الفصل الثالث
لشدِّ ما يصعب على الإنسان أن يعرف إنسانًا آخر معرفة حقيقية! أما الذين يدَّعُون أن ذلك في مقدورهم، فهم في غرورٍ تامٍّ وجهْل فاضح، ولعمري إن المرء ليس في استطاعته أن يُلِمَّ تمامًا بما بين جوانحه من العواطف والمشاعر، فأنى له أن يدَّعِي معرفة دخائل الغير ومكنوناته؟ ألا إن كل عِلْم نهايته جهل، أما ادعاء معرفة الناس فهي عادة شائعة، ليس لها نصيب من الحقيقة.
ما الإنسانية إلا سر غطاؤه مكشوف حتى الأبد، وإلا فما شأن قانون النشوء والارتقاء، ذلك السر في فيضان العالم بالكائنات الحية؟ أليس هو عبارة عما يطرأ على كل المخلوقات من التبدل والتحول؟
إن التموجات المختلفة التي تنكسر على شاطئ القلب مِنْ حسٍّ وشعور وتأثُّر، لهي على الدوام تجاه ريح الحياة فتتبدل وتتغير تبعًا لها كُلَّمَا غيَّرَت هذه وجهتها من الشمال إلى الجنوب، ولتلك الرياح والعواصف أثر بيِّن على تركيب الإنسان وطراز معيشته أيضًا، إذ تُبَدِّلهما كيفما تشاء من لوْن لآخر، من حيث لا يشعر الإنسان ولا يدري، أما القلب، مجمع تلك الإحساسات، فهو لغز أبدي لا يَعْرِف كُنْهَه في أي وقت من الأوقات سوى الخالق — عز وجل.
كثيرًا ما صادفني في طريق الحياة علماء أجلاء، لا فرق بينهم وبين أدنى الجهلاء، ورأيت كذلك أخساء، أَدْهَشَتْ أعمالُهُمْ أهلَ المروءة والوفاء، وطالما رأيت خَلْقًا يحسبهم الناس في السماء مُحَلِّقين، وهم في الحقيقة على الأرض دارجين، وآخرين تَوَهَّمْتُ أنني على علم بحقيقتهم، فإذا بي أجهل الناس بأمرهم، وكم من الأغنياء الموسرين أصحاب الأموال الطائلة ضايَقَتْني سفالة نفوسهم، وكم غيرهم من المُعْتَبَرِين في نظر العالم الحائزين لثقة الناس بحسن استقامتهم وقويم أخلاقهم رأيتهم بِعَيْنَيْ رأسي وهُمْ أَعْوج الناس أخلاقًا وأفسدهم سيرة، أما المشهورون بالعدل المشهود لهم بالأمانة والصدق فحَدِّثْ عن ظُلْمهم واعتسافهم ولا حرج.
أردت أن أعرف دخيلة كل إنسان وأن أَقِفَ على خفايا كل أمر، فبَحَثْتُ عن ذلك واجتهدت آناء الليل وأطراف النهار، ولكن عندما خرجْتُ من غرفة الاختبار في مدرسة التجارب عَلِمْتُ — والأسفُ مِلْء جوانحي — بأنني لا أدي شيئًا، اللهم إلا القليل التافه، ألخصه فيما يأتي:
الناس باعتبار شخصياتهم فريقان، فريق من الناس لهم شخصيات بسيطة ويشبهون الأنهار؛ لأن لها أعماقًا معلومة، أما الفريق الآخر فهم أصحاب الشخصيات العميقة التي لا يُسْبَر غَوْرُها ومثلهم مثل المحيطات الكبرى، تلك التي كل موجة من أمواجها عُمْق قائم بنفسه.