اتجاهات …
أصدر الملحق الأدبي الأسبوعي لصحيفة التايمز الإنجليزية، عددين في يوليو وأغسطس من عام ١٩٦٣م خصصهما لدراسة المذاهب النقدية الحديثة في أوروبا وأمريكا. وأريد هنا أن أنقل إلى القارئ العربي النص الحرفي الكامل لمقالين على جانب كبير من الأهمية، يناقشان معالم الطريق إلى النقد العلمي والتقييم الحديث. بالإضافة إلى «الفصل الأول» من كتاب د. ليفيز «اتجاهات جديدة في الشعر الإنجليزي».
ذلك أن مفهوم الحداثة في النقد يمهد بالضرورة إلى مفهوم الحداثة في الفن.
ولما كانت الحداثة بمعناها المعاصر هي الرؤيا الحضارية الشاملة للعالم، فإننا نستشعر مدى الضرورة وعمقها التي تدفعنا نحن النقاد والفنانين والقراء العرب إلى اللحاق بركب الحضارة الحديثة في مجال الفن والفكر بصورة تتيح لنا أن ننجز مهام ثورتنا الحضارية في أرقى مستوياتها. والقيادة الفكرية للثورة العربية المعاصرة سوف تظل متخلفة عن القيادة السياسية، طالما أنها لم تردم بعد الهوة العميقة التي تفصلنا عن أرفع مستوى حضاري بلغه العالم في مجال الفكر؛ فالإنجازات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الباهرة في بعض أجزاء الوطن العربي ترتفع إلى مستوى التجربة الإنسانية الكبرى لأنها تستلهم كافة أبعاد هذه التجربة بشجاعة وصراحة وتواضع، أما الواجهة الفكرية لهذا البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإنها تتخلف في الكثير عن المنسوب المادي لهذه الحضارة.
فما نزال في مجال النقد الأدبي، في مرحلة شديدة التخلف. هي مرحلة التقسيم المتعسف للعمل الفني إلى شكل ومضمون. إن هذه التسمية لا تختلف في الكثير عن التسمية السابقة: الصورة والمادة. ولا هذه تختلف عما قال به الأقدمون عن اللفظ والمعنى. ولا شك أن عزلة النقد الأدبي في بلادنا عن كافة العلوم الإنسانية الأخرى كان سببًا رئيسيًّا فيما آل إليه في معظم الأحيان من انحطاط. فأصبحت العملية النقدية مجرد تلخيص للعمل الأدبي إذا كان قصة أو مسرحية، أو نثره إذا كان شعرًا. وإذا جاوز الناقد عملية التلخيص إلى الرأي، فإنه يلجأ إلى التعميم والابتسار حين يلقي بمجموعة من الأحكام القاطعة على أهداف الكاتب الأيديولوجية، أو ما حققه من جمال أو رداءة فيما كتب. ولا بأس من أن «يستشهد» الناقد بهذا النص أو ذاك للتدليل على صحة ما يراه جميلًا أو رديئًا. وقد أوصلتنا هذه الحال إلى ما يمكن بلورته في كلمة واحدة هي «النظرة الخارجية» للعمل الأدبي التي لا تفوز بأبعاد هذا العمل وأعماقه. النظرة الخارجية هي الداء الخطير الذي يهدد موازين النقد العربي، كما يهدد قيم الأدب العربي.
والنظرة الخارجية هي النظرة اليسيرة السريعة التي لا تتطلب من الناقد أكثر من حفظ المقولات الجاهزة عن بلاغة الأدب إذا كان من المحافظين، وأخلاقيات وأهداف الأدب، إذا كان من المجددين. هذه النظرة الخارجية هي التي أدت بنا إلى هذا «الهوان» النقدي الذي نعيشه هذه الأيام.
وعندما نفتش عن معنى «النظرة الداخلية» سوف تصطدم الآراء وتتصارع وتغلي، ولكنها مهما تناقضت أو تصارعت؛ فإنها لا تجعل من الناقد صحفيًّا يصف القشرة الخارجية للعمل الأدبي، ولا تجعل منه معلقًا سياسيًّا أو باحثًا اجتماعيًّا. وإنما يتفق أصحاب النظرة الداخلية العميقة على أن النقاد لا يستحقون هذا الاسم إلا إذا تسلحوا بأدوات «الدخول» إلى جوهر العمل الفني، حتى يصل إلينا هذا الجوهر كلًّا واحدًا متكاملًا، قد يوجد به العنصر السياسي أو العنصر الاجتماعي، ولكن هذا العنصر أو ذاك لا ينفرد بدلالة خاصة منعزلة عن بقية عناصر العمل الفني التي تتشابك فيما بينها وتتكامل على نحو غاية في التعقيد بحيث لا يكون ثمة دلالة سياسية أو اجتماعية أو نفسية أو جمالية، وإنما هناك دلالة فنية شاملة لها نوعيتها الخاصة المميزة لها عن بقية أنواع الدلالات التي نستقيها من بحث في السياسة أو دراسة في الاقتصاد أو مقال في الفكر الاجتماعي.
إن الدلالة الفنية الشاملة ليست «حاصل الجمع» للدلالات المختلفة، بل هي دلالة جديدة كيفيًّا، وإن كانت الدلالات الأخرى من أصولها ومصادرها. هي دلالة جديدة كيفيًّا؛ لأن الدلالات المختلفة ليست إلا تعبيرًا عن أجزاء من العمل الأدبي دون بقية أجزائه. فإذا كان العمل الأدبي هو جماع ذات الأديب من ناحية، وموضوعية العالم من ناحية أخرى، والتراث الأدبي من ناحية ثالثة، فإن الدلالات السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والأخلاقية، تدخل في الجزء الخاص بموضوعية العالم. أما ذات الفنان فهي تحمل إلينا دلالات تكوينه النفسي والذهني وملكته الإبداعية الخالقة وتاريخه الشخصي إلى غير ذلك من العوامل الذاتية الصانعة للأديب. أما التراث الفني فيشمل التقاليد التي انحدرت إلى الأديب ومرحلته التاريخية من مختلف الأجيال السابقة عليه. وليس هذا التصنيف جامدًا بحيث يمنعنا من تصور دلالات موضوعية في ذات الأديب، وبالعكس نشاهد العناصر الذاتية في مركب المرحلة التاريخية، كما أننا نستطيع أن نتحرى العوامل الذاتية، والموضوعية، فيما انحدر إلينا من تراث على مر العصور. ولكن هذا التصنيف يبقى بعد ذلك صالحًا لأن يكون الأداة الأساسية في التقييم الحديث لأنه يستمد قوته من تعبيره عن المنجزات العلمية للحضارة الحديثة.
على أننا مع ذلك ما نزال في مرحلة تجريب. لذلك أريد من القارئ أن يخبر معي مدى صحة هذا التصنيف الذي لا يعدو أن يكون اجتهادًا شخصيًّا. ولذلك أيضًا أنقل النص الكامل لمقال رينيه ويليك «من مبادئ النقد» ومقال روبسون: «هل نكتفي بالقيم الأدبية وحدها». والفصل المعنون «الشعر والعالم الحديث» من كتاب الدكتور ليفيز، حتى نستهدي بها في محاولة الوصول إلى المعنى الحقيقي للنقد العلمي الحديث. إن هؤلاء الكتَّاب الثلاثة يناقشون الموضوع ﺑ «نظرة داخلية» ومع ذلك يختلفون في كثير من النقاط. وإنني بدوري لا أحاول أن أطبق رأي أي منهم تطبيقًا آليًّا. ذلك أنني — كما أشرت من قبل — أرى في التقاليد الأدبية أحد المكونات الرئيسية للعمل الأدبي. ولما كانت تقاليدنا تختلف من وجوه عديدة عن تقاليد الأدب الغربي، فإنه من المتوقع أن يختلف طريقنا إلى التقييم العلمي عن طريقهم، إلا أننا من جهة أخرى لا نستطيع أن نتجاهل منجزات الحضارة الفكرية في أوروبا وأمريكا إذا شئنا أن نخلص في إنجاز مهام حضارتنا الفكرية الخاصة. ولنبدأ بحديث رينيه ويليك.
(١) من مبادئ النقد
النقد الأدبي معناه الأكثر شيوعًا هو تقييم الكتب وتقديمها، فالتعريف بالتقاليد الموروثة. وفي عصرنا يعد ت. س. إليوت أهم من أسهم في تغيير الذوق الفني، وفي صنعه من جديد. إلا أن هناك مفهومًا آخر للنقد، يركز على مجموعة محددة من المبادئ؛ أي على نظرية الأدب. ولقد كان هذا النوع الأخير — وما يزال — أهم ما يشغلني؛ لأنه يستهويني أولًا ولأن شعورًا قويًّا تملَّكني خلال إقامتي بإنجلترا والولايات المتحدة بأن البلدان المتحدثة بالإنجليزية في أمسِّ الحاجة إلى الوعي النظري، ووضوح المفاهيم والنظرة المنهجية، بعد أن سادت فيها النزعة التجريبية.
والانشغال بنظرية الأدب — أو النقد النظري — لا يتناقض مع الاهتمام بالأعمال الأدبية، أو النقد التطبيقي. بل على العكس لن نستطيع أن نصل إلى المبادئ والكليات والمجردات، إلا إذا بدأنا بالدراسات النقدية المفصلة نفسها. فالتحليلات الشاملة لا يمكن الحصول عليها إلا بالملاحظة الدقيقة للجزئيات، والإحساس العميق بالتفاصيل. ومن ثم بالتذوق الهادئ والمتعة البطيئة. وإذن فليس هناك من تناقض بين النظرية الأدبية والتجربة كما يشيع أعداء النظريات. ومنذ وقت طويل مضى (١٨٣١م) أعلن جون ستيوارت ميل «أنه نظري، وأن الكلمة التي تحمل أعظم وأنبل ما أنتجه الذكاء البشري قد تحولت إلى مثل للسخرية.»
إذا أردنا أن نصل إلى نظرية متماسكة في الأدب، فيجب أن نقوم بما تقوم به العلوم الأخرى: نلتقط موضوعنا، ونحدد مادة البحث، ونميز بين دراسة الأدب وبقية الدراسات المشابهة أو القريبة. ويبدو واضحًا أن العمل الأدبي هو مركز الثقل في نظرية الأدب، لا شخصية الكاتب أو تاريخه أو نفسيته، ولا الخلفية الاجتماعية أو مدى استجابة القارئ وانفعاله. وفي كتابي «نظرية الأدب الذي اشترك معي في تأليفه أوستن وارين عام ١٩٤٩م حاولت أن أصور الفرق بين دراسة الأدب «من داخله» ودراسته من الخارج. وأوضحت الأهمية البالغة لدراسة الأدب من الداخل بتحليل العمل الفني نفسه كبناء لغوي، كنظام من الرموز؛ ذلك أنني كنت أرى — وما زلت — أن دراسة الظروف المحيطة بالعمل الفني قد طغت على الدراسات المعنية بهذا العمل نفسه. وهكذا تكون الدراسة الأدبية قد فقدت أساس العمل النقدي، وأضحت قريبة من تاريخ الحضارة.
هذا التركيز على العمل الأدبي ذاته، على نوعيته الأدبية الخاصة، على الفرق بين الأدب والحياة، أدى ببعضهم أن يتهمونا بالجمالية أو الشكلية أو أية تسمية أخرى ما تزال في ضمير الغيب، يقول بها أحد أولئك الذين يتصيدون تعبيراتهم من ذلك التيار العظيم من الجماليين الذين ينحدرون من كانت. غير أن التعرف على الجوهر الفني المستقل لا يعني العودة بنا إلى الجمالية التي عرفت في أواخر القرن الماضي. إن الجمالية في حدود هذا المعنى محاولة غير شرعية لتطبيق النظرة الجمالية المحض، على الأخلاق والسياسة والميتافيزيقا. أما أنا فعلى النقيض من ذلك، أصر على التفرقة بين هذه المحاولات جميعها، وأعتقد أنها تحمِّل الأدب وجميع الفنون أعباء ليس من وظيفتها القيام بها.
إن العمل الفني ليس وثيقة اجتماعية أو تاريخية، كما أنه ليس تحريضًا خطابيًّا أو كشفًا دينيًّا، أو تأملات فلسفية بالرغم من أنه يمكن النظر إليه من هذه الزوايا لأسباب بعيدة (من أن تكون نقدًا أو دراسة أدبية). الفن إيهام ورؤيا، هو العالم وقد تحول — بواسطة اللغة أو اللون أو الصوت. والحق أنه من الغريب أن يوجد في عصرنا من يرى في هذه النظرية البسيطة المتعمقة في الحقيقة الجمالية إنكارًا لإنسانية الفن وقيمته. إن الإقرار بالتفرقة بين الفن والحياة من خلال الثغرة الأنتولوجية بين إنتاج العقل في بناء لغوي، وبين الأحداث الواقعية في الحياة، لا يمكن أن يعني أن العمل الفني مجرد لعبة فارغة بالأشكال، وأن لا علاقة له بالواقع. إن العلاقة بين الفن والحياة ليست من البساطة التي تقررها النظريات الطبيعية في نقل الواقع حرفيًّا أو محاكاته أو انعكاساته التي تقول بها الماركسية. الحق أن الواقعية ليست وحدها منهج الفن، فهي تستبعد ثلاثة أرباع أدب العالم، كما أنها تقلل من دور الخيال والشخصية والصناعة.
على النقد أن يكون فينومينولوجيا الأدب، فيصبح تحليلًا عميقًا مستقلًّا عن الانطباعات الشخصية من جهة، وعن التقسيم القديم إلى شكل مضمون. الوحدة العضوية في العمل الفني بين الشكل والمضمون، هي تعبير عن مرحلة أكثر تقدمًا في النقد الأدبي، ولكنها لا تصل بنا إلى ما هو أبعد من التصوير البيولوجي ومتوازياته. أما تصورنا للعمل الأدبي كبناء من عدة مستويات؛ فهو يساعدنا كثيرًا في البداية على الأقل. هذا المفهوم سوف يستخدم المناهج اللغوية والأسلوبية ما دمنا في مستوًى صوتي (النغم، الوزن … إلخ) وأيضًا وحدات المعنى (اللفظ والتركيب والأسلوب). غير أن الدراسة الأدبية لا يمكن اقتصارها على الناحية الأسلوبية وحدها كما يتهمنا بعض الخصوم من هواة الفن مثل واماسو ألونسو. على النقد أن يتوغل فيما وراء اللغة إلى عالم الشاعر حيث الأزقة المتربة والمدن الريفية المتوحشة عند دوستوفسكي، وما يقيم بها من قلوب غيورة متوثبة، أو إلى ما هو أكثر دهشة في كلمات مالرمية أوريلكة. عوالم هؤلاء لا يجب أن تختلط في تصورنا مع العالم الواقعي. لن ننسى أيضًا، أن تحليل العمل الفني … يقودنا بالضرورة إلى تحليل الأعمال السابقة لنفس الكاتب، والأعمال التي ألفت في نفس الموضوع في نفس المرحلة في نفس الاتجاه.
