ختام

ديمقراطية سماوية وعدالة اجتماعية

لم تنتقل إلينا الفلسفة السياسية للشرقيين القدامى عن طريق مؤلفين صاغوا بمصطلحات اليوم مشكلات أزمنة غابرة. ولكن ما كشفوا عنه من اهتمام عام مشترك للجنس البشري منذ أصوله الولى التي نعرفها ليس بالقليل: إنه رفض تركيم مستمر للسلطة قد يؤدي إلى تجريد المجتمع الوطني من استقلاله الذاتي.

ولكن السعي العارم لتحاشي كل انحراف سياسي للتفاوت الاجتماعي كان يواكبه منذ الأزل حرصٌ آخر: الحرص على أن يبقى مجتمع ما حيًّا بعد أن يقضي مؤسسوه نحبهم، وهذا طموح يتعارض مع الطموح الأول، لأنه يتطلب بناءً مؤسسيًّا يشجع على ظهور نُخَب تتكاثر بعد ذلك من تلقاء نفسها. إن الخيال والابتكارية وملكة التجريب التي أثبت الشرقيون القدماء أنهم في هذا التعامل الحساس مع التوازن المزعزع يملكون ناصيتها، كانت هي وحدها جديرة بأن يُشد إليها الرحال. ولقد اختبر الشرقيون القدماء كل الأساليب الممكنة، فعرفوا قبلنا بالتجربة فضائلها ورذائلها. وعلى عكس خلفائهم الإغريق والرومان لم يرموا شيئًا، بل حفظوا كل أدوات عصرهم، النافعة منها وغير الفعالة، في متحف خيالي واسع تعيد الحفائر في صبر تكوين السجل الذي يمكن أن يقوم كتابنا هذا منه مقام تخطيط أولي.

عندما أسفر فجر المجتمعات المركَّبة لم تكن الخلافات تُسوَّى بالأسلحة في الأيدي، بل بالتصويت باستخدام الأقدام. كان جزء من الجماعة يبرح دار الحضارة التي كان يعيش فيها حتى ذلك الحين ليؤسس دارًا أخرى، لكي لا يعاني سلطة جزء آخر من الجماعة أوفر حظًّا في اختيار طرقه التجارية أو مصنوعاته، أو أكثر امتدادًا في ذريته. ولم يكن المكان غير موجود، ولم يكن هناك أدنى خوف من أن تزدحم المساحات الفسيحة بالسكان إلى الدرجة التي تتسبب همهمتهم في تكدير راحة الآلهة، أو راحة الجيران الذين كانوا حتى ذلك الحين هادئين كل الهدوء. وكان نهر النيل ونهر الفرات يعد حبات مسبحته من مدن وموانئ تنتظم في شبكة من مدن تتشبث بالمساواة فيما بينها تشبثًا عارمًا. في ذلك الزمان البعيد كان من الممكن بناء عاصمة في قلب مكان ليس به شيء، عاصمة لا تتحصن — كما هي الحال بالنسبة إلى مدينة ساتال حويوك Çatal Höyük الأناضولية — إلا بالجدران الخارجية للبيوت وقد ربطت بعضها في البعض على هيئة دائرة وكان الاتصال بينها يتم من فوق الأسطح. وكان الناس يموتون، ولكن موتهم لم يكن حدثًا جللًا، فكانوا يدفنون بحنان تحت مصطبة المطبخ، ويرقدون على هيئة الجنين وهو ما يرمز في وقت واحد إلى نهاية الدورة التي بدأت بميلادهم وإلى انجراحيتهم باعتبارهم بشرًا متساوين فيما بينهم في أقوى لحظتين من حياتهم: لحظة الميلاد ولحظة الممات.
وكانت الاختلافات الاجتماعية موجودة، ولكن الناس كانوا يتظاهرون بأنهم لا يولونها انتباهًا. كان الفلاحون المقتدرون والتجار يحرصون في الجبانات المصرية في أن يحيطوا جثثهم بجرار ملئت بآخر محصول، وبالزيت والخمور والدهانات، شاهدة على ما حققوا من نجاح في الزراعة أو التجارة، كلفهم تضحيات لا يجرؤ الإنسان على تصورها عندما يعرف اليوم — أي بعد خمسة آلاف سنة — كم كانت الرحلات محفوفة بالمشاق والمجازفات. وهكذا كانت العلامات القيمة الدالة على حياة كانت مستمرة في الحركة تتحول إلى مخزون عقيم لا لشيء إلا صالح الميت أو قرينه. وشيئًا فشيئًا أحس الناس بما يغريهم بأن يستعرضوا في الجبانة عدم اكتراثهم بالعالم الذي تركوه، أو على العكس أن يسخروا من الأقارب الذين أصابهم الملل من طول الانتظار سخريتهم من المنافسين الذين ارتاحوا نتيجة لوفاتهم فسحبوا من الدورة الاقتصادية كمية هائلة من المنتجات الغالية. وكان العجائز التافهون يتسلون باستعراض قوتهم، وهكذا ضمت تلك الجبانات أول تحد في التاريخ من نوع «أتحداك أن تفعل المثل» وما يعرف باسم «البوتلاتش» potlatch، وهو بوتلاتش ساكن، ومزايدات بين موتى. أما أشد الناس فقرًا فقد اخترعوا حيلة تسمح لورثتهم بأن يرفعوا رءوسهم بين الناس: فهذه هي الجرار ملئت بالطين ومن فوقه طبقة رقيقة من المنتجات القيمة الخلابة، وكانوا يتظاهرون بأنهم يصدقون حتى لا يفقد معسكر المعدمين ماء وجهه.

أما في بلاد الرافدين فيبدو على العكس أن الأفكار النازعة نزعة المساواة كانت منتشرة إلى الحد الذي جعل أول إجراءات اختيار القادة السياسيين تتم على أسلوب القرعة. فقد اختير آلهة الصف الأول — أولئك الذين كرسوا أنفسهم في التكوين السومري للسياسة — وكذلك الملوك الأُوَل بين أترابهم طبقًا لأسلوب القرعة. فلما أصبحوا هكذا أول محترفين سياسيين كانوا في كل عام يحددون مصائر البشر والأشياء، ويتفكرون المستقبل، ويخططون للزمان القادم. وكانت مناقشاتهم تنتهي بإجماع ظاهري، يتجاوز كل ضرورة تفرضها نزعة المساواة، ولكن أولئك الذين لم تظهر آراؤهم على آراء الآخَرين كانوا يظلون على اليقظة مقيمين. وإذا ما تبين أن القرار الجماعي جانبه الصواب، كان المنتمون إلى الأقلية يخرجون على تحفظهم.

كان الشرقيون القدماء يستلهمون على سجيتهم ديمقراطية سماوية، ويوازنون هذه الفجوة بين المثل الأعلى الأخلاقي وبين الواقع التاريخي، ويولون قطعية العدل الاجتماعي اهتمامًا خاصًّا جدًّا. ولعلهم اكتشفوا قبلنا الدولة الحامية État protecteur الرامية إلى نفس الهدف وهو: مقايضة سلطة البعض بأمن الكافة.

(١) ديمقراطية العالم الآخر

ليست مفاهيم السياسة الرافدينية أو المصرية ببعيدة عن مبادئنا الحديثة إلى الدرجة التي قد يتصورها البعض. كان على كل مشارك في المناقشات، في الشرق القديم، أن يرضى بالإحباط الناجم عن حل وسط يقرره رئيس صمم على الحصول عليه. والمسار السياسي للمشتغل بالسياسة يعتمد على القدرة على عدم المبالغة في الجري وراء المنفعة الخاصة، أو إذا قلبنا العبارة: القدرة على عدم تبديد الطاقة في خدمة قضايا خاسرة. والشخصية المحترفة تتحكم دائمًا في عدم رضائها الشخصي من أجل الدفاع عن قاعدة اللعبة التي تمنع الغالب من أن يفتك بالمغلوب. وفي المقابل يكون على المغلوب أن يعرف كيف يلزم التحفظ: وعلى عكس مثلنا العليا الديمقراطية (الأوروبية) كان ممثلو الأقلية في الشرق القديم لا يتمنون أكثر من أن تُعَدُّ أصواتُهم في الاقتراع على النحو الذي يتم في تلك الدائرة الانتخابية الأمريكية التي لا يُذكر في إعلان النتائج فيها إلا الغالب فقط، دون أن تضاف معلومات عن عدد الأصوات أو النسبة المئوية التي حصل عليها المغلوب حرصًا على عدم إهانته. وهنا نجد بلا شك أحد الفروق الرئيسية بينها وبين ديمقراطيتنا: فليست ديمقراطيتنا نظام الانتخاب، كما أنها ليست نظام الأغلبية — ولقد رأينا أن المنظومات السياسية الشرقية كثيرًا ما عرفت نظام الانتخاب، وأنها عرفت أحيانًا نظام الأغلبية — وإنما ديمقراطيتنا هي النظام الذي يعد فيه المغلوبون الأصوات التي حصلوا عليها.

