار، فجاءت هي ترجوه أن يخبرها بمضمون هذا المقال لأنها تعد بحثًا جامعيًّا حول الانتحار كي تنال عليه درجة الماجستير. وبعد محاولات ومناورات بين الطبيب وزائرته الجميلة يخبرها بأنه عثر على «نصل كليوباترا» الذي يتيح فرصة هانئة للمنتحر؛ إذ يتم موته في هدوء الأحلام الساحرة. ثم تبدو الفتاة والطبيب كلاهما وقد انتشيا باللحظة، فجاء الطبيب بزجاجة الكونياك لتسبقه الفتاة إلى صب الأقداح والمناجاة والاستسلام. إلا أننا «نفاجأ» مع الطبيب في صباح اليوم التالي بأن الفتاة سرقت النصل الذهبي وهربت به، وما كانت الخمر والمناجاة والاستسلام إلا وسيلة ناجحة للحصول على ما تريد، وأمضى الطبيب الشاب فترة عصيبة من القلق الحاد، على مصير الفتاة من ناحية وعلى نصله الثمين من ناحية أخرى … ثم تفتق ذهنه عن فكرة صائبة هي أن يكتب مقالًا عنوانه «المصل الشافي من داء الانتحار» خاطب فيه الفتاة بغير اسمها مزينًا لها الحياة وآمالها … وقد «فوجئ» الطبيب معنا بعد عامين بأن فتاة تركت له في العيادة لفافة ما إن فتحها حتى ذهل، فلم تكن سوى رسالة جامعية عنوانها «انتصار الحياة»، مع رسالة شخصية من الفتاة سردت فيها حياتها الشقية التي لوثها غدر حبيبها الخائن، وكيف أنها فكرت جدِّيًّا في الانتحار، حتى حصلت على النصل العجيب، ولم تكن حينذاك طالبة بالدراسات العليا، إنما كانت مجرد تلميذة في السنوات الجامعية الأولى، ولكنها بعد لقائها بالطبيب وقراءتها لمقاله الذي يصد عن الانتحار، أكملت دراستها، وبدأت تكتب رسالتها العلمية حول الانتحار من وجهة نظر «انتصار الحياة»، وفي الخاتمة تعِد الطبيب بلقاء قريب … وتنتهي القصة.
والقارئ لهذه الأقصوصة وزميلاتها في المجموعة، سيضطر اضطرارًا إلى أن يسأل نفسه: ما هو الدور الذي تؤديه المفاجأة هنا؟ هل هي تقوم بدور فني كعملية التشويق المطلوبة في أي عمل أدبي؟ لقد هدم تيمور عامل التشويق هذا من أساسه حين ضمن قصته نص المقال الضافي الذي كتبه الطبيب، وهو يبلغ في القصة خمس صفحات كاملة. كذلك جاءت رسالة الفتاة في أربع صفحات تطفئ عامل التشويق بلا هوادة؛ فقد كان المقال والرسالة شروحًا تقريرية ونصائح مباشرة. وقد يسأل القارئ: هل تقوم المفاجأة في قصص تيمور بذور فكري؟ … إن كثيرًا من الأعمال الأدبية العظيمة تعتمد على المصادفة كعنصر فكري في العمل الفني، ولكن المفاجأة في قصة «انتصار الحياة» لا تدخل مطلقًا ضمن البناء الفكري للقصة، لأن هذا الانتصار يتم بناء على إقناع فردي محض، والإقناع الفكري المجرد يخلو تمامًا من عامل المصادفة أو المفاجأة. لذلك تجيء هذه القصة ومثيلاتها مجرد معادلات رياضية تبدأ بالفرض وتنتهي بالحل دون أن تشارك الشخصيات أو الأحداث في تكوين الموقف الفني العميق الذي ندعوه بالقصة القصيرة.
(٤) الجمال الحزين
الريادة الأدبية في عصرنا ليست بالشيء اليسير الهين؛ لأنها تتطلب من الفنان وعيًا عميقًا بالتراث الإنساني في الفكر الأدبي على مدى التاريخ، كما تتطلب أن يكون لدى هذا الفنان ما يضيفه إلى هذا التراث.
ولا شك أن كل أديب وفنان ومفكر وفيلسوف، يضيف شيئًا ما إلى الضمير الإنساني والوجدان البشري، ولكن هذه الإضافة تختلف عما يضيفه الرواد في كونها نابعة من الطبيعة التلقائية للأدب والفكر والفن … أما الرائد فيصنع شيئًا آخر إلى جانب تحقيقه هذه المهمة؛ هي الانعطاف بالقيم الفنية السائدة — ولا أقول السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية — إلى طريق جديد لم يعرفه الفن من قبل.
وفي تاريخ القصة العربية القصيرة في مصر، يقف صف طويل من الرواد: محمود تيمور وطاهر لاشين ويحيى حقي ومحمود البدوي وغيرهم … ولقد تحققت الريادة لهذا الجيل العظيم بتحويل القصة القصيرة من «الحدوتة» و«الحكاية» إلى المعنى الفني الحديث للأقصوصة كما عرفها الغرب.
ونحن لا ننفي أن جيل الرواد هذا قد تأثر بالآداب الأوروبية، ولكننا لا ننفي كذلك أصالة جذوره المصرية. ومن هذا اللقاء بين الأدب الغربي والتجربة المحلية تتولد سمات أدبنا الحديث بعامة، والقصة بنوع خاص.
وعندما نقول: إن محمود البدوي أحد رواد القصة المصرية القصيرة، فإننا نعني بذلك أنه يشترك مع بقية أبناء جيله في تنقية هذا الشكل الفني من شوائب الحدوتة والحكاية، وتقديم النماذج الطيبة للقالب القصصي السليم. غير أنه يتميز عن بقية زملائه بجملة سمات لا بد من إيجازها قبل التعرض لمجموعته الجديدة «الجمال الحزين»، فالبدوي يتسم أولًا بالرؤية الشعرية للحدث أو الفكرة أو زاوية التصوير، فيتخير أكثرها شفافية واقترابًا من العواطف المرهفة. كما يقتنص نماذجه البشرية من الشخصيات التي تفيض بالشجن العميق أو الفرح العظيم … ولهذا السبب يتسم أدب البدوي، ثانيًا، بوقدة الانفعال والترقب والوقوف على الحافة، فلا نلمس الفتور مطلقًا في أي من مستويات الأقصوصة أو نقلاتها المتتابعة، بل هي تشدنا عبر الصفحات شدًّا رقيقًا، وتجذبنا من خلال توترها جذبًا رفيقًا. وتقودنا هذه السمة البارزة في أقاصيص البدوي إلى خاصية التشويق والإثارة في أدبه، التي لا تعتمد على الحبكة، أو المفارقة، أو المفاجأة. وإنما يجند الفنان كافة أدواته التعبيرية في خلق هذه الشحنة العاطفية المليئة بالنبض الحي غير المتوقف، حتى ليخيل للقارئ أن المؤلف كتبها في جلسة واحدة. بينما أعرف — شخصيًّا — أن محمود البدوي كاتب بطيء للغاية، فإذا لم ننسَ أنه من الكتاب المقلين في إنتاجهم الأدبي، استطعنا أن ندرك بسهولة أن التروي والصبر والأناة البالغة من الصفات الأساسية في شخصية هذا الفنان الكبير … ولذلك تجيء قصصه تجسيدًا حقيقيًّا لهذه الشخصية فيما يتضمنه بناؤها ومحتواها من الصدق الفني والتأمل العميق.
ولا أعتقد أنه من الصواب في الحكم أو من الموضوعية في النظر إلى الأشياء، أن نطالب الرواد في مرحلة بعينها أن يظلوا روادًا لكل مرحلة، إذن لانتفت سُنة التطور، واختلَّت موازين التقييم. فليس من واجب الناقد المنصف أن يطالب محمود البدوي بأن يظل في مستوى إنتاجه السابق: «الذئاب الجائعة»، «فندق الدانوب»، «العربة الأخيرة» … إن من يتقدم بهذا السؤال لا ينشد في واقع الأمر أن يبقى البدوي في حدود هذا المستوى؛ لأننا سوف نرى من خلال إنتاجه الأخير «الجمال الحزين» أنه لم يهبط عنه كثيرًا … إن السائل يود في الحقيقة أن يرتفع البدوي وأبناء جيله إلى مستوى العصر في التكنيك والقيم على السواء.
وأجيب مخلصًا بأن هذا المطلب يتنافى مع أبسط القواعد الفنية ومبادئ النقد. فهو إذا كان يصدق مع الأدباء العاديين، فإنه لا ينطبق على الرواد بالذات. لا لأن من طبيعة الأولين التطور، والآخرين الجمود، بل لأن الرائد يعاني المرحلة التي يجتازها معاناة ذهنية ونفسية عميقة بحيث يصعب معها بعد مرحلة تقصر أو تطول، أن يعاني قسوة الانتقال إلى عصر جديد. إن فتوحاته وريادته تنعكس على حياته كلها، وفي جميع أبعادها، حتى يندر احتمال «المجازفة» بفتح جديد، كما يشق على من كان قائدًا يومًا ما السير في تيار جديد لم يسهم في تكوينه إلا بصورة تاريخية وغير مباشرة.
ينبغي أن ننظر إلى هذه النقطة باحترام وتقدير، قبل أن نحول الأقلام إلى سيوف تغريها رقاب كل قديم لم يعد جديدًا في عصرنا.
لذلك قرأت مجموعة «الجمال الحزين» وفي أعصابي نشوة الإعجاب القديم بإنتاج هذا الكاتب الفذ: محمود البدوي. ولا ريب أن معظم أقاصيص المجموعة تبتعد — إن كثيرًا أو قليلًا — عن المفاهيم والمقاييس المعاصرة للقصة القصيرة. ولكن هذه المقاييس كانت تذوب تمامًا كلما توهجت صفحات «الجمال الحزين» بحرارة قلم البدوي، وشعوره الفياض.
ففي قصة «الضبع» يكرر الكاتب كلمة «كان» ست عشرة مرة في الصفحة الأولى؛ وبالتالي فإن الفعل الماضي يصبح سيد الموقف القصصي؛ مما يتوهم المرء معه بأن الأقصوصة ستهوي في قاع الرتابة والصيغة الخبرية. إلا أننا نفاجأ بالفنان يروي لنا في حماس متدفق كيف أن «طاهر» صاحب المزرعة لم يبغ أن يطارد اللصوص الذين سرقوا الغنم من حظيرته برصاص البنادق، إنما استحضر كلبًا «أرمنتيًّا» ضخمًا انتصر على كلاب القرية جميعها في مواقع حاسمة. وقد تعود «منير» ابن «طاهر» أن يعاكس الكلب وهو مربوط في السلاسل إلى أن جرؤ ذات مرة على قذفه بحصاة فقأت إحدى عينيه وسال منها الدم. ومن ثم انتهز الكلب فرصة انفكاكه في اليوم التالي وهرب من القرية كلها. وذات يوم فوجئ «منير» مع بعض الصبية بالكلب يهجم عليه وينشب فيه أنيابه حتى تركه ميتًا، وهرب مرة أخرى. وناحت الأم والأب والأهل والقرية جميعها على الطفل الميت. وخرج الجميع يبحثون عن الكلب المسعور دون جدوى … وذات ليلة خرج ثلاثة من الرجال الأشداء للبحث عن الكلب، فعاد منهم اثنان ومات الثالث بقبضة الحيوان المسعور التي أدمت صدره. وعزم «طاهر» على الخروج لملاقاة الكلب العتيد، وأخذ معه بندقيته، ولمح على البعد حيوانًا أسود صوَّب نحوه الزناد وضرب، وخيم السكون، ولم يعد «طاهر» في تلك الليلة إلى منزله. وفي الصباح عثر عليه الرجال عند جذع شجرة جالسًا بلا حراك، وفوق صدره قبضة مدماة، وقلبه متوقف تمامًا عن النبض! وإلى جانبه رقدت جثة حيوان ضخم اكتشفوا أنه «ضبع» أما الكلب القاتل، فراحوا يجدُّون في البحث عنه من جديد.
والقصاص على هذا النحو يصور تشابك العلاقات الإنسانية ومؤازرتها للبشر في محنتهم أمام «القدر» الذي يهددهم كل لحظة بالمفاجآت. وهو يحيط هذه الدلالة بهالة من الرمزية القريبة إلى الذهن والوجدان، كما صنع نجيب محفوظ في قصته «ضد مجهول» حيث روع سكان العباسية بأن بعضهم يتساقطون الواحد تلو الآخر باختناق أعناقهم تحت ضغط حبل مجهول. والفرق بين الأقصوصتين أن البدوي رمز إلى غايته بالكلب المتوحش فاتضح لنا موقفه أيما وضوح، أما نجيب محفوظ فقد آثر الحيدة الموضوعية إزاء هذه الظاهرة الغريبة … وكلا الموقفين يعبر عن مدى عمق الكاتبين العظيمين.
إن تشابك العلاقات الإنسانية عند محمود البدوي، يؤدي به إلى التعاطف الشديد مع الضعف البشري بوجه عام والشخصيات المتواضعة بوجه خاص. ففي قصة «الساعة» يصاب موظفو الديوان الذي يعمل به السيد أحمد عبد الغفار بحزن وامتعاض شديدين لضياع ساعته الثمينة دون أن يصلوا إلى معرفة «اللص» وهم؛ لذلك، يوجهون التهمة إلى الشخصيات الفقيرة، كالفراش مثلًا. غير أن الفراش لم يكن قد سرق الساعة، بل هو يفاجأ بها في أحد المحال التجارية فيشتريها بثلاثة جنيهات بعد أن عرف السارق الحقيقي الذي باع الساعة إلى المحل، وهو السيد «همام» الموظف بالمكتب. ولا تصدمه الدهشة لأنه يعلم أن هذا الموظف له ابن مريض بشلل الأطفال، وقد تراكمت عليه الديون لسداد ثمن الأدوية. ومن ثم كان من الطبيعي أن يسرق الساعة لتسهم بنصيب ما في التخفيف من هذه المصيبة، ويعيد الفراش الساعة إلى صاحبها فتثبت عليه التهمة.
ويصل السيد همام ذات يوم باكيًا ولده الذي مات صارخًا بأن السبب هو المال الحرام. ويعتقد الجميع أنه يهذي لوفاة الطفل: وكان الفراش هو الإنسان الوحيد الذي يعرف السبب، ولكنه صمت ورضي بالمهانة التي لحقت به حتى لا يتحطم الأب المسكين.
هكذا يتعاطف البدوي مع الضعف البشري ويبرر سقطات الإنسان تبريرًا إنسانيًّا عميقًا. غير أن تشابك العلاقات الإنسانية في أدب البدوي، والتعاطف الحار مع الضعف البشري، لا يلغي قوة الضمير الإنساني … ففي قصة «في الليل» يعود الزوج مع أسرته في عربته الخاصة ويدهم في الطريق شيئًا ما فيسرع لا يلوي على شيء. ولكنه ما إن يستقر في استراحة قريبة وتأوي العائلة إلى الفراش، حتى تتنازعه ضروب شتى من المشاعر … فلا تكاد تنبلج خيوط الفجر حتى يغادر المكان إلى السيارة فيقشعر بدنه من الدماء اللاصقة بها … وتدفعه قوة من أعماقه لا تقهر … لأن يركب العربة ويعود إلى مكان الحادث، فيكتشف أن ما دهمه بالأمس كان ذئبًا ضاريًا من ذئاب الصحراء … إن المفاجأة هنا لا قيمة لها؛ لأن الرجل توجَّه إلى المكان وفي ذهنه أن ثمة قتيلًا ربما يؤدي به إلى المشنقة، فلم يعبأ بمصيره الفردي في سبيل الحفاظ على قوة الضمير الإنساني.
ومن تشابك العلاقات الإنسانية والتعاطف مع الضعف البشري وتجسيد قوة الضمير الإنساني، ينبع من أدب البدوي معنى القيمة الإنسانية ففي قصة «في المحطة» ينزوي الصراف الغريب في أحد أركان المقهى القريب من المحطة بعد أن نمي إلى علمه أن القطار لن يصل حتى الصباح … ولم يكن بالمقهى سوى «صابر»، وأحد الرجال الأشقياء فلم يكد الغريب يغفي قليلًا وكلتا يديه على صدره تحمي حافظته الحكومية التي تضم ثلاثة آلاف جنيه … لم يكد النوم يطرق أجفانه حتى اخترقت أذنيه — كما لو كان في حلم — صوت رصاصة انطلقت قريبًا منه، ففتح عينيه وإذا الرجل الشقي ملقًى على مبعدة أمتارٍ جثةً هامدة وفي يديه الحافظة الحكومية، بينما كان «صابر» يضع البندقية التي في يده! أي إن حرمة الغريب بلغت ﺑ «صابر» أن يردي الرجل الآخر قتيلًا ما دام قد تجرأ على اغتيال القيمة الإنسانية الحقة باستغلاله نوم الغريب وسرقة الأمانة الحكومية التي يحملها.
هذه — إذن — هي الخطوط الأساسية لمجموعة محمود البدوي: العلاقات الإنسانية المتشابكة، وهي تؤدي إلى التعاطف مع الضعف البشري، وتؤكد قوة الضمير الإنساني، وتبرز المعنى الحقيقي العميق للقيمة الإنسانية. وفي مثل هذا العالم المضطرب الذي نعيش فيه كم نحن بحاجة ماسة إلى هذه الشحنات المتوهجة بحرارة القيم الإنسانية التي تشع من وجدان فنان عظيم كمحمود البدوي.