التحليل النقدي للعمل الفني هو التعرف على الوزن والإيقاع والاستعارات والرموز والشخصيات والأحداث والجو، والعلاقات التي تصل بينها جميعًا، هذا التحليل لا يمكن أن يتصف بالموضوعية الصارمة الخالية من أي احتكام للقيم. فالحق أنه لا يوجد في الأدب ما يمكن أن يتصف بالحقيقة المحايدة. فليست هناك خاصة واحدة من خصائصه لم يتم اختيارها بعناية أثناء العملية النقدية. كما أنه لا يوجد في العمل الأدبي تفصيلة واحدة يمكن أن تقيم بالوصف التقريري المحض؛ ذلك أن التكامل الوظيفي للتفاصيل يؤدي بطبيعته إلى القيم، ومن الخطأ أن يظن بأن القيم — في هذه الحال — مفروضة على العمل الفني من الخارج. إن البناء الفني هو في الوقت نفسه بناء من القيم، وعلى الناقد أن يحاول اكتشافها. لهذا تسقط أية محاولة لإهمال هذه القيم تمامًا، أو لجعل الدراسة الأدبية شيئًا مماثلًا لعلم النبات.
التحليل، والتفسير، والتقدير، جميعها تستند على ركائز من الخواص المفردة. التقدير ينمو على ضوء الفهم. ولكن التقدير الصحيح شيء مختلف عن الفهم الصحيح. ما هو التفسير السليم لعمل فني محدد؟ سوف نجادل كثيرًا في الإجابة. ولكن يبدو أنه من المستحيل إنكار أن ثمة مشكلة بصدد سلامة التفسير أو مدى تناسبه، إلا إذا كنا أعضاء في حكومة للكهنة. يجب أن نبحث الآراء التي قيلت حول هملت بأقلام: جوته، أرنست جونز، ستشاكبخ، دوفرولسن، كوليردج، برادلي؛ وغيرهم … سوف نكتشف أن هناك حدودًا لحرية التفسير: همت — مثلًا — ليس امرأة في معنًى من المعاني أو كما قالت ونستانلي وأكدت «جيمز هوانا» حينئذٍ نقول إنه يوجد التفسير السليم — في شكله العام على أقل تقدير — وبالتالي فهناك الحكم السليم، الحكم الجيد.
وهكذا نحن لا نستطيع أن نحتكم إلى النظرة التاريخية التي انحدرت إلينا من ألمانيا، وانتشرت هذه الأيام، وما تزال سائدة على الأكاديمية في الجامعات. إن «تاريخية» الأدب، تفيد الناقد في شتى المراحل السابقة على الحكم. نحن نستطيع أن نستلهم من الماضي — من التاريخ — التقاليد الأدبية التي عبرت عن مستويات مختلفة لا في شعر بوب أو وردزورث، فحسب، بل بالنسبة إلى نتاج أي شاعر. والحق أن هناك اتفاقًا واسعًا بالنسبة لكبار الكتاب في العرف الأدبي، حول التفرقة الدقيقة بين الفن العظيم والفن الرديء. أما دوامة حركات التذوق السريع فلا تستقر إلا بالنسبة للكتاب المتوسطين. هناك هوة عميقة بين تولستوي وفلمنج، بين دانتي وميتاليوس. نصل إلى هذا المعنى بواسطة البحوث التي تستقصي التنوع والاختلاف، التي تكافح النظرات العنيفة الجامدة المطلقة المستمدة من الكلاسيكية القديمة. فنحن نستمع ونفهم هوميروس وت. س. إليوت في الوقت نفسه. كذلك الأمر مع الأخوين جريم والقصص الخرافية وجيمس جويس. وعلى هذا النحو نستطيع أن نخمن أن ثمة رابطة مشتركة بين جميع الآداب والفنون … تلك هي النوعية الجمالية التي لا تفي بالتعبير عنها الكلمة التقليدية «الجمال».
إن الاتساع العالمي لانتشار الأدب يضيف إليه الإحساس الشامل بجوهر الإنسانية، ويقرب المسافات الجغرافية بين البشر، ويركز التفاعل بين التيارات الأدبية في العالم، وينتقص كثيرًا من أهمية الاعتبارات المحلية التي يأخذ بها النقاد «التاريخيون» فلا الأدب الإنجليزي أو غيره يمكن دراسته على حدة. وهكذا يمثل الأدب المقارن (في صورته المدروسة لا في شكله الأكاديمي المنتشر في بريطانيا والعظيم الانتشار في الولايات المتحدة الأمريكية) حاجة ملحة لإيجاد مناخ ملائم للدراسات الأدبية. ومع هذا فإني أكافح النظرة الضيقة إلى الأدب المقارن، خاصة في فرنسا. فلا ينبغي أن نعود إلى نفس الخطأ ونجعل المقارنات تدور حول الظروف الاجتماعية والتاريخية وغيرها، بل ندخل أعماق الأعمال الأدبية ومستوياتها المختلفة، فنحصل بذلك على وحدة الأدب والفن — بينما الطريق الآخر يصل بنا في الأغلب إلى الانفصال — خاصة في الأدب الغربي — بين تياراته ومراحله وحركاته. ربما كان «الأدب المقارن» تعبيرًا غير مناسب، غير أننا بشكل عام — وببساطة — ندرس الأدب بواسطته خاليًا من التعقيدات المدرسية المزمنة، مليئًا بإحساس قوي يوقظنا على حقيقة هامة هي أن هذه الآداب — الغربية — كلها، هي أدبنا سواء كانت هذه الآداب إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو إسبانية … على أساتذة الآداب المختلفة أن يقتربوا في مناهجهم من أساتذة الفلسفة والتاريخ والحضارة. بشكل عام أيضًا ينبغي أن يكون «الشرق» حاضرًا ضمن الصورة المثلى للأدب المقارن. وسوف تخبرنا دراسات الشعر المقارنة ما إذا كانت هناك آداب قد نمت وترعرعت بغير اتصال مع الغرب.
إنني شخصيًّا قادم من أمة صغيرة في أوروبا هي تشيكوسلوفاكيا، وهكذا أشعر أنني أستطيع أن أنظر إلى الآداب العظيمة نظرة أقرب إلى الموضوعية. كذلك كان وجودي في الولايات المتحدة يجعلني أنظر إلى أوروبا «ككل» من الشاطئ الآخر. ومع ذلك فقد حافظت — ضمن اهتماماتي — على حصيلتي من الأدب التشيكي، وجمعت ملاحظاتي على هذا الأدب في كتابي «مقالات في الأدب التشيكي» ١٩٦٣م. وما زال حبي كما هو للأدب الإنجليزي الذي استأثر بي في بواكير عمري وتخصصي، وكأي شاب، فقد استهواني الشعر الإنجليزي بواسطة شكسبير كما رغبت في كتابة دراسة حول قضية واحدة عن بوب والشعراء الرومانسيين العظام وييتس وإليوت: هذه كلها تشكل فيما بينها القطب الجاذب الذي شدني إلى إنجلترا، إلى قاعة القراءة بالمتحف البريطاني حيث لم أكن قد جاوزت العشرين إلا بعام واحد.
وقد اتسعت معرفتي الأدبية منذ ذلك الوقت، تغير ذرقي وازداد رهافة، وعدت إلى مطالعاتي الحبيبة الأولى، واكتشفت بها آفاقًا جديدة من الجمال. وقد خصصت سنواتي الأخيرة لإنجاز مشروعي الضخم، وهو دراسة تاريخ النقد الحديث، حيث أعود بهذا التاريخ من منتصف القرن الثامن عشر إلى عصرنا الحاضر. وصدر المجلدان الأولان عام ١٩٥٥م (عن مطبعة جامعة ييل ويوناثان كاب).
لقد استطاع التاريخ أن يعيش فوق مبادئي النقدية، وسوف يتضمن نتاج أقطار الغرب الرئيسية بما فيها روسيا وتشيكوسلوفاكيا. وقد تتبعت بصورة خاصة — بالطبع — تاريخ النظرية الأدبية، كما تابعت جهود أولئك الذين شقوا طريقًا وسطًا بين الجماليات العامة في يد، والرأي الأدبي الواضح في اليد الأخرى. غير أني وصلت إلى أن الجماليات العامة وما يوجد باليد الأخرى، لا يقيم بناءً نظريًّا للأدب، إلا إذا صدر أولًا عن ممارسة للنقد والتقييم، وتحليل الأعمال الفنية ذاتها. كذلك فإنني لن أكتب، لأني لا أستطيع أن أكتب، ذلك النوع من الكتب التي اقترحها سانتسبوري، حين رفض بوضوح أي اهتمام بالنظريات أو الجماليات. ولعل كتابي «تاريخ النقد الحديث» يخطط في الوقت نفسه لنظرية الأدب. وعندما تستمد النظرية من التاريخ، فإننا نتمكن من فهم التاريخ في حدود مجموعة صغيرة من الأسئلة والأجوبة، في الذاكرة. وسواء كنا أصحاب نزعة تاريخية أو كنا ضد أولئك التاريخيين فإننا — جميعًا — نستطيع الحصول على نظرة أقرب إلى الموضوعية، إذا أبصرناها من جميع الجوانب الممكنة. هذا إذا تصورنا إمكانية النظرة القريبة من الموضوعية على أنها أيسر منالًا من رؤية الفيل بعيون غير مبصرة. كيف يبتعد الناقد الأدبي عن أن يكون رجلًا أعمى يبحث عن أعضاء الفيل الضخم؟ الإجابة الوحيدة هي الاستجابة لمقولات التاريخ، والدروس التي يمكن الإفادة منها عن طريق المذاهب الأدبية والتعمق والوعي النظري الذي يتراكم مع الحكمة البشرية. التاريخ والنظرية يفيد كل منهما الآخر، ذلك أنهما يتكاملان في محاولة اكتشاف الوحدة بين الفكرة والحقيقة، بين الماضي والحاضر.»
ولننتقل إلى حديث روبسون:
(٢) هل نكتفي بالقيم الأدبية وحدها
فقرتان من نقد ت. س. إليوت، استقرتا في ذهني لسنوات عديدة، وسوف أستخدمهما، هنا، كنقطة بداية. في محاضرة تحت عنوان «الدين والأدب» نشرت عام ١٩٣٦م يقول إليوت: «إن عظمة الأدب لا يمكن أن تتحدد بالمعايير الأدبية وحدها، بالرغم من أننا يجب أن نتذكر أنه لا يمكن التفرقة بين الأدب وغيره إلا بالمعايير الأدبية وحدها». وفي مجموعة من المحاضرات حول «جونسون شاعرًا وناقدًا» يتابع ملاحظته بقوله: «في أيامنا هذه أصبح الاهتمام بالنواحي النفسية والاجتماعية في النقد الأدبي، هو الشيء الأكثر وضوحًا. ومن زاوية ما، فقد اغتنى مجال الناقد وزاد خصوبة، وتأكدت أهمية الأدب — على خلاف ما يظن — لعلاقة الأدب بالحياة، غير أنه من زاوية أخرى نلحظ وجهًا آخر لنفس الظاهرة، هو إهدار القيم الأدبية المحض، وانعدام التقدير الحسن للأعمال التي تكتسب جودتها من خلال نوعيتها الفنية الخاصة. وقد نتج هذا التدهور حين أمسينا فرأينا الأدب يقيم على ضوء اعتبارات غير أدبية.»
هاتان الفقرتان، لا تعالجان بالطبع، نقطة واحدة، ولكنهما يعبران عن فكرة محددة وهي أنه توجد «قيم أدبية محض» و«معايير أدبية» تؤدي إلى «التقدير الحسن للأعمال التي تكتسب جودتها من خلال نوعيتها الأدبية الخاصة»؛ أي إننا نفهم أولًا، أن المعايير الأدبية ليست بكافية وحدها لأن تقرر متى يمكن أن ندعو عملًا ما، عظيمًا، كما نفهم ثانيًا، أن هناك من يميزون بين الأعمال الأدبية — في نقدهم — على ضوء ما يستمدونه من النقاد ذوي الاهتمامات النفسية والاجتماعية، إلا أننا لا نستطيع من كلا الاقتباسين، أن نحصل على النتائج بصورة إيجابية. إليوت يزعم أن الأمر قد أصبح واضحًا، ويدعونا إلى تذكره فقط، ولكن الاقتباس في الفقرة الثانية قد آثر الإشارة إلى الجانب السلبي بصورة واضحة، وإن لم يكن قد استشهد بارتباط النقد بالفلسفة عند كوليردج وبالأخلاق عند أرنولد، وبالضلال أو الزيغ الذي لا حد له عند باتر. ونحن نستطيع أن نخمن ما يمكن أن تدعيه الكتابات النقدية — التي تبدو كما لو كانت خالقة للعمل الفني من جديد — من أن هذا العمل أو ذاك «تعبير ذاتي» كما نستطيع أن نخمن أن مقدمة الدكتور جونسون إلى الأدب، (وجونسون هو موضوع محاضرات إليوت) تتضمن تناقضًا ما نذكره من مضمون التعبيرين «المعايير الأدبية» و«القيم الأدبية المحض». وقد صرف إليوت فكره فيما يبدو إلى ممارسة جونسون لأبحاث الشعر، ووضع يده على التفاصيل التكنيكية التي أهمل البحث عنها.
وليس غريبًا، أن يرتكز بعدئذٍ على ما جاء في مقدمة جونسون إلى الأدب، من تشخيص وتخصيص، ليصر على القول بأنهما الدرس الذي نفيده من هذه المقدمة. والحق أن النقطة الرئيسية الجديرة عند جونسون بالبحث هي إلى أي حد كان مخلصًا في البحث عن علاقة الأدب بالحياة. ولا شك أن جونسون — كأي ناقد كلاسيكي على الأقل — قد لاحظ أن مشكلات عظمة الأدب ترتبط بما يمكن أن يضيفه الأدب الجيد. وأن «الفردوس المفقود» بحاجة إلى عبارة واحدة تعين قيمته هي أننا «نشعر — معه — دائمًا، بقوة الأشواق الإنسانية وروعتها وعمقها.»
إذا كنت قد أحطت تعبير «القيم الأدبية المحض» بعلامة استفهام كبيرة، فليس ذلك لأني أنكر أن هناك شيئًا بهذا الاسم، بل لأن تصورنا لهذه القيم يعتوره القصور. ولا ريب أن استخدامنا لتعبير «الأدبية المحض» يمكن أن يكون أكثر إحكامًا؛ إذ ينبغي أن نضع هذا التعبير في اعتبارنا بصورة محددة حتى نستطيع حماية الشعر الغامض — على سبيل المثال — من المصطلحات التقليدية للنحو والصرف، بل والهجاء. ذلك أننا نستطيع أن نخطو إلى أمام، فنلتمس لهذا الشعر مبررات وجوده، بما يمكن العثور عليه في «الاستخدام الحديث للغة الإنجليزية» عند فويلر، أو أننا نلجأ إلى التفكير في تصويبات جريفز وهودج وما استضافاه إلى اللغة في كتابهما الصغير «القارئ فوق كتفك». وبالرغم من ذلك فإن بعضًا من التساؤلات الهامة يظل متربصًا بنا. فكيف نتمكن من كتابة الأدب ونقده، بغير أن نقع في أخطاء جسيمة إذا جازفنا بمجموعة من الأحكام (المبنية بدورها على مجموعة ثابتة من القيم) على مؤلف ما، من حيث معدنه العقلي، وأهمية موضوعه، ومكانه من الحركة الأدبية، وهدفه من الكتابة، وما إذا كان قد نجح أو أخفق في مهمته. إن أصحاب الاتجاه الأسلوبي يقولون إن هذا مجال دراستنا، غير أنه ما إن تدخل الاعتبارات الخاصة بالقيم والتساؤل حول نسبة الإخفاق أو النجاح التي يتورطون فيها، حتى ينتهي بهم زعمهم إلى مستوى الأحاسيس العادية. وعندما يتكلم إليوت حول «المستويات» الأدبية، فإنه يرتكز في واقع الأمر على مجموعة من القيم الأدبية.
إن الإصرار على التعبيرين: «المستويات الأدبية» و«القيم الأدبية المحض» هو نوع من التأكيد على أنهما يعنيان النقد الأدبي الصحيح. غير أن هذا التأكيد لا يعطي جوابًا شافيًا لهذا التساؤل: ما هي قوانين المطابقة بين المعيار النقدي والعمل الأدبي؟
ويبدو عند البعض أن صياغة هذه القوانين ليست أمرًا مرغوبًا فيه، بل إنه شيء مرفوض وغير مستصوب. ولكي أعطيك مثالًا أقول: إن التحليل الموسيقي المحض لمقطوعة «فول ستاف» لا لجار يتجاهل أن الموسيقى وضعت إلى جانب غيرها من العناصر، لتجسيد شخصية «فول ستاف» وعمله. إنني لا أستطيع أن أقرر أن «هنري الرابع» لشكسبير مساوية أو معادلة أو بديلة لمجموعة من القيم الأدبية المحض، فقط. إن نقاد القرن العشرين المتخصصين في شكسبير يلاقون مشقة كبيرة في محاولة التعرف على جوهر شخوصه. ولقد قيل عن «فول ستاف» إنه: «مجموعة من الرموز تسعى على قدمين» أو إنه: «تحقيق لمجموعة من العناصر المتبلورة في الدراما الشعرية» والحق أن أصحاب هذه التعبيرات لا يجيزون لأنفسهم القول إن «الرمزية والتبلور» هي الأساس في كون هذه الشخصية لرجل رقيق مثلًا. ولا شك أن التصدي لشخصية «فول ستاف» ككل، ومن واقع النص الشكسبيري يختلف تمامًا عن التصدي لمقطوعة الجار الموسيقية … إذ إن وعي الناقد لمسرحية «هنري الرابع» يتضمن بعض المفاهيم التي لا يحتاجها الناقد لموسيقى الجار.
إن «القيم الأدبية المحض» يمكن أن تكون تعبيرًا مفهومًا لو أضيفت إلى خزينة أصحاب المذهب الجمالي، الواهم. ما هو هذا المذهب بالضبط؟ (بالنسبة لعلاقته بالأدب) الحق لست أدري. أنه لم يعد واضحًا في أي مكان. يخيل إليَّ أنه ليس مذهبًا، بل هو اتجاه أو حالة نراها عند أي مكان كما ننظر إلى إناء صيني. كيف يمكن أن يكون ثمة تجربة جمالية محض في الحياة التي نعيشها أو نتصور وجودها في «منتصف مارس» أو «مرافقات ديونيزوس» أو «موت إيفان إليتش»؟ الحق، لست أدري. ذلك أنني على يقين من أن تجربتنا العقلية في هذه الأعمال وغيرها من الآداب العظيمة، لا يمكن اعتبارها مجرد بارقة من الجمال تنتسب إلى بصيرة شفافة، ولا علاقة لها بالمادة الإنسانية الخام، أو أنها بلا مغزى ولا تعبر عن احتياجات بشرية … وإلا فكيف نقيم المقارنة بين عمل أدبي وعمل أدبي آخر، بغير أن تكون العلاقة بين الأدب والحياة، هي المعيار الحقيقي للتقييم المقارن؟ ألأن العمل الفني شديد التفرد؟
أكاد أقول بأننا لا نجني شيئًا البتة، من الاتجاه العام للجماليين في ضمهم للأدب، إلى قائمة «الفن الخالص» … فإن عنصر التأمل وإمعان الفكر في تجربتنا يؤكد أن ثمة تفاعلًا بيننا وبين الفن. فالطبيعة الخاصة للفن لا تعرف التعسف ولا ترفض التعليل، فقد خلقت بقدرة بشرية وفق أغراض محددة وفي ظروف معلومة، وداخل نطاق مصطلح أو قالب معين. ونحن نعلم أن هذا المصطلح أو القالب يتغير دائمًا في رحاب واسعة، وفي أحوال مختلفة. ويعمد الكاتب أحيانًا إلى تعريفنا بقالبه ومصطلحاته كجزء رئيسي من التجربة التي يقدمها لنا، كما نلحظ في «عروس البحر التي تشكو لنا موت ظبيها الصغير» عند مارفيل. والنقيض لهذا المنهج، نلاحظه في بعض أشعار لورنس التي يبدو فيها كما لو أنه أراد أن ينسينا القالب تمامًا حتى نشاركه في التجربة الشعرية، بل هو يحرضنا على ذلك. وهناك حالات أخرى مشابهة تزداد تعقيدًا أو تقل. وفكرة تعليق الشك الشهيرة لكوليردج قد حللت أساسًا في إطار من الاستشهاد بالخيال الدرامي، كنوع نقي من الإيمان الذي يوجد بطبيعته أثناء عملية الخلق حيث يأخذ في التجربة الفنية أشكالًا عديدة من السفسطة. غير أن هذه الحالات جميعها لا تولد في وعي الناقد دائمًا، ماذا نحن قائمون بعمله، أو ماذا يعمل لنا، ولكنها تمنحه القدرة على استرداد وعيه في أي لحظة. نحن نستطيع أن نتخيل مشاركتنا فيما يقع، إلا أننا نستعيد حالًا موقف المتفرج. وربما نستطيع أن نكون مشاهدين ومشاركين للتجربة في آنٍ واحد، وهذا شيء قريب مما أقترحه من وضع أساس وإطار عقلي لما نصدر عنه من أحكام في تقييم الفن الخطير. ومن الطبيعي أن أكبر الدرجات لا ينبغي أن تكون من نصيب «نوع» العمل، بل يجب أن تتضمن عنصر التجاوب العميق. إن لديَّ انطباعًا حول التجربة الفنية عند الناقد المعروف جورج سانتيانا، أحس بأنه يعيش معها كمشاهد أو متفرج. وفي مثل هذه الحال، لن نتحدث عن تحوله إلى حالة التفكير والتأمل ما دام أنه لم يترك التجربة قط. غير أن هذا اللون من النقاد يكاد يكون نادرًا. فالمعاناة الحقيقية في الفن أقرب إلى الارتباط الدموي أو الارتباط العضوي، منها إلى التعبير المقترح «التأمل أو التفكير». وما زلت أعتقد أنه ليس هناك فن جدير بهذا الاسم، إذا لم يستمد أهميته من معرفته الكاملة بالدور الذي يقوم به.
على أنني لا أريد التوقف عند الأشكال المتقنة في التجربة الأدبية؛ ففي بعض الحالات أرى أن ما يعجب النقد الأدبي في عمل فني ما هو أشبه بالأسرار الغامضة، فلا شك أنه من الصعوبات البالغة أن يبين الناقد بالتفصيل لماذا أعجب بهذا العمل بالذات. وهناك أدوات معينة من الممكن أن تساعدنا على تقييم الفن — كالسيرة الشخصية للكاتب — ولكنهم يرونها لا تفيد في النفاذ إلى داخل العمل. هل يهمنا — مثلًا — أن نعرف «الصورة الشخصية» لهنري فيلدنج حتى نقيِّم كتاباته؟ أجيب فورًا: نعم! حقًّا، نحن لا نريد الخروج عن «توم جونز» بل نود التعمق. إننا لا نستطيع أن نتجاهل ما نعرفه عن فيلدنج كإنسان، حينما نتعرض لعمله كفنان؛ ذلك أننا لا نستطيع لسوء الحظ أن نقوم بعملية غسيل مخ لأدمغتنا أثناء تحليلنا النقدي. لا شك أننا لن نستعين بمعلوماتنا الشخصية بصورة تقريرية، ولكنها تظل في الخلفية من رءوسنا تضيء لنا الكثير من جوانب هذا الفنان في أدبه. إن الأدب مليء بالمحتوى الإنساني، فكيف يمكن أن تعامله إنسانيتنا باستقلال عما تختزنه من معارف إنسانية؟ كيف يمكن أن نتذوق وأن نفهم عملًا إنسانيًّا بأدوات لا علاقة لها بالإنسان؟ يبدو أن ثمة مغالاة في رأي الذين يرفضون أية «عوامل مساعدة» للناقد الأدبي من خارج العمل الفني، وإلا فكيف نقرر على سبيل المثال ما إذا كان القارئ في مستوًى ثقافي جيد أم لا، ما لم نعرف لماذا يقرأ أشعار ديلان توماس أو لماذا يرفضها. وهل مكانة توماس في النقد مطابقة لقيمة أشعاره أم لا … إلخ.
نقطة أخرى، حول المصطلحات العلمية. إنه لمن سوء حظ الجماليين أن نجد كلمة الأخلاق (في القرن الماضي) تعني القيم الإنسانية الهامة اليي كان يفيض بها الأدب العظيم الذي ما يزال يفرض علينا عظمته. والانتشار الواسع لهذه الكلمة عند القارئ، إنها مجموعة الركائز الروحية «من المثل» التي تقوده في الحياة. ولا ريب أنه مهما ساءت الأحوال الروحية للبشر، تبقى لديهم بعض هذه الركائز رغم ضآلتها. ولا يخلو أدب — أيًّا كان مذهبه — من العنصر الأخلاقي؛ فالواقعي والطبيعي وغيرهما يحاولون تقديم مستويات مختلفة من القيم الأخلاقية على أنها «حقيقة الحياة». أي حقيقة للحياة يمكن أن تكون في العمل الأدبي، إذا تجاهل التجربة الأخلاقية للإنسانية كلها؟! إنها لحقيقة بسيطة القول بأن الإنسان أخلاقي بطبيعته. وقد أكدت هذه الحقيقة الأعمال الواقعية والمعادون للواقعية والرومانسيون على السواء. ومرة أخرى يقول الأوصياء على القيم الأدبية المحض، إن تلك الاهتمامات الخارجة على العمل الأدبي تفقده قيمته الحقيقية ما دامت هذه القيمة لا ترتفع ولا تنخفض عن المستوى الإنساني العام. والحق أننا لا ننظر إلى قيمة الأدب، من موقف المستوى الحشري للحياة، ولكننا نطالب بأن تكون القيمة الإنسانية هي جوهر الأدب وروحه في مجال التقييم. ولو كان فلوبير على غير وعي بهذه النقطة وهو يصدم الضمير الأوروبي لكان مخطئًا. ومن هنا يكون السؤال ما إذا كانت الأحكام الأخلاقية تعد نقدًا أدبيًّا، أم أنها مجرد دراسات في علم الأخلاق من خلال الأدب؟ والجواب أنه ليس ثمة نقد أخلاقي، بل يوجد تقييم شامل، والأخلاق أحد عناصره الهامة. وبهذا لا تكون هناك قيم أخلاقية محض أو قيم أدبية محض وإنما قيم نقدية إنسانية عامة. والمثل المألوف لعامة الناس هو: هل القول بأن عمل «نل الصغير» في «دكان العجائب القديم» كريه تعافه النفس، حكم أخلاقي؟ إن ديكنز في احترامه لفنه وقرائه لا ينقل إلينا ما يستهوي غرورنا فحسب، إنه يقدم لنا مختلف العناصر الخالقة للحياة كما يراها. ومن ثم فنحن نتورط في التبسيط المبتذل عندما نحكم على نل الصغير بأية أخلاقيات متجاهلين الهدف الإنساني الكبير الذي يومئ إليه الكاتب في النهاية، وهو أنه لا يريد لنا نفس المصير. وهذا هو الفيصل في الحكم على الرواية الواقعية.