وقد نجد من بين المغلوبين الخالدين من يطالبون، حتى لدينا، بأن يسمح لهم بأن يعدُّوا الأصوات التي أعطيت لهم على الرغم من أنهم يوقنون بأن قضيتهم لا أمل فيها. وإنما يرجع صبرهم يقينًا إلى التمييز الذين يرجون إقامته بين عالمنا الدنيوي وبين الحياة في العالم الآخر. وفي مكان توَهُّمٍ وسيطي تمامًا لوحدة تؤلف بين المدينة الدنيوية والمدينة السماوية، وتضع الحداثة مجتمعًا مدنيًّا اقتطع من مجتمع الآلهة. كان الشرقيون القدماء، هم أيضًا، يميزون بوضوح العالمَيْن يربطهم حبل خفي بين الدائرتين المتماثلتين، دائرة الدنيا ودائرة الآخرة. ولكنهم كانوا يجعلون من المدينة السماوية المقابل المحسَّن لمدينة دولة اتصلت فيها أسباب الحياة. وكانوا يتصورون كل محاولة لدمج الدائرتين على أنها امتهان للقدسية، لا يستثنون إلا الزيجوراتو zigguratu الرافديني١ أو الهرم المصري اللذين اعتبرا المعبرين الوحيدين المصرح بهما إلى العالم الأعلى، فهما عبارة عن درجات سلم تلم بالعالم العلوي عن بعد أكثر من كونهما أبراج بابل وقحة تريد أن تبلغه.
وكانت التعددية تبدأ بقبول صاغر بتعددية الحقائق، يفتح الطريق أمام النقد والتسامح. ونحن لم نعثر في أية مناقشة من المناقشات التي وصلت أصداؤها إلينا، على «حقيقة» دينية (حقيقة واحدة)، كذلك لم نعثر على حزب ديني واحد. فلم يكن الشرقيون القدماء يتناقشون من أجل أن يتمتعوا بصون نظام أخلاقي أو إصلاحه، بل كانوا يتناقشون من أجل أن يحلوا مشكلات عملية. ولهذا لم يكن لديهم سبب يدفعهم إلى فرض حدود على المناقشة النقضية لاختزال مروحة٢ الآراء القابلة للتعبير أو عدد أولئك الذين كان يمكنهم أن يدلوا بدلوهم معبرين عن آرائهم.
كان الحرص على الفعالية يغلب كل اعتبار آخر، وتم التوصل إلى آليات نموذجية في وقت جد مبكر. في مصر القديمة كان الموظفون يعينون بالاختيار، يختارهم «المصطفون» الذين اصطفاهم الرب، ولا ينتخبهم «ناخبون» ليكونوا وكلاء عندهم. وبدلًا من أن يميزهم أتراهم في قلب جماعتهم الأصلية، كان رؤساؤهم في جماعتهم الجديدة التي استقبلتهم هم الذين يرفعونهم مكانًا عليًّا. وبدلًا من خلق تفاوت مع أبناء الشعب الذين خرج منهم الموظفون العموميون، كان القرار يصدر بمساواتهم بالمسئولين السياسيين الذين دخلوا لتوِّهم في زمرتهم. كان كل واحد من «المنتخِبين» يدافع فكرة معينة عن العدل والنفع العام. وكان هؤلاء «المنتخَبون» — مثلهم مثل المنتخبين عندنا — يجسمون «تمثيلًا» للشعب الذي جاءوا منه، إما بمعنى أنهم كانوا مفوضين من الشعب (على اعتبار أنهم رؤساء سلالة أو جماعات عرقية) وإما بمعنى أنهم لعبوا دور الممثلين الدراميين (كان تنوعهم يعكس فروق التمييز الاجتماعي القائمة التي كانوا يضفون عليها التماسك على المسرح العام). وكان واضحًا منذ فجر الحضارة أن التفويضات المعطاة إلى ممثلي المجموعات الحاضرة لا يفصلهم عن جماعتهم التي يمارسون معها العديد من المبادلات الأخرى. ولم تُختزل مهمتهم إلى التخصص الذي أتيح لهم لأنهم كانوا في داخل شبكة من المعاملات المتعددة مع أولئك الذين عينوهم. والسياسة يقينًا شأن المحترفين، ولكن السياسيين أيضًا كائنات اجتماعية ترتبط بأشباهها من وجهات نظر مختلفة وهو ما وصل إلى حد امتلاك مفوضيهم وسائل ضغط من خارج السياسة. وما كان الناس على الأرجح قبل أربعة آلاف سنة يدهشون إذ يتبينون شأنهم شأن أرباب السياسة اليوم أن التصويت ليس ثمرة قرار فردي جرى وزنه على نحو ناضج بل هو الدلالة على انتماء اجتماعي، وهو اللحظة الرمزية emblématique لإعلان ولاء المصوت لمجموعة بعينها والهوية التي تمنحها.
وقياسًا على مفهوم التمثيل هذا فإن الديمقراطية لا تُعتبر حكومةً للشعب بكامله يتولاها ممثلوه المنتخبون، بل تُعتبر ائتلافًا لكل فئات الشعب الذي تقوم أرفع شخصياته بحكم نفسها بنفسها. وكما كانت الحال في بعض الجمهوريات الإيطالية في الفترة من القرن الثاني عشر الميلادي إلى القرن الخامس عشر، نجد مبدأ الأغلبية في الشرق يختلط أحيانًا بالتزامٍ بمراعاة التناسبية proportionnalité التي تحمي الأكثر قوة والأكثر تواضعًا من كل استبداد حسابي. وهم يفهمون العُصَب السياسية les factions politiques على أنها بيوت يتبنى أعضاؤها لغة تناسب العائلات للتعبير عن علاقاتها الاجتماعية ومراكزها العامة. وكان رؤساء العُصْبَة في أغلب الأحيان شيوخًا أو نساءً ذوات بأس وكان منصبهم ينتقل مبدئيًّا إلى الأبناء، أو إذا أردنا الواقع كان أعضاء المجلس يعينون الأعضاء الجدد بطريقة اختيار زملاء cooptation حتى لو كان كل واحد يتظاهر بأنه يؤمن بأن التعيين جاء ثمرة الإرادة الشعبية أو المنة الإلهية.

وخلافًا للإغريق لم يكن الشرقيون القدماء وقد تسلحوا بحق النقض الفيتو بحاجة إلى أن يكون كل واحد على التعاقب الدائم حاكمًا ومحكومًا. ويمكننا أن نفترض أن الأثينيين كانوا يعتقدون في ضرورة هذا التعاقب حتى لا يشعر أحدٌ يومًا ما بما يغريه باستغلال سلطته عن علم منه بأنه سيشقى من معاناة نتائج استغلال السلطة عندما تدق ساعة الانتقام عند مواطن أنزل به عن غير تدبر ما أثار حفيظته. وربما رأى الشرقيون القدماء أنهم حققوا النتيجة نفسها بوسائل أخرى، فجعلوا للآلهة سلطة القضاء على المستبدين، وللبشر سلطة نقض القرارات الظالمة أو تخريب المشروعات المزدهرة.

كان الرافدينيون والمصريون بالفعل يرون أن حق طلب إعادة النظر في قرارات عامة حق مشروع. عندما كانت مجالس الشيوخ في بلاد الرافدين تعجز عن التوصل إلى قرار كانت تطرح الأمر على مجلس أوسع من المواطنين، وكان من الممكن أن يعترف المجلس الموسع بفشله، وتقبل في هذه الحالة باجتماع الأهالي العاديين الذين يُخشى دائمًا من أن ينقلبوا إلى التمرد، وتلك إشارة دالة على مناقشة غير شعبية شاهدة على حدود السيادة الشعبية. كان خوف المسئولين المعينين من أن يشجبهم أولئك الذين وثقوا في قدرتهم على حل الأمور البالغة التعقيد، يقودهم حتمًا إلى تقويم أنفسهم للنهوض بطائفة أخرى من مسئولياتهم. أما إذا اعترفت المجالس العادية في مصر بأنها عاجزة عن حسم مشكلة ما، فقد كانت السلطة تنتقل إلى مجالس أعلى ثم إلى دوائر استئناف أو دوائر تحكيم كانت المعية المباشرة لفرعون تمثل الملاذ النهائي فيها. وهكذا كانت إجراءات الإقرار بالعجز تسير في وادي النيل على عكس سيرها في وادي الرافدين (في وادي الرافدين من فوق إلى تحت، وفي وادي النيل من تحت إلى فوق) ولكن مع حرص واحد في الحالتين، هو الحرص على الشرعية، حرص عام جماعي على عدم الاستيلاء على السلطة وبالتالي التحمل منفردًا بكل التبعات. هذا كان القَفل النسبي للتفويض في الصلاحيات السياسية يوازنه فتح عمليات تحكيم: في كل مرحلة من الإجراءات كان من الممكن أن يشكك مشاركون جدد في القرارات التي يكون أعضاء المجلس السابق اتخذوها. وهذه الميزة — أو المَثْلبة — نجد شواهد عليها في بعض مناطق الشرق الأوسط المعاصر حيث لا تتم مفاوضات إلى نهايتها دون أن يتعرض المفاوضون لخطر الشجب من قِبَل أطراف لم يخطروا لهم على بال.

