الفصل السادس
إذا كان التاريخ عبارة عن تكرُّر الحوادث، فالبشرية من جميع الوجوه ليست سوى تقليد؛ إذ إِنَّ كل شخص هو نسخة ثانية من شخص آخر، وأعماله وأقواله تؤيد هذه الدعوى.
الإنسان مُقَلِّد بفطرته، لا يكاد يستحسن شيئًا حتى يأخذ في تقليده جهد الطاقة؛ فهو لذلك أسير التشبه، ويفضل على الدوام أن ينسج على منوال غيره من أن يتشبه به إنسان آخر، وبالإجمال فكل حركاته وأطواره تقليد ومحاكاة.
أَرُونِي مَعْنًى مبتكرًا لم تُرَدِّد الأجيال السالفة صدى ذكراه؟ ومن يستطيع أن يُثْبِتَ أن الحكمة الرائعة والكلمة الطيبة التي تلوكها أفواه الناس في يومنا هذا لم تكن كذلك منذ أجيال؟ وهل يمكننا أن نعرف منشأ آثار الرحمة التي تظهر فينا على حين غفلة؟ ومن أي بطن انتقلت إلينا؟ أم هل يمكن للإنسان أن يعرف من أي جدوده ورث ما يعتريه من اللطف وكرم الأخلاق؟ نرى هذه الأمور فينا ونشاهد وقوعها في نفس الظروف التي وَقَعَتْ فيها سالفًا فيشتد إعجابنا بهذا الانعكاس الأزلي، ولا نتمالك من أن نُرَدِّد مع من يقول: «التاريخ يعيد نفسه.»
فهناك إذن تقليد فطري وهذا ما لا أبحث فيه، وإنما يأخذني العجب من حال أولئك الذين يَرْضَوْن — بمحض إرادتهم — أن يضحوا ما لهم من الحرية باندفاعهم في تقليد سواهم؛ أقول ذلك لأن التقليد تقييد، ومَن اقترض رأس ماله من غيره فقد أصبح مدينًا له، وما الدَّيْن سوى سلسلة تُطَوِّق الأعناق، إذن فهل يَفْهَمُ أولئك الذين يرتلون أناشيدهم أمام صنم الحرية معنى تلك التراتيل التي يتشدقون بها؟
وإنه لمن الصعب أن يكون الإنسان بعيدًا عن تأثير أي بيئة مُنَزَّهًا عن كل هوًى وغاية؛ لأن مثل هذا الأمر لا يتفق إلا لمن خُلِقَ من مادة ممتازة أعلى من طينة البشر.
رباه كم يجب على الإنسان أن يكون غني الروح ليستطيع أن يَكُفَّ الطرف عن أموال الناس وجواهرهم، وإلى أي حد يجب أن تكون أفكاره وإحساساته مستثناةً وظاهرة ليكون عفيفَ النفس عما في حوزة سواه؛ وليستطيع أن يدعي ملكية تلك الأفكار والإحساسات لنفسه، ويفتخر بأنها تخصه دون غيره.
إن الإنسان الذي يستطيع أن يكون شخصية مستقلة قائمة بنفسها — وليست صورة منسوخة من إنسان آخر — ليستحق كل إعزاز وتقديس؛ لأن مثل هذا الإنسان — إن وُجِدَ — كان آية الآيات ومعجزة المعجزات.