ختام
لم تنتقل إلينا الفلسفة السياسية للشرقيين القدامى عن طريق مؤلفين صاغوا بمصطلحات اليوم مشكلات أزمنة غابرة. ولكن ما كشفوا عنه من اهتمام عام مشترك للجنس البشري منذ أصوله الولى التي نعرفها ليس بالقليل: إنه رفض تركيم مستمر للسلطة قد يؤدي إلى تجريد المجتمع الوطني من استقلاله الذاتي.
ولكن السعي العارم لتحاشي كل انحراف سياسي للتفاوت الاجتماعي كان يواكبه منذ الأزل حرصٌ آخر: الحرص على أن يبقى مجتمع ما حيًّا بعد أن يقضي مؤسسوه نحبهم، وهذا طموح يتعارض مع الطموح الأول، لأنه يتطلب بناءً مؤسسيًّا يشجع على ظهور نُخَب تتكاثر بعد ذلك من تلقاء نفسها. إن الخيال والابتكارية وملكة التجريب التي أثبت الشرقيون القدماء أنهم في هذا التعامل الحساس مع التوازن المزعزع يملكون ناصيتها، كانت هي وحدها جديرة بأن يُشد إليها الرحال. ولقد اختبر الشرقيون القدماء كل الأساليب الممكنة، فعرفوا قبلنا بالتجربة فضائلها ورذائلها. وعلى عكس خلفائهم الإغريق والرومان لم يرموا شيئًا، بل حفظوا كل أدوات عصرهم، النافعة منها وغير الفعالة، في متحف خيالي واسع تعيد الحفائر في صبر تكوين السجل الذي يمكن أن يقوم كتابنا هذا منه مقام تخطيط أولي.
أما في بلاد الرافدين فيبدو على العكس أن الأفكار النازعة نزعة المساواة كانت منتشرة إلى الحد الذي جعل أول إجراءات اختيار القادة السياسيين تتم على أسلوب القرعة. فقد اختير آلهة الصف الأول — أولئك الذين كرسوا أنفسهم في التكوين السومري للسياسة — وكذلك الملوك الأُوَل بين أترابهم طبقًا لأسلوب القرعة. فلما أصبحوا هكذا أول محترفين سياسيين كانوا في كل عام يحددون مصائر البشر والأشياء، ويتفكرون المستقبل، ويخططون للزمان القادم. وكانت مناقشاتهم تنتهي بإجماع ظاهري، يتجاوز كل ضرورة تفرضها نزعة المساواة، ولكن أولئك الذين لم تظهر آراؤهم على آراء الآخَرين كانوا يظلون على اليقظة مقيمين. وإذا ما تبين أن القرار الجماعي جانبه الصواب، كان المنتمون إلى الأقلية يخرجون على تحفظهم.
(١) ديمقراطية العالم الآخر
ليست مفاهيم السياسة الرافدينية أو المصرية ببعيدة عن مبادئنا الحديثة إلى الدرجة التي قد يتصورها البعض. كان على كل مشارك في المناقشات، في الشرق القديم، أن يرضى بالإحباط الناجم عن حل وسط يقرره رئيس صمم على الحصول عليه. والمسار السياسي للمشتغل بالسياسة يعتمد على القدرة على عدم المبالغة في الجري وراء المنفعة الخاصة، أو إذا قلبنا العبارة: القدرة على عدم تبديد الطاقة في خدمة قضايا خاسرة. والشخصية المحترفة تتحكم دائمًا في عدم رضائها الشخصي من أجل الدفاع عن قاعدة اللعبة التي تمنع الغالب من أن يفتك بالمغلوب. وفي المقابل يكون على المغلوب أن يعرف كيف يلزم التحفظ: وعلى عكس مثلنا العليا الديمقراطية (الأوروبية) كان ممثلو الأقلية في الشرق القديم لا يتمنون أكثر من أن تُعَدُّ أصواتُهم في الاقتراع على النحو الذي يتم في تلك الدائرة الانتخابية الأمريكية التي لا يُذكر في إعلان النتائج فيها إلا الغالب فقط، دون أن تضاف معلومات عن عدد الأصوات أو النسبة المئوية التي حصل عليها المغلوب حرصًا على عدم إهانته. وهنا نجد بلا شك أحد الفروق الرئيسية بينها وبين ديمقراطيتنا: فليست ديمقراطيتنا نظام الانتخاب، كما أنها ليست نظام الأغلبية — ولقد رأينا أن المنظومات السياسية الشرقية كثيرًا ما عرفت نظام الانتخاب، وأنها عرفت أحيانًا نظام الأغلبية — وإنما ديمقراطيتنا هي النظام الذي يعد فيه المغلوبون الأصوات التي حصلوا عليها.
وخلافًا للإغريق لم يكن الشرقيون القدماء وقد تسلحوا بحق النقض الفيتو بحاجة إلى أن يكون كل واحد على التعاقب الدائم حاكمًا ومحكومًا. ويمكننا أن نفترض أن الأثينيين كانوا يعتقدون في ضرورة هذا التعاقب حتى لا يشعر أحدٌ يومًا ما بما يغريه باستغلال سلطته عن علم منه بأنه سيشقى من معاناة نتائج استغلال السلطة عندما تدق ساعة الانتقام عند مواطن أنزل به عن غير تدبر ما أثار حفيظته. وربما رأى الشرقيون القدماء أنهم حققوا النتيجة نفسها بوسائل أخرى، فجعلوا للآلهة سلطة القضاء على المستبدين، وللبشر سلطة نقض القرارات الظالمة أو تخريب المشروعات المزدهرة.