وعلى الرغم من كل هذه الاحتياطات، فقد كان فشل الإجراءات العادية دائمًا ممكنًا. كانت ظروف استثنائية تبرر أحيانًا منح سلطات خاصة تحت شروط قانونية. والاحتياطات المتخذة في مصر وفي بلاد الرافدين من أجل سد الطريق على من تسول لهم نفوسهم الاستيلاء على السلطة لها معناها في الدلالة على هذه الحالة الذهنية النفسية. ومهما كانت الأمور من الإلحاح، فقد كان المناقشون الرافدينيون أو المصريون يفرضون على أنفسهم احترام شكليات العمل الديمقراطي العادي، بل كانوا في بعض الأحيان يضيفون اختبارات تهدف إلى استشفاف نوايا أولئك الذين كانوا يميزونهم من ناحية المبدأ مؤقتًا. وكانوا يؤخرون، على قدر ما تسمح به سلطتهم، تسليمهم أدوات الحكم الملكية التي كانوا يحفظونها (ملفات سرية أو قوة ضاربة). وكانوا يَمنحون اختصاصات دقيقة ومحددة للحكومات العادية التي كانوا يعتمدونها عندما كانت الأوضاع تعود إلى أحوالها العادية. وفي نفس الوقت الذي كانوا فيه يقننون الاستثناءات من معايير أيلولة السلطة، كانوا يقررون تعديات أخرى على الإجراءات التي تخص المواطنين العاديين. على الفور كان التفكير في الاستثناء يواكب التفكير في القاعدة بغية حماية القاعدة من نتائج نكراء تنجم عن السعي المثالي المفرط إلى الطهارة الديمقراطية.

كل هذه تعلق بما يمكن أن نسميه «الديمقراطية» السماوية للتدليل على أمرين: مثل أعلى للتعددية لا سبيل إلى بلوغه وإن بقي الأمل رغم ذلك في الاقتراب منه على هذه الأرض، وعلى مفهوم للسياسة من حيث هي نشاط دستوري تأسيسي للإنسانية يعلو على كل الأنشطة الأخرى. ونحن نرى كم تستأثر بأقدم أوصاف النظام الاجتماعي في المكان الذي تحتله في الميثات التأسيسية ذاتها. ونصوص قصص التكوين الرافدينية والمصرية تحلل سلفًا مشكلات التفويض والنقض والانتخاب السياسية الجوهرية. وقد تناولتها بعد ذلك بروح تركيب مذهل إيقوناتٌ أضفت على وجودنا على هذا الكوكب معنًى مبينةً قَدَرَنا، ألا وهو: أن ننظم العالَم بالاقتصاد وبالقوة العامة.

وأقدم صورة نعرفها لفرعون تضم على نحو تركيب ثلاث علامات تأسيسية للنظام السياسي: أولًا: زهرة ترمز إلى الزراعة المستقرة والتموين الوفير من الأراضي السوداء؛ ثانيًا: عقربًا يدل في وقت واحد على الصحراء وعلى حراسة الحدود؛ ثالثًا: التاج القُمعي الأبيض متجهًا نحو السماء التي تأتي منها الطاقة، وقد ثبت على جبهة ملك قدماه على الأرض. وغطاء رأس الملك مؤسلب كأنه يقوم مقام علامة غيبية سابقة على الهيروغليفية، قريبة الشبه من حرف A «ليس من السهل تفسيره.»٣ ويبدو أنه مكون من عصوين، إحداهما مستقيمة، والأخرى محدبة، ملتصقتين عند القمة، ويثبت الشكل في مجموعه قضيب عرضي. كانت هذه العلامة في عصر الأسرات الأولى تنطق «مير» mer (نجدها على لوح الملكة «مير يت نيت» Mer-yet-nit، وعلى لوحة أبيدوس، وكذلك على أختام جرار٤ وعلى اللويحة الليبية حيث تمتطي هذه العلامة سور كل مدينة غزاها نارمر، إلا إذا كانت مدنًا جديدة أنشأها؟ ويبدو أن هذه العلامة الهيروغليفية ترمز إلى السيطرة على الأرض، وعلى تقسيمها بتحديد مساحي، واستغلالها، حيث استطاع البعض أن يرى فيها صورة زاوية المهندس٥ أو صورة مضرب الحصاد.٦ وأقدم تمثيل تصويري مصري للألوهية وصل إلينا هو سارية عليها راية، وكانت السارية ترسم أحيانًا كأنها صارٍ لُفَّ رأسه بلفائف أو حُلي بكسوة تخفق في الريح. نجد هذه الصورة أولًا على فخاريات نفعية أو دنيوية من عصر ما قبل الأسرات، ثم على لوحات من العاج مرتبطة بأسلحة الربة نايت Neith (درع وسهمان متداخلان) قبل أن تصبح قاصرة على الملوك والآلهة مشيرة من بعيد إلى وجودهم بينما تحجب الجدران المحيطة الأنظار الجريئة عنهم. وفي الحالتين جميعًا نجد علامة شعبية مقتبسة من الحياة اليومية تفرض نفسها كأنها استعراض للسلطة.٧ أولئك الذين يقبضون عليها يتدخلون بين الذات والآخر، بين الدنيا والآخرة، إنهم يتولون الوساطة بين الدنيوية والقدسية، بين الشهادة والغيب. المعزقة التي تقلب التربة (أو خطاف صيد السمك الذي يغوص في الماء) تُضاد الراية المتجهة نحو السماء) ولكن العلامتين تتكاملان أفضل تكامل لأنهما ترمزان إلى وجهي فرعون، الرجل السياسي الفائق أو أقنوم الآلهة، عامل/فلاح، أو كاهن/جندي، أو مدبر موارد مادية أو الكلمات الطيبات.
fig11
شكل ١: السلطة أصلًا تقوم على إخضاع الأهل قبل أن تقوم على محاربة الأعداء.
على هذه الشقفة العتيقة يصارع فرعون عدوه ويظل يصارعه إلى اللحظة التي يطلب هذا فيها العفو. وفرعون لا تحميه إلا صدرية بسيطة من الجلد، ولا يحمل على جبهته إلا أفعى الكوبرا الشمالية. أما السلاح الذي يطوحه بحركة دائرية جميلة فهو سلاح من الجنوب، وهو في وقت واحد سوط للبهائم وعصا دس البذور في التربة، وعصا مروحة وصلوجان «أُواس» ouas. وثمة صورة مطابقة ترمز إلى السلطة العاملة على استقرار الرُّحَّل وتوحيد البلاد وحماية الأهالي من البدو الرُّحَّل (يبدو رأس الشخص المغلوب بدويًّا).
في الدولة الحديثة اتخذ هذا الرسم التلميحي شكلًا جديدًا: الملك يوزع مكافآت على المخلصين له، الملك يفتك بأعدائه.٨ ونجد هذه المادة في نصوص أدبية عديدة. في فقرة من «إعلان أبيدوس» الذي يعود إلى رمسيس الثاني، نجد أباه سيتي الأول يقدمه على النحو التالي خلفًا له: «سيدير هذا القطر. سيرعى الحدود. سيهتم بالشعب.»٩ أما رمسيس الثالث فلم يأمر ببناء مدينة هابو ليقيم فيها عندما ينزل طيبة، وإنما ليستخدمها بعد موته قصرًا جنائزيًّا، حيث تنفذ اﻟ «كا» ka الخاصة به إلى قاعة العرش من خلال باب زائف لتشارك في اللقاءات، وحيث وُضع تمثاله، أمام شرفة الظهور ليلاحظ المواكب.١٠
في بلاد الرافدين يفخر سيناشيريب Sénachérib هو الآخر على لوح بأنه حقق «الفتك بأعدائه، ورخاء محاصيل آشور، ورضاء الرب آشور Assur». وآشوربانيبال Assurbanipal يأمر بأن يصوَّر في كالاح Calah قريبًا من نخلة هي رمز شجرة الحياة التي يبدو أنه أغدق عليها عنايته، وهو يتخذ نفس الوضع الذي اتخذه آشورناسيربال Assurnasirpal في مواجهة رب الحرب.١١ ويمكننا أن نستخرج من هذا بيانًا سياسيًّا أساسيًّا، القابضون على زمام السلطة بما هم مدبرون وحماة ومخططون١٢ يجتهدون في أن يجدوا الطريق العادل بين اتجاهات وإغراءات مضادة. ولما كانوا في أغلب الأحيان مستنيرين، على الرغم من ترددهم الدائم، فإنهم يتناقشون بلا هوادة حول الأهداف المنشودة: ويوكل إليهم رعاياهم اليقظون هذه المهام الملكية المتخصصة التي يؤدي حسن النهوض بها إلى نجاح كل المشاريع الاجتماعية.

