الفصل الخامس
من الغريب أنه توجد إحساسات خفية في الدماغ الإنساني كامنة فيه منذ الأزل، كالبذور الكامنة في باطن الأرض، لا يشعر بوجودها الإنسان طالما تظلله أغصان الراحة والسعادة، فإذا ما هَبَّتْ عليه إحدى العواصف رأيت تلك البذور الكامنة في حجيرات دماغه المغمورة بأمطار اليأس وغيوث الآلام، آخذة في النمو شيئًا فشيئًا، حتى تُظْهِر ما لها من لَوْن وقوام.
وحجيرات الدماغ شبيهة بالأرض، إما أن تكون خصبة جيدة التربة، أو يبابًا قليلة الخير والبركة، فإذا كانت خصبة انكشفت تلك البذور عن رياحين عطرة وأزهار جميلة ذات بهجة ورواء، أما إذا كان منبت تلك البذور الآخذة بأسباب الحياة أرضًا عقيمة، فلا تلبث تلك الحشائش النضرة التي أنبتَتْها سيول المصائب أن تنقلب إلى أعشاب سامة وحشائش مضرة، إلا أنه لكل قاعدة شذوذ؛ فالأرض المشهورة بجودة محصولها قد تنبت وردة سامة، كما أن الغصن النابت في أرض غامرة قد يورق عن أزهار نفيسة ذات أريج عطري؛ ذلك لأن الدماغ الإنساني مجمع للأضداد، وأكثر الحجيرات ظهورًا في الرأس المملوءة بالنور قد تكون بؤرة مظلمة، ومن نقطة واحدة في أعماق ذلك الدماغ تظهر حبات النزاهة والسمو بجانب بذور الدناءة والخسة.
في العالم الزراعي، إذا آنس الناس خيرًا في أرض قاحلة تعهدوها بالعناية والتطهير، أما في العالم الإنساني، فالوسيلة الوحيدة لإظهار كوامن الحجيرات في الدماغ هي تَعَرُّضها لأمطار المصائب وسيول النوائب.
المصائب والأخطار مجال لتقدُّم الإنسان، فكل عُسْر مادي يعقبه يُسْر معنوي، والآلام والأشواق التي تمحوها يد الحزن قد تَنْبُت مكانها أزهار ذات لون بديع تعطر بشذاها عوالمًا أخرى.