كان الرافدينيون والمصريون بالفعل يرون أن حق طلب إعادة النظر في قرارات عامة حق مشروع. عندما كانت مجالس الشيوخ في بلاد الرافدين تعجز عن التوصل إلى قرار كانت تطرح الأمر على مجلس أوسع من المواطنين، وكان من الممكن أن يعترف المجلس الموسع بفشله، وتقبل في هذه الحالة باجتماع الأهالي العاديين الذين يُخشى دائمًا من أن ينقلبوا إلى التمرد، وتلك إشارة دالة على مناقشة غير شعبية شاهدة على حدود السيادة الشعبية. كان خوف المسئولين المعينين من أن يشجبهم أولئك الذين وثقوا في قدرتهم على حل الأمور البالغة التعقيد، يقودهم حتمًا إلى تقويم أنفسهم للنهوض بطائفة أخرى من مسئولياتهم. أما إذا اعترفت المجالس العادية في مصر بأنها عاجزة عن حسم مشكلة ما، فقد كانت السلطة تنتقل إلى مجالس أعلى ثم إلى دوائر استئناف أو دوائر تحكيم كانت المعية المباشرة لفرعون تمثل الملاذ النهائي فيها. وهكذا كانت إجراءات الإقرار بالعجز تسير في وادي النيل على عكس سيرها في وادي الرافدين (في وادي الرافدين من فوق إلى تحت، وفي وادي النيل من تحت إلى فوق) ولكن مع حرص واحد في الحالتين، هو الحرص على الشرعية، حرص عام جماعي على عدم الاستيلاء على السلطة وبالتالي التحمل منفردًا بكل التبعات. هذا كان القَفل النسبي للتفويض في الصلاحيات السياسية يوازنه فتح عمليات تحكيم: في كل مرحلة من الإجراءات كان من الممكن أن يشكك مشاركون جدد في القرارات التي يكون أعضاء المجلس السابق اتخذوها. وهذه الميزة — أو المَثْلبة — نجد شواهد عليها في بعض مناطق الشرق الأوسط المعاصر حيث لا تتم مفاوضات إلى نهايتها دون أن يتعرض المفاوضون لخطر الشجب من قِبَل أطراف لم يخطروا لهم على بال.
وعلى الرغم من كل هذه الاحتياطات، فقد كان فشل الإجراءات العادية دائمًا ممكنًا. كانت ظروف استثنائية تبرر أحيانًا منح سلطات خاصة تحت شروط قانونية. والاحتياطات المتخذة في مصر وفي بلاد الرافدين من أجل سد الطريق على من تسول لهم نفوسهم الاستيلاء على السلطة لها معناها في الدلالة على هذه الحالة الذهنية النفسية. ومهما كانت الأمور من الإلحاح، فقد كان المناقشون الرافدينيون أو المصريون يفرضون على أنفسهم احترام شكليات العمل الديمقراطي العادي، بل كانوا في بعض الأحيان يضيفون اختبارات تهدف إلى استشفاف نوايا أولئك الذين كانوا يميزونهم من ناحية المبدأ مؤقتًا. وكانوا يؤخرون، على قدر ما تسمح به سلطتهم، تسليمهم أدوات الحكم الملكية التي كانوا يحفظونها (ملفات سرية أو قوة ضاربة). وكانوا يَمنحون اختصاصات دقيقة ومحددة للحكومات العادية التي كانوا يعتمدونها عندما كانت الأوضاع تعود إلى أحوالها العادية. وفي نفس الوقت الذي كانوا فيه يقننون الاستثناءات من معايير أيلولة السلطة، كانوا يقررون تعديات أخرى على الإجراءات التي تخص المواطنين العاديين. على الفور كان التفكير في الاستثناء يواكب التفكير في القاعدة بغية حماية القاعدة من نتائج نكراء تنجم عن السعي المثالي المفرط إلى الطهارة الديمقراطية.
كل هذه تعلق بما يمكن أن نسميه «الديمقراطية» السماوية للتدليل على أمرين: مثل أعلى للتعددية لا سبيل إلى بلوغه وإن بقي الأمل رغم ذلك في الاقتراب منه على هذه الأرض، وعلى مفهوم للسياسة من حيث هي نشاط دستوري تأسيسي للإنسانية يعلو على كل الأنشطة الأخرى. ونحن نرى كم تستأثر بأقدم أوصاف النظام الاجتماعي في المكان الذي تحتله في الميثات التأسيسية ذاتها. ونصوص قصص التكوين الرافدينية والمصرية تحلل سلفًا مشكلات التفويض والنقض والانتخاب السياسية الجوهرية. وقد تناولتها بعد ذلك بروح تركيب مذهل إيقوناتٌ أضفت على وجودنا على هذا الكوكب معنًى مبينةً قَدَرَنا، ألا وهو: أن ننظم العالَم بالاقتصاد وبالقوة العامة.
(٢) العدالة في الدنيا
يقاس النجاح في السياسة بسيادة العدل أو المساواة الاجتماعية كما يقاس بسيادة الانتخاب أو المساواة القضائية. كيف استطاعت الشعوب القديمة أن تؤلف بين التضامن وبين إسراف بيِّن في الأموال تنفق على أعمال لا تنتج شيئًا وعلى أوقاف جنائزية؟ وفكرة الاستبداد الشرقي وما يُلحق به من طغاة مياهيين، وإقطاعيين، واستعباديين، فكرة تفسد علينا رؤيتنا لهذه النقطة ولغيرها من النقاط. فلا نرى فيها إلا اقتصادًا موجهًا لصالح سيد. وأسوأ شيء هو أنه يلوح لنا من المحال أن تفلت مجتمعات عتيقة منه: والاقتصادات القديمة كانت تبدو بدون تدبير مركزي محكومًا عليها بالقحط. إلا أن أعمال الري الكبيرة أدى في أغلب الأحيان إلى تخريب توازن بيئي قائم على الإسراف. وقلة الإنتاج، والاكتناز، والنفقات الباهظة أو غطاء اجتماعي ظاهره الإفراط — مع حفظ هامش مناورة — توفر وسائل اتقاء ضرر أكبر ألا وهو الضرر الذي ينجم عن اصطدام كم من الموارد يجري استغلالها على نحو مفرط الترشيد بحدثٍ اجتماعي أو مناخي مباغت. ونحن نعرف اليوم مدى انجراحية المجتمعات والشركات حيال سياسة «الحد الأدنى من الاحتياطيات». هكذا كانت الحال أيضًا قبل خمسة آلاف سنة.
وهكذا فمن الرشاد، في نظام يتهدده طغيان محتمل أو فوضى منظمة، أن ينتظر الناس عطايا يتم توزيعها تباعًا على مستحقين يُحَدَّدون بالاسم بدلًا من أن تكون عطايا جماعية يمكن أن يتمتع بها الأعداء أيضًا. ولكي يحمي الأكثر ثراءً أنفسهم ضد تقديم هذه العطايا التي يمكن أن تكون منتظمة أو استثنائية يجد هؤلاء ما يغريهم بالالتجاء إلى الأوقاف الخيرية ملتفين بمباركة إلهية حول قواعد الميراث المشاع والملكية الجماعية التي تقررت بدقة بغية مناهضة الغصب. وعلى الرغم من الثراء الذي يحققونه، والذي ليس حلالًا إلا في أقله، فإن روح التضامن المتأرجحة لدى المنتفعين تقوى عندما يوشك التحلل الاجتماعي على أن يتولد عن محاباةٍ مفرطة أو استبدادية مطبقة. والتضامن الاجتماعي حيال المعدمين — وإن كان لاعقلانيًّا على المستوى الفردي — هو المقابل الشرعي لاستغلال مركَّز للأرض والبشر، بل للنيل من حرية البشر أو محوها.
ثم إن الأغنياء لم يكونوا يستطيعون أن يشتروا كل شيء بمالهم. كانت العلاقة التي تبينوا قيامها في الزمان الأنتيكي الكلاسيكي (الإغريقي) بين الحذر الذي يثيره تركيم السلطة العامة من ناحية وبين الارتياب في تركيم الثروات الخاصة من ناحية ثانية، علاقة حقيقية وُجدت من قبل في الزمان الشرقي العتيق. كان الإنفاق الباذخ يجبر الكبراء على ترك هذا العالم حاملين معهم أموالهم، وعلى إصلاح مفسدة القرابين الجنائزية من خلال الأوقاف الخيرية لكي يضمنوا لذريتهم ما يعيشون به، أو يعيدوا توزيع ثروتهم في حياتهم إلى حد أنهم لم يكونوا يحتفظون منها لأنفسهم إلا بما يتيح لهم سبل راحة لائقة. والترف أسلوب لاستعراض عدم الاكتراث بالتملك فالمالك يفتت رأس ماله في مشتروات ترفية كمالية (بعبارة أخرى: لا ضرورة لها، وبالتالي لا استخدام لها منذ اليوم التالي لشرائها بدافع الهوس الذي جعلها ممكنة). أما القيام عن رضا كامل بتحطيم أو اختلاس أشياء لا ثمن لها فليس من شأن الرعونة الشخصية ولا من شأن السفه الجماعي، وإنما هو فعل ينجم عن شعور بالتضامن مع من هم أقل حظًّا يؤكد أن الفاعل لم يضع نفسه على هامش المجتمع عندما جمع لنفسه ثروة.
ونحن نجد اليوم أن صغار القضاة والمحققين الذين يلبسون معاطف بالية ضد المطر، الذين لا يحفلون بالترقيات التي تُبعد الإنسان عن الساحة التي يدور فيها الصراع الحقيقي بين الخير والشر، يؤكدون لقراء أو لمشاهدي مغامراتهم أن الأموال التي يحصلها الإنسان بغير وجه حق لا تفيد أبدًا، وأن يد الرب العلماني الاجتماعي تضرب دائمًا محدثي النعمة والتجار الذين فقدوا في الطريق الصفات الناقدة الناقضة التي ارتفعوا بفضلها فوق الآخرين وهي: الحساب الدقيق أو الحذر، الصفاقة أو التواضع، الأنانية الجامحة أو مراعاة الآخرين. والثروة المركمة المكدسة يبدو أن مصيرها إلى البعثرة تحت ضربات التحقيقات القضائية أو المنازعات العائلية إذا لم تصطدم بالحدود المفروضة اجتماعيًّا على تركيمها، ألا وهي استحالة التقسيم. والمسلسلات البوليسية أو الملفات القضائية التأريخية لا تنطق إلا بحكمة أخلاقية واحدة نجدها مسجلة في أفكار الشرقيين القدماء: الثروة لا يمكن إلا أن تكون عابرة، مثلها مثل السلطة، لا تدوم أكثر ولا أقل منها. ويجب أن تفيد الثروة الجميع حتى لا ينال البعض فقط الحق في القيام عليها وتدبير شئونها.
أولًا
-
(أ)
الاستبدادية نفسها هي بنية أيديولوجية أرادها ورثةُ النظم المتهالكة المحتضرة عندما حاولوا بدورهم إعادة تأسيس الدولة. فلما انتقلت إلى الخَلَف من قبيل سنيفرو، وخوفو، وتحتمس أو رمسيس من ناحية، أو جلجاميش وسارجون وحامُّورابي ونبوخذنصر١٦ من الناحية الأخرى، أوحوا بها إلى خلفائهم البعيدين الذين زادوها تعظيمًا إما عن حساب مصلحة (أو عن ورع). فلما نسب الخلفاء إلى «أجدادهم القدامى» من السلطة أكثر بكثير مما كان لهم في أي وقت، انتهى الأمر بالمستجدين في السياسة إلى الإيمان بتماسك القدامى، حتى إنهم اعتبروا خطب مناسبات ألقاها هؤلاء بمثابة مذاهب كاملة مكتملة، وعظموا شأن توليفات من ثقافات سياسية مختلفة لتصبح أيديولوجيا رسمية. ونكاد نستطيع أن نؤكد أن صرامة المراسم، وتكرار الشعائر، والصياغة الرنانة للأسلوب الأدبي، وهوس العظمة الذي تملك القادة العسكريين ومشيِّدي الصروح (وتلك أمور سرعان ما اتخذها الأباطرة الرومان نماذج لهم) كل هذه الأمور كانت متناسبة مع حيوية الأعراف التعددية، المتمسكة بالموطن وبالمقومات القبلية، ولا تميز قط الشرق القديم عن الشرط الأوسط الحالي.
-
(ب)
وهكذا فإن التشديد الذي قام به الحكام عن عجزٍ معرفي على المنابع اللاهوتية للشرعية لا ينبغي أن يسوقنا إلى اعتبار نظمهم نظمًا ثيوقراطية.١٧ فإذا لم يكن الحاكم مرتبطًا برباط قرابة بالأسرة الحاكمة، أو إذا لم تتح له سيطرة كبيرة على الدولة، فإنه يستند إلى كهانات إلهية بدلًا من الاستناد إلى قوانين سابقيه، ويعتقد الحاكم في حماية إله واحد لا تكون الآلهة المحلية بالقياس إليه إلا ظواهر خاصة («أقانيم»)، ويزيد من سلطة الكهنة على حساب كبار الموظفين المدنيين. وها هم أناس من عامة المدنيين والعسكريين وأجانب مندمجون أو غير مندمجين، وحكام أقاليم ساخطون، ونساء استثنائيات: يقومون بدور أبطال وبطلات سلسلة الأنساب المقدسة (زيجات الآلهة) والنقاش المذهبي (اللاهوت). ولكي تثبت هذه الشخصيات الطموحة أن صعودها غير المتوقع إلى العرش علامة على اختيار إلهي، تستند إلى الحجج الدينية. ولكنها لا مع هذا كله لا تحرم نفسها من إخفاء رجل السياسة في قلب المعابد الغامض، تلك المعابد التي تزايدت تصفية الساعين إلى الوصول إليها لأن سلطة الإكليريكيين تناقصت شرعيتها.١٨ واختراع التثليث وسر القربان المقدس في مصر، وفكرة الخطيئة الأصلية، والاستناد المتزايد على العلوية الربانية، وعلى الأنبياء والحَبَل بلا دنس، كل هذه جاءت جزئيًّا ثمرة مثل هذه المزايدات.١٩
-
(جـ)
على الرغم من أن دخول أماكن العبادة كان في أغلب الأحيان قاصرًا على الإكليريكيين، فليس من الصواب أن نستنتج وجود احتكار للدين. فليس من شك في أن جماعة المؤمنين المصريين أو الرافدينيين كانت تركن إلى المَلِك الدنيوي للحفاظ على الانسجام السماوي بدلًا من أن تقوم هي نفسها بهذه الوظيفة. وعالِم السياسة صامويل فينر samuel Finer يفكر هنا في معيار تحديدي بين اليهود القدماء والشرقيين القدماء الآخرين: والرأي عنده أن الشرقيين القدماء لم يكن لديهم قَبَّالة kabbale ولا إكليزيا ekklesia ولا كنيست kneisseth ولا كنيسة église؛ ومن أجل نيل العفو الإلهي كانوا يؤدون طقوسًا بدلًا من أن يضعوا ثقتهم في التقوى الشخصية.٢٠ وهذه الأطروحة تقف عند حدود لا تجاوزها: فلم يغب الورع الشعبي قط عن الأعياد الدينية، وكانت هناك مقصورات خصصت للعبادة هيئت على طول الأسوار المحيطة بالمعابد لكي يستطيع كل إنسان أن يلم بها، وسرعان ما مارس الناس الصلاة الفردية، ثم ألغيت شيئًا فشيئًا الامتيازات الدينية القائمة منذ الأصول القديمة. وقد أدخلت مرحلة أخناتون على نحو دائم علاقة أكثر شخصية بين المؤمنين وربهم يقوم منها النشيد العابر إلى آتون مقام النموذج.٢١ وإبان حكم الرعامسة كان عمال المقابر تضمهم جماعة طقوسية يقود رجالُها دوريًّا على التوالي المواكبَ التي كانت النساء تشارك فيها؛ وكان للمسافرين مصليات على مشارف الصحارى يمكنهم أن يعتكفوا فيها وأن يتوجهوا بالدعاء إلى حاميهم المقدس.٢٢ ازدهر تقديس الأجداد القدامى، كما ازدهرت المعتقدات الفردية، ورحلات الحج المحلية، ممهدةً الطريق لهوجات الوجد الجماعية في مصر السفلى، وفي الفترة الكلدانية ببابل، وفي بدايات المسيحية. ونجد الأشخاص البسطاء — الذين لا يحسون بشيء نحو الديانة الرسمية ونحو تباعد الوجود الإلهي تدريجيًّا على مر العصور — يستمرون في تمجيد أقاربهم، ورب أو ربة (وربما كانا على هيئة تثير الضحك) «بلدهم» الأصلي، وتمجيد شخصيات تبدو لهم حياتهم حافلة بالموعظة. وابتُدعت خصوصًا لإشباع رغباتهم: مقصوراتٌ، ومصليات، وأجران ماء مبارك، ومسارات الحجيج، وأعياد على التقويم، وجنازات عائلية، بل وفصول مجتثة من تاريخ مقدس تصور مشاهد تدور حول فقراء مطحونين وملائكة حُفَّاظ شخصيين.٢٣
-
(د)
لا ترتبط مركزية السلطة إلا نادرًا بأشغال الري الكبيرة. في المنطقة السفلى من الرافدين بدأت المنشآت المائية إبان فترات التعددية السياسية، ونحن ندين على نحو خاص بالمنشآت العامة والمعابد «للمستبدين المستنيرين» في العصور المتأخرة.٢٤ وفي مصر زاد تدخل الدولة في الإنتاج، ولكن الدولة لم تتدخل إلا نادرًا في نظام المياه الذي كان موضوعًا تحت مسئولية السلطات المحلية أو الريفية أو القبلية.٢٥ أما الاختلاف الحقيقي في هذا المجال فليس التعارض بين «الاستبدادية الآسيوية» وبين «المدينة الإغريقية» بل هو تمييز مختلف. كان التركيم المؤقت٢٦ للسلطة وللموارد الاقتصادية تُوَازِنُه في الشرق القديم منظومةُ ولاءٍ مطبوعةٍ بطابع شخصي، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى كان الإقطاع الدائم لأبعاديات إبان عصر النزعة الإقطاعية الأوروبية يسمح لنبلاء الأطيان بالاستقرار. أما في مصر وفي بلاد الرافدين فنلاحظ ممارسات لها مظهر «إقطاعي» («إعفاءات» حضرية تمنح لمواطني الحضر الذين يسكنون مدنًا تاريخية؛ إعفاءات من الضرائب، أو من السخرة أو من التجنيد لصالح مستخدمي الدولة المخلصين؛ تخصيص زمامات صالحة للزراعة لمحاربين قدامى تكون لهم حرية استخدامها كما يشاءون؛ إدارة ذاتية متنامية للطقوس الدينية). ولكن العلاقات الشخصية كانت تغلب العلاقة بالتربة، والحظوة السياسية تغلب الملكية العقارية إلى الدرجة التي نجد فيها الدرجاتيات — هياكل الدرجات — تتكون وتتفكك بلا انقطاع.٢٧ فلكي ينخرط موظف في مسارٍ درجاتيِّ صاعد ويحقق لنفسه الثراء، ظل دخوله في دائرة موارد فردية أكثر أهمية من الإمساك برافعة منظومة إنتاج جماعي. ولكننا نجد الملوك الرافدينيين بعد قرون يتجهون إلى تعويض فقر الدولة المركزية، التي كانت إجراءات التعيين بالاسم هذه تكلفها الكثير، فعمدوا إلى مضاعفة الولايات الاسمية للحكام المحليين.٢٨ أما الملوك monarques المصريون فقد دخلوا في علاقة تبعية تبادلية مع الولاة nomarques الإقليميين والأسر الكهنوتية القوية.٢٩ولنحذر من الخلط بين التنسيق coordination والمَرْكَزية centralisation: فلم تكن السلطة تتخذ القرارات إلا في كل حالة تفشل فيها محاولات التسوية المتبادلة والتفاوض. في الفكر المصري لا تعني الوحدة الانفراد، بل تعني الثنائية. فالخالق (أتوم Atoum، بعبارة أخرى «الكل»، «الكلية») قادر في البداية على تنسيق حركات أعضائه التي فترت نتيجة الإقامة الطويلة في المحيط الأولاني، وإيزيس تعيد تكوين جسم أوزيريس الممزق وترد إليه الحياة؛ ونارمر يضمِّن في التجمع نفسه كل المدن الجنوبية والشمالية، ولكن هذه العملية كان لا بد من العودة بلا انقطاع إلى بدئها من أولها.٣٠ في بلاد الرافدين تمثل ثنائية الشمال والجنوب، وتعددية المدن كذلك مقومات مؤسِّسة للأيديولوجيا «القومية». كان التنسيق التفاوضي بين الاستبدادية والفوضوية يفرض نفسه على اعتبار أنه الحل الأكثر فعالية والأكثر اقتصادية: ولا عجب في أن يكون الشرقيون القدماء قد فهموا هذا قبلنا.
-
(هـ)
وليس التعبير العظيم والباذخ عن المَلكية علامة على سلطة مطلقة. ففي مصر وفي بلاد الرافدين كانت القصور، بل والعواصم ذاتها، كثيرًا ما تُهجر في نهاية كل عصر. وما كانت نفس الأبهاء الاحتفالية التي كانت المهرجانات اليوبيلية تقام فيها إلا ديكورات من الحجر يخلعونها فيما مضى بعد الاستخدام قبل أن يبث فيها إموحتب صلابة واقع دائم.٣١ ثم إن السلطات كانت لها علاوة على ذلك عدة مقار. فكانت السلطات لهذا موزعة على مقار ملَكية ومدن حكومية وجبانات ملكية ومعابد وساحات للشعائر القدسية، يتغير مركز الثقل فيها بتغير الأنظمة.٣٢ وهذا يفسر وجود مواقع أشغال دائمة تضمن فرص عمل للفنيين الأكفاء وكذلك للعمال الذين كان البديل الوحيد لديهم في وقت القحط يتمثل في إحياء الميثة الملكية أو الموت في سبيل الملك. كانت مواقع الأشغال من قبيل ورش الجمهورية العامة Ateliers généraux de la République،٣٣ أو مشروعات النيوديل New Deal،٣٤ أو أشغال الرئيس الكبرى، فهي تطعم على نحو لا بأس به أولئك الذين تشغلهم في تصميم وبناء عواصم جديدة، وتشهد الحفائر الحديثة جدًّا التي كشفت قرى العمال الحرفيين عن مستوى معيشة مدهش أدهش كل الذين كانوا يتصورونهم ينوءون تحت الأعباء أو قد تقوست ظهورهم تحت ضربات السياط.٣٥ ونجد المعماريين والنحاتين ومديري الأشغال يغترفون فوق كل ذلك نفوذًا كان، عندما تحين الفرص المناسبة، يوازن سلطة الملك.
ثانيًا
-
(أ)
لا يصح أن نعتبر اقتصاد القصر ومجتمع البلاط (إذا كان لهما وجود) نموذجين مصغرين للممارسة الاجتماعية لبلد بكامله. وهناك أبحاث حديثة تطرح على نحو مقنع مبررات لصالح الحيوية النسبية للقطاع الخاص بالنسبة إلى القطاع العام. وهي تبين وجود مِلْكية فردية (على مساحات كانت على أية حال محدودة إلى حد كبير)، ووجود المشروع الحر، وضرائب محددة بعشرة أو عشرين في المائة من القيمة التجارية للمنتجات المصنعة أو المنقولة من مكان لآخر (وعلى العكس من ذلك كانت نسب الفائدة مرتفعة تدور في أغلب الأحيان حول ثلث المبلغ الأصلي).٣٧ والاقتصاد التجاري، وبخاصة في المدن، أصبح اليوم معروفًا أكثر مما مضى، ونحن اليوم أقل اتجاهًا إلى التقليل من شأن المعاملات النقدية أو التعظيم من شأن المعاملات العينية الناشئة عن عمليات التوزيع وإعادة التوزيع التي تميز القصور والمؤسسات الثقافية. ونحن نعرف أن السخرة لم تكن دائمًا ثقيلة، حتى في أنشط ساعات الدولة الآشورية، وأن العبيد لم يكونوا إلا «قوة تكميلية»، وأنه كان مسموحًا لهم بالتملك، حتى تملك الأرض، التي كانوا أحيانًا يشغلون عمالهم الخصوصيين في زراعتها. كان للمشروعات الخاصة، حتى عند ارتباطها بالدولة، استقلالًا ذاتيًّا حقيقيًّا.
-
(ب)
أصبحت فكرة «اقتصاد معبد» اليوم فكرة واضحة جملة وتفصيلًا، بل أصبحت مرفوضة نتيجة لشكوك جادة حول أسبقية الدين المطلقة. فلم نعد متأكدين من غلبة الكاهن على الملك منذ أن عرفنا على نحو أفضل خطط بناء بعض القصور الرافدينية أو المصرية.٣٨ ونظرًا لعدم وجود نقود كاملة فكثيرًا ما لعبت المعابد دور بنوك المحاصيل وغرف المقاصة ولكنها كانت تفعل ذلك دائمًا تحت إشراف الإدارة المدنية. تشهد على ذلك المحاسبة العامة، وعمليات التفتيش على فترات وغير ذلك من «مراجعات» الخزانة. أضف إلى ذلك أن النقود كانت موجودة على الأقل كأشكال نهائية للمقايضة.٣٩
-
(جـ)
تخصص الوظائف وفصل السلطات لم يأتيا نتيجة «تطور» أو اختراع اخترعه العالم «الحديث» (الأوروبي)، بل هما مدونان في دستور المجتمعات السياسية منذ أصولها الأولى، على الرغم من أن صياغاتها تتغير إلى الحد الذي يمس مفهوم الدولة ذاته.٤٠ في مصر قام التمييز بين شخص الملك وبين الشخص الرسمي، بين فرعون الإنسان ونَفَسِه الإلهي من ناحية وبين مراسم البيروقراطية والعمل البيروقراطي من الناحية الأخرى. ويؤدي هذا التمييز إلى الفصل بين ثلاثة مقار: مقر الملك بيرعا per’â، ومقر الحكومة بيرنيسو per nesou ومقر الكهنة بير نيتجيرو per netjerou. كذلك أنماط التمويل الخاصة بكل منها متمايزة: وما الدولة إلا توليفة من هذه «المجالات» الثلاثة التي يؤسس استقرارها الاستمرار السياسي.٤١ في بلاد الرافدين حيث يتمايز كذلك مقر الملك ومقر الإله (فهناك «لاجاش» و«نيبور»؛ وهناك «أكاد» و«كيش»؛ وهناك «بابل» و«آشور»، إلخ) «مساكن خاصة» و«مكاتب» (بيتانو bîtânu وبابانو bâbânu٤٢ ثم إن الأنظمة الحاكمة عليها علاوة على ذلك أن تأخذ بدورات يسمونها bal تجعل السلطة تدور بين العواصم، وتعتمد النجاح ثم الفشل الذي ينجم عن مبالغة مؤسسي بعض الأسر الحاكمة في المشروعات مُدْخِلةً «لااستمرارية» في التاريخ. والسياسة في الواديين، وادي النيل ووادي الرافدين، شأن أكثر جدية من أن يُترك للملوك (الذين يأخذون النصح دائمًا) أو من أن يوكل إلى الكهنة والقادة العسكريين (الذين يندسون في السياسة أحيانًا). ولكنها مع ذلك لم يوكل أمرها إلى فنيين وتجار ومربي الماشية وفلاحين (وإن كانوا يُدْعَون إلى الموافقة على القرارات العامة).
-
(د)
فالإجراءات العامة يناقشها إذن «متخصصون» في التعامل بالحجة. وربما كان الأفضل أن نسميهم «عمومياتيين» généralistes لأنهم ينتقلون من وظيفة إلى أخرى، أو حتى يتولون عدة مسئوليات في وقت واحد (مثل الإداريين المدنيين الحديثين وأعضاء الهيئات الكبيرة الذين اعتبروا أساطين في البلاغة الإدارية). ومحترفو القرار الجماعي هؤلاء وسطاء ملزمون بين الخاص والعام (هناك في وقت واحد: حميمية الملك ولقاءات عامة؛ قطاع خاص وقطاع عام؛ داخل المدينة وخارج المدينة). والأماكن الدقيقة التي يُمارَس فيها النشاط الحكومي، و«النيابي» والقضائي هي: «باب القصر»، «بوابة القصر»، «مدخل القصر»، «الستار» — و«الوزير» هو المسئول عن الستار —، أو «المصاطب»، «قبة العرش» وسدائل فسطاطية تقام وتُفَضُّ، و«شرفات الإطلال» (التي يتابع الملك منها المواكب والمسيرات والولائم)، مداخل المدينة أو درج القصور والمعابد. وعلاوة على الفصل الحاسم بين القطاعات والوظائف، أو بين المديرين والمستهدفين بالإدارة، فإن هذا المفهوم للسياسة يشدد على ما يدين به للتأمل والتوفيق والانتقال المتدرج من الرأي الفردي إلى الإجراء العام بفضل مناقشة دائمة.
ثالثًا
-
(أ)
الظروف السكانية والمناخية التي دفعت زُمَرًا من البدو الرُّحَّل إلى التسلل إلى داخل الأراضي المجاورة للدولة المصرية وللدولة الرافدينية اضطرت الدولتين بالفعل إلى أن تردا حتى لا ينهار بناؤهما الدستوري تحت تأثير أزمة الطعام والتموين. أي إن البدو الرحل هم الذين علموا المستقرين الحرب، وليس العكس. والجيوش الآشورية، على سبيل المثال، تكونت في البداية في المطاردات والغارات الوقائية قبل أن تَبْرَع في حصار القلاع وفي المعارك النظامية.٤٦
-
(ب)
وهذه أزمات اقتصادية وأسراتية متوالية (تشهد عليها على كل حال الشواهد إبان ثلاثة آلاف سنة من التاريخ) قادت العديد من الذين اغتصبوا الحكم إلى التماس الرضاء الرباني على هيئة انتصارات عسكرية (أو ربما جربوا مناورات تلهية بغية استمالة معارضيهم في الداخل). ويصدق هذا أكثر ما يصدق على قادة عسكريين، مستجيرين ضد الفوضى أو ملهمين لانقلابات في الدولة، وندين لهؤلاء بأدبيات في الحرب تتصف بثلاث خصائص: فهي وفيرة غزيرة، وهي مدونة لتدوم على مواد لا تفسد، وهي تقلب الاتجاه إلى التبرير الغيبي للعنف حيث تحوِّل على مر العصور طقوس التعاويز الموجهة ضد العدو إلى واقعية متزايدة. ونستشهد بواقعة معروفة جدًّا في التاريخ المصري، فهذا هو رمسيس الثاني يشكر إلهه الحافظ الذي أنقذه من عش زنابير قادش شكرًا زائدًا أراد به أن يستعرض كفاءته على الحكم بعد مغامرة جانبها السداد وانتهت بالهزيمة. ولما كانت هزيمته مريرة فقد تحولت قصتها إلى أسطورة: وأصبحت القصة والميثة علامتي جدارة استحقهما الملك الذي حوَّل على هذا النحو لصالحه أول فشل سياسي له.٤٧
-
(جـ)
اكتست العلاقات الدولية في أحيان كثيرة بمظهر الروابط العاطفية، بل روابط الزواج أو روابط قرابة الدم. وما كان يعتبر إمبراطورية لم يكن في بعض الأحيان إلا نسيجًا من علاقات الولاء نسج بكثير من البصيرة والدبلوماسية، دون حدود إقليمية حقيقية. كان المتحالفون أهل ثقافة واحدة وكثيرة ما كانوا أبناء أصول ميثية أو عائلية مشتركة. ولم يكن هذا يمنع الجيوش من أن تكون فعالة ومنظمة تنظيمًا عالي الجودة، تضم قوات محلية وميليشيات خاصة في خواتيم عصور القلاقل،٤٨ وتُرَتِّب عناصر البيئة الطبيعية والعشوب طبقًا للخطر الذي تمثله أو للدهشة التي تثيرها.٤٩ والخلاصة أن الأمن اعتمد أولًا على عمل انْصَبَّ على الذات (عن طريق احتكار العنف الشرعي) وانصب على الأجنبي القريب بالمثاقفة والاستئناس على قدر الإمكان بنجاح مدهش (سوريا-فلسطين، النوبة، ليبيا بالنسبة إلى مصر؛ سوريا-فلسطين، الأناضول، عيلام، شبه الجزيرة الواقعة بين البحر الأحمر والخليج بالنسبة إلى بلاد الرافدين). ولم يكن الحفاظ على الهوية «القومية» يعتمد إذن على الحرب وعلى تعريف عدوٍّ مُهَدِّد إلا أقل من اعتماده على إدماج الاختلافات الملحوظة في قلب عالم يوحده الفكر.وبعبارة موجزة نقول إن الغرابة، لا الغريب، هي التي تسمح للإنسان بأن يعرف نفسه وبأن يؤسس النشاط السياسي: أما الغرابة فمن الممكن تحويلها إلى شيء معروف وأن نربطها بذاتنا؛ وأما الغريب فليس من الممكن التنبؤ به وليس من الممكن اختزاله.٥٠لا جُنَاحَ على من يجد هذه اللوحة مفرطة في التعقيد إلى درجة تحول بينها وبين أن تكون مقنعة، شأنها شأن كل محاولات التركيب التي يقرر مؤلف هذا الكتاب أنه قاومها حتى في هذه الصفحات الأخيرة!٥١ بل قد يكون من الممكن الحكم على هذا النموذج بأنه يتسم بتبسيط كتبسيط الكاريكاتير الذي يقف منه موقف المُعارض. فخلافًا للكاريكاتير لا يصور النموذج نظام حكم تقليدي وكتلوي وجامد. كذلك ليس هذا النموذج مجرد صورة منسوخة عن الديمقراطية الغربية. فالمنظومات السياسية الشرقية مركبة تستعير مكوناتها من القبائل ومن المدن الدول ومن المَلَكيات ومن الجمهوريات أيضًا. وهي يقينًا تتخذ لنفسها كالواجهة جماعة ملتصقة بأرض ممنوحة من الرب الذي يرسل في تقتير نبوءاته، وهذه الجماعة تعارض تعددية آراء فردية قائمة على العقل يحسم الاقتراع بالأغلبية ما يحدث بينها من مواجهة. وهناك مع ذلك توازنات حساسة تقوم بين عشائر متنافسة تنتقل بوحشية من الخضوع إلى الحرية، من الولاء إلى المقاومة من داخل الأحراش. والبناء التقدمي لدولة مركزية لا يندرج إلا على نحو سيئ في هذه الحركة المستمرة من الاندماج والانفصال.وتكوِّن بدويةُ nomadisme السيادة وبعثرةُ الممتلكات وأبويةُ parentélisme الأجور مشهدًا سياسيًّا ليِّنًا تتغير تشكيلاته تغير محسوسًا من بلد لآخر ومن عصر لآخر. ولكن هناك من ذلك خيطًا رفيعًا يربط كل هذه الصياغات الممكنة للتسوية الضرورية بين الأشخاص: في قلب هذه الشبكة من الروابط المتباينة المختلطة هناك قوة موحِّدة لها وجودها، بل إنها تنجح من حين لآخر في أن تستقر على نحو دائم. ويحدث أن نواة المجتمع هذه التي تتسم بأنها سياسية إلى أقصى درجة — حتى إذا كان المجتمع المعنى متشرذمًا ومختلطًا إلى أبعد الحدود — تصل إلى دولة مستقرة استقرارًا يمكِّنها من أن تبقى بعد موت مؤسسيها واضعة حدودًا ثابتة تحد من طموحاتهم الشخصية. أليست هذه هي ما نسميه بمصطلحات حديثة الدولة باختصار، مرتبطة منذ اكتمال مفهومها بالمجتمع المتحضر الذي نعتبره مدنيًّا؟