مقدمة

كيف يمكن أن نكون في آنٍ واحدٍ الورثة السياسيين لأنبياء اليهود وفلاسفة الإغريق؟ ما الروابط التي تربطنا بحكماء العرب قبل الإسلام وبعلماء المسلمين؟ ما الصلات التي تقيمها مع هؤلاء الرواد الأول نظمُنا السياسية الموروثة عن الحقوقيين الرومان والمشرعين أبناء العصر الوسيط وحملة لواء النزعة الإنسانية المحدثين humanists modernes؟ كل الذين يفكرون في الخطوط الإطارية الثقافية لأوروبا يطرحون ذات يوم هذه الأسئلة. ومكان الإجابات عنها موضعٌ بالماضي البعيد قامت فيه، قبل أن تتشعب الدروب التي سلكها الأنبياء والفلاسفة، وقبل أن يحدث الفصل بين الجانب الروحي والجانب الزمني، وقبل أن يظهر التضاد بين الشرق والغرب. ومن الممكن أن نعرف أمرها بدراسة لحظة تأسيسية أخرى قامت عليها مؤسساتنا وقام عليها قانوننا، هي اللحظة التي تضم التواريخ، التاريخ المقدوني والتاريخ الروماني والتاريخ البيزنطي ثم التاريخ العثماني. ولكن هذا الموضوع ليس هو الموضوع الذي يستهدفه كتابنا هذا.
ومعرفة الشرق القديم لا بديل عنها إذا نحن طرحنا على أنفسنا السؤال عما تحتويه كلُّ الأنظمة الديمقراطية لا محالةَ من نزعةِ تسلطٍ ولا مساواة؛ ففي الشرق القديم تظهَرُ الإجراءات السياسية بوضوح وجلاء، وعلاقاتها بمعتقدات أخلاقية جرى تبريرها على نحو منهجي. أضف إلى هذا أن التشابك بين الاستبداد وبين الحرية يظهر أكثر سفورًا في الشرق القديم منه في ربوع أخرى من العالم وعصور غير العصر القديم. ونحن إذا طالعنا في عجلةٍ ما كتبه المؤلفون المشهود لهم بالإجادة قد تدفعنا العجلة إلى التصديق بفرضيةٍ قوامُها أن التسلطية السياسية المؤسَّسة على ادعاءات دينية ترعرعت على مدى ثلاث ألفيَّات في وادي النيل ووادي الفرات. إلا أن كل الذين عكفوا على دراسة الشرق الأوسط الحديث القائم على ألوان من المقاومة الصلبة لكل تنظيم مركزي يعرفون ما في هذه القضية من هشاشة. إنها من الهشاشة بحيث أن دحض «الاستبدادية الشرقية» كان في البداية الامتداد الطبيعي لكتاباتٍ عن العالم العربي المعاصر؛ ذلك الدحض الذي تصورناه في ذهننا امتدادًا لذلك الماضي البعيد أشد البُعد، الذي كانت صنوف النقد الموجه حديثًا ضد «الاستشراق orientalisme» قد بلغته.

والمعرفة تسلك أحيانًا دروبًا عجيبة؛ ففي غمرة حماس الباحث ليقدم إلى الآخرين جواهر الثقافة الديمقراطية والخيال السياسي التي عثر عليها في أثناء بحثه، يتضح أن هذا البحث كشف عن علاقات لم تخطر ببال أحد. والواقع أن الفرضية المتداولة بين المختصِّين في السياسة عن الفصل القطعي بين الأشكال الحديثة للسياسة والأنماط التنظيمية التي درسها علماء الأعراق لا تصمد كما ينبغي أمام دراسة فاحصة تتناول الإجراءات التي كانت متبعة في الشرق القديم.

نذكر أولًا أن مجرد وضع الشرق القديم في موضعٍ بين مجتمعات أوروبا الحديثة من ناحية وبين المجتمعات التي جرت العادة على اعتبارها أضدادها (المجتمعات الأفريقية والأمريكية والأوقيانية) من ناحية أخرى، يعطي ثقلًا للحجج الداعمة للعمومية التي يحتج بها علماء الإنسان السياسيون. فأشكال الحكومة لدى أقدم الشعوب التي عرفت الكتابة تقوم على أسس أصبحت مألوفة لدينا نظرًا إلى أن «الالتفاف» عبر المجتمعات التي لم تعرف الكتابة قد أتاح لنا مسبقًا التوصل إليها. ثم إن تناول الحلول التي وُجدت في الشرق في الحاضر وفي الماضي لحل تلك المشكلة الكلاسيكية المتمثلة في التعاون الحتمي بين الأطراف المتنافسة وتراكبها بعضها فوق البعض الآخر، مؤدية إلى تكوين جماعة حية من أشخاص متنافرين وإلى تكوين نظام سياسي واحد من جماعات متصارعة، هذا التناول له فضائله، وهكذا نكتشف في هذا الجزء من العالم أن عدم التواصل أقل وضوحًا مما كنا نتوقعه. ولنذكر — بغية إيضاح الحجة، قبل أن نقوم فيما بعد بإثباتها — بعض السمات التي عبرت العصور والأماكن والثقافات:
  • تخصص أناس احترفوا السياسة كل الوقت في إدارة الشئون العامة (وكان هؤلاء يتعرضون أحيانًا لما يغريهم باستغلال الثروات الجماعية لتحقيق مآرب شخصية).

  • وجود علاقة صريحة بين قيام محترفي السياسة بإعادة توزيع مقبول للثروات، وبين التفويض في ممارسة السلطة، وهو تفويض كان يوافق عليه من يتخلون عن ممارسة السلطة بأنفسهم.

  • التمييز بين العام والخاص.

  • غلبة أسلوب المداولات التناقضية الحرة على السلطة التقديرية لاتخاذ القرار.

  • إبدال المواجهة السافرة بالمعارضة الشعائرية.

  • إبدال الانتقام الشخصي بتعويضات من قبيل العقوبات …

    وإذا نحن اقتصرنا على بلاد العالم العربي والإسلامي الحالي وجدنا ضروبًا أخرى من التشابه تضاف إلى السمات السابقة، نذكر منها:

  • نظام المؤسسات الخيرية (الذي يشبه إلى حد كبير منظومة الأوقاف).

  • البحث المحموم عن الشرعية.

  • الالتجاء إلى الأجانب المشهود لهم بالحياد للتحكيم في المصادمات بين الفصائل المحلية (وهكذا كان نظام المماليك في البداية).

  • الالتجاء إلى التحالفات السياسية عندما تعز التحالفات بالزواج.

وليس من شك في أننا نجد اختلافات ملحوظة بين العصور. وترجع أهميتها إلى أنها لا تنجم عن تحولٍ تعميمي من منظومة «قديمة» (أو «بدائية») إلى منظومة أخرى، «حديثة» (أو «متشعبة»)، بل هي تمثل على الأحرى إضافات أضافتها أنظمتنا الحالية إلى عملية التكوين المتدرج لآلية سياسية انتشرت منذ ذلك الحين في كل مكان بهذه الصورة التي خرجت إلى النور. ويمكننا أن نذكر بغية توضيح هذا الموضوع بعض التحويرات الملحوظة التي دخلت على إجراء بذاته منذ اختراعه المحتمل في مصر أو في بلاد الرافدين إلى أن وصل إلى الشكل الذي تستخدمه أنظمتنا الغربية النيابية اليوم. كان الناس قد ذهبوا منذ وقت مبكر إلى أنه من المفيد أن يتم التصويت بالأغلبية، وهناك شواهد تثبت اتباع نهج التصويت بالأغلبية منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد، أما إرادة وضع السلطة كلها وسط التهليل في يد من يظفر في الانتخاب فلم تتأكد إلا في القرن الثامن عشر بعد الميلاد. ثم هذا هو التوسيع التدريجي للمجلس النيابي الواحد مواكبًا للظروف وللصعوبة التي واجهتها النُّخَب في أن تتصور وحدها قرارًا مقبولًا اجتماعيًّا، يترك مكانه بسرعة ليحتله تقسيم صارم للسلطات بين مجالس فوقية ومجالس تحتية، بين منتخَبين ومعيَّنين. ومن المنطقي أن نجد محاولات الخطباء المفوهين الساعين إلى تحقيق تحالفات شخصية يحل محلها تنظيم للتنافس بفضل تدخل الأحزاب السياسية التي بقيت بعد أن قضى مؤسسوها. ونذكر أخيرًا أن الضم شبه الرسمي للأجانب في الإدارة والجيش في الزمن القديم، وما تبعه من تحويل أسمائهم ومعتقداتهم وأسلوب حياتهم بسرعة إلى أسماء ومعتقدات وأساليب حياة محلية وطنية، وذلك موضوع لا نفهمه اليوم إلا قليلًا. لقد أصبحت المواطنة منحة رسمية، وغلب على الوظائف العامة أن تقصر على أهل البلد.

هناك تغيرات متدرجة لا اختلافات جوهرية. ويبين الفحص المتسم بالوعي والسماحة أن السياسة — على الرغم من فواصل المكان والزمان — تتناولها مفاهيم قابلة للمقارنة بين مناطق الدراسة التي ميزناها هنا (مثل الشرق الأدنى القديم والحديث، وأوروبا وامتداداتها prolongements).
ولا يزال علينا أن نقيِّم مدى أهمية هذه الملاحظة في معرفة السياسة في بلاد أخرى وعصور أخرى. ألم تبين دراسات ممتازة ظهرت حديثًا إلى أي حد تعتبر سمات السياسة البالغة الطبيعية والبالغة الإجماعية اليوم (مثل التمثيل السياسي والاحتراف السياسي) ثمرة النتاج البطيء الذي أنتجه كل تاريخ قومي؟ وما من شك في أن المواجهات البالغة الحدة في الماضي والحلول الوسط التي أنهتها أعطت البلاد الديمقراطية الكبيرة اليوم هوية identité لا يمكن اختزالها إلى هويات شركائها partenaires. الشكل الذي تشكلت عليه الصراعات والآثار الغالبة للمنافسات على سلطة الدولة، ومفهوم الدولة نفسه، كل هذا جعل من الصعب الآن التفكير في العلاقة السياسية على نحو آخر غير استعمال المصطلحات اليعقوبية jacobins١ في فرنسا، والمصطلحات الأقاليمية territoriaux في إيطاليا، والمصطلحات الإجراءاتية procéduraux في إنجلترا، والمصطلحات التعاقدية contractuels في الولايات المتحدة، إلخ. ويقوم تماسك الكيانات الكلية القومية حتمًا على المعنى الذي تتخذه الأنماط الجديدة للعلاقة بالسياسة مهما كان حظها من التجديد.
وعلى الرغم من هذا فالمواد التي تكونت منها الأنظمة المتناثرة في الزمان والمكان لم تتغير منذ تكوُّن المجتمعات التاريخية الأولى. وربما كان من الجرأة بمكان أن نضع مسبقًا تعريفًا للسياسة عندما نقوم بملاحظتها، ولكن لا جدال في أن الفاعلين في كل تاريخ قومي يركِّبون بطريقتهم الخاصة العناصر المشتركة المحدودة العدد. فالسؤال الذي يطرحه كتابنا هذا لا ينصبُّ فقط على حداثة الديمقراطية، بل ينصب كذلك على العمومية العالمية الأصلية universalité originelle لعمليات تقسيم السلطة التي اتخذت بعد ذلك شكلًا نوعيًّا.
وإذا كان في إمكاننا اليوم الرجوع إلى هذا المدى البعيد في الماضي حاملين معنا هموم الحاضر ومشاغله، فإنما يقوم ذلك على ديناميكية البحث. فلا مجال إذن للدهشة المفرطة من قيامنا بتغيير موضع النظرة، ولا مجال لأن يتصور البعض الأمر كأنه بدعة من بدع الموضة، أو فعلة من أفعال جيل غير الجيل (أو نتيجة نجمت عن التنافس العلمي) في الوقت الذي ينضم فيه تراث صمويل فاينر Samuel Finer الهائل إلى قائمة الأعمال العلمية المتنامية في علم السياسة المختص بالعصور العتيقة الأنتيكية Antiquité. وكلما زادت حصيلتنا من المعلومات عن العصور التاريخية الموغلة في القدم، زاد فينا ما يغرينا بالتقييم النسبي للجديد nouveauté الذي أتت به بلاد الإغريق والجديد الذي أتت به روما، في الوقت نفسه الذي نتبين فيه أوجه تقارب مدهشة بين الكتاب المقدس وبين ما سبقه من نصوص. كانت مستتبعات الدفعات القديمة الأنتيكية٢ الفلسفية الثلاث الكبيرة من الضخامة في أدبياتنا، كما كانت الدفعات الشرقية التي سبقتها من التعرض للإنكار، بحيث أصبح علينا أن نتوقع مجيء اليوم الذي يتحتم علينا فيه أن نعيد التوازن إلى منابع معلوماتنا عن الأشكال التي اتخذتها السياسة في فجر التاريخ.
ويرجع الفضل إلى الحفائر الأخيرة، وإلى الترجمات الجديدة الأكثر اكتمالًا لنصوص تم تحديد هويتها، وإلى الوثائق التي استخرجت من مكامنها منذ ربع قرن، في أننا وصلنا بالفعل إلى مرحلة تمثل فيها المعلومات الجديدة معارف أولية تخففت من أوزار الأحكام المسبقة الماضية. فنحن نعرف بناءً عليها بيقينٍ كافٍ أن الحداثة modernité كانت مرتبطة بالديمقراطية قبل أن تحيط مداركنا بالحداثة والديمقراطية. علينا إذن أن نتخلى عن التأريخات التي يعوزها الحرص وأن نتخلى عن البحث الوهمي عن أصولنا من أجل أن نفهم على نحو أفضل مسار الإجراءات التي حجَّمت السلطة الاستبدادية، علينا أن نتخلى عن كل هذا منذ أن أصبحت الإنسانية قادرة على أن تتيح شهادة أخرى عنها.
ولسنا نعبأ بأن تتسبب هذه المذلة الحتمية في إضعاف أساس من أسس فلسفتِنا الجمعية؛ ألا وهو الإيمان بتقدم مستمر انطلق منذ تأسيس «المدن الدول» الغربية Cités-Etats موَلِّين ماضيها ظهرنا عن عمد وتصميم. ولسنا نعبأ بأن تجعل هذه المذلة الحتمية السياسة تبدو لنا في ضوء أقل رفعة أو أقل اصطباغًا بالمثالية من الأثينيين؛ ففي المحنة خير لكل أمر. والرأي عندنا أولًا: أن الإيمان بأن الغرب جاء بجديد قاطع ليس أمرًا لا محيص عنه في تقييم إيجابي لتراثه الذي خص به العالم كله، فمن الممكن على العكس من ذلك أن يبعدنا هذا الإيمان عن وجهات نظر أخرى حريصة على هذا الاحتكار المزعوم. ثم: إن الشرقيين القدماء وجدوا لمسألة التمثيل النيابي والتفويض في ممارسة السلطة إجابة ذات مدًى عالمي وهي: أن السياسيين المحترفين يفكرون حتمًا في أنفسهم وفي مصالحهم أولًا، والشيء المثير للدهشة هو أن هؤلاء السياسيين المحترفين كانوا يتصرفون في أغلب الأحيان على هذا النحو في إطار نظام وُضِعَ ليحوِّل أنانياتهم وأوجه الضعف فيهم إلى سلطات عامة وفوائد للكافة بفن بارع في التحجيم الذاتي قد يعوز بعض الطغاة الخارقين للمألوف.

•••

أول «مدن الدول» عرفها الناس «مدن دول» شرقية. سبقت أثينا وأسبرطة بما يربو على ألفي عام، وعرفت قبلهما السبيل إلى حل مشكلتين كلاسيكيتين:
  • (١)

    تكوين رأي مشترك انطلاقًا من آراء متنافرة.

  • (٢)

    الإيمان بمجتمع سياسي مصطنع في الوقت الذي تمارس فيه المجتمعات الطبيعية نفوذًا قويًّا على العقول.

والأسماء التي ما زالت معروفة إلى اليوم مثل حلب وصور وأريحا كانت فيما مضى، قبل أربعة أو خمسة آلاف سنة، أسماء مدن متقدمة سياسيًّا كل التقدم. وطالما كنا نجهل تاريخها في هذا العصر شديد القدم، لم نواجه ما يثير قلقنا في الشروح المألوفة القائلة بالأصل الأثيني أو الروماني لعاداتنا السياسية، ولا في القول بوحي كتابي مشترك لمعتقداتنا المسيحية اليهودية وللمفاهيم التي كونها المسلمون عن الحياة العامة.

وهذا هو علم الآثار الحريص على التراث (الذي جعلته برامج تجهيزات عملاقة ضروريًّا) قد قلب هذه اليقينيات الهشة عندما أخرج من المكامن معجزات تتمثل في ابتكارات إجرائية طابت لها نفس عالم السياسة. لقد أخرجت حلب وصور وأريحا ومدن أخرى كثيرة أقل شهرة بين القراء مؤخرًا شواهد مدهشة على نظامها الاجتماعي وفلسفتها السياسية.

ما كانت مدينة من هذه المدن، والحق يقال، تقع في الحوضين المرتويين الكبيرين اللذين سمح فيهما الري الطبيعي (عن طريق الفيضانات) أو الرعي الصناعي (بفضل السدود) منذ وقت جد مبكر بإنشاء دول؛ دول حقيقية لها إداراتها وجيوشها ومحاسبوها العموميون. كانت هناك من ناحيةٍ مدنٌ ديمقراطية، ولكنها منعزلة كأنها استثناءات من القاعدة التي وضعها أهل الاختصاص؛ وكانت هناك من ناحية ثانية دول مستبدة ضالعة في حرب مستمرة ضد جيرانها. لم تتأثر هذه النظرية الغالبة إلا قليلًا بالشواهد الشاذة التي خرجت من الحفائر في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن وظلت تنتج تفسيرات خاطئة للكشوف التي تمت في مصر والعراق. ضم علماء الآثار والمؤرخون المختصُّون بهاتين المنطقتين إلى طاقم دفاعهم تلك الرؤية المبسطة للعالم، فما كانوا يجدون دائمًا الكلمات المناسبة للدفاع عن قضيتهم، وإثبات أن حرية المبادرة والتعبير كانت أيضًا موجودة في تلك البقاع التي زعم الزاعمون أنها مقار «الاستبداديات المائية» despotisms hydrauliques، إذا لم يظلوا هم أنفسهم ممن تستهويهم أصالة الحضارات التي اشتهرت بأن المحدَثين لا يقدرون على فهمها. وعلماء المصريات على نحو خاص يصعب عليهم القبول بأن يضع واضع مزيدًا من الترتيب في المنظومات الفكرية الفرعونية وهو ما لا يقدرون يقينًا على فعله بأنفسهم. وأنا أفضل أن أرى أن أرجع هذا إلى تواضعهم وأحيانًا إلى شعورهم بالإحباط حيال المشكلات الفعلية في الترجمة، أو أقول بعبارة أكثر بساطة: حيال معالجة مجموعة غير عادية من المصادر التي يُتوقَّع لها أن تنمو في المستقبل القريب. وليس من المستحيل أن يكون هذا الشعور صادرًا عن كثرة النصوص الدينية التي تطرح المشكلة نفسها حيالها على نحو أشد حدة.
لقد أصبحت التناقضات بين النظرية وبين الاكتشافات التي تمت في الواديين — وادي النيل ووادي الرافدين — في العقدين الماضيين لا تعد ولا تحصى. ولو لم تظهر نشريات متسارعة تتضمن هذه البحوث، لما فكرتُ قط في تأليف هذا الكتاب، ولاستحال عليَّ إتمامه. وفي عنقي دين هائل لعلماء المصريات والسومريات والآشوريات والمتحجرات paléatologues والآثار وفقه اللغة وغيرهم من العلماء المختصِّين في دراسة القديم الذين اتجهوا نحو علم الإنسان وعلم السياسة بغية التعريف بهذه التناقضات. ولما كنت من الذين انطلقوا من هذين العلمين — علم الإنسان وعلم السياسة — فإنني أقدر مدى وحدود المقارنة بين تنظيم المجتمعات الشرق أوسطية الحالية وبين تلك التي عرفتها شعوب الشرق القديم. ولما كانت أوجه التشابه بين اللغات السامية عندما تصوغ المفاهيم الكبيرة للحياة الاجتماعية قد شدتني، وكنت قد ألفت منذ الطفولة الساحات التي خرج فيها هذا المشهد الأول للحداثة، فما كنت إلا محملًا نفسي ما تكره إذا أنا حاولت أن أكبت رغبتي في أن أعكف بدوري على هذه المشكلة.

وأفدت من الترحيب الحار الذي حباني به زملائي من أهل التخصصات الأخرى، فحاولت أن أقدم إليهم ما كانوا يأملون أن أقدمه إليهم من موقعي خارج جماعتهم الأكاديمية. فاجتهدت في أن أدخل المزيد من الهيكلة على مقارناتهم (ابتداءً مما سعوا إليه من ضروب التقريب الدقيقة بين مصر وبلاد الرافدين، ثم بين الشرق القديم والشرق الأوسط، وأخيرًا بين العالم الشرقي والعالم الكلاسيكي، بل والعالم الحديث). أردت أن أسهم في تأسيس تأملاتهم على أساس أحدث مكتسبات النظرية السياسية؛ وذلك بأن أردها مرة أخرى إلى سياق ديمقراطياتنا النيابية.

ولما كنت أسعى لإثبات أن الشرقيين القدماء فكروا هم أيضًا في وسائل لرسم حدود السلطة، والتعبير عن الإرادة العامة، وتنظيم المُرَاوحة، وأن حلولهم كانت غالبًا في مثل حداثة حلولنا، فقد كان عليَّ أن أفهم في البداية السبب الذي جعلنا لوقت طويل نصرُّ على وصف هذه الحلول بسمات التقادم العتيق أو الفوضوية أو الاستبدادية (وأن نجردها على كل حال من كل ذاتية فردية، ومن كل مسئولية أخلاقية شخصية، ومن كل روح المشروع). هذا هو هدف الجزء الأول من الكتاب، وفيه أنسِبُ إلى قوة موروثنا الهوماني humaniste٣ إصابتنا بالعمى الذي حال دون رؤيتنا للمكوِّن الشرقي الموجود في تراثنا. وأنا أدعو القارئ إلى أن يصمم على معاملة مجتمعات الشرق القديم معاملة المجتمعات التي يدرسها علماء الأعراق ethnologues، حتى يتمكن على نحو أفضل من إدراك ما فيها من عمومية عالمية universalité (الباب الأول). ثم أسعى بعد ذلك مستعينًا بأكثر الأمثلة بساطة وواقعية إلى بيان أن الرجال أو النساء الذين عاشوا في تلك المناطق قبل آلاف السنين كانوا يحملون من العمومية العالمية أكثر مما كانوا يحملون من الخصوصية الثقافية spécifité culturelle (الباب الثاني). والجماعة الفكرية التي قامت بين المؤلفين المصريين أو الرافدينيين٤ وبين كَتَبَة الكتاب المقدس تبين هذا، بل تبينه بوضوح فصيح (الباب الثالث).
وبعد أن نبين أنه ليس هناك في البنيات الذهنية structures mentales أو المعتقدات الأخلاقية شيء يتعارض مع مفهوم نظام سياسي عادل في الشرق منذ نهاية الألفية الثالثة، ننتقل في الجزء الثاني من الكتاب إلى مضاهاة التراكيب السياسية التي تتضمنها النصوص الدينية والأساطيرية أو الأدبية؛ ومن ناحية ثانية التنظيم الدستوري الفعلي. وبعبارة أخرى يبين هذا الجزء الثاني العلاقة بين العقائدية — الأيديولوجيا — وبين الممارسة والخطاب والحياة. وبينما نجد أن الاختلافات بين الواديين — وادي النيل ووادي الرافدين — ضئيلة إذا أخذنا في الاعتبار الآثار السياسية الممكنة الناجمة عن الذهنيات mentalities والمعتقدات، نجد تمايزًا كبيرًا بين مصر وبلاد الرافدين نتج عن مقارنة أساليب تبرير النظام الاجتماعي؛ فالواديان يعرفان كلاهما أشكالًا للتمثيل العام والمداولات العامة، إلا أن كلًّا منهما يفضل نمطًا مختلفًا من العلاقات الاجتماعية. في بلاد الرافدين نجد أن النموذج السائد هو نموذج المجلس الذي تتعارض فيه الرؤى السياسية المتباينة وتعتمد فيه المناصب الصاعدة على واقعية الخطب العامة (الباب الرابع). أما في مصر فالمثل الأعلى الأكثر حميمية هو الاتحاد corporation، أو قل الطائفة confrérie التي يدخل فيها الإنسان بعد تعليم وتمهيد، وهو الغالب — على الرغم من أنه من الممكن أن ترتقي الشخصيات الرقيقة الحال درجات السلم الاجتماعي والدولاب السياسي اعتمادًا على نوع من حكم أُولي الجدارة méritocratie القائم على انتخاب خيرة العناصر من خلال ضروب من المسابقات (الباب الخامس). وللبلدين على أية حال مفهوم مشترك عن المواطنة والانخراط الشعبي في الحياة العامة (الباب السادس).

أما الجزآن الأخيران من الكتاب — الثالث والرابع — فهما يفحصان بالاستعانة بمواد، هي في أغلبها من الآثار، المشكلات الرئيسية المطلوب من مجتمع أن يحلها عندما يكون قادته حريصين على أن يرسوا له أسسًا سياسية دائمة. ومن ناحية — وهذا هو موضوع الجزء الثالث من الكتاب — عليه أن يتخذ موقعًا في العالم المحيط بأن يمنح نفسه هوية قوية. ويتطلب هذا تركيزًا للسلطة يكفي لينشئ تاريخيًّا مجتمعًا في عالمٍ سكانه متفرقون، ولكن تفرقهم هذا لا يصل إلى حد خنق حرية التنقل والتجارة (الباب السابع). ورسم الحدود بين عالم متحضر وعالم همجي، وبعبارة أخرى بين مجتمع مقنن ومجتمع بغير قواعد دستورية، موضوع له ضرورة لا تقل عن ضرورة الموضوعات الأخرى (الباب الثامن). والتعاهد مع الغرماء المتحضرين يمثل المرحلة التالية، المرحلة الأكثر حنكة، في البناء «القومي»: أليست السياسة فن الحياة مع أولئك الذين لا نحبهم، ولكن نحترمهم، قبل أن تكون فن خوض غمار الحرب ضد من نكرههم ونحتقرهم؟ (الباب التاسع).

ومن ناحية أخرى — كما يناقش الجزء الرابع — لا محيص عن تنظيم علاقات السلطة بغية جعلها مقبولة من الذين يتعرضون لها. لا مفر إذن من التحالف مع أجانب لدى المرء الحق كل الحق في الاحتراس منهم، ويتم هذا التحالف عن طريق استخدام الزواج ركيزةً أساسية للمجتمع المستهدف إقامته (الباب العاشر). ولا بد بعد ذلك من التعاقد مع أولئك الذين نمثلهم في الساحة العامة كي لا يشعروا بأنهم جردوا أكثر مما ينبغي من سلطة لا يحلمون بالحفاظ عليها نظرًا لأنهم لا يعرفون كيف يستخدمونها لصالحهم خارج نطاق جماعتهم الموطنية (الباب الحادي عشر). وهناك شرط أخير لا بد من الوفاء به: ألا وهو أن يوقع المرء حلفًا مع منافسيه، مع السياسيين المحترفين الذين سيشغلون غدًا المكان الذي يحكم المرء منه، والذين يستعدون في النور أو في الخفاء لخلافة يطمعون فيها (الباب الثاني عشر).

وفي نهاية هذه الرحلة سنجد القارئ — أو القارئة — المكب (ـة) على أمور السياسة الغربية الجارية (وما يضمُّه موكبها من المحاباة والرشوة والفساد) أو السياسة الشرق أوسطية (وما تتشبث به من عشائرية communautarisme ومحسوبية clientélisme) يقارن بلا شك تلقائيًّا هذا الحاضر المضطرب بالماضي البعيد. وربما طافت بمخيلته فكرتان:
  • أولًا: خلافًا لما ندَّعي أننا نفعله منذ الإغريق، نتبين أن الشرقيين القدماء أوتوا من الحكمة ما جعلهم لا يقيمون شخصياتهم العامة على أنماط التمثيل الاجتماعي والفضيلة الأخلاقية، عن إدراك منهم أن بقاء نظام سياسي عادل ودائم يعتمد أيضًا على قدرٍ من العيوب السياسية التي نتشبث بمحوها عن طريق فرض الرقابة عليها.
  • ثانيًا: أن الشرقيين القدامى عرفوا كيف يربطون الحرص على المساواة السياسية والعدالة الاجتماعية بالتفاوت الذي لا يمكن تحاشيه في أي مجتمع مركَّب. وأقرب الظن أننا ندين لهم بإيجاد حلولٍ ترمي إلى التعويض عن معاناة الظلم، حلولٍ من قبيل ما نراه عندنا في فرنسا من نظم المنح الدراسية وإعانة الجمهورية والتأمين الاجتماعي وضمان الحد الأدنى للدخل.
وليس الاسترسال في بعض التأملات حول المنهج تَزَيُّدًا عندما يشرع الإنسان بقلب مطمئن في مقارنة جريئة في المكان والزمان. فلو اقتصرَت المقارنة على بلد واحد لكانت صعبة بما فيه الكفاية، أما إذا استهدفت منطقة جغرافية ممتدة ومتنوعة مثل منطقة الشرق الأوسط كلها، حيث كانت الشعوب دائمًا مرتبطة بعضها بالبعض برباط لا ينفصم، فأقرب الظن أن تكون المقارنة أقل قابلية للتنفيذ. ولهذا السبب قررتُ أن أركز كلامي بخاصة على النواة الوسطى للواديين؛ وادي النيل ووادي الرافدين، مع اعتبار السواحل الشرقية المطلة على البحر المتوسط وهضاب الأناضول وإيران بمثابة أطراف أغترف منها أحيانًا عناصر تتصل بهذه الدراسة. ولم أشأ أن أفصل على نحو كامل الدول الأكثر أهمية في الواديين عن الدول الأقل أهمية المجاورة لها والتي اعتبر المؤرخون المختصُّون في الأفكار السياسية أنظمتها ديمقراطية، وصدروا في حكمهم هذا عن قدْرٍ أوفر من التلقائية. وكان الشيء الذي يهمني هو أوجه الشبه similitudes بين المدن الدول والدول الإمبراطوريات لا السمات الفارقة التي تمايز بين هذه وتلك أشد التمايز. ولهذا آثرت، على العكس من ذلك، أن أقارن على نحوٍ منظومي systématique إلى أبعد حد ممكن للمنظومية، مصر وبلاد الرافدين، لا أن أكشف التضاد بينهما (وهو ما يؤدي دائمًا إلى المبالغة في تصوير بُعد المركزية في مصر).
كان من الممكن أن أقوم، على النحو نفسه، بعقد مقارنة بين الغربيين وبين الشرقيين، قدماء أو محدثين. ولم تكن مثل هذه المقارنة لتغفل عن بيان الخصائص «الإقليمية» régionales caractéristiques. من هذه الخصائص «الإقليمية» مثلًا: الاتجاه الواضح في أوروبا أو أمريكا الشمالية إلى الالتجاء إلى الحجج المحايدة في تبريرٍ أفضل للمصالح الشخصية، وعلى العكس منه النزوع في منطقة البحر المتوسط إلى إضفاء صبغة من الود الحار والكرم الظاهر على المصالح الفعلية المحسوبة على أساس أناني. ولكن الهدف الذي يرمي إليه كتابنا هذا لا يتمثل في رسم صورة كاملة جامعة مانعة لأوجه الشبه والاختلاف بين العصور والأقاليم، وواضح أن مؤلفه لا يملك الوسائل التي تمكنه من ذلك. كذلك ليس هدفه أن يجري مقارنة، كلمة كلمة، مثنى مثنى، ولكن هدفه هو دراسة الشرق القديم برؤية تغيرت نتيجة لمعرفة أشكال التنظيم السياسي والنشاط السياسي في البلاد الغربية وفي العالم العربي. ولقد جاءت هذه النظرة ثمرة أحداث حياتية ليس من الضروري أن نحكيها هنا، ولكنها سمحت لي بأن أفرغ لدراستها.
وعلى الرغم من التعاليم التي يستخلصها الكتاب من الماضي، وعلى الرغم من أنني آمل أن يكون مطابقًا لمتطلبات المؤرخين، فإنه ليس كتاب تاريخ بحق: فليس هناك بحث تاريخي جاد يمكنه أن يغطي ست ألفيات، تمتد من عام ٦٠٠٠ قبل الميلاد، بداية تقريبية للاستقرار، إلى عام ٦٠٠ قبل الميلاد، التاريخ date الذي غيَّر فيه الغزو الفارسي معطيات المشكلة (فسأتحدث في الكتاب عن تواريخ dates سبقت عصرنا الميلادي، وإذا خرجت عن هذا فسأنبه إليه بوضوح في متن النص). كذلك لن أسعى إلى إثبات استمرارية أو توالد متتابع بين الأنظمة. ومثل هذه العملية ستكون أقل منافاة للشرعية إذا جرت بين أنظمة الشرق القديم والشرق الأوسط — فالمقاربة بينهما يمكن أن تتخذ يقينًا سمة مثيرة — منها إذا جرت بين الشرق والغرب اللذين تشبع كل منهما بمفاهيم السياسة الدينية والدنيوية. لا تعنيني هنا سوى الحلول المشابهة للمشكلات المتطابقة، لأنها تبين أننا نشارك المؤلفين والفاعلين الذين يبعدون عنا زمانًا ومكانًا بعدًا شديدًا في سجل الأعمال نفسه. وبقدر ما يبدو افتراض استمرارية تاريخية على مدى فترة بهذا الطول افتراضًا غير معقول، بقدر ما يكون من المبالغة المفرطة إنكار أوجه التشابه بين أشكال التنظيم باسم الاختلاف بين العصور.
وهذه العملية تبررها حجة من لدن المؤرخين؛ فالمؤرخون يبررون علمهم، علم التاريخ، بقدرته الاسترجاعية، لا بصوابه الزمني أو مصداقية مروياته. وأنا أتحصن راضيًا وراء رأيهم عندما يدافعون عن ضرورة التجميع والتركيب synthèse بغية تحجيم التطرف في التخصص،٥ عندما يؤكدون أن «إعادة تركيب تسلسل الأحداث» من أجل إعطائه سردية فيها قدْرٌ ما من الفطنة لا ينهي عمل المتخصص.٦ «ففي المرحلة العليا من الشرح أو التفسير ننتظر هذا المتخصص فعلًا في الموضع الذي لم نعد فيه نجد إلا عقليات تأملية متنافسة»، مؤلفين انتقلوا من «الأبجدية» (أبجدية واحدة بالنسبة إلى الجميع: هي اتفاق يوشك أن يكون إجماعيًّا على نظام تتابع الأحداث) إلى «القراءة» (التي يعطيها كل واحد منهم المعنى الذي يريده، مسهمًا هكذا في عمل «إبداعي» دون الانزلاق إلى الرواية roman باختلاق وقائع لم يثبت صدقها).٧ كذلك لن أخفي أن هذه التوافقات الموفقة تحير عالم السياسة: فإذا لم يكن «التاريخ» سوى مرويات يتم ربطها بعضها بالبعض الآخر بفكرة شخصية، فكيف يمكن أن يستخدمه علم آخر من العلوم الاجتماعية؟
إن معرفة الماضي معرفة ماضوية rétrospective بحتة تتعرض يقينًا للنقد (وهي معرفة ليس هناك مؤرخ يفلت منها لا شعوريًّا، فأسئلته الخاصة تتولد من موقعه في مجتمع حي لا من الشيء الميت الذي يدرسه) لأنه لن يتمكن من التحرك أحيانًا على عكس مسار الزمن. أما التاريخ «الرجوعي» régressive٨ فقد نال العديد من وثائق التشريف منذ أعمال ناتان فاختل Nathan Wachtel عن هنود بولييا، أو في السياق الفرنسي منذ أبحاث بول بوا Paul Bois عن منطقة لاسارت la Sarthe٩ إن الرجوع القهقرى في الزمن إلى أبعد ما نستطيع، مع القيام باستبانات تجعلها فجواتُ المعلومات وتفاوتُ دورات التغيير حتمية ليس بالأمر الذي يدان ويؤَثَّم في حد ذاته. والمجال مهيأ لذلك؛ لأن تخطيطات التبرير تتكرر في أثناء الألفيات حيث تلعب دور «مؤشرات» وراثية: وليس المقصود هنا الإكثار من الاستطلاعات والجسَّات بغية بيان أطروحة عامة (فهذا منهج يفتقر إلى السلامة، سواء كان منهجًا استقرائيًّا أو استنباطيًّا)، ولا بغية إظهار صلاحيتها، وإنما المقصود الاستعانة باختبارات بسيطة لدحض منطوقات عامة قَبِلَها مَنْ قَبِلَها في تعجُّل مفرط معتبرًا إيَّاها مقنعة.
والمدة الطويلة جدًّا وحدها، كما يبين راينهارت كوزيلليك Reinhardt Kosellek١٠ هي التي تسمح بحل المشكلة الأساسية للمعرفة التاريخية: مشكلة إعادة كتابتها مرارًا وتكرارًا دون توقف. فكل مؤلف، في الواقع، يسعى في بحثه إلى مواءمة فكره مع خبرته الخاصة مواءمة أكثر صوابًا من كتابات سابقيه. ولما كان عليه «أن ينخرط على نحو شامل في غرابة الماضي واختلافه»، فإنه لن يستطيع أن يُقْدِم على هذا التمحيص إلا بالاستعانة بمقولاته catégories الفكرية الخاصة به: ولما لم يكن قادرًا على استعادة تكوين الماضي موضوعيًّا، فعليه أن يَتَمَوقع فيه ذاتيًّا. وهذا الذي نسميه «التاريخ» ليس في جوهره إلا مجمع «التواريخ» les histoires١١ التي نتجت محليًّا نتيجة لقاءٍ فريد تم بين مؤلِّف كامل وبين شيء غير كامل، وهذا التلاقي لا بد فيما بعد من أن يُعطي معنًى. وهذه هي وظيفة المنظومات التفسيرية المتضمنة في التوراة، وفي فلسفة عصر النهضة، أو فلسفة التنوير، أو فلسفة الثورة: بفضل كل منظومة من هذه المنظومات، يقوم جيلٌ كاملٌ من المؤرخين الذين «يعيدون الكتابة» بإعطاء تَفَهُّمية intelligibilité جديدة لأعمال المؤرخين الذين «يسجلون»، بل وإلى كتابات مؤلفين جسورين أقدموا من قبل على محاولة شخصية personnelle تهدف إلى زيادة المعارف التاريخية اعتمادًا على مقارنة التواريخ les histoires المحلية دون أن تضطرهم إلى هذه المحاولة طفرة فكرية عامة. وهكذا فإن التاريخ كما يكتبه المؤرخون يتسم بتقطع مضاعف لأنه يغترف اختياريًّا من الماضي قطعًا مختارة يوفقها بعضها إلى البعض الآخر اعتمادًا على هياكل الخبرات التاريخية الاختيارية المتعددة. فلماذا يكون على التاريخ الذي يكتبه المؤرخون غير المحترفين أن يسلك مسلكًا آخر في الوقت الذي يحسون فيه هم أيضًا بالحاجة إلى الإحاطة بالحاضر والماضي في تفسير واحد؟
إن تفضيل الماضي تفضيلًا يجاهر به الجمهور الواسع منذ وقت طويل قد أصبح بالفعل واضحًا بديهيًّا لدى المتخصصين في علم السياسة أو علم الاجتماع، في الفلسفة أو علم الإنسان «الأنثروبولوجيا». وأيًّا كان الاسم الذي يطلقونه على معرفتهم — علم الاجتماع التاريخي، التاريخ الاجتماعي، التاريخ السياسي، التاريخ الفكري، إلخ — فهم جميعًا يلجئون إلى أحد الاقترابين approaches، هذا أو ذاك: فإما أن تكون معرفة الماضي مصدرَ أمثلةٍ وإما أن تكون كاشفةً لتكوينٍ ما. في الحالة الأولى يكون موضوع المقارنة واسعًا (فيستطيع الإنسان على راحته أن يفحص التنويعات على تيمة thème واحدة سواء كانت اعتقادًا أو إجراءً أو مؤسسة أو حركة اجتماعية من خلال الزمان والمكان). في الحالة الثانية تقتصر المقارنة على متتابعات تكوين مجتمع معين (فيسأل الإنسان نفسه عن تلك الصراعات الشديدة في الماضي التي نتج عنها الانسجام الظاهري اليوم في بلد واحد بعينه وفي مرحلة واحدة بعينها من تاريخه)، بل وحضارة واحدة بعينها (فيجري البحث عن الطرق والمسارات التي أدت إلى تغريب١٢ أو أسلمة١٣ جزء من العالم).
هناك من ناحية: عناصر، بنيات أساسية، «لبنات» أو «سمات»؛ وهناك من ناحية أخرى: متتابعة، مرحلة، وقفة، طريق، مسار؛ فنحن هنا لحسن الحظ بعيدون تمامًا عن المتضادات الكلاسيكية بين أتباع التطورية volutionnistes وأشياع التغلغلية الثقافية diffusionnistes، حملة التراث ومحَفِّزي التحديث. لقد ولَّى زمن المواجهة بين البنيوية وأعدائها (الماركسية، الفينومينولوجيا، التركيبية constructivisme، إلخ). هناك على الأقل نقطة حقق فيها الشيء الملاحظ غلبة دائمة على أولئك الذين يلاحظونه، وهي أن أولئك الذين يلاحظونه أصبحوا يلجئون إلى نفس الهواية الفكرية التي يلجأ هو إليها، بصفاء جديد ودون أسف على ضياع الراحة التي كانت تتيحها ضروب اليقين النظرية الكبيرة. والعالم، مثله مثل الهاوي الشهير صاحب «الفكر الوحشي» La pensée sauvage، يتعامل على راحته مع الكنوز التي كدسها السابقون بغير هدف محدد دقيق. لقد أصبح تكديس المواد المتباينة المختلطة اليوم شيئًا يستطيع الإنسان أن يستمد منه بيدٍ مطمئنة الأدوات التي لا غنى عنها لاختراع ما. في معمل العلوم الاجتماعية أو معمل علوم الطبيعة، أخذ الإنسان يعيد الكشف، يعيد القراءة، يعيد العثور بلا انقطاع على قطع منسية من تكوين لحني، جذاذات ناقصة من رسم من رسوم الألغاز. ويتعرض الإنسان هنا، كما هي الحال بالنسبة إلى كبار الطهاة، لإغراء يكون كبيرًا أحيانًا يدفعه إلى نسيان وصفات كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss وابتكار أطباق جديدة، وخلط كل شيء باختيارية احتفى بها فيما مضى بيير بورديو Pierre Bourdieu (وحباه المعجبون بكليفورد جيرتس Clifford Geertz بالمزيد من الاحتفاء منذ أن ترجمت أعماله إلى الفرنسية). جاء بعد المطبخ التقليدي (أو البورجوازي)، المطبخ الجديد (أو مطبخ المعمل)، المطبخ المحلي (أو الأعراقي ethnique)، وها هو ذا مطبخ كل البلاد، المطبخ الكوسموبوليتي١٤ الذي يجمع طُرَف العالم أجمع. قد يكون مثار إعجاب، وقد يكون مثار استهجان، ولكنه لا مفر منه، والمبدأ الذي يأخذ به يتلخص في خلط المنتجات التي تنتمي إلى تواريخ مطابخ مختلفة، وفي العمل استنادًا إلى الموجود فعلًا تحت أيدينا، بدلًا من اتباع خطة اصطناعية مسبقة.

ولقد حانت الآن لحظة التساؤل عما إذا كان كتابنا هذا لا يخلط هو أيضًا الاكتشافات المستمدة من سياقات متمايزة. وهل يفلت الإنسان من مخاطرة إبدال الماضي البسيط بماضٍ مركب إذا هو أراد أن يقدم قراءة أخرى لأحداث ومؤسسات أخرجها من مكمنها، تاريخُ السياسة أو تاريخُ الدبلوماسية، دون الوقوع في تكوينات شديدة العلمية للتاريخ الاجتماعي، ولكنها تتسم بالمجازفة؟

ليس هذا هو الموقف المبدئي الذي اتخذه كتابنا هذا الذي يقوم بما يشبه الرحلة البحرية بين رأسين: أحدهما يمثل الخصوصية غير القابلة للمقارنة، والآخر يمثل القاعدة المنتظمة العمومية العالمية. فما هو بتاريخ فاعلين acteurs ولا تاريخ بِنْيَات؛ لأن العالم لا يتكون فقط من نوايا أو معانٍ (ولو كان العالم كذلك، فلن نستطيع أبدًا أن نكتب تاريخه، لأننا لن نستطيع أن نضع أنفسنا في مكان الأفراد الذين تجري دراستهم)؛ كذلك العالم تعْمُرُه أشكالٌ اجتماعية استحالت إلى بلَّورات ولا منظومات أيديولوجية وتكنولوجية تحجِّم حرية من ابتكروها وعرَّفوا بها (كأنما كانت التجارب الجارية تفلت دائمًا من رقابة أولئك الذين فكروا فيها). هذا كلام يقوله كل إنسان، ثم هو يتصرف بعد ذلك بحسب مزاج اللحظة، والوسائل المتاحة على السفينة، وحتمية اللف يمينًا ويسارًا مع الريح كما يقول ربابنة البحرية الشراعية. هل لا بد من أن نعطي مبررات أخرى لرحلات لم يستقم مجراها إلا قليلًا وادعت مثل هذا القائل أنها سارت على خطوط مستقيمة؟

يكفي مبرر واحد. الأمل معقودٌ على أن يسأل الإنسان نفسه عن الفائدة التي يمكن أن يخرج بها من المعارف التاريخية لكي يحسِّن بها فهمنا للعالم. ولنترك لأولئك الذين أوتوا حساسية المؤرخين الحقيقية مهمة القيام بقصٍّ أو تفسيرٍ يتحرى أكبر قدر ممكن من الواقعية يبين كيف أصبح العالم على هذه الحال التي صار إليها. أما الآخرون فلا يجهلون هم أيضًا أن المشكلات التي واجهت الحياة في المجتمع في كل زمان ومكان قد وجدت حلولًا محتملة. فهل يكون من المعقول ألا نتساءل عن أسلافنا كيف صوروا المشكلة نفسها على نحو عقلي وكيف كان الحل المتفرد الذي حلوها به؟ لقد كانوا يقينًا يجهلون المستقبل الذي ينتظر ما عثروا عليه من حلول، ولكن هل يكفي هذا سببًا لكي لا نهتم إلا بنفر منهم (خصوصًا الإغريق) يظن الظانون أنهم وجدوا في عصرهم المفاتيح التي تفتح اليوم أقفالنا نحن؟

وليس من الضروري أن نطيل في هذا البرهان وأن نصل به إلى حيث لا نعود نقنع بأن نعرف — بفضل المؤرخين المحترفين — لماذا أُعطي حلٌّ فرديٌّ لمشكلة عمومية عالمية، ولكن نصل به إلى حيث نسعى لأن نفهم المعنى الذي يمكن أن تكون هذه المشكلة وحلها قد اتخذاه في عقل كل من حاولوا تناولهما. ويكفي أن يكون لهذا كله معنى في أعيننا لكي يمثِّل الموضوع المزدوج بشِقَّيه جزءًا من ملفنا. إن وحدة فكرنا — حتى إذا كانت كالرمل المتحرك الذي يتحرك تحت تأثير تحولات جسم معارفنا ووضعنا الخاص في العالم — ستظل دائمًا وحدةً أكبر من تلك التي أضيفت على شهادة المؤرخ عليه، وأكبر أيضًا من المواءمة التي أقيمت بين هذا المفهوم الذي تجدد العثور عليه وبين ظروف العصر. ويكفي أن يكون لدينا اقتناع بذلك لكي يمكن أن يكون للشواهد الفردية مدًى يتسم بالعمومية. إن ما يقوم القراء بالحكم عليه ليس هو الصدق ولا ما يشبه الصدق ولا ما يمكن حمله على محمل الصدق في كلام المؤلف، وإنما ترابط الكلام. هناك شيء واحد يمكنه أن يؤدي بالقراء إلى أخذٍ مؤقتٍ بمفهوم عن الماضي يختلف عن مفهومهم، ألا وهو إمكانية أن يعيدوا بأنفسهم صياغة البرهان بأن يردوا الاختلافات الممكنة بين استدلال المؤلف وقياسهم إلى اختلاف في سيرة الحياة لا في ثبت المراجع.

ولنوضح بمثال هذا الموقف الذي يتخذه كتابنا هذا. يتساءل الكتاب عن الدور الدقيق للثقافة في تكوين نظام سياسي، ولكنه مع ذلك يفتح ثغرة جديدة في سور المعتقدات التي يستند إليها ما يسمونه اليوم الثقافاتية culturalisme. نقول باختصار إن الأمر يدور حول اتجاه جدير بأن يشمله التأمل يذهب إلى أن موضوعات الاعتقاد لا يمكن إرجاعها بعضها إلى البعض الآخر لأنها تضرب بجذور قوية في سياق أخلاقي خاص بكل شعب. والترجمة العملية لهذا التيار الفكري مقتطعة منه بالضرورة. و«النسبية الثقافية» relativisme culturel، بما هي برنامج سياسي حقيقي، تؤكد بالفعل أن المعتقدات والعادات متساوية كلها في القيمة، وهو يضفي نفس الاعتبار ونفس الحق في التمثيل لكل المجموعات التي تعلن أنها متمايزة بسمة أو سمات خاصة (لغة، دين، خصائص جسمانية مثل الجنس، لون البشرة، القوام الممشوق، البدانة؛ عادات من قبيل الممارسات الجنسية). إن مثل هذا الادعاء لا يتسق إلا قليلًا مع العمومية العالمية الواضحة الجلية لكشوف الشرق القديم التي تبين أن النُّخَب élites في كل مجتمع مركَّب تحاول أن تقيم حوارًا مباشرًا مع المواطنين العاديين دون المرور بوساطة التجمعات العشائرية الطبيعية زادت طبيعيتها أو قلَّت. كانت البلاد المذكورة في التوراة تعتبر بصفة عامة نموذجية في تعايش التجمعات العشائرية communautés، فإذا ما اكتشفنا أن هذه البلاد كانت قليلة التسامح حيال هذه التجمعات العشائرية من شأنه أن يقوض الحجج التي يحاول المحاولون أحيانًا استنتاجها من قِدَم التعددية الثقافية multiculturalisme.
وهكذا نرى أن الكتاب لا يمكن أن ينخرط في تيار استشراقي يصدِّق حرفيًّا الاعترافات التي كتبها وكرسها المؤلفون القدامى للاعتقاد في خصوصيتها التي لا تُجارَى والسعي من أجل استعادة شكلها بكل أمانة. على العكس من هذا تمامًا يسمح الكتاب لنفسه بشيء من الحرية في التعامل مع التعبيرات ذات الطابع العتيق المتقعر التي يستخدمها بعض المترجمين؛ فالأسلوب الذي يصطنع اللغة الفرنسية القديمة أو اللغة الإنجليزية القديمة — ناهيك عن الملحوظات الثقال تعليقًا على الفجوات في النصوص الأصلية — كثيرًا ما يجعل من المحال أن يقيم الحدس ألفة مع فكر أولئك الذين كتبوها١٥ وأذكر عابرًا أننا استبعدنا في أغلب الحالات علامات التشكيل وضبط القراءة التي يضعونها على الحروف اللاتينية عند كتابة كلمات من اللغات القديمة (ولكننا لم نستبعدها في كل الحالات، وهو ما شرحناه في الفقرة التي قدمنا بها ثبت المراجع في نهاية الكتاب). وأقول في تبرير ذلك، متبعًا ما سبقني إليه مؤلفون كثيرون، إن هذه العلامات الغريبة التي يخشاها أصحاب دور النشر لا فائدة منها بالنسبة إلى المتخصصين في اللغات عندما تُكتب على هذا النحو، كذلك لا يفهمها أولئك الذين لا علم لهم بها (لا نستثني من ذلك إلا الحروف الساكنة السامية المجهولة في الفرنسية والإنجليزية — وبخاصة العين (ع) والهمزة (ء) — التي يبين التنويه بها إلى القرابة بين كلمة قديمة وكلمة موجودة في اللغة العربية الحالية).
هذا القدر اليسير من الحرية الذي سمحت به لنفسي في التعامل مع المصادر — وهو محدود جدًّا — لا أجد فيه حرجًا، لأنني آثرت اتباع الممارسات العملية المعترف بها على التعلق بأهداب التصريحات التي لا سبيل إلى التحقق منها: ولقد كان هدفي هو تأليف كتاب في الأنثروبولوجيا السياسية لا ينطبق فقط على المجتمعات الأمية أبجديًّا بل ينطبق أيضًا على المجتمعات التي جرى فيها في وقت واحد اختراع الكتابة واختراع تكوين العالم والتي جرى فيها تثبيت عادات وطقوس انتقال أو مراوحة أو قلب جديرة بأن تأخذ موضعًا في سجل الدراسات الأفريقية لجورج بالاندييه Georges Balandier أو فيكتور تورنر Victor Turner.

•••

والقارئ عندما يسوق كلامي إلى أفكاره من حيث هو مواطن سيغوص، ما حلا له الغوص، في عالم من السياسة المبدعة الناضجة قبل أوانها حيث يتجاوز احترامُ المالِ العام وكرامةِ الأفراد وهويةِ الجماعات دون أدنى شك الصورة الناقصة التي ربما أمكنه أن يرسمها له مستخدمًا وسائله الخاصة في الوقت الذي تتكاثر فيه على خط مستقيم النشريات الجادة أو الكتب التي تبسِّط معارفنا عن الشرق القديم.

وما كان يمكنني أن أقدم إليه أي عون لو لم أكن قد تلقيت العون في عملي البحثي من زملاء كان لهم أثر أي أثر على كلماتي دون أن يكون قيامي باستخدامها مبررًا كافيًا ليحَمِّل هؤلاء أو أولئك أية مسئولية عن أخطاء يمكن أن أكون وقعت فيها، أو بعبارة أكثر دقة عن مبالغات يحتمل أن أكون استرسلت فيها بحماس المستجد في اعتناق عقيدة. وها أنا ذا أحس أكثر من المألوف بأنني لن أستطيع أن أشكرهم جميعًا دون أن يساورني خوف من العجز عن أن أوفي كل ذي حق حقه. ولكنني على الرغم من ذلك أعبر عن امتناني لعالم الآشوريات ماك جاير جيبسون McGuire Gibson وعالم المصريات لاني بيل Lanny Bell اللذين شجعاني على أن أمضي في متابعة برهاني إلى غايته وأتاحا لي أن أوفر وقتًا ثمينًا بحسن توجيههما بحوثي في المكتبات. ولقد قدم إليَّ باحثون ومعلمون من جامعة شيكاغو نصائح صائبة، وأنوه على نحو خاص بجون برينكمن John Brinkman وميجيل سيفيل Miguel Civil وهاري هوفنر Harry Hoffner ومارك لينر Mark Lehner وروبرت ريتنر Robert Rittner ومارتا روت Martha Roth وماثيو ستولبر Mathew Stolper وريشارد زيتسلر Richard Zettler وإدوارد وينته Edward Wente. كذلك أتاحت لي مؤسسات عديدة القيام بعملي هذا، هي: جامعتا جرينوبل Grenoble وإيكس مارسيليا Aix-Marseille بفصلين دراسيين متفرغين في عام ١٩٨٩ وعام ١٩٩٠م، واللجنة الفرنسية الأمريكية للتبادل الجامعي التي منحتني منحة فولبرايت لأذهب، بفضل اقتراح كريم من رئيسها وليام سيومنر William Sumner إلى معهد شيكاغو حيث اكتمل شكل هذا الكتاب في خريف عام ١٩٩٠م.
fig2
شكل ١: عالم محترف (لا تخلو المقاربات التي يقود الفضول الفكري إليها من المجازفات.) (© حقوق النشر لدى: Éditions Blake et Mortimer الصورة مأخوذة من كتاب: E. P. Jacobs, Le mystére de la Grande Pyramide. Dargaud Éditeurs.)
ولقد شجعني عكوف العديد من علماء السياسة على هذا المجال البحثي نفسه في فترات أبعدتني عن مخطوطي مهامُّ أخرى في الحياة الجامعية، وأنا مدين بالكثير لأعمال رافائيل درائي Raphaël Draï وباتريسيا سبرينجبورد Patricia Springbord اللذين خرجا بأطروحات قوية عن مولد السياسة في الشرق. وإذا كانت هناك في قلب جمعيات متخصصة في العلم السياسي مجموعات دراسات كُرِّست للعلاقات بين الكتاب المقدس والسياسة، ولتمايز النظرية الديمقراطية الإغريقية الرومانية اليوم ولتمحيص الفكر الهيلِّيني hellénique أو الآراء التي قال بها إيريك فوجيلين Erik Voegelin، فهذا دليل على أن الدرب الذي نسير عليه ليس جديدًا كل الجدة ولا ملتويًا معوجًّا. وعلم السياسة يدين بتحقيق انطلاقات مهمة لمؤلفين يسلكون طريق دراسات العصور القديمة منخرطين في شبكات علوم أخرى، وأنوِّه على نحو خاص بعالم المصريات جان أسمان Jan Assman وعالم الآشوريات موجنس لارسن Mogens Larsen وكذلك علماء الهيلِّينيات كريستيان ماير Christian Meier وموزيس فينلي Moses Finley وموجينس هانزن Mogens Hansen وهناك علماء فرنسيون متخصصون عديدون يضيق المقام هنا عن ذكرهم جميعًا. ويعبر تكرار ذكرهم في المتن والملحوظات الهامشية والثبت الببليوغرافي تعبيرًا عادلًا واضحًا عن تقديري لموهبتهم.
وأحس بالامتنان أعظم الامتنان لواحد من بين الذين قبلوا راضين أن يقرأوا صياغة أولى من الكتاب أو شذرات منه هو جان ليكا Jean Leca الذي كانت ردود فعله الكريمة حافزًا لي على التعجيل بإنجاز الكتاب في أقرب موعد ممكن في أجندة ثقيلة بالأعباء. كذلك لن أستطيع أن أنسى العديد من الزملاء والأصدقاء الذين سيسامحونني لعدم ذكري أسماءهم هنا، وهم: كل من ساعدوني على إعادة صياغة آرائي لتكون أيسر على الفهم، وسيعرفون مواقع أثرهم عندما يطالعون ما كتبته، وأنوِّه بأبي — بيير Pierre — الذي ظل صلبًا لا تلين له عريكة في حرصه على صواب الكتابة. أما زوجتي كريستيان Christiane التي كانت تسطو على الصياغة المؤقتة لكل فصل عندما تخرج لتوِّها من الطبَّاعة، فقد أقنعتني بأن الكتاب يمكن قراءته دون مشقة، على الرغم من كثرة المراجع ومن المعلومات التمهيدية التي يفترض الفهم المباشر للكتاب الإلمام بها. وفي هذا المقام أدعو القارئ الذي لم يتبحر في هذا التاريخ السحيق لهذه المنطقة ألا يقرأ على الفور الملحوظات الخاصة بالمراجع التي لا بد منها للمتخصصين (لكي يمكنهم أن يتحققوا من أن آراءهم لم تتعرض للتشويه وأن كلامي بني على أساس متين) وتلك ملاحق كثيفة وعرة تُلحق بالكتب للأسباب التي ذكرتها وتعطل القراءة السلسة وتقلل الاستمتاع بها. ولو استطعت أن أصرف النظر عن ذكر كل هذه المراجع لفعلت راضيًا، ولكن العدل واللياقة يفرضان أن ينال كل ذي حق حقه في مقارعة الحجج. وهذه فرصة حانت أخيرًا لأشكر ناشري الذي قَبِلَ أن يُبقي على هذا السند العلمي (= الشروح والملحوظات والمراجع) في نص يخص جمهورًا أوسع من دائرة العلماء المتبحرين.
١  نسبة إلى اليعقوبية jacobinisme وهي مذهب نادى به اليعاقبة في أثناء الثورة الفرنسية في فرنسا. (المترجم)
٢  نستخدم كلمة أنتيكية وحدها أو مع كلمة عتيقة للدلالة على ثقافة الإغريق والرومان. (المترجم)
٣  هوماني — أو إنسانياتي — نسبة إلى نزعة الهومانية humanisme التي نشأت في أعقاب النهضة الرينسانس على يد المهتمين بالإنسانيات؛ أي الدراسات الساعية إلى تأكيد كرامة الإنسان، وسعت فيما سعت إليه إلى تكوين عقل الإنسان بالتثقيف الأدبي والعلمي، وإلى الاهتمام بالتراث القديم وبخاصة الإغريقي الروماني. (المترجم)
٤  المقابل المألوف عندنا لكلمة ميزوبوتاميا Mésopotamie هو بلاد الرافدين أو بلاد النهرين، وقد استخدمت «بلاد الرافدين»، وجعلت النسبة إليها «رافديني»، وأهلها هم «الرافدينيون». (المترجم)
٥  هكذا يكتب مؤرخ متخصص في الشرق بكلمات صائبة كل الصواب: «عندما يتقوقع كل واحد في المجال الذي تمكن منه أفضلَ تمكُّن سينتهي أمره إلى أن ينسى أنه لا يتناول … إلا جزءًا من كلٍّ لم ينعزل قط عن المجموع إلا في الكتب» (سارتر Maurice Sartre, 1991, p. 9).
٦  ميشيل فنوك: Michel Winock ما فائدة التاريخ؟ quoi sert l’histoire، ص١٧–٢٥، في الكتاب الجامع تحرير إيف بوفوا Yves Beauvois وسيسيل بلوندل: Cécile Blondel ما هذا الذي لا نعرفه في التاريخ؟ Quest-qu’on ne sait pas en histoire?, Villeneuve-d Ascq, Presses universitaires du Septentrion, 1998, p. 202 . وإبراز الكلمات أو العبارات من عندي. وروجيه شارتييه Roger Chartier من جانبه يدعو المؤرخين إلى أن يعوا «أن خطابهم أيًّا كان شكله هو دائمًا رواية» Au bord de la falaise. L’histoire entre certitude et inquiétudes, Paris, Albin Michel, 1998, p. 91. وأنه «معلومة عن آثار وعلامات» (ص٩١).
٧  انظر سيرج بيرنشتاين Serge Bernstein, Comment un savoir historique est-il considéré comme acquis? pp. 183–196. في المرجع السابق Cécile Blondel, Yves Beauvois, Quest-qu’on ne sait pas en histoire?، وإبراز الكلمات أو العبارات من عندي.
٨  الذي ينطلق رجوعيًّا أي من الحاضر إلى الماضي، ومن النتائج إلى الأصول. (المترجم)
٩  ناتان فاختل Nathan Wachtel, Le retour des anctres. Les Indiens de Bolivie. XX-XVI sicles. Essai d’histoire régressive, Paris, Gallimard, 1990.؛ وانظر بول بوا Paul Bois, Paysans de l’Ouest. Des structures, économiques et sociales aux options politiques depuis l’époque révolutionnaire dans la Sarthe, Paris, Flammarion, 1971.
١٠  راينهارت كوزيلليك Reinhardt Kosellek, L’Expérieue de l’histoire, Paris, Gallimard et Seuil, 1997, pp. 201–247.
١١  استخدام «تواريخ» جمعًا للتاريخ (الذي يسجله المؤرخون) استخدام غير مألوف ولكنه ضروري من منطلق التدقيق. (المترجم)
١٢  occidentalisation.
١٣  islamisation.
١٤  ليتنا نجرب ترجمة كوسموبوليتي ﺑ «جنباتي»؛ أي من جنبات الدنيا. (المترجم)
١٥  يدعو فيليب ديرشان Philippe Derchain (1962, p. 38) إلى مبدأ مشابه حيث يذكر أن هدفه هو «أن يترجم إلى أبعد حد ممكن طبقًا للاستخدام المألوف للغة المستقبِلية.» والرأي عنده «أن الالتزام الحرفي المفرط بالأصل لا يعني … إلا أن المترجم ليس متأكدًا من فهم المعنى الحقيقي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