(٢) العدالة في الدنيا

يقاس النجاح في السياسة بسيادة العدل أو المساواة الاجتماعية كما يقاس بسيادة الانتخاب أو المساواة القضائية. كيف استطاعت الشعوب القديمة أن تؤلف بين التضامن وبين إسراف بيِّن في الأموال تنفق على أعمال لا تنتج شيئًا وعلى أوقاف جنائزية؟ وفكرة الاستبداد الشرقي وما يُلحق به من طغاة مياهيين، وإقطاعيين، واستعباديين، فكرة تفسد علينا رؤيتنا لهذه النقطة ولغيرها من النقاط. فلا نرى فيها إلا اقتصادًا موجهًا لصالح سيد. وأسوأ شيء هو أنه يلوح لنا من المحال أن تفلت مجتمعات عتيقة منه: والاقتصادات القديمة كانت تبدو بدون تدبير مركزي محكومًا عليها بالقحط. إلا أن أعمال الري الكبيرة أدى في أغلب الأحيان إلى تخريب توازن بيئي قائم على الإسراف. وقلة الإنتاج، والاكتناز، والنفقات الباهظة أو غطاء اجتماعي ظاهره الإفراط — مع حفظ هامش مناورة — توفر وسائل اتقاء ضرر أكبر ألا وهو الضرر الذي ينجم عن اصطدام كم من الموارد يجري استغلالها على نحو مفرط الترشيد بحدثٍ اجتماعي أو مناخي مباغت. ونحن نعرف اليوم مدى انجراحية المجتمعات والشركات حيال سياسة «الحد الأدنى من الاحتياطيات». هكذا كانت الحال أيضًا قبل خمسة آلاف سنة.

ونحن في المقابل نشعر بما يغرينا بالاعتقاد في أن المشتغلين بالاقتصاد في حالة الزراعة البعلية١٣ يرفضون كل الرفض أي تفويض في اختصاصهم. ولما لم تتكن هناك ضرائب يطالبهم بها مجلس شيوخ، أو قبيلة، أو قرية أو حكومة، فإن منتجي الثروة لا ينتظرون من هذه المؤسسات رفيعة القدر تحسينًا عامًّا لظروف الحياة. ويفضل كل واحد أن يتفاوض لحسابه الخاص للحصول على مردود عادل لاستثماراته السياسية على هيئة معاونات ينالها حزب. والحق أن الإنسان يأمل في أن يقلل من إنفاق موارده المالية ما دام يعتقد أنه سيحقق مأربه بتنازلات رمزية. وإذا كان الإنسان يراقبه مَنْ هو أقل منه قوةً أو ثروةً، فإن الاستثمارات التي تتخذ شكل التودد والتلطف تؤتي ثمارها بقدر النية الطيبة التي تعبر عنها.

وهكذا فمن الرشاد، في نظام يتهدده طغيان محتمل أو فوضى منظمة، أن ينتظر الناس عطايا يتم توزيعها تباعًا على مستحقين يُحَدَّدون بالاسم بدلًا من أن تكون عطايا جماعية يمكن أن يتمتع بها الأعداء أيضًا. ولكي يحمي الأكثر ثراءً أنفسهم ضد تقديم هذه العطايا التي يمكن أن تكون منتظمة أو استثنائية يجد هؤلاء ما يغريهم بالالتجاء إلى الأوقاف الخيرية ملتفين بمباركة إلهية حول قواعد الميراث المشاع والملكية الجماعية التي تقررت بدقة بغية مناهضة الغصب. وعلى الرغم من الثراء الذي يحققونه، والذي ليس حلالًا إلا في أقله، فإن روح التضامن المتأرجحة لدى المنتفعين تقوى عندما يوشك التحلل الاجتماعي على أن يتولد عن محاباةٍ مفرطة أو استبدادية مطبقة. والتضامن الاجتماعي حيال المعدمين — وإن كان لاعقلانيًّا على المستوى الفردي — هو المقابل الشرعي لاستغلال مركَّز للأرض والبشر، بل للنيل من حرية البشر أو محوها.

كانت تكلفة هذا الترتيب السياسي يحملها صناع الثروة الحقيقيون وهم يتأوهون، عن اقتناع بأنهم لا يستطيعون أن يصدِّروا إلى أي مكان العمالةَ غيرَ المؤهَلة، أي العمالة التي لا نفع فيها، والتي كانت تتولد على الأرجح عن نفس النجاح الذي يحققه نشاطهم الإنتاجي. ونحن نعلم علم اليقين أن أفضل العاملين المهمَلين هم الذين كانوا يبرحون الأرض؛ لأن طبيعة النشاط الاقتصادي كانت في جوهرها تجارية، وكانت المهارات المطلوبة من أجل الحياة في مكان آخر غير المدينة الأصلية مهارات نادرة. ومن هذا المنظور أيضًا يمكن أن نحفظ درس القدماء: على كل إنسان أن يعني بفقرائه وأن يعدهم بحياة أفضل غدًا وأن يمنحهم مكانًا في سياسة المدينة. والتزلفية الشعبية populisme بل والفاشية تولدان غالبًا في هذه التربة، إذا لم تعادلهما منظومة أريبة من الدوائر المتداخلة تتخذ في قلبها القرارات الجماعية دون المساس نتيجة لذلك فعالية المناقشات. قامت المنظومة التي جرى اختراعها في بلاد الرافدين وفي مصر في الزمان القديم على: معرفة كيف ننصت إلى الفقراء ونقنع الأغنياء بأن يولوهم انتباههم.

ثم إن الأغنياء لم يكونوا يستطيعون أن يشتروا كل شيء بمالهم. كانت العلاقة التي تبينوا قيامها في الزمان الأنتيكي الكلاسيكي (الإغريقي) بين الحذر الذي يثيره تركيم السلطة العامة من ناحية وبين الارتياب في تركيم الثروات الخاصة من ناحية ثانية، علاقة حقيقية وُجدت من قبل في الزمان الشرقي العتيق. كان الإنفاق الباذخ يجبر الكبراء على ترك هذا العالم حاملين معهم أموالهم، وعلى إصلاح مفسدة القرابين الجنائزية من خلال الأوقاف الخيرية لكي يضمنوا لذريتهم ما يعيشون به، أو يعيدوا توزيع ثروتهم في حياتهم إلى حد أنهم لم يكونوا يحتفظون منها لأنفسهم إلا بما يتيح لهم سبل راحة لائقة. والترف أسلوب لاستعراض عدم الاكتراث بالتملك فالمالك يفتت رأس ماله في مشتروات ترفية كمالية (بعبارة أخرى: لا ضرورة لها، وبالتالي لا استخدام لها منذ اليوم التالي لشرائها بدافع الهوس الذي جعلها ممكنة). أما القيام عن رضا كامل بتحطيم أو اختلاس أشياء لا ثمن لها فليس من شأن الرعونة الشخصية ولا من شأن السفه الجماعي، وإنما هو فعل ينجم عن شعور بالتضامن مع من هم أقل حظًّا يؤكد أن الفاعل لم يضع نفسه على هامش المجتمع عندما جمع لنفسه ثروة.

ونحن نجد اليوم أن صغار القضاة والمحققين الذين يلبسون معاطف بالية ضد المطر، الذين لا يحفلون بالترقيات التي تُبعد الإنسان عن الساحة التي يدور فيها الصراع الحقيقي بين الخير والشر، يؤكدون لقراء أو لمشاهدي مغامراتهم أن الأموال التي يحصلها الإنسان بغير وجه حق لا تفيد أبدًا، وأن يد الرب العلماني الاجتماعي تضرب دائمًا محدثي النعمة والتجار الذين فقدوا في الطريق الصفات الناقدة الناقضة التي ارتفعوا بفضلها فوق الآخرين وهي: الحساب الدقيق أو الحذر، الصفاقة أو التواضع، الأنانية الجامحة أو مراعاة الآخرين. والثروة المركمة المكدسة يبدو أن مصيرها إلى البعثرة تحت ضربات التحقيقات القضائية أو المنازعات العائلية إذا لم تصطدم بالحدود المفروضة اجتماعيًّا على تركيمها، ألا وهي استحالة التقسيم. والمسلسلات البوليسية أو الملفات القضائية التأريخية لا تنطق إلا بحكمة أخلاقية واحدة نجدها مسجلة في أفكار الشرقيين القدماء: الثروة لا يمكن إلا أن تكون عابرة، مثلها مثل السلطة، لا تدوم أكثر ولا أقل منها. ويجب أن تفيد الثروة الجميع حتى لا ينال البعض فقط الحق في القيام عليها وتدبير شئونها.

