الفصل الثاني
كل كائن في هذا الوجود فانٍ، غير أن ذكرى الفناء باقية لا تنعدم، وغاية كل كمال مبدأ للزوال، إذن فكل مخلوق عرضة للفناء حالَمَا يصل حدَّ الكمال، إلا الكلام، فإنه باقٍ لا يزول، يضمن له الكمال دوام البقاء والخلود.
وأجسام المخلوقات عرضة للزوال والفناء، أما أجسام الكلام فهي دائمة لا تزول، إذن فالبقاء في هذا العالم موجود بوجود الكلام.
كل قوة في هذا الوجود قد تئول إلى ضَعْف بمرور الزمان، وكل نور قد يخبو بعد طول الأوان، أما الكلام فيبقى خالدًا على الدوام، محافظًا على ما له من قوة ونور.
للكلام وجْه ورائحة وصوت، يترقرق ماء الحياة في وجهه أكثر مما يترقرق في تلك الوجوه التي تراها العين، ولصوته أَثَرٌ في النفْس أشد وأوقع من الأصوات التي تسمعها الآذان، أما عبير رائحته فأشد تضوعًا وانتشارًا من أي رائحة أخرى تشمها الأنوف.
الكائنات قاطبة رهن الزوال وقيد الفناء، اللهم إلَّا الكلام الناضج الواصل حد الكمال، فإنه يبقى إلى ما شاء الله رافلًا في حلل النضارة مكتسيًا ثياب البهجة والشباب، مصانًا من كل الأخطار والعاديات، لا تجرأ عواصف الأيام على تجعيد وجهه، ولا تجسر تقلبات الزمان على تغيير صوته أو الإقلال من عبير رائحته.
قد يأتي يوم تُطْوَى فيه معالم الأهرام وتُمْحَى رسومه فلا يبقى في مكانه حَجَر واحد يدل عليه، إلا أن الأهرام مع ذلك باقٍ لا يزول وإن زال جسمه من هذا الوجود، إذ يبقى اسمه مرتسمًا على صفحات الأذهان يتجسم شخصه أمام الأنظار بأفخم وأبدع مما كان كلما تَرَدَّدَ ذِكْره على اللسان.
وللكلام سلاح ماضٍ يفعل في القلوب ما لا تفعله أشد المدمرات والمهلكات، وقد يكون كذلك سببًا في خسارة كبرى لا يمكن لكل ثروات العالم تلافيها، إلا أنه رغم هذه المعايب والمثالب فهو البلسم الوحيد الشافي لجروح القلب، وهو ألطف النغمات وقعًا في النفس؛ فكلمة «أحبك» تلك الكلمة العذبة التي ترتسم صورتها على شفاه جميع الناس إعلان ما يجول في صدورهم من عواطف الحب والهيام، بقيت — رغم السنين والأيام — الكلمة الساحرة الخالدة التي تُرَدِّدها الأفواه على الدوام.