وهناك فريق آخر يقول بأن هذا يصدق على الأعمال الفنية التي تصوغ أحداثًا تاريخية مضت، ذلك أن المسافة الموضوعية بين خامة «الحرب والسلام» وبين تكويننا الراهن، تجعل من اليسير علينا تقبل ما بها جملة وتفصيلًا؛ لأننا لم نره، وبحاجة لأن نراه. وأعتقد أن هذا الاعتراض يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في أي عمل أدبي آخر؛ أي إنه لا يصبح فنًّا إذا لم تتوفر بيننا وبينه المسافة الموضوعية التي نشعر خلالها بأن ما نراه نحن بحاجة إلى رؤيته من جديد على نحو آخر. والرؤية الجديدة للأشياء هي معيار الأدب العظيم. وقديمًا قال وردزورث: «النوم يدعني أحس بالنهاية». وقال هاوسمان: «الليل يتجمد بسرعة» مترجمين أحاسيسهم إزاء الانقلاب الشعوري الذي يجلبه الفن على الناس عندما يصل بنا ونصل به إلى أعماقها الخفية.
إن من مارس تعليم الأدب للشباب، أو دخل معهم في محاورات عامة حول هذا الموضوع، يكاد يؤمن بأن إخلاص الفنان هو القيمة الوحيدة التي يحاول الجمهور الحصول عليها، والتفاعل معها. غير أن شبابنا أولئك يقعون الآن تحت سيطرة السفسطائيين من أصحاب العقول «الحديثة» والأكاديمية والذين يستعرضون الكتب. والحق أن الشباب على صواب في إعراضه عن هؤلاء، وأنا أحرضه على ذلك. ولا شك أن كلمة «الإخلاص» معرضة بدورها لسوء الاستعمال. فقد يطالب بها البعض من الزاوية السيكلوجية، فبدلًا من أن يكون الفن «لذاته» هو محور النقاد الجماليين، يصبح الفن تعريفًا بحالة الفنان النفسية عند السيكلوجيين. ولهذا ترتفع أهمية الحياة الخاصة للأديب إلى درجة خيالية. وهذا محض خطأ. إن الإخلاص لا يتوفر بالصدق مع النفس فقط، ينبغي أن تدلنا مصادر العمل الأدبي أيضًا على نسبة هذا الإخلاص. إننا لا نصدق كثيرًا أن السيد فيليب سدني نظر في أعماق قلبه وكتب الشعر. لأننا نعلم أنه ألقى نظرة أخرى إلى الشعر الإيطالي. ومن هنا لا يكون الإخلاص هو المعيار الأمين لتقييم الفن.
في كثير من الأحيان كنت أفكر في استبدال تعبيرات الفن الخالص أو النقي، والآن يجب أن أضيف كلمتَي «الإخلاص» و«الأخلاق» لأن أمثال هذه التعبيرات سوف تصطدم غالبًا بضمير الفنان. بالرغم من أنني لست أنسى أن هذه التسميات يهون وقعها على قلب الفنان، إذا قورنت بما يمكن أن يتطرف إليه البعض في تجنيد الأدب للدعاية. فالدعاية هي الإنكار الضخم لحركة الأشواق الإنسانية وذبذبتها وتناقضاتها.
الإخلاص الحقيقي يصدر عن التناسق الوظيفي بين عناصر العمل الفني. الإخلاص أيضًا أن يتمثل الكاتب نبضات عمله واحدة فواحدة، فيضع أذنه على قلب هذا العمل ويستمع إلى ما يرفضه وما يقبله وما يعبر عنه وما ينجح أو يفشل فيه، وما يشك أو يؤمن به … حينئذٍ تلتقي ذاتية الفنان وموضوعية الفن في إطار من الصدق الحار والإخلاص النادر. ولا أعني بذلك أن الفنان سوف يقتصر على مشكلاته الخاصة. كما هو الحال في هذا النموذج الذي اقتطفه من «يهوذا الغامض»: «عندما تكبر في السن، وتصبح في منتصف العمر، وتصل إلى الحد الذي تنظر فيه إلى الماضي فتحس بقشعريرة … كل شيء حولك ساطع، لامع، ذو صليل … ثم تحاصر الضوضاء هذه الخلية الصغيرة المدعوة حياتك، فتهزها وتميل بها …» إننا لا نستطيع أن نصنف كلمات هاردي في خانة التجربة الموضوعية التاريخية أو الأخلاقية الاجتماعية، ومع هذا فإن هاردي على وعي تام بما يكتبه، ولا يخرج هذا الوعي عن دائرة العمل الأدبي. ونحن القراء لا نستشعر إخلاصه من الخيال الشعري أو التكوين الدرامي، بقدر ما نستشعره في وهج التجربة وحرارتها التي تلفحنا أثناء عملية القراءة. وبالتالي تكتسب التجربة الشخصية بعدًا إنسانيًّا عامًّا.
إن الأعمال الأدبية العظيمة التي تتضمن بعدها الإنساني العميق بغير أن تلجأ إلى مقولات مدرسي الأدب والمعرفين به، تفتقر إلى شجاعة الناقد العظيم الذي يستخلص من أذواقنا وتجاوبنا وانفعالنا لماذا كانت هذه الأعمال رائعة حقًّا بالرغم من التجربة الشخصية أو المشاعر الخاصة التي تشكل محورها الرئيسي. إننا نخاف الأدب العظيم. ونخاف من الشعراء، ونخاف من أنفسنا ونخاف من كل شيء، حتى أصبح الخوف هو العقدة الرئيسية في النقد الحديث. لا أريد أن نتشبه بقول جورج هربرت: «يا الهي، إنما أعني نفسي»، ولكني أرجو أن نفسر بوضوح لماذا تلاءمت إنسانية مالفوليو مع العصر الإليزابيثي، ولماذا تناسبت تاجر البندقية مع الإحساس العام بالتكوين اليهودي؟ ولماذا لا نسمح لأنفسنا بأي تعاطف مع النجار العجوز الفقير في قصة «ميلر».
على أن هذه ليست اختبارات خطيرة. إن الاختبار الشاق، هو ما قد نتلقاه في بعض الأعمال العظيمة من كراهية للبشر. ربما نستطيع أن نفسر هذه البغضاء للبشر في أعمال سويفت. ولكن كيف يمكن تفسيرها في أدب شكسبير وتولستوي ود. ﻫ. لورانس؟ أجيب بأننا إذا لم نعرف ظروف هذا الإحساس خلال الشخصيات والأحداث والمواقف، ينبغي أن نراجع أنفسنا، فلربما كنا مخطئين، والفنان هو المصيب. أي إننا قد لا نرى في داخلنا ما يتمكن الفنان بأدواته الخاصة من رؤيته، فإذا رأينا أنفسنا على حقيقتها جزعنا جزعًا شديدًا، واتهمنا الفنان.
إن تدريس الأدب ومناقشته، يستلزمان وعيًا ذاتيًّا شديد الصرامة في معالجة قضاياه، مهما استخلصنا من ذلك أننا على درجات متفاوتة من السعادة أو القسوة أو الحكمة أو السذاجة أو الطيبة. في النهاية سوف نعايش الحياة النبيلة بحق، سوف نعرف معنى النبل أخيرًا، ولن نخشى بعدئذٍ أية مسميات وسنتخلى عن الرزانة الفكتورية. وأرجو ألا يفهم أحد من ذلك أنني أضع قواعد مسبقة للنبل في الأدب. ولكني أنصح بتجربة هذا الفهم للأدب مع الأعمال الكلاسيكية. وأرجو مرة أخرى ألا تستبدل المستويات الأدبية بمستويات من النبل. بهذا تفقد المحاولة شرفها. ولنقرأ الآن في أحد فصول «منتصف مارس» لنسأل أنفسنا بعدئذٍ: هل يوجد في أدب عصرنا، هذا العمق الإنساني: «كانت الساعة الثامنة مساء، قبل أن يفتح الباب، وتدخل زوجته. لم يرغب في النظر إليها. استمر في جلوسه وعيناه منكفئتان إلى أسفل. وقد فكرت وهي تتجه إليه كم يبدو أصغر من الحقيقة. ولكنه يبدو في الوقت نفسه ذابلًا منكمشًا، وحينئذٍ انبعثت من أعماقها موجة من الذكريات القديمة فوضعت إحدى يديها على ذراعه الممتدة على المقعد والأخرى على ساعده المتكئ عليه برأسه، ثم قالت بهدوء وعطف:
– انظر يا نيكولاس.
رفع عينيه … فقالت بعينيها ووجهها والتغيرات الطارئة على شفتيها: أنا أعرف. واسترخت عيناها ويداها فوقه. وما إن بدأ هو البكاء حتى اتصل نحيبهما معًا. لم يستطع أحدهما أن يتحدث إلى الآخر بفاعلية الخجل الذي تشعر به تجاهه، أو بسبب الأحداث التي وقعت لهما معًا. كان اعترافه صامتًا، وكان وعدها وإيمانها صامتًا هو الآخر. استمع إليها بعقل مفتوح، بينما كانت هي تتقلص من تخيلها للكلمة الوحيدة التي تستطيع أن تعبر بها، كما كانت تتقلص من لهب النيران. إنها لم تستطع أن تقول: كيف تصنع بنا الوشاية، والشك، وهو أيضًا لم يقل: إنني بريء.
•••
وقبل أن أنقل لك الفصل الأول من كتاب ليفيز أود أن أحدثك بإيجاز عن الكتاب ومؤلفه … فكتاب اتجاهات جديدة في الشعر الإنجليزي، من تأليف الناقد الإنجليزي المعاصر فرانك ريموند ليفيز الأستاذ السابق بجامعة كمبردج، ومؤلف «حضارة الجماهير وثقافة الخاصة» سنة ١٩٣٠م، «ومن أجل المواصلة» ١٩٣٣م، و«إعادة تقييم» ١٩٣٦م، و«التقاليد العظيمة» جورج إليوت وجيمس كونراد ١٩٤٨م ود. ﻫ. لورانس روائيًّا» ١٩٥٥م، وغير ذلك من الدراسات التي تفرد له مكانًا خاصًّا بين نقاد الغرب المعاصرين.
- (١)
أولها يتحدث عن علاقة الشعر بالعالم الحديث.
- (٢)
وثانيها يتحدث عن الموقف الأدبي في إنجلترا عند نهاية الحرب العالمية الأولى.
- (٣)
وثالثها يتحدث عن الشاعر الإنجليزي الكبير ت. س. إليوت.
- (٤)
ورابعها يتحدث عن الشاعر الأمريكي الكبير أزراباوند.
- (٥)
وخامسها يتحدث عن الشاعر الإنجليزي الكبير جرارد مانلي هوبكنز.
- (٦)
وسادسها يجمل نتائج البحث.
- (٧)
وسابعها يلقي «نظرة خلفية» على ما سبق.
ولعل خير وصف للكتاب هو ما يقوله المؤلف نفسه في مقدمته: «إن المجسد هو أهم ما أهتم به؛ أعني أن أناقش من الزاوية النقدية ما يبدو لي أوفر الأشياء حظًّا من الدلالة في الشعر المعاصر. و«الدلالة» هنا يتحدد معناها بالتعميمات التي سأجازف بإطلاقها. وقد حاولت أن أحصر نفسي — بأقسى صرامة ممكنة — في مجال النقد الأدبي، ذاكرًا أن الشعر إنما يتألف من كلمات. وعلى ذلك فقد طرحت جانبًا كبيرًا من القضايا المشوقة والمتصلة بموضوعي اتصالًا واضحًا وهي القضايا المتعلقة بحاضر الشعر ومستقبله والتي قد يتوقع القارئ أن يجد معالجة لها هنا راجيًا أن أترك بهذا التقشف أثرًا أنقى. أن القارئ الذي يفتقد أيضًا شعراء معينين كان يتوقع أن يجدهم هنا قد يشكو من أن معيار الدلالة عندي بالغ الصرامة. ولا رد لي على ذلك إلا بأني تعمدت أن أجعله صارمًا، وإن كنت لا أظن رغم ذلك أني قد تركت كثيرًا من الأعمال التي تكشف أية معايير جادة عن أهميتها. هذا ما يقوله ليفيز عن كتابه، فلنقرأ إذن فصله الأول.»
(٣) الشعر … والعالم الحديث
هل هي مرحلة عظيمة للغاية، أم أنها بالغة الضآلة؟ فليُجِب على ذلك من يستطيع. وقد أجابني أحد أولئك الذين كنت أتحدث إليهم قائلًا: إنهم جميعًا أناس شاعريون، ولكنهم ليسوا شعراء، من سيقرأ لهم بعد قرن من الزمان؟ فأجبت: إنهم من الكثرة بحيث يمكن أن نراهم بعد قرن، كشاعر واحد مركب، فلربما ينقذ الزمان خمسمائة قصيدة ممتازة من بين إنتاج مائة شاعر ليسوا من الكبار، ولكنهم مع هذا «يستحقون تقديرنا بعد قرن».
وما هذه الادعاءات إلا من علامات الضعف الذي يحاولون إنكاره. ذلك أننا لا نسمع بمثلها إلا في عصر حرم من المستويات العالية التي تتبلور في تيارات جادة، كما حرم من التقاليد الحية للشعر، ومن جمهور المتلقين المدرب بعناية على الاهتمام العميق. فما من أحد يستطيع أن يهتم بوعي وعمق بكل ما يقدم إليه من نظم، إلى أن يعاد تنقيحه وتقديمه كزهرة جميلة من الشعر الحديث. فالجزء الأعظم منه ليس بشعًا كالموتى، وإنما لم يولد قط. فالكلمات المستلقية في صفوف مرتبة على الصفحة بلا جذور: إن كاتبها نفسه لا يستطيع أن يمنحها من اهتمامه إلا الأحاسيس السطحية العابرة. حتى ذلك الشعر الأصيل الذي تحتويه مجموعات الشعر الحديث، يؤكد — كمًّا وكيفًا — أن عصرنا الحاضر لا يرعى نمو الشعراء. ولعل دراسة الجزء الأخير من كتاب أوكسفورد للشعر الفكتوري تقودنا إلى نتيجة مؤداها أن ثمة خطأ قد حدث في الأربعين أو الخمسين عامًا الأخيرة على الأقل.
ويبدو أنه من غير المحتمل أن عددًا من الشعراء الأقوياء يختلفون من جيل إلى جيل للدرجة الكبيرة التي يمكن أن نتصورها أو يقودنا التاريخ الأدبي إلى تصورها. وإنما ينشأ الاختلاف وفقًا لاختلاف الموهبة وطرائق استخدامها. وطريقة استخدام الموهبة في كل عصر تحددها بصورة أكثر وضوحًا، المفاهيم السائدة عن «الشاعرية»، وما يقابل ذلك من عادات وأساليب فنية ومعتقدات. هناك بالطبع ظروف أخرى، اجتماعية واقتصادية، وفلسفية، وهكذا. ولكن دائرة تخصصي هي النقد الأدبي؛ ولهذا ألزم نفسي حيال تلك الظروف الأخرى بما يتفق مع طبيعة الشاعر والناقد من حيث تخصصهما المباشر.
لكل عصر — إذن — مفاهيمه وتصوراته للشعر؛ أي للموضوعات الشعرية أساسًا، وخامات الشعر، والأحوال الشعرية، وربما كان أكثرها فعالية، ما لم ينل منا اهتمامًا يذكر. فالمفاهيم التي انحدرت إلينا من القرن الماضي أرسيت دعائمها في مرحلة كبار الرومانتيكيين: ورد زورث وكوليردج وبيرون وشيلي وكيتس. أن نحاول تصنيف هؤلاء، فإن ذلك يعني المغامرة بإساءة تقديمهم. فالأرجح أن غموضهم وعدم تحددهم هو السر الكامن وراء قوتهم. ولعلنا نستطيع أن نكتشف مبادئهم الباكرة فيما كتبه جوزيف وارتون تحت عنوان «مقال حول عبقرية وكتابات بوب» في سنة ١٧٥٦م بصورة مفصلة عامدًا إلى تحدي الأفكار السائدة، ثم أصبح فيما بعد من المسلَّمات.
قال: يبدو أننا لا نتنبه بما فيه الكفاية إلى الفروق القائمة بين الإنسان الحصيف، والإنسان المدرك، والشاعر الحقيقي. لقد كان دن وسويفت بلا ريب من ذوي الحصافة والإدراك. ولكن ماذا تركا لنا من آثار في الشعر الخالص؟ والسؤال الذي يبدد كل ما يمكن أن يتبقى لدينا من شك، هو الذي نضعه هكذا: إن التسامي والشجن هما العصبان الرئيسيان لدى كل عبقرية شعرية أصيلة، فأين هما في شعر بوب؟ ويستطرد وارتون في تصنيف الشعراء الإنجليز قائلًا: إنني سأضع في الصف الأول، سبنسر وشكسبير وملتون. إن اختيار هذه المجموعة يحسم لنا بدقة كاملة وجهة نظر القرن التاسع عشر في الخصائص الشعرية.
ونحن نذكر أن وارتون وضع دن في مرتبة الصف الثالث. وقد قوبلت الفكرة بالمعارضة والتحدي حين اقترن اسم دن بوضع اسمَي سبنسر وملتون جنبًا إلى جنب اسم شكسبير. وفي استطاعتنا أن نقتبس من ماتيو أرنولد ما يؤكد لنا أن هذا الرأي أضحى مقطوعًا به، ولا يقبل الجدل في العصر الفيكتوري. وأدلة أرنولد أكثر قدرة على الإقناع لعفويتها، ولأن أرنولد تخصص في نقده لتقييم النظريات المعاصرة له حول فن الشعر.
فالانشغال الذي كان مجرد عادة، أمسى عاملًا مسيطرًا على عملية انتظام الأفكار والمواقف والعواطف التي تتكون منها جميعًا «الخصائص الشعرية» للقرن التاسع عشر، والتي كثيرًا ما نلاحظ وجودها إلى الآن بالرغم من عدم الاعتراف العلني بها، ولا حتى إضمارها بصورة مقصودة تأمل مثلًا السونيتا التي كتبها لانج بعنوان «الأوديسا» وكان لانج (ولد في سنة ١٨٤٤م) مثقفًا ذواقة، ذا إحساس باللغة، ورغبة في أن يكتب الشعر — ولديه كل الصفات المطلوبة في الشاعر — فيما عدا الصفة الأساسية: وهي الشعور العميق بالحاجة إلى أن يوصل شيئًا — على درجة عالية من الخصوصية — إلى الآخرين. وتعد سونيتا الأوديسة من أكثر الأعمال التي تشبهها في القيمة، تشويقًا، وهي مثبتة في كتاب أكسفورد للنظم الإنجليزي. إنها توضح بدقة سمات ذلك النوع من الأشياء التي يسميها المثقفون في أواخر القرن التاسع عشر، شعرًا: كإنسان استلقى في مكان مرهق.
مخدر بأغنية الحورية الساحرة وخمرها، في الحدائق القريبة من سياج الآلهة بروسيرباين حيث تلك الجزر الإيجيبية التي نسيت أرض القارة.
هذه وثيقة نموذجية للغاية. ولنبدأ أولًا بالجو العام للمقطوعة الذي ينتمي كما تعلمنا إلى التسعينيات من القرن الماضي، فليس من الشاذ أو المستغرب أن يبعث سوينبرن في أذهاننا بقوة إيحاء «الحدائق القريبة من سياج بروسيرباين» و«مزامير الحب الخافتة» و«سدود الزهر الكثيفة» إلخ. كما يبعث موريس في أذهاننا موحيًا إلينا بتآلف عام مع الشعراء السابقين على روفائيل.
وأيضًا يجب أن نتوقع من شاعر فيكتوري صغير أن يشعرنا بقوة الوجود الطاغي لتينسون. ومن الطبيعي تمامًا عندما يريد «لانج» أن يهرب من موسيقى الساعات الواهنة إلى الهواء الطلق الرحيب عند الشط الغربي، أن يلجأ إلى ماتيو أرنولد. ولكنه بالرغم من نيته الصريحة أن ينتهي في الهواء الطلق الرحيب، وبالرغم من النجاح الذي ناله بدقات طبول الختام التقليدية (كما يقول النقاد) فإن موسيقى الساعات الواهنة هي التي تسود قصيدته:
فإذا كنا نحلم بهوميروس، ولو في اليقظة، فإنها تظل أحلامًا.
هناك أيضًا في القصيدة بعث آخر لكيتس الذي كتب «الحسناء التي لا ترحم» (فأشباح المحبين الشاحبين وحدها تذوب أسًى) تعد من عيون الخصائص الشعرية للقرن التاسع عشر.
فكان لا بد للإنسان البالغ المرهف الحس في القرن التاسع عشر أن ينشغل بالخلفية الثقافية المتغيرة، ويجد اهتماماته الأساسية غير قابلة للانفصال عن العالم الحديث. وفي ذلك حاول تينسون أقصى ما يستطيع. غير أنه على الرغم من تلميحاته الكثيرة العلمية (إذ كانت تقوم على افتراضات علمية سليمة) فإن اهتماماته الذهنية (ولسنا في حاجة إلى مناقشة قيمتها)، كانت ذات أثر ضعيف في نجاح أشعاره، الأمر الذي يتفق مع قيمة «الخصائص الشعرية» التي ذكرناها قبلًا. والحقيقة أنه لا يمكننا أن نذكر مثلًا توضيحيًّا أفضل من ذلك. فإن إرضاء تينسون لطموحه كان يتطلب إدراكًا أكثر دقة، ونبوغًا فطريًّا أصيلًا أقوى وأوضح، وشجاعة وقوة أعظم، مما توفر لديه فهو قد يصارع جادًّا مشكلات العصر، ولكن العادات والمعتقدات والأساليب الفنية التي وجدها مناسبة لطبيعته، ليست هي عادات ومعتقدات وأساليب الشاعر الذي يستطيع أن يعرض نفسه للانطلاق إلى عنف وقسوة المناخ المعاصر له، وهو في هذا يعد نموذجًا لغيره؛ فقد كان من الممكن لشعراء المرحلة الرومانتيكية أن يؤمنوا بأن الدوافع التي تحرك أشعارهم وتبعث فيها الحياة هي القوى التي تحرك الدنيا، أو التي قد تحركها. على أن الشعر الفيكتوري يعترف اعترافًا ضمنيًّا بأن هاتين الأغنيتين تصل في أهميتهما ودلالتهما إلى الدرجة التي تجعل إيراد جملة أو اثنتين منها كافيًا لإنهاء هذه المناقشة:
وقد نتساءل: أين يأتي برواننج في هذه التعميمات؛ إذ إنه من الصعب للغاية وصف شعره بالانسحاب. إنه شعر تملكه الدنيا التي عاش فيها براوننج الذي يبدو أنه عاش سعيدًا في العالم الفيكتوري من غير أن يعاني إحساسًا بعدم التوافق. فهل كان السبب المباشر لذلك هو بعض الصفات التي تزكي هذا الشاعر؟ مع العلم بأن الشاعر إذا حرم من بعض أنواع القوة والسلطة، فإن ذلك يكون أفضل له. ومن الواضح أن براوننج كان يستطيع أن يصبح أكثر حساسية وإدراكًا وذكاء لو أنه كان أقل قوة. لا شك أنه نقل اهتماماته في الحياة إلى شعره. ولكنها — كما نرى — ليست اهتمامات الإدراك الناضج المرهف الحس؛ فهو لم يكن في حاجة للانسحاب إلى عالم الأحلام، إذا استطاع. الدنيا الكائنة من سماتها أنها معادية، مقاومة، مناهضة، غير شعرية، وأنه لا قيمة لأي احتجاج باستثناء احتجاج واحد هو الانسحاب.
إن سوينبرن يغني للحرية والثورة، إلا أنه من الصعب أن أوضح الفرق الذي أشرت إليه توضيحًا قويًّا إلا إذا قارنت سوينبرن بشيلِّي.
أما أسباب هذا النزوع الغريب إلى دنيا أخرى كتلك التي نجدها في الشعر الفيكتوري فتوضحها ملاحظة ماتيو أرنولد المتكررة وإشاراته إلى:
الصراحة التي تسم هذا الاعتراف الواضح، تميز أرنولد عن زملائه الشعراء، ولكنها ليست كافية لتكون «النقد الشعري للحياة» الذي كان يبتغيه. فوا أسفاه! أصبح الماضي غير صالح للحاضر، والمستقبل الذي لم يولد بعد، واستجابة أرنولد للحاضر لا تختلف في جوهرها عن استجابة زملائه. إذ مهما كانت أسباب تقديره لأشعار وردزروث والإغريق باعتبارها ضوابط للشعر، يتضح لنا في الأغلب أنه يرددها باعتبارها وسيلة للهرب إلى «نضارة الحياة الأولى».
أما عن ميريديث فأستطيع أن أرد على القائل بأني لم آخذه في الاعتبار، بأن الحب «الحديث» يبدو لي إنتاجًا براقًا لذكاء غير عادي، غير أنه سوقي يعيش على الانفعالات الرخيصة. وتقتصر فائدته بالنسبة للشعراء التالين له على سبيل التحذير فحسب. وكلما استرسلنا في «كتاب أوكسفورد» وضح أمامنا أن هذه الحقبة من الزمن لم تستخدم مواهبها إلى أقصى حد ممكن في طاقاتها. فمن كان يستطيع أن يتبين في أشعار وليام موريس مثلًا، أنه كان أكثر رجال عصره ثراء في تعدد أعماقه ونشاطه وأصالته؟ وأنه كان «قوة» تتمكن من الصدام، وتتلاطم بشكل حاسم في دنيا الواقع العملي؟ وأنه احتفظ بالشعر لأحلام يقظته؟
وإذا تصفحنا أي مجموعة شعرية تضم شعرًا من السنوات الخمسين الأخيرة استحال علينا الشك في أن العقول الممتازة التي كان يجب أن تتجه إلى الشعر قد انصرفت عنه إلى سواه؛ إذ من الصعب أن نجد تفسيرًا غير هذا للعقم في المواهب الأصيلة على اختلاف أشكالها ودرجاتها. وعندما تكشف موهبة أصيلة عن نفسها، وإن كانت من مستوى منخفض فإنها تكون قادرة على أن تمارس قدرًا من التأثير. وذلك كما في حالة وسمان وروبرت بروك. وكتاب الأشعار «الجورجية» يفيض بصورة أو بأخرى، بثناء غير مقصود على هذين الشاعرين، والحق أن منطق هذين الشاعرين قد كيف — إلى درجة كبيرة — وصية الفيكتوريين التي تركوها في عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم مع العصر الحديث. ولكنها بقيت في جوهرها كما هي على ما يظهر لي من تصفحي لديوان الشعر النموذجي «مختارات من الشعر الحديث» لسكواير. وهذا التكيف العصري يفصح عن نفسه في رقة لطيفة في أكثر الأحيان، فقد أصبحت الثقة العاطفية ذات القدرة والحيوية مفتقدة، وغدت دراسات الجورجيين أكثر هدوءًا وتواضعًا، وما سايرها من تحرر في الأساليب الفنية أخذ شكل الصفة الحرفية غير الثابتة، المحلولة، المتوالية.
فأن يبدأ الشعر بداية جديدة في مثل هذه الظروف، أمر قريب من اليأس التام؛ إذ من السهل ترديد ما قيل مرارًا عن ضرورة تأقلم الشعر مع الحياة الحديثة، ومع هذا لا يتحقق شيء من ذلك ما دامت مثل هذه التعميمات تفهم في تفصيلاتها. أي إن اختراع الأساليب الفنية الجديدة — في مرحلة أصبحت العقائد السارية فيها لا تصلح لأي شيء حتى إذا كان الشيء مجرد مقدمة أو بداية — يعد أكبر من أية موهبة (اللهم إلا إذا كانت عظيمة وأصيلة إلى درجة خارقة للعادة)؛ ذلك أن العادات السائدة تخلق جوًّا معينًا، من العسير أن يهرب منه أحد. ويقول سكواير في الأوبزرفر في معرض حديثه وتقديمه لديوان الشاعر لوربيت — واسم الديوان «العهد الجديد للجمال» — «… وقد قام هذا الشاعر القديم بتحقيق نجاح لم يبزه فيه من تلاه من الشعراء. فبفضل شجاعته وإخلاصه وصدقه الطبيعي وإيمانه بوظيفة الشعر استنبط وسيلة تمكن بها من تجنب التفاهة والبلادة وأن يدخل إلى نطاق القصيدة كل إحساساته ومعرفته وتأملاته واهتماماته وآماله ومخاوفه. وقد اصبحنا — على مر الأجيال وبسبب رد فعل الجمال ضد العالم العلمي الصناعي المادي إلى أقصى درجة — نألف ونتقبل الفكرة القائلة بأن بعض الأشياء «ليست شعرية»، وأن الشاعر يستطيع أن يتكلم عن وردة، ولا يستطيع أن يتكلم عن رولزرايس، وأن الشعر ملجأ وليس هجومًا، وأن الشاعر لاجئ مرهف الحس، وليس إنسانًا يواجه الحياة كلها وينفخ في النفير بالنداء إلى بني جنسه الخرس المضطربين.»
وقد تبدو الجملة الأولى كأنها متمشية مع روح هذا المقال بالرغم من أن جملة «يدخل إلى نطاق القصيدة» يجب أن تضعنا في جانب الحذر. أما الجملة التي تليها: «لقد أصبحنا نألف ونتقبل الفكرة القائلة بأن بعض الأشياء ليست شعرية» فتعليقنا عليها هو: «بل الأمر أسوأ من ذلك؛ فقد اعتدنا تصور أن بعض الأشياء «شعرية» مثل الزهور والفجر والندى والطيور والحب، وكل ما هو عتيق من أسماء جهات الريف». أما أن الشاعر يستطيع أن يتكلم عن وردة وليس عن «رولزرايس». فأمر يثير الرعب. كما أن «الشعر ملجأ وليس هجومًا، والشاعر لاجئ مرهف الحس وليس إنسانًا يواجه الحياة كلها وينفخ في النفير بالنداء»، فكل هذا رديء. والواضح إلى الآن أن الناقد إنما يحاول أن يصحح فهمًا خاطئًا بأن يقلبه رأسًا على عقب؛ لأننا الآن لا نجد بدرًا يجعلنا نطلب من الشعر أن يكون هجومًا أو ملجأ، والحق أنه من غير المحتمل أن تكون لشاعر عصري مرموق طبيعة نافخ النفير بأية صورة من الصور، إن تلك الفقرة تفصح عن سوء فهم شامل للطريقة التي يمكن أن تظهر بها حداثة القصيدة الشعرية؛ إذ لا يتم ذلك بالحديث عن الأشياء العصرية، أو أجهزة المدينة العصرية، أو بأن تصبح موضوعات الشعر عصرية. فإن دخلت الرولزرايس إلى الشعر بشكل ملحوظ جاز أن يتم ذلك بالطريقة التي افترضها إليوت عندما قال إنه من المحتمل أن يتأثر الإدراك العصري للإيقاع، بجهاز الاحتراق الداخلي. وعلى أية حال، فإن كل ما نستطيع أن نلح في طلبه من الشاعر اليوم هو أن يظهر من نفسه ما يبين أنه قد عاش حياة مليئة في أيامنا، بحيث تكون الشواهد على ذلك من صميم نسيج شعره.
كتب ألفريد نوابيس ولعله ما زال يكتب عملًا شعريًّا كبيرًا هو «حملة المشاعل». وقد اكتفيت بلمحات قليلة خلاله ليتضح عدم أهميته كعمل شعري، فمثل هذا العمل يجب أن يبرر نفسه ويكسبها حق الوجود من صميم نسيج أبياته الشعرية، بالجدة في النغم، والصور التي يمكن أن نخطئها، وإحساساته غير المتبدلة. ولكن أشعار نوابيس هي من تلك الأشعار التي يستطيع أن يتعلم كتابتها كل إنسان لديه إحساس باللغة ومعرفة وثيقة بشعراء الماضي.
وقصيدة لورنس بينيون «ساحرات البحر» تشبه قصيدة نوابيس وإن كانت أكثر منها عمقًا؛ فهي من روح الإنسان المتسائلة. هذه القصيدة هي الأخرى مرفوضة من ميدان الشعر لنفس الأسباب. وقد لقيت هذه القصيدة قبولًا لما فيها من الأساليب الفنية التي توضح بصورة ما مهارة حرفية. ولكن الأسلوب الفني الوحيد القيم هو الذي يضطر الكلمات لأن تعبر عن طريقة إحساس موغلة في ذاتيتها إلى درجة تدفع القارئ للاستجابة الشعرية، غير أنه يستجيب بطريقة واضحة المعالم، شديدة الخصوصية، لا تستطيع كثرة تداول كتاب أوكسفورد أن تجعلها مألوفة ومبتذلة؛ ذلك أن ابتداع الأساليب الفنية المتسعة مع طرق الإحساس أو أشكال التجارب عند البالغين من ذوي الحس المرهف، أمر بالغ الصعوبة، وصعوبته تجعله يبدو أمرًا مستحيلًا. والتوفيق فيه إحدى المرات، يجعله جائزًا ممكنًا بعد ذلك؛ إذ يصبح أقل صعوبة. هذه هي الأهمية الخاصة بإليوت، فعلى الرغم مما في نظامه «وطقوسه» من استعلاء كبير له طابع الحتمية فإنه ليس السبب فيما يكنه الشباب من احترام لإليوت. فإن الامتياز العقلي النادر الذي يتمتع به إليوت مكَّنه أن يحل المشاكل التي واجهته كشاعر؛ وبذلك حقق ما هو أكثر من حل المشاكل التي واجهته. وقد اكتسب تأثيرًا ذا فاعلية كبيرة لأنه ناقد وشاعر، معًا. فشعره ونقده يقوي كل منهما الآخر ويدعمه. وإليه يعود الفضل بصورة رئيسية في أن كلًّا من الشاعر الجاد والناقد الجاد، أصبحا اليوم قادرين على إدراك وجوب تطور الشعر الإنجليزي في المستقبل — إن تحقق ذلك — في اتجاه آخر غير الاتجاه الذي يمتد من الرومانتيكيين عبر تينسون وقصيدة «سوينبرن» صبي شروبشاير وروبرت بروك. إن إليوت صنع بداية جديدة. وأسس دعائم احتمالات واتجاهات، جديدة.
•••
وفي المجتمعات الاشتراكية، لهم آراء تختلف مع آراء زملائهم من نقاد الغرب، آراء جديدة تتسم بالمرونة والرحابة والعمق، أنقل بعضًا منها مما جاء في مجلة «الأدب السوفيتي» (عدد ١٢، سنة ١٩٦٦م).
(٤) تطورات جديدة في النقد الاشتراكي
كتب ليونيد نوفتشنكو تحت عنوان «تطورات أكثر جرأة في الواقعية الاشتراكية» يقول: «لقد آن الأوان لأن نطرح على نطاق واسع التساؤلات الخاصة بالعناصر الجديدة التي يتم اكتشافها أثناء عملية الخلق الفني، وينبغي إضافتها إلى نظرية الواقعية الاشتراكية حتى تزداد ثراء في المرحلة الراهنة. فمن المؤكد تمامًا أنه قد ولدت ظواهر جديدة مع تقدم المجتمع السوفيتي، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وبالتالي فلا بد لهذا التقدم من أن ينعكس على «الإنسان» السوفيتي وحينئذٍ ليس أمام «الفن» إلا أن يحترم هذا التغير والتطور فيقدم من الجديد ما يوازي التغيرات المادية ويرتفع إلى مستواها — في مجاله النوعي المحدد — إذا لم يتجاوزها إلى مكان القيادة الحقة، القيادة الفكرية للوجدان.»
ولا شك أن معرفة الواقع الموضوعي والقوانين الأساسية للتطور من المصادر الهامة لخلق فني أصيل يتسم بكل صفات الإنسان السوفيتي وهو يصارع من أجل بناء مجتمعه على نسق لم يكن موجودًا من قبل. ولعله المفيد القول بأن التجربة العالمية للآداب الواقعية الاشتراكية تؤكد «تعدد السبل» إلى بناء أدب واقعي اشتراكي، فليست هناك مواصفات محددة تحديدًا مسبقًا، بمقتضاها يتحتم على الفنان أن يبدع جماليًّا، وإنما هناك روح كل شعب وتراثه الذي يختلف موضوعيًّا عن تراث وروح أي شعب آخر. إنها ليست الخصائص القومية وحدها التي تميز أدبًا عن آخر، وإنما الجذور التاريخية والحضارية هي التي تفرق — وتجمع في نفس الوقت — بين الشعب والآخر. أي إن الجانب الإنساني العام يشكل عنصرًا ما في هذا الأدب أو ذاك. ولكن الجانب المحلي الخاص يشكل عنصرًا هامًّا للغاية وبواسطته يشقُّ أدب كل بلد طريقه الخاص إلى الإنسانية. والواقعية الاشتراكية لا تعتدي على محلية الأدب، أو إنسانيته، ولكنها تضيء الزاوية الفكرية التي ينبغي للفنان الاشتراكي أن يلتزم بها. بعد هذا، ليس للواقعية الاشتراكية أية سلطات جمالية يخضع لها الفن. لأن التقاليد الجمالية من العناصر التراثية تتسرب إلى البناء الفني من الأرض المحلية سواء بوعي من الفنان أو بغير وعي.
بل إنني أذهب إلى بعيد وأقول: إن الواقعية الاشتراكية ليست لها سلطات فكرية على الفنان إلا في حدود المنهج العام. لأن مشكلات كل مجتمع على حدة هي التي تضيف إلى الخطوط العامة للمنهج تفاصيله الدقيقة وملامحه الذاتية. ومن هذه المشكلات المحلية يتكون الوجه الآخر للعمل الفني: المضمون. ومعنى هذا بالدقة أن الواقعية الاشتراكية ليست قالبا فكريًّا جاهزًا على الفنان والأديب أن يصب فيه مواد البناء، ومن وخاماته فحسب.
إنني أشير إلى تشيكوسلوفاكيا وبولندا كمثال لما كتب أدباؤهما من أدب ثوري وفن تقدمي فيما بين الحربين، فلا شك أن هذا الأدب وذاك الفن، هو الذي يمد الآن ما يكتبه الأدباء البولنديون والتشيك المعاصرون بماء الحياة. أي إن التراث الأدبي والفني لكلا البلدين قد أسهم في تطوير الأدب الاشتراكي لكل منهما.
وتحت عنوان «نحو تحليل رشيد» كتب إيجور تشيرنوتسان مقالًا حول العلاقة بين النقد والحياة، جاء فيه: «لا سبيل إلى إنكار ما طرأ على حقل النقد والدراسات الأدبية من تغيرات عميقة في تناول موضوعات الفن والجمال وعلاقتهما بالواقع الاجتماعي. على أن اتساع الهوة بين النقد والحياة من ناحية، وبين النقاد والقراء من ناحية أخرى ليس مرجعه ما يشاع عن تعقيد اللغة النقدية، أو تعالي الناقد على قرائه، وإنما مرجعه هو أن النقد ما يزال واقفًا على أعتاب العموميات الشديدة لا يلج أبواب التفاصيل التي عاني في خلقها الفنان. تلك هي القضية «معايشة العمل الفني من الداخل» كمجموعة من العلاقات الجمالية والقيم الاجتماعية معًا دون الانشغال بمحاولة التصنيف الأكاديمي، أو ملء الخانات المعدة سلفًا، أو الحديث المعاد حول وظيفة الأدب. إننا بغير شك كنا في حاجة ماسة إلى ترسيخ هذه المفاهيم «العامة» فيما مضى، ولكننا الآن بحاجة أكثر إلى «الدخول في الموضوع»، والموضوع يتلخص في نقطتين ابتذلهما علم الجمال البرجوازي وهما: لحظة الخلق، ولحظة التذوق. إننا نريد إعادة اكتشاف هاتين المنطقتين في ضوء أسس جديدة لعلم الجمال الاشتراكي المتطور، وفي ضوء النقد الواقعي الذي أرسى دعائمه في بلادنا الديمقراطيون الثوريون الذين ربطوا بين الأدب والحياة ربطًا عميقًا.
إن الشخصية الإيجابية في الأدب — مثلًا — هي بلا ريب الشخصية ذات القدرة البالغة في التأثير على القارئ. ولكن هذه ليست قاعدة عامة؛ لأنه لن نستطيع أن نكتشف «القدرة» والتأثير بمقولات قديمة اكتشفها الأولون في ضوء خبرتهم الخاصة. نحن أيضًا، والأجيال الجديدة معنا، لها تجربتها الخاصة التي ينبغي اكتشاف أبعادها المختلفة، كيف يتأثرون وكيف يؤثرون؟ هذه الأبعاد الجديدة هي التي تصوغ معنى الشخصية في الفن، إيجابية كانت أو سلبية، منتصرة كانت أو مهزومة. وهكذا.
ما هو موقف النقد الاشتراكي من هذه القضايا وغيرها؟
إن الإجابة العملية وحدها هي الكفيلة بتضييق الهوة القائمة فعلًا بين النقد والحياة، أو بين النقاد والقراء.
وفي المجتمعات الاشتراكية يتخذ النقد الأدبي عند التطبيق مسارات مختلفة، ولكنه عند كبار النقاد يتسم بالأصالة النابعة من أرضنا، والمعاصرة التي لا تتخلف عن حضارة القرن العشرين. وسوف يظل محمد مندور وعمر فاخوري مثلًا حيًّا على الدوام يؤكد صواب هذه النظرة.
(٥) الواقعية الاشتراكية بين عمر فاخوري ومحمد مندور
من الأخطاء الشائعة في الحقل الأدبي العربي، أن مختلف المذاهب الفكرية والفنية السائدة على آدابنا، هي تيارات مستوردة واتجاهات أجنبية. وبالرغم من أن أحدًا لا يماري في أننا تأثرنا بالغرب فكرًا وفنًّا منذ أواخر القرن الماضي، إلا أن هذا التأثر لم يتم قط بمعزل عن البيئة المحلية والتجربة الخاصة. أي إن ثمة تفاعلًا قد حدث بين المؤثرات الغربية، والواقع العربي. ولا شك أن هذا التفاعل قد أثمر شيئًا جديدًا يمتزج فيه المؤثر الخارجي بالواقع الخام. بحيث لا نستطيع أن نرد هذا التيار إلى مصدر وحيد هو المؤثر الأجنبي.
هذا لا ينفي بطبيعة الحال أن لدينا بعض النقاد ممن تبنَّوا نماذج بعينها من تيارات الغرب، واتجاهات تراثنا العربي، على السواء. إلا أن هذه القلة النادرة كانت تتعسف مع تجاربنا المحلية في إقحام مقاييس غير صادرة عن نفس الأرض، ومن ثم تحدث الهوة بين أدبنا ونقدنا الأدبي. إلا أن أغلب المناهج النقدية في اللغة العربية تمكنت بالتفاعل بينها وبين التجارب المحلية من ناحية والمناهج الغربية من ناحية أخرى، أن تثمر تيارات نابعة من أرضنا. تيارات تختلف فيما بينها وتتباين تطبيقاتها، ولكنها تتوحد في ذلك التجاوب الصادق بينها وبين النماذج الفنية التي تعالجها بالتقييم.
وربما كان عمر فاخوري من لبنان ومحمد مندور من القاهرة، من أوضح الأمثلة على صحة هذا الرأي فيما لو طبقناه على التيار الواقعي في النقد العربي الحديث. فلم يكن عمر ولا مندور من أولئك النقاد الاشتراكيين الذين استمدوا نظرتهم إلى الأدب من منهجهم العام في الفكر السياسي والفلسفي. وإنما نرى كلاهما قد اجتاز العديد من مراحل التطور التي عانى خلالها معاناة أصيلة، تدرجت به إلى المفهوم الواقعي في الأدب.
فمنذ أكثر من عشرين عامًا (٢٤ أبريل سنة ١٩٤٦م) رحل عمر فاخوري عن سبعة كتب في الفكر والنقد والفن، تصوغ في مجموعها الرحلة الطويلة التي قطعها هذا المناضل العربي في حقل النقد.
فقد كان عمر في الثالثة عشرة من عمره عندما أعلن الدستور سنة ١٩٠٨م وانضم إلى حزب الاستقلال والجمعية العربية في وقت واحد. وفي تلك الفترة ألف كتابه البكر «كيف ينهض العرب» وراح ينشر عدة مقالات وطنية في الصحف بتوقيع «مسلم ديمقراطي» إذ تنبهت عيون السلطة العثمانية إلى الكتاب ومؤلفه فظل مطاردًا حتى رحل إلى باريس عام ١٩٢٠م. وعاد منها بعد أربع سنوات حيث انقطع عن الكتابة فترة طويلة، ألف بعدها أول كتبه في النقد الأدبي وهو كتاب «الباب المرصود» عام ١٩٣٨م. وهو في هذا الكتاب ثائر على «الصنعة» في الأدب العربي، حيث العناية المفرطة بالتركيب الإنشائي دون المعنى الإنساني، ومن ثم يدعو الشاعر الحديث «أن ينزل إلى السوق ليشتري حاجة عيشه وحاجة أدبه معًا».
ويرى أنه على الرغم من إصرار الأدباء الكلاسيكيين على اللفظة المبهرجة والأسلوب الموشَّى إلا أنه يفتقد في الشعر مثلًا وحدة المبنى والمعنى داخل إطار فني متكامل. وفي أروع فصول هذا الكتاب «كنوز الفقراء» يمعن فاخوري نظرًا حاذقًا نافذًا إلى الأمثال والأقاصيص والأساطير الشعبية. فإذا هو يرجع برأيٍ قد يبدو غريبًا جديدًا في ذلك العهد، وهو أن «خلق عالم على هامش عالمنا هذا أو تصور وجود غير هذا الوجود العادي، ليس وقفًا على خيال الشعراء؛ فإن للعامة في هذا الخلق والإبداع اليد الطولى، بل لعل الشعراء يستقون من هذه الينابيع التي تفيض في كل عصر ومصر، ولا ينضب ماؤها أبدًا «الآداب العامية».
وفي عام ١٩٤٠م أصدر عمر فاخوري كتابه النقدي الثاني «الفصول الأربعة» وفيه يؤكد على أربعة نقاط رئيسية هي «الخبرة الشخصية بالحياة والناس» و«الاتصال الحقيقي الحر بالطبيعة والوجود» و«مشاهدة الأديب اختياراته لما حوله ولما في نفسه» و«أن جمال الفن في التزامه أمرًا واحدًا، هو التجديد في الخلق والإبداع، مهما يكن غرضه ومهما يكن موضوعه» ولعل ما صرحت به زوجته في حديث لها بمجلة «الأسبوع العربي» البيروتية، من أن المتنبي كان «توراة» المنزل لأن عمر كان يقرؤه كل مساء، وأنه كثيرًا ما كان يمزق موضوعًا كاملًا من أجل عبارة واحدة لا تروقه. وكثيرًا ما كان يمضي يومًا كاملًا في سبيل البحث عن هذه الكلمة المفقودة أو عن بديل لتلك العبارة المضطربة في مكانها، فإذا أشارت عليه زوجته بأن يستغني عن العبارة الشاردة بأقرب عبارة يجدها في ذهنه فيثور لذلك ويصرخ: «لا، ليس هذا ممكنًا … لأن المعنى الذي أريده متجسد في هذه الكلمة التي أطلبها لا في غيرها»، وفي عام ١٩٤٤م أصدر فاخوري كتابه «أديب في السوق» حيث أعلن التزامه الواضح بقضايا الشعب العربي في الأدب والنقد، وحيث استمر في خطه النضالي من أجل التجديد وأمست بقية مؤلفاته امتدادًا تطبيقيًّا كما قال إنه من الجائز: «استحداث بحر جديد ووزن جديد كالبحر أو الوزن الذي استحدثه بشر فارس»، وغيرها من الآراء التجديدية الأخرى.
ولعل الملاحظة الرئيسية على تطور عمر فاخوري هو أنه لم يستقبل منذ البداية منهجًا معدًّا من قبل، وإنما هو ترك نفسه لمختلف التأثيرات التي تجاذبته فتطور ذاتيًّا في موازاة التطور الموضوعي لمجتمعه. وهي نفس الملاحظة التي تنطبق تمام الانطباق على حياة مندور الأدبية.
ذلك أن الدكتور مندور لم يصل إلى ما دعاه بالمنهج الأيديولوجي في النقد الأدبي، إلا بعد زهاء عشر سنوات منذ عودته من أوروبا عام ١٩٣٩م؛ فقد بدأ مندور حياته النقدية متأثرًا بالمنهج الجمالي الذي يعتمد على الذوق المدرب والانطباع المباشر؛ فقد استخلص من تيارات النقد العربي القديم ما يدعم وجهة نظره إلى النقد باعتباره إحساسًا ذكيًّا بالأثر الفني ورحلة غنية بالانطباعات الشخصية عن هذا الأثر. وقد كانت معر كته مع محمد خلف الله أحمد في أوائل الأربعينيات هي حصيلة منهجه الجمالي في النقد التي تبلورت في كتابه «في الميزان الجديد» عام ١٩٤٤م. وفي هذا الكتاب نلاحظ احتداد مندور في الهجوم على التفسير النفسي للأدب وانحيازًا مطلقًا للتفسير التأثري.
على أننا نشهد منذ عام ١٩٤٩م تحولًا هامًّا وعميقًا في منهج مندور نحو المنهج العقلي الذي يأخذ من الانطباع الشخصي نقطة انطلاق يتبعها بالحجج العقلية القادرة على تفسير هذا الانطباع. فقد لاحظ أن الانطباعية في النقد هي إيغال في الذاتية والتفرد. بينما نحن لا نستطيع أن نقيم أثرًا فنيًّا ما إلا إذا استندنا على مجموعة من الركائز الموضوعية الخارجة عن إطار ذواتنا. لهذا يؤكد مندور في كتابه «في الأدب والنقد» الذي صدر حوالي ذلك التاريخ «١٩٤٩م» إنه لا بد من الاستنارة بمختلف كشوف العلوم الإنسانية من تاريخ واقتصاد وفلسفة وغيرها إذا تصدينا لعمل أدبي ما حتى نتمكن من الإحاطة الموضوعية الشاملة بالفنان وظروفه، وتكوينه الخاص الذي أثمر لنا هذا العمل بالذات دون غيره من الأعمال.
وقد تطور هذا المنهج بعد سنوات قلائل إلى ما دعاه مندور بالنقد وهو النقد الأيديولوجي. وهو النقد المرتبط بروح العصر وإنسانية القرن العشرين وقضايا الشعوب. حيث إنه لا بد للناقد من أن يضع كلتا يديه على «القضية» التي يتناولها الفنان كخامة فكرية، ثم «زاوية المعالجة» التي يحاول بها الفنان أن ينقل إلينا وجهة نظره في هذه المشكلة أو تلك. وهو لا يتخلى عن مكاسب وانتصارات مراحل تطوره السابقة؛ فهو يعتمد على الذوق المرهف والحساسية المدربة، ويعتمد على التفسير العقلي للانطباعات الشخصية. ولكنه يبحث أولًا وأخيرًا في هذا الذي يريد أن يقوله الفنان، وكيف قاله. والدكتور مندور يشدد في مرحلته الأخيرة هذه على ضرورة «التوصيل الجيد» الذي يتطلب من الفنان أن يجيد صياغة وجهة نظره الفكرية جماليًّا؛ ذلك أن «الفن الجميل» وحده هو الذي يؤثر في اتجاه القارئ ووعيه.
وهكذا رحل مندور في ١٩ مايو «سنة ١٩٦٥م» بعد أن ترك لنا رصيدًا من التطبيقات النقدية للاتجاه الواقعي الاشتراكي.
إلا أن واقعية مندور، ومن قبله عمر فاخوري تتسم بالرغم من اشتراكيتها، بل وبدافع من الفهم العميق لروح الاشتراكية، بأنها واقعية رحبة غنية لا تتعسف في إقحام معايير لا علاقة لها بتجربتها الأدبية الخاصة، سواء كانت هذه المعايير من الغرب، أو من التراث.
تتسم واقعية مندور وعمر فاخوري بالأصالة والصدق والمعاناة؛ لأنها ثمرة نضال طويل، مع النفس والمجتمع والثقافة، وليست تلقِّيًا ميسورًا لمنهج جاهز. ربما لا نحصل من أيهما على درجة عالية من الوحدة والتكامل والصياغة المنهجية ربما وجدنا بعض التناقضات الفكرية، ربما لاحظنا شيئًا من التخلف في هذه الجزئية أو تلك. ولكننا سوف نكتشف بالرغم من ذلك كله، أن عمر فاخوري ومحمد مندور كانا على درجة عالية من النضج والصدق، أتاحت لنظرتهما في النقد أن تصاحب تطور أدبنا الحديث، مصاحبة حية نافذة.
على أن منهج محمد مندور أو عمر فاخوري، ليس هو المنهج الواقعي الوحيد في حياتنا الأدبية، فثمة مناهج أخرى تبحث لها عن طريق مختلف. كذلك المنهج الذي اختطه الدكتور لويس عوض في كتابه الذي تصدى لتقييم جميع الاتجاهات الواقعية في النقد، وحاول أن يرسي معالم اتجاه جديد.
(٦) الاشتراكية والأدب
في جميع البلدان التي يسودها الاضطراب الحضاري تنمو وتترعرع دعوات الحياد الفكري والسياسي، كمحاولة للتعرف على الذات المفقودة وسط التيارات العالمية المتزاحمة على كوكبنا. ولم تنجُ المنطقة العربية من مرحلة الاضطرابات هذه، بل ربما عانت ويلاتها أكثر من أي جزء آخر في عالمنا؛ ذلك أن العلاقة بيننا وبين أوروبا لم تكن يومًا علاقة الند للند، إذا استثنينا بالطبع تلك المرحلة التي كانت فيها الأمة العربية في مستوى العطاء العظيم، فأنقذت أوروبا والعالم من وهاد القرون الوسطى. على أن تلك المرحلة لا تقاس بالتاريخ الإنساني في مداه البعيد، حيث لم نقف يومًا جنبًا إلى جنب أوروبا دون زيادة أو نقصان.
ولقد نشأ من ذلك الكثير من العقد ومركبات النقص التي لا تتبلور فينا عادة كأفراد، وإنما كمجتمع وحضارة. ومن صميم هذه العقد ما يتوهمه بعضنا من «شمولية» إذا جمع بين النقائض والمفارقات، معتقدًا أنه بذلك يجمع بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وبين اليسار واليمين، وبين السماء والأرض، على صعيد واحد، هو صعيد الكمال التام، والرسالة الإنسانية العليا.
والحق أن هذه المحاولة ليست شيئًا جديدًا على أي من مجالات الفكر والحياة؛ إذ هي لا تعدو كونها مجرد «حلول وسطية» يلجأ إليها الإنسان الشديد الحيرة والاضطراب إذا حسنت نيته، كما يلجأ إليها الإنسان بوازع من موقف انتهازي إذا ساءت هذه النية أو ضعفت.
وليست مهمتنا أن نبحث عن النيات، ونحن بصدد كتاب «الاشتراكية والأدب»؛ لأن مؤلفه أولًا، كاتب عودنا على الروح الموضوعية في البحث، ولأنه، ثانيًا، أحد أولئك الرواد الذين علمونا الشيء الكثير في الاشتراكية وفي الأدب وفيهما معًا. لهذا يحسن بالناقد أن يقف عند تسجيل الظاهرة الواحدة أو الظواهر العديدة دون أن يقول كلمته الأخيرة في تقييمها إلا بعد أن يستقبل انعكاسات الموقف الجديد للدكتور عوض على تطبيقاته النقدية اللاحقة لكتابه «الاشتراكية والأدب».
ولا شك أنه يوجد بين مرحلتَي التسجيل والتقييم مرحلة وسطى هي التحليل، وغاية ما يمكن أن نقول به في هذه النقطة أننا سنقتصر في محاولتنا استخلاص النتائج على واقع الكتاب من جهة والتاريخ الأدبي من جهة أخرى والموقف الراهن للفكر العربي من جهة ثالثة.
يضع الدكتور لويس عوض تاريخ الفكر الإنساني في خانتين محددتين هما المثالية والمادية، ثم يؤرخ لكافة المذاهب السابقة للاشتراكية كنتاج طبيعي لمناهج الفكر المادي. وهو لا يقول ذلك بشكل مباشر كما كان يقوله في الماضي بين صفحات مقدماته لكتبه، وإنما هو يسلك الآن طريقًا غير مباشر في تصنيف الفكر العالمي؛ فالمدارس العقلية والوجودية وغيرها من اتجاهات الفكر البرجوازي هي معادية بطبيعتها للفكرة الاشتراكية، ومع ذلك فهو لا يعلن صراحة أن هذه الفكرة ابنة المنهج المادي في المعرفة؛ لأنه يعلم أن الكثير من اتجاهات الاشتراكية السابقة للماركسية قد نبتت في أحضان الفلسفات المثالية. كذلك فهو لا يعلن صراحة أن البرجوازية هي الأم الشرعية للفكر المثالي، لأنه يعلم أن البرجوازية قد تبنت على طول تاريخها الكثير من الفلسفات المادية.
إلا أن هذا التقسيم الذي يجيء به المؤلف لا يختلف كثيرًا عن تقسيماته السابقة في مقدماته القديمة. وهو يدعو الموقف الجديد «بالاشتراكية الإنسانية» التي تعترف بجميع المتناقضات وتتجاوزها إلى ما هو أعمق، إلى إنسانية الإنسان، هذه الإنسانية التي لا علاقة لها بالصراع الطبقي أو الطائفي أو العنصري أو أي صراع آخر لأنها الجوهر الكامن في وحدة السماء والأرض في كلٍّ واحد منسجم.
لست أشك لحظة في أن تاريخ الفكر الاشتراكي هو نفسه تاريخ الفكرة «الإنسانية»، بمعنى أنه لم يوجد مفكر اشتراكي قط لم يزعم أن اشتراكيته تهدف إلى أن يسترد الإنسان إنسانيته. وبينما يتفق جميع الاشتراكيين في هذا الهدف، يختلفون من حيث الوسائل القادرة على تحقيقه، بل هم يختلفون أيضًا في تفسيره. فقوم يقولون بزوال الطبقات كطريق يؤدي إلى إنسانية الإنسان، وقوم يقولون بحضارة واحدة تستظل بها الإنسانية فتحافظ على جوهرها الروحي الأعلى. وقوم يعودون بنا إلى الغابة أو الطبيعة لنسترد نقاءنا الأول. ويتم ذلك إما في مجتمع شيوعي، أو في جمعيات تعاونية، أو في مدينة فاضلة، أو سواها؛ أي إننا لم نعرف قط دعوة اشتراكية لم تدَّعِ أنها تستهدف إنسانية الإنسان، ومن هنا لا يكون المؤلف قد أتى بجديد من ناحية الهدف. ولا يكون قد أتى شيئًا على الإطلاق من ناحية الوسيلة.
والحلول الوسطية في مجال المعرفة، إما أنها تلغي الفكرتين وتنكرهما معًا، وإما أنها تجمع بينهما في وقت واحد (والفريق الأخير يزعم أنه يجمع بين الجوانب الإيجابية في الفكرتين). وينتمي المؤلف إلى هذا الفريق الأخير. فهو كباحث في الأدب لا يرفض المدارس المثالية ولا ينكر المدارس المادية، وإنما يصوغ من هذه وتلك ما يتوهم أنه مدرسة جديدة تطل من عليائها على البشر أجمعين في الشرق والغرب لتوحد بين قلوبهم في بوتقة الإنسانية الخالصة من أدران المثالية والمادية على السواء.
إن وهم الباحث بأن هذا الاتجاه الجامع المانع — مهما أنكر ذلك مرارًا — هو المدرسة الأدبية النقية من شوائب الأقدمين والمحدثين، اليسار واليمين، ووهمه الآخر بأن تجربة اجتماعية في بلد ما يمكن أن تقود الإنسانية جمعاء، هو رد فعل طبيعي لموقفنا الحضاري المضطرب في هذه المنطقة ناحية، ولانعدام أصالتنا النظرية من الأفكار الكبرى القائدة في عصرنا من ناحية أخرى، ولغياب التكافؤ العادل بين الغرب وبيننا في التاريخ القريب المشترك من ناحية ثالثة.
النقاء الحقيقي والريادة الحقيقية كما أعرفهما هي الإجابة على هذا السؤال، لماذا تصر على ذلك التصنيف المتعسف للفكر: اليسار واليمين، المادية والمثالية … إلخ، وتجعل منه نقطة الانطلاق في محاولتنا الدءوبة المثابرة للبحث عن الذات؟ بل إذا كان هذا التصنيف صحيحًا، ولم نرَ فيه ما يعبر عن خصائص ذاتنا الفكرية، لماذا نلجأ الحلول الوسطية سواء بالاعتراف أو بالإنكار؟ لماذا لا نبحث عن شيء جديد، كأن نستفيد من التراث، ولكن دون أن تتحول الإفادة إلى مغامرات في التسلق، فنستريح إلى «حاصل الجمع» بين الجوانب الإيجابية، أو نطمئن إلى رفض كل شيء؟! كلا الموقفين حل وسطى خاطئ تمامًا. والخطأ هنا ليس الطرف المقابل للصواب. فهذا البتر الحاسم هو نتاج التصنيف المتعسف لكل شيء إلى قسمين. إذن فالحل الوسطي خاطئ؛ بمعنى أنه حل تسلقي ينشد الراحة والطمأنينة والإطلالة من أعلى. بينما كنت أتوقع من لويس عوض أن يرود لنا مجاهل الطريق بعيدًا عن التصنيف التقليدي البسيط الساذج للإنسان. فالإنسان قد أصبح في غاية التعقيد على ضوء العلوم الحديثة التي لم نعد إزاءها نستطيع أن نقسمه إلى خير وشر، فحسب.
وإذا كانت هذه هي ملاحظاتي على الجانب الفكري من المنهج الذي آثره الدكتور عوض في كتابه، فإنه تتبقى لي ملاحظة سريعة حول الجانب التعبيري لهذا المنهج. ففي نقده للاتجاهات المادية والمثالية في الأدب لاحظت أنه يتكئ على بعض التعريفات المعجمية السريعة. أو على بعض الأقوال المتفرقة لزعماء تلك الاتجاهات. وفي رأيي أن كتابًا صغيرًا ككتاب «الاشتراكية والأدب» لا يحتمل مطلقًا هذه المختارات، وكان من الأفضل أن يكتفي الباحث بتصوير الهيكل النظري للمدرسة التي ينقدها، فيقول مثلًا إن الماركسية في الأدب، تؤمن بشيئين: أولهما الطبيعة الطبقية للأدب، بمعنى أن الفنون جميعها انعكاسات معنوية للطبقات المختلفة. إذ لكل طبقة عند الماركسيين قيمتها وفنونها ومثلها؛ ولهذا ليس هناك صراع طبقي بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي فحسب، بل هناك صراع فكري بين الطبقات. ولذلك وجد الأدب الإقطاعي والأدب البرجوازي والأدب الاشتراكي. وفي حدود هذه الزاوية كان الناقد يستطيع أن يناقش إنسانية الأدب في بعدها الطبقي، فنحن لم ندرك قط من نظرة الدكتور للأدب ما إذا كانت إنسانية الأدب تتعارض مع طبيعته الطبقية، أم أن نظرته تشتمل عليها معًا.
والزاوية الأخرى في نظرة الماركسيين إلى الفنون أنها أحد عناصر البناء الفوقي للمجتمع؛ إذ هم يؤمنون بأن الحضارة الإنسانية في مجتمع تشتمل على قاعدة سفلية هي النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، كما تشتمل على قمة علوية هي مجموعة القوانين والنظريات والقيم في الآداب والفنون والقانون وغيرها. وأن هناك تفاعلًا جدليًّا بين القمة والقاعدة هو مفتاح التغير الحضاري في ذلك المجتمع. ومن هذه الزاوية كان الدكتور يستطيع أن يناقش مشكلة المشاكل؛ أعني علاقة الفكر بالواقع. فيبرز ما إذا كانت الواقعية الاشتراكية في أزمة، وما هي أبعاد هذه الأزمة، وما صلتها بالنظام الاجتماعي القائم من ناحية، وبفلسفته من ناحية أخرى. ولكنني فوجئت بالدكتور عوض يقول إنه لم يجد في تراث ماركس وإنجلز ما يخص هذا الموضوع سوى متفرقات مبعثرة هنا وهناك، واكتفى تبعًا لذلك بما قاله ماركس في «رسالة نقدية في الاقتصاد السياسي». بينما قد ترك لنا ماركس وإنجلز معًا كتابًا ضخمًا مشتركًا عنوانه «في الأدب والفن».
ولقد تسببت هذه الظاهرة في الجانب التعبيري من منهج كتاب «الاشتراكية والأدب» أن ظلم المؤلف الكثير من الاتجاهات الأدبية وانتهج أسلوب الإطلاق والتعميم وابتسر الكثير من المقدمات ليصل إلى نتائج محددة مسبقة.
خاتمة
على غير هذا النحو ناقش الدكتور حسين فوزي قضية «الفن في المجتمع الاشتراكي» بالعدد الثالث من مجلة الطليعة سنة ١٩٦٦م.
ولعله من أهم المشكلات التي طرحتها التجربة الاشتراكية في مجال الثقافة، مشكلة «الفن» الذي يصوغ هذه التجربة الإنسانية الجديدة. فالفن في المجتمعات البرجوازية ينبثق عن تراث ضخم من التقاليد الأدبية الراسخة. أما الفن في المجتمع الاشتراكي فبالرغم من استفادته من تاريخ الفنون والآداب الإنسانية جمعاء، إلا أن، مصدره الرئيسي والأول، هو التجربة الاجتماعية الجديدة التي انعطفت بحياة البشرية نحو وجهة جديدة تختلف جذريًّا مع الحياة في المجتمع البرجوازي.
وقد كان من الطبيعي أن يكون الاتحاد السوفيتي — وهو صاحب أول تجربة اشتراكية في العالم — هو صاحب المحاولات الأولى لخلق أدب وفن اشتراكيين. لذلك فيما أعتقد كان اعتماد الدكتور حسين فوزي في مقاله القيم «الفن في المجتمع الاشتراكي» اعتمادًا شبه مطلق على التجربة السوفيتية في الأدب، للحصول على بعض النتائج التي قد تفيدنا، وبلادنا تجتاز خطواتها الأولى نحو الاشتراكية.
والنتيجة الأولى التي خرج بها الدكتور حسين فوزي، هي أن روسيا «لم تخرج من محنتها الفنية إلا بعد أن أدركت حقيقة بدائية؛ وهي أن الإلزام والإجبار في الفن معناه القضاء على الجوهر الفرد في الإنسان أي على ملكة الخلق والإبداع، وهي لا تعيش إلا طليقة في جو من الحرية.»
ومن هذه النتيجة الأساسية تفرعت نتائج أهمها أنه ليست هناك مواصفات معدة من قبل لإنتاج الفن الاشتراكي، وأن الإلزام يختلف عن الالتزام الحر بقضايا الإنسان، وأن الفن ظاهرة فردية تؤدي دائمًا غاية اجتماعية، وأن الدور الحقيقي للفن من الممكن تأديته في ظل الرأسمالية أو الاشتراكية على السواء إذ إن «هذا الدور هو الارتفاع بمستوى الشعور والارتقاء بالأذهان. والفن هنا كالروض في المدينة متنفس روحي يخرج بالإنسان عن دوامة الحياة المادية إلى رياض الفكر والإحساس.»
ويناقش الدكتور حسين فوزي في هذه القضية الهامة، ثلاث مشكلات رئيسية هي: ذاتية الفنان، ومصدر الفن، والعملية الفنية وهنا؛ أي حين نترك الخطوط العامة لندخل في التفاصيل، نختلف مع الدكتور فوزي في أن ذاتية الفنان — بالرغم من أنها عنصر رئيسي في العمل الفني — إلا أنها ليست العنصر الوحيد، فثمة عناصر أخرى عديدة تشارك في بناء العمل الفني، وتكاد أن تخرج تمامًا عن ذاتية الفنان بل وإرادته؛ لأنها من صميم العالم الخارجي بكينونته المستقلة نسبيًّا عن الذات البشرية. ومعنى هذا أن علاقة الفن الواقع ليست علاقة «أخلاقية» مصدرها أنه «يجب» على الفنان أن يشارك الإنسانية همومها. وإنما تنبع هذه العلاقة من أن ذاتية الفنان لا تتناقض مع موضوعية الفن فالعمل الفني في نهاية الأمر هو نتاج هذه العلاقة الدينامية بين الفنان والعالم. لذلك يصعب علينا أن نتصور ثمرة هذه العلاقة «بين طرفين» أن تكون عملًا ذاتيًّا محضًا، إلا في حالة واحدة هي أن تختل هذه العلاقة ويسود أحد الطرفين على الآخر، وحين تسود الذات الفنية على التجربة الموضوعية، لا يثمر التفاعل المختل بينهما، فنًّا حقيقيًّا أصيلًا وإنما يثمر — في أحسن الأحوال — اعترافات شخصية أو خواطر ذاتية. وليست هذه هي «الحرية في الفن» لأن الالتزام الحر لا يرفض التجارب الشخصية للفنان على أن تتم صياغة هذه التجارب في ارتباطها الوثيق بالواقع الموضوعي الذي شارك بغير شك في إنباتها.
والفن ليس انعكاسًا آليًّا للواقع كما تصور الدكتور فوزي في المقاطع التي تتخلل مقاله وهاجم فيها الجمود الذي رافق بعض مراحل البناء الاشتراكي بالاتحاد السوفيتي. الفن ليس انعكاسًا بل خلقًا، ولكن الخلق الفني لا يتم في فراغ ميتافيزيقي يخلو فيه الفنان للسباحة في عالم صنع من مادة الأحلام. الفن خلق، بمعنى أنه إعادة تركيب لنفس المواد الموجودة فعلًا. وإعادة التركيب تعني في نفس الوقت إعادة نظر. ومن هنا إصرارنا على أن «موقف» الفنان هو زاوية الرؤية للأشياء في لحظة صياغتها من جديد. والفنان ملتزم بهذا الموقف الذي اختاره اختيارًا حرًّا.
وهكذا يختلف دور الفن في المجتمع الاشتراكي اختلافًا جذريًّا عن دوره في المجتمع البرجوازي. ولا علاقة لهذا الاختلاف بما يدعوه البعض فنًّا تقدميًّا وآخر رجعيًّا، وإنما يختلف دور الفن في بلاد مثل بلادنا عن دوره في بلاد أخرى هدفها «الارتفاع بمستوى الشعور»؛ فهذا التعبير الوارد في معظم أبحاث علم الجمال في الثقافة البرجوازية لا يقصد به سوى حالتَي «الترف والبلادة» اللتين يصف بهما سارتر الإنسان البرجوازي المعاصر في الغرب.
أما نحن الذين نبني الاشتراكية في بلاد تخلفت حضاريًّا عن مستوى العصر بمئات السنين، فإننا نحتاج إلى الفن «الذي يرفع مستوى الحياة» كما يقول سارتر أيضًا في دراسته لأدب الزنوج والفن الأفريقي.