ترسم لنا الدراسات العرقية الأثرية عن الواقع الشرقي لوحة مختلفة كل الاختلاف عن كتب التاريخ، بمعنى أنها تعرض علينا هذا الواقع الشرقي عرضًا مختلفًا. وإذا لم تكن هذه الدراسات تدعونا إلى أن نستنتج في الختام أن النظم السياسية المعروفة حتى اليوم، من أفريقيا الشمالية شمالي أسوان وآسيا الصغرى وصولًا إلى الجبال الساندة لسلسلة جبال زجروس، هي أمثلة للديمقراطيات، فإن ما تتيحه لنا لا يقل عن أنها تعطينا صورة أكثر حيوية عن المعتقدات السياسية الأكثر انتشارًا في المنطقة. ونحن منذ ذلك الحين متأكدون من أن التفسيرات المتداولة خاطئة على الأقل بالنسبة لبعض النقاط. وأغلب الظن أن تلخيص النتائج الختامية لكتابي هذا لن يكون تَزَيُّدًا لا ضرورة له، آخذًا في اعتباري أن التلخيص الذي سأقوم به يتسمم بسمة مؤقتة. وحرصًا مني على البساطة سأناقش على التوالي المكونات الثلاثة للنموذج الشرقي الذي بُني منذ الإغريق لكي أضعه من نموذجنا موضع النقيض، هذه المكونات الثلاثة هي: الاستبدادية despotisme — الكتلوية monolithisme — الإمبريالية impérialisme المنسوبة ظنًّا إلى الشرقيين القدامى. ولقد حاولت أن أبين أننا عندما نطرح عليها أسئلة جديدة نحصل على إجابات أخرى. فعندما تنصَبُّ أسئلتنا على الأشكال العادية للتنسيق أو على المبررات العقلانية للإجراءات المتخذة بدلًا من أن تنصَبَّ على طبيعة النظام السياسي وأسسه الروحية نجد: التعددية pluralisme — التمييز différenciation — الردع dissuasion … مع كل مفاهيم علم السياسة الحديث التي تصاحبها (مفاوضة، مناقشة، تبرير شرعي، إدارة إقليمية؛ التمييز بين الأرضي والسماوي، فصل السلطات، معارضة العام والخاص، تخصص الحِرَف السياسية، التحكم في العنف ثم احتكاره، حضارة العادات، تحالف دبلوماسي، إلخ.)

أولًا

بادئ ذي بدء في شأن الاستبدادية despotisme: كانت الأيديولوجية الرسمية في الواقع شديدة النزوع إلى الوحدة والمركزية والتسلطية والتقديسية بقدر فرضها نفسها بصعوبة على ثقافات سياسية موطنية متأصلة١٤ متباينة. وما الإعلانات الداخلية والعنتريات الخارجية الطنانة الرنانة إلا المقابل الدقيق لمقاومة قوية من قِبَل المعتقدات والأعراف والإجراءات السارية في اللحظة التي جرى فيها بناء الدولة. وما الشيء الذي يبدو لنا لصيقًا بالنظام الفرعوني أو الأكادي أو الآشوري لا ينفصل عنه بحال من الأحوال إلا ثمرة تصادم مستمر بين حكم ذاتي وزواج أقاربي ضعالي١٥ وتقديس الأجداد من ناحية، ومن الناحية الأخرى بين إدارة المركزية، وزواج أباعدي اغترابي ودين الدولة. وهكذا تمزج كل الإجراءات السياسية مكونات «قَبَلية» وأسرية أو ناجمة أصلًا عن دول مدن، بمكونات بيروقراطية وعسكرية وقضائية ملتحمة بالإمبراطوريات. وسواء كان الموضوع هو التمثيل أو التضامن أو الدفاع فإن المظاهر التي تشهد عليها تتسم بأنها مركبة، وينطبق نفس الكلام على التصويت والمناقشات، والطقوس والاحتفالات، والمراسم التي تتقرر بموجب العدالة الاجتماعية، والاتفاقيات ومبادئ الحرب، إلخ.
  • (أ)
    الاستبدادية نفسها هي بنية أيديولوجية أرادها ورثةُ النظم المتهالكة المحتضرة عندما حاولوا بدورهم إعادة تأسيس الدولة. فلما انتقلت إلى الخَلَف من قبيل سنيفرو، وخوفو، وتحتمس أو رمسيس من ناحية، أو جلجاميش وسارجون وحامُّورابي ونبوخذنصر١٦ من الناحية الأخرى، أوحوا بها إلى خلفائهم البعيدين الذين زادوها تعظيمًا إما عن حساب مصلحة (أو عن ورع). فلما نسب الخلفاء إلى «أجدادهم القدامى» من السلطة أكثر بكثير مما كان لهم في أي وقت، انتهى الأمر بالمستجدين في السياسة إلى الإيمان بتماسك القدامى، حتى إنهم اعتبروا خطب مناسبات ألقاها هؤلاء بمثابة مذاهب كاملة مكتملة، وعظموا شأن توليفات من ثقافات سياسية مختلفة لتصبح أيديولوجيا رسمية. ونكاد نستطيع أن نؤكد أن صرامة المراسم، وتكرار الشعائر، والصياغة الرنانة للأسلوب الأدبي، وهوس العظمة الذي تملك القادة العسكريين ومشيِّدي الصروح (وتلك أمور سرعان ما اتخذها الأباطرة الرومان نماذج لهم) كل هذه الأمور كانت متناسبة مع حيوية الأعراف التعددية، المتمسكة بالموطن وبالمقومات القبلية، ولا تميز قط الشرق القديم عن الشرط الأوسط الحالي.
  • (ب)
    وهكذا فإن التشديد الذي قام به الحكام عن عجزٍ معرفي على المنابع اللاهوتية للشرعية لا ينبغي أن يسوقنا إلى اعتبار نظمهم نظمًا ثيوقراطية.١٧ فإذا لم يكن الحاكم مرتبطًا برباط قرابة بالأسرة الحاكمة، أو إذا لم تتح له سيطرة كبيرة على الدولة، فإنه يستند إلى كهانات إلهية بدلًا من الاستناد إلى قوانين سابقيه، ويعتقد الحاكم في حماية إله واحد لا تكون الآلهة المحلية بالقياس إليه إلا ظواهر خاصة («أقانيم»)، ويزيد من سلطة الكهنة على حساب كبار الموظفين المدنيين. وها هم أناس من عامة المدنيين والعسكريين وأجانب مندمجون أو غير مندمجين، وحكام أقاليم ساخطون، ونساء استثنائيات: يقومون بدور أبطال وبطلات سلسلة الأنساب المقدسة (زيجات الآلهة) والنقاش المذهبي (اللاهوت). ولكي تثبت هذه الشخصيات الطموحة أن صعودها غير المتوقع إلى العرش علامة على اختيار إلهي، تستند إلى الحجج الدينية. ولكنها لا مع هذا كله لا تحرم نفسها من إخفاء رجل السياسة في قلب المعابد الغامض، تلك المعابد التي تزايدت تصفية الساعين إلى الوصول إليها لأن سلطة الإكليريكيين تناقصت شرعيتها.١٨ واختراع التثليث وسر القربان المقدس في مصر، وفكرة الخطيئة الأصلية، والاستناد المتزايد على العلوية الربانية، وعلى الأنبياء والحَبَل بلا دنس، كل هذه جاءت جزئيًّا ثمرة مثل هذه المزايدات.١٩
  • (جـ)
    على الرغم من أن دخول أماكن العبادة كان في أغلب الأحيان قاصرًا على الإكليريكيين، فليس من الصواب أن نستنتج وجود احتكار للدين. فليس من شك في أن جماعة المؤمنين المصريين أو الرافدينيين كانت تركن إلى المَلِك الدنيوي للحفاظ على الانسجام السماوي بدلًا من أن تقوم هي نفسها بهذه الوظيفة. وعالِم السياسة صامويل فينر samuel Finer يفكر هنا في معيار تحديدي بين اليهود القدماء والشرقيين القدماء الآخرين: والرأي عنده أن الشرقيين القدماء لم يكن لديهم قَبَّالة kabbale ولا إكليزيا ekklesia ولا كنيست kneisseth ولا كنيسة église؛ ومن أجل نيل العفو الإلهي كانوا يؤدون طقوسًا بدلًا من أن يضعوا ثقتهم في التقوى الشخصية.٢٠ وهذه الأطروحة تقف عند حدود لا تجاوزها: فلم يغب الورع الشعبي قط عن الأعياد الدينية، وكانت هناك مقصورات خصصت للعبادة هيئت على طول الأسوار المحيطة بالمعابد لكي يستطيع كل إنسان أن يلم بها، وسرعان ما مارس الناس الصلاة الفردية، ثم ألغيت شيئًا فشيئًا الامتيازات الدينية القائمة منذ الأصول القديمة. وقد أدخلت مرحلة أخناتون على نحو دائم علاقة أكثر شخصية بين المؤمنين وربهم يقوم منها النشيد العابر إلى آتون مقام النموذج.٢١ وإبان حكم الرعامسة كان عمال المقابر تضمهم جماعة طقوسية يقود رجالُها دوريًّا على التوالي المواكبَ التي كانت النساء تشارك فيها؛ وكان للمسافرين مصليات على مشارف الصحارى يمكنهم أن يعتكفوا فيها وأن يتوجهوا بالدعاء إلى حاميهم المقدس.٢٢ ازدهر تقديس الأجداد القدامى، كما ازدهرت المعتقدات الفردية، ورحلات الحج المحلية، ممهدةً الطريق لهوجات الوجد الجماعية في مصر السفلى، وفي الفترة الكلدانية ببابل، وفي بدايات المسيحية. ونجد الأشخاص البسطاء — الذين لا يحسون بشيء نحو الديانة الرسمية ونحو تباعد الوجود الإلهي تدريجيًّا على مر العصور — يستمرون في تمجيد أقاربهم، ورب أو ربة (وربما كانا على هيئة تثير الضحك) «بلدهم» الأصلي، وتمجيد شخصيات تبدو لهم حياتهم حافلة بالموعظة. وابتُدعت خصوصًا لإشباع رغباتهم: مقصوراتٌ، ومصليات، وأجران ماء مبارك، ومسارات الحجيج، وأعياد على التقويم، وجنازات عائلية، بل وفصول مجتثة من تاريخ مقدس تصور مشاهد تدور حول فقراء مطحونين وملائكة حُفَّاظ شخصيين.٢٣
  • (د)
    لا ترتبط مركزية السلطة إلا نادرًا بأشغال الري الكبيرة. في المنطقة السفلى من الرافدين بدأت المنشآت المائية إبان فترات التعددية السياسية، ونحن ندين على نحو خاص بالمنشآت العامة والمعابد «للمستبدين المستنيرين» في العصور المتأخرة.٢٤ وفي مصر زاد تدخل الدولة في الإنتاج، ولكن الدولة لم تتدخل إلا نادرًا في نظام المياه الذي كان موضوعًا تحت مسئولية السلطات المحلية أو الريفية أو القبلية.٢٥ أما الاختلاف الحقيقي في هذا المجال فليس التعارض بين «الاستبدادية الآسيوية» وبين «المدينة الإغريقية» بل هو تمييز مختلف. كان التركيم المؤقت٢٦ للسلطة وللموارد الاقتصادية تُوَازِنُه في الشرق القديم منظومةُ ولاءٍ مطبوعةٍ بطابع شخصي، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى كان الإقطاع الدائم لأبعاديات إبان عصر النزعة الإقطاعية الأوروبية يسمح لنبلاء الأطيان بالاستقرار. أما في مصر وفي بلاد الرافدين فنلاحظ ممارسات لها مظهر «إقطاعي» («إعفاءات» حضرية تمنح لمواطني الحضر الذين يسكنون مدنًا تاريخية؛ إعفاءات من الضرائب، أو من السخرة أو من التجنيد لصالح مستخدمي الدولة المخلصين؛ تخصيص زمامات صالحة للزراعة لمحاربين قدامى تكون لهم حرية استخدامها كما يشاءون؛ إدارة ذاتية متنامية للطقوس الدينية). ولكن العلاقات الشخصية كانت تغلب العلاقة بالتربة، والحظوة السياسية تغلب الملكية العقارية إلى الدرجة التي نجد فيها الدرجاتيات — هياكل الدرجات — تتكون وتتفكك بلا انقطاع.٢٧ فلكي ينخرط موظف في مسارٍ درجاتيِّ صاعد ويحقق لنفسه الثراء، ظل دخوله في دائرة موارد فردية أكثر أهمية من الإمساك برافعة منظومة إنتاج جماعي. ولكننا نجد الملوك الرافدينيين بعد قرون يتجهون إلى تعويض فقر الدولة المركزية، التي كانت إجراءات التعيين بالاسم هذه تكلفها الكثير، فعمدوا إلى مضاعفة الولايات الاسمية للحكام المحليين.٢٨ أما الملوك monarques المصريون فقد دخلوا في علاقة تبعية تبادلية مع الولاة nomarques الإقليميين والأسر الكهنوتية القوية.٢٩
    ولنحذر من الخلط بين التنسيق coordination والمَرْكَزية centralisation: فلم تكن السلطة تتخذ القرارات إلا في كل حالة تفشل فيها محاولات التسوية المتبادلة والتفاوض. في الفكر المصري لا تعني الوحدة الانفراد، بل تعني الثنائية. فالخالق (أتوم Atoum، بعبارة أخرى «الكل»، «الكلية») قادر في البداية على تنسيق حركات أعضائه التي فترت نتيجة الإقامة الطويلة في المحيط الأولاني، وإيزيس تعيد تكوين جسم أوزيريس الممزق وترد إليه الحياة؛ ونارمر يضمِّن في التجمع نفسه كل المدن الجنوبية والشمالية، ولكن هذه العملية كان لا بد من العودة بلا انقطاع إلى بدئها من أولها.٣٠ في بلاد الرافدين تمثل ثنائية الشمال والجنوب، وتعددية المدن كذلك مقومات مؤسِّسة للأيديولوجيا «القومية». كان التنسيق التفاوضي بين الاستبدادية والفوضوية يفرض نفسه على اعتبار أنه الحل الأكثر فعالية والأكثر اقتصادية: ولا عجب في أن يكون الشرقيون القدماء قد فهموا هذا قبلنا.
  • (هـ)
    وليس التعبير العظيم والباذخ عن المَلكية علامة على سلطة مطلقة. ففي مصر وفي بلاد الرافدين كانت القصور، بل والعواصم ذاتها، كثيرًا ما تُهجر في نهاية كل عصر. وما كانت نفس الأبهاء الاحتفالية التي كانت المهرجانات اليوبيلية تقام فيها إلا ديكورات من الحجر يخلعونها فيما مضى بعد الاستخدام قبل أن يبث فيها إموحتب صلابة واقع دائم.٣١ ثم إن السلطات كانت لها علاوة على ذلك عدة مقار. فكانت السلطات لهذا موزعة على مقار ملَكية ومدن حكومية وجبانات ملكية ومعابد وساحات للشعائر القدسية، يتغير مركز الثقل فيها بتغير الأنظمة.٣٢ وهذا يفسر وجود مواقع أشغال دائمة تضمن فرص عمل للفنيين الأكفاء وكذلك للعمال الذين كان البديل الوحيد لديهم في وقت القحط يتمثل في إحياء الميثة الملكية أو الموت في سبيل الملك. كانت مواقع الأشغال من قبيل ورش الجمهورية العامة Ateliers généraux de la République،٣٣ أو مشروعات النيوديل New Deal،٣٤ أو أشغال الرئيس الكبرى، فهي تطعم على نحو لا بأس به أولئك الذين تشغلهم في تصميم وبناء عواصم جديدة، وتشهد الحفائر الحديثة جدًّا التي كشفت قرى العمال الحرفيين عن مستوى معيشة مدهش أدهش كل الذين كانوا يتصورونهم ينوءون تحت الأعباء أو قد تقوست ظهورهم تحت ضربات السياط.٣٥ ونجد المعماريين والنحاتين ومديري الأشغال يغترفون فوق كل ذلك نفوذًا كان، عندما تحين الفرص المناسبة، يوازن سلطة الملك.

ثانيًا

الكتلوية monolithisme (أو سمة التماسك) التي يتسم بها المجتمع هي على أحسن الفروض مبالغة من اختراع فكرنا الحديث. وهذه صور: تغلغل الدولة في المجتمع، وتحكم السلطة الروحية في السلطة الزمنية، وغياب تخصص الوظائف والدوائر، صور لا تناسب إلا على نحو سيئ واقعًا أكثر تعقيدًا مما تصور البعض لأول وهلة نظرًا إلى الأعمال الأولى في مجال دراسة الآثار والكتابات المنقوشة. ولم تكن بساطة الرسم التخطيطي إلا ظاهرًا لا أكثر ولا أقل. أما معلوماتنا اليوم التي قل ما يعتورها من تبسيط الرسم التخطيط فهي تمدنا بصورة المجتمعات على نحو أكثر تمايزًا وأقل درجاتية٣٦ مما كان الناس يتصورون فيما مضى.
  • (أ)
    لا يصح أن نعتبر اقتصاد القصر ومجتمع البلاط (إذا كان لهما وجود) نموذجين مصغرين للممارسة الاجتماعية لبلد بكامله. وهناك أبحاث حديثة تطرح على نحو مقنع مبررات لصالح الحيوية النسبية للقطاع الخاص بالنسبة إلى القطاع العام. وهي تبين وجود مِلْكية فردية (على مساحات كانت على أية حال محدودة إلى حد كبير)، ووجود المشروع الحر، وضرائب محددة بعشرة أو عشرين في المائة من القيمة التجارية للمنتجات المصنعة أو المنقولة من مكان لآخر (وعلى العكس من ذلك كانت نسب الفائدة مرتفعة تدور في أغلب الأحيان حول ثلث المبلغ الأصلي).٣٧ والاقتصاد التجاري، وبخاصة في المدن، أصبح اليوم معروفًا أكثر مما مضى، ونحن اليوم أقل اتجاهًا إلى التقليل من شأن المعاملات النقدية أو التعظيم من شأن المعاملات العينية الناشئة عن عمليات التوزيع وإعادة التوزيع التي تميز القصور والمؤسسات الثقافية. ونحن نعرف أن السخرة لم تكن دائمًا ثقيلة، حتى في أنشط ساعات الدولة الآشورية، وأن العبيد لم يكونوا إلا «قوة تكميلية»، وأنه كان مسموحًا لهم بالتملك، حتى تملك الأرض، التي كانوا أحيانًا يشغلون عمالهم الخصوصيين في زراعتها. كان للمشروعات الخاصة، حتى عند ارتباطها بالدولة، استقلالًا ذاتيًّا حقيقيًّا.
  • (ب)
    أصبحت فكرة «اقتصاد معبد» اليوم فكرة واضحة جملة وتفصيلًا، بل أصبحت مرفوضة نتيجة لشكوك جادة حول أسبقية الدين المطلقة. فلم نعد متأكدين من غلبة الكاهن على الملك منذ أن عرفنا على نحو أفضل خطط بناء بعض القصور الرافدينية أو المصرية.٣٨ ونظرًا لعدم وجود نقود كاملة فكثيرًا ما لعبت المعابد دور بنوك المحاصيل وغرف المقاصة ولكنها كانت تفعل ذلك دائمًا تحت إشراف الإدارة المدنية. تشهد على ذلك المحاسبة العامة، وعمليات التفتيش على فترات وغير ذلك من «مراجعات» الخزانة. أضف إلى ذلك أن النقود كانت موجودة على الأقل كأشكال نهائية للمقايضة.٣٩
  • (جـ)
    تخصص الوظائف وفصل السلطات لم يأتيا نتيجة «تطور» أو اختراع اخترعه العالم «الحديث» (الأوروبي)، بل هما مدونان في دستور المجتمعات السياسية منذ أصولها الأولى، على الرغم من أن صياغاتها تتغير إلى الحد الذي يمس مفهوم الدولة ذاته.٤٠ في مصر قام التمييز بين شخص الملك وبين الشخص الرسمي، بين فرعون الإنسان ونَفَسِه الإلهي من ناحية وبين مراسم البيروقراطية والعمل البيروقراطي من الناحية الأخرى. ويؤدي هذا التمييز إلى الفصل بين ثلاثة مقار: مقر الملك بيرعا per’â، ومقر الحكومة بيرنيسو per nesou ومقر الكهنة بير نيتجيرو per netjerou. كذلك أنماط التمويل الخاصة بكل منها متمايزة: وما الدولة إلا توليفة من هذه «المجالات» الثلاثة التي يؤسس استقرارها الاستمرار السياسي.٤١ في بلاد الرافدين حيث يتمايز كذلك مقر الملك ومقر الإله (فهناك «لاجاش» و«نيبور»؛ وهناك «أكاد» و«كيش»؛ وهناك «بابل» و«آشور»، إلخ) «مساكن خاصة» و«مكاتب» (بيتانو bîtânu وبابانو bâbânu٤٢ ثم إن الأنظمة الحاكمة عليها علاوة على ذلك أن تأخذ بدورات يسمونها bal تجعل السلطة تدور بين العواصم، وتعتمد النجاح ثم الفشل الذي ينجم عن مبالغة مؤسسي بعض الأسر الحاكمة في المشروعات مُدْخِلةً «لااستمرارية» في التاريخ. والسياسة في الواديين، وادي النيل ووادي الرافدين، شأن أكثر جدية من أن يُترك للملوك (الذين يأخذون النصح دائمًا) أو من أن يوكل إلى الكهنة والقادة العسكريين (الذين يندسون في السياسة أحيانًا). ولكنها مع ذلك لم يوكل أمرها إلى فنيين وتجار ومربي الماشية وفلاحين (وإن كانوا يُدْعَون إلى الموافقة على القرارات العامة).
  • (د)
    فالإجراءات العامة يناقشها إذن «متخصصون» في التعامل بالحجة. وربما كان الأفضل أن نسميهم «عمومياتيين» généralistes لأنهم ينتقلون من وظيفة إلى أخرى، أو حتى يتولون عدة مسئوليات في وقت واحد (مثل الإداريين المدنيين الحديثين وأعضاء الهيئات الكبيرة الذين اعتبروا أساطين في البلاغة الإدارية). ومحترفو القرار الجماعي هؤلاء وسطاء ملزمون بين الخاص والعام (هناك في وقت واحد: حميمية الملك ولقاءات عامة؛ قطاع خاص وقطاع عام؛ داخل المدينة وخارج المدينة). والأماكن الدقيقة التي يُمارَس فيها النشاط الحكومي، و«النيابي» والقضائي هي: «باب القصر»، «بوابة القصر»، «مدخل القصر»، «الستار» — و«الوزير» هو المسئول عن الستار —، أو «المصاطب»، «قبة العرش» وسدائل فسطاطية تقام وتُفَضُّ، و«شرفات الإطلال» (التي يتابع الملك منها المواكب والمسيرات والولائم)، مداخل المدينة أو درج القصور والمعابد. وعلاوة على الفصل الحاسم بين القطاعات والوظائف، أو بين المديرين والمستهدفين بالإدارة، فإن هذا المفهوم للسياسة يشدد على ما يدين به للتأمل والتوفيق والانتقال المتدرج من الرأي الفردي إلى الإجراء العام بفضل مناقشة دائمة.

ثالثًا

والدرس الثالث لعلم آثار التاريخ القديم وفقه اللغة الحديث هو أن: الإمبريالية كانت في آنٍ واحد متأخرة الظهور وضرورية وكثيرًا ما كانت رمزية. وتبين الاتصالات الأولى بالفعل بين مجتمعات مختلفة أناسًا من أبناء المدن يتخذون وضع الدفاع، حريصين على أن يصدوا بربرية جيرانهم بعد أن قاموا باستئناس أنفسهم والقضاء على ما كانوا عليه من همجية. وفي الواديين، وادي النيل ووادي الرافدين، تظهر في وقت واحد صور الرئيس يطرح أعداءه أرضًا، وتتضاعف أعداد هذه الصور بسرعة (تشهد على ذلك هراوة نارمر في مصر، ولويحة النسور في سومر، والعديد من الشقاف والشظايا والعاج والأختام تتخذ من هذه التيمة حلية زخرفية، اكتشفت حديثًا، ومن بينها قطع قديمة جدًّا).٤٣ وهذه هي حركة طرح العدو الهمجي أرضًا تصبح شيئًا فشيئًا علامة مصورة على صراع دائم مع مصادر للنظام الخاءوس بدلًا من أن تظل دائمًا دالة على معركة حدثت بالفعل في تاريخ بعينه ضد أعداء حقيقيين. وهذه الرسمة الصغيرة ليست لها قيمة الإعلان عن برنامج توسعي، بل هي على العكس تتضمن أمل انسجام (وتلك ملحوظة تصدق على مصر على نحو خاص).٤٤ إنها تعرض أمام أعين أولئك الذين يعرفون القراءة وغيرهم جميعًا نموذج تنظيم للعالم يضع تحت مسئولية الملك كل «أولئك الذين يحسون بأنفسهم مشغولين بالسياسة» ويقبلون عن وعيٍ التعاونَ بعضهم مع البعض الآخر. هذا النموذج يُخرج إذن الشعوب خارج نطاق الصلاحية الحكومية، الشعوب التي لا تعرف كيف تتصرف سياسيًّا لأنها ليست مأمورة.٤٥
  • (أ)
    الظروف السكانية والمناخية التي دفعت زُمَرًا من البدو الرُّحَّل إلى التسلل إلى داخل الأراضي المجاورة للدولة المصرية وللدولة الرافدينية اضطرت الدولتين بالفعل إلى أن تردا حتى لا ينهار بناؤهما الدستوري تحت تأثير أزمة الطعام والتموين. أي إن البدو الرحل هم الذين علموا المستقرين الحرب، وليس العكس. والجيوش الآشورية، على سبيل المثال، تكونت في البداية في المطاردات والغارات الوقائية قبل أن تَبْرَع في حصار القلاع وفي المعارك النظامية.٤٦
  • (ب)
    وهذه أزمات اقتصادية وأسراتية متوالية (تشهد عليها على كل حال الشواهد إبان ثلاثة آلاف سنة من التاريخ) قادت العديد من الذين اغتصبوا الحكم إلى التماس الرضاء الرباني على هيئة انتصارات عسكرية (أو ربما جربوا مناورات تلهية بغية استمالة معارضيهم في الداخل). ويصدق هذا أكثر ما يصدق على قادة عسكريين، مستجيرين ضد الفوضى أو ملهمين لانقلابات في الدولة، وندين لهؤلاء بأدبيات في الحرب تتصف بثلاث خصائص: فهي وفيرة غزيرة، وهي مدونة لتدوم على مواد لا تفسد، وهي تقلب الاتجاه إلى التبرير الغيبي للعنف حيث تحوِّل على مر العصور طقوس التعاويز الموجهة ضد العدو إلى واقعية متزايدة. ونستشهد بواقعة معروفة جدًّا في التاريخ المصري، فهذا هو رمسيس الثاني يشكر إلهه الحافظ الذي أنقذه من عش زنابير قادش شكرًا زائدًا أراد به أن يستعرض كفاءته على الحكم بعد مغامرة جانبها السداد وانتهت بالهزيمة. ولما كانت هزيمته مريرة فقد تحولت قصتها إلى أسطورة: وأصبحت القصة والميثة علامتي جدارة استحقهما الملك الذي حوَّل على هذا النحو لصالحه أول فشل سياسي له.٤٧
  • (جـ)
    اكتست العلاقات الدولية في أحيان كثيرة بمظهر الروابط العاطفية، بل روابط الزواج أو روابط قرابة الدم. وما كان يعتبر إمبراطورية لم يكن في بعض الأحيان إلا نسيجًا من علاقات الولاء نسج بكثير من البصيرة والدبلوماسية، دون حدود إقليمية حقيقية. كان المتحالفون أهل ثقافة واحدة وكثيرة ما كانوا أبناء أصول ميثية أو عائلية مشتركة. ولم يكن هذا يمنع الجيوش من أن تكون فعالة ومنظمة تنظيمًا عالي الجودة، تضم قوات محلية وميليشيات خاصة في خواتيم عصور القلاقل،٤٨ وتُرَتِّب عناصر البيئة الطبيعية والعشوب طبقًا للخطر الذي تمثله أو للدهشة التي تثيرها.٤٩ والخلاصة أن الأمن اعتمد أولًا على عمل انْصَبَّ على الذات (عن طريق احتكار العنف الشرعي) وانصب على الأجنبي القريب بالمثاقفة والاستئناس على قدر الإمكان بنجاح مدهش (سوريا-فلسطين، النوبة، ليبيا بالنسبة إلى مصر؛ سوريا-فلسطين، الأناضول، عيلام، شبه الجزيرة الواقعة بين البحر الأحمر والخليج بالنسبة إلى بلاد الرافدين). ولم يكن الحفاظ على الهوية «القومية» يعتمد إذن على الحرب وعلى تعريف عدوٍّ مُهَدِّد إلا أقل من اعتماده على إدماج الاختلافات الملحوظة في قلب عالم يوحده الفكر.
    وبعبارة موجزة نقول إن الغرابة، لا الغريب، هي التي تسمح للإنسان بأن يعرف نفسه وبأن يؤسس النشاط السياسي: أما الغرابة فمن الممكن تحويلها إلى شيء معروف وأن نربطها بذاتنا؛ وأما الغريب فليس من الممكن التنبؤ به وليس من الممكن اختزاله.٥٠
    لا جُنَاحَ على من يجد هذه اللوحة مفرطة في التعقيد إلى درجة تحول بينها وبين أن تكون مقنعة، شأنها شأن كل محاولات التركيب التي يقرر مؤلف هذا الكتاب أنه قاومها حتى في هذه الصفحات الأخيرة!٥١ بل قد يكون من الممكن الحكم على هذا النموذج بأنه يتسم بتبسيط كتبسيط الكاريكاتير الذي يقف منه موقف المُعارض. فخلافًا للكاريكاتير لا يصور النموذج نظام حكم تقليدي وكتلوي وجامد. كذلك ليس هذا النموذج مجرد صورة منسوخة عن الديمقراطية الغربية. فالمنظومات السياسية الشرقية مركبة تستعير مكوناتها من القبائل ومن المدن الدول ومن المَلَكيات ومن الجمهوريات أيضًا. وهي يقينًا تتخذ لنفسها كالواجهة جماعة ملتصقة بأرض ممنوحة من الرب الذي يرسل في تقتير نبوءاته، وهذه الجماعة تعارض تعددية آراء فردية قائمة على العقل يحسم الاقتراع بالأغلبية ما يحدث بينها من مواجهة. وهناك مع ذلك توازنات حساسة تقوم بين عشائر متنافسة تنتقل بوحشية من الخضوع إلى الحرية، من الولاء إلى المقاومة من داخل الأحراش. والبناء التقدمي لدولة مركزية لا يندرج إلا على نحو سيئ في هذه الحركة المستمرة من الاندماج والانفصال.
    fig12
    شكل ٢: مباهج السياسة وويلاتها (في هذه الصورة الفكاهية شخص يمثل موسى وقد تملَّكه الغيظ، فقد دهش لرد الفعل الدنيء الموسوس وقصير النظر من جانب شعبه حيال المعجزة التي حققها لتوِّه عندما حصل من الرب على القوة ليفتح مَعْبَرًا من خلال البحر الأحمر («ماذا تعنون بقولكم: إن به بعض الوحل؟»).)
    وتكوِّن بدويةُ nomadisme السيادة وبعثرةُ الممتلكات وأبويةُ parentélisme الأجور مشهدًا سياسيًّا ليِّنًا تتغير تشكيلاته تغير محسوسًا من بلد لآخر ومن عصر لآخر. ولكن هناك من ذلك خيطًا رفيعًا يربط كل هذه الصياغات الممكنة للتسوية الضرورية بين الأشخاص: في قلب هذه الشبكة من الروابط المتباينة المختلطة هناك قوة موحِّدة لها وجودها، بل إنها تنجح من حين لآخر في أن تستقر على نحو دائم. ويحدث أن نواة المجتمع هذه التي تتسم بأنها سياسية إلى أقصى درجة — حتى إذا كان المجتمع المعنى متشرذمًا ومختلطًا إلى أبعد الحدود — تصل إلى دولة مستقرة استقرارًا يمكِّنها من أن تبقى بعد موت مؤسسيها واضعة حدودًا ثابتة تحد من طموحاتهم الشخصية. أليست هذه هي ما نسميه بمصطلحات حديثة الدولة باختصار، مرتبطة منذ اكتمال مفهومها بالمجتمع المتحضر الذي نعتبره مدنيًّا؟
١  اﻟ «زيجوراتو» zigguratu — بالفرنسية ziggourat — في الحضارة البابلية القديمة معبد على هيئة بناء هرمي مدرج من فوقه مقصورة قدسية لرصد النجوم. (المترجم)
٢  = تشكيلة. (المترجم)
٣  انظر ص٢٦٩ و٢٧٠ من كتاب: Ann M. roth, 1985.
٤  انظر ص٦٥ و١٩٤ من كتاب: Emery, 1961؛ وانظر ص٧٤٣–٧٤٤ من كتاب: Kahl, 1994.
٥  انظر ص٢٢ وما بعدها من كتاب: Menu, 1998 حيث يرى مينو Menu فيها الخطوة الحذرة التي يخطوها أبو قردان، ثم التي يخطوها فرعون وهو يفتش سيرًا على الأقدام على أرضه. ولكن هذا الرمز بدا في عصور تالية على هيئة نباتية لا حيوانية (على سبيل المثال في إفريز دائري محدب على مقبرة حورمحب حيث تظهر أربطة واضحة على فرعي اﻟ A وساقه).
٦  انظر كتاب: Kemp, 1977.
٧  انظر ص٢٩ و٣٧ من كتاب: Baines, 1991 («الصواري تنتمي إلى المعجم البصري للاستبعاد») وانظر كذلك ص٤٥ في الكتاب نفسه. كانت الصواري في الأصل تُرسم بالراية أو باللفائف موجهة من اليسار إلى اليمين، ثم عُكست الراية عندما اتخذت هذه العناصر معنًى إلهيًّا أو ملكيًّا.
٨  انظر كتاب: Schulman, 1988، ويبالغ شولمان فيتكلم عن المكافأة العامة والإعدام الاحتفالي (انظر نقد هذا الرأي عند سيلفا: Joachim Sliwa: CdE, 1993, p. 109–110). من قبل، في زمن الدولة القديمة، كان نشيد سيزوستريس الثالث يربط «رخاء القطر وأمنه بتوسعه» (Derchain, 1987, p. 26).
٩  انظر Kitchen, Ramesside Inscriptions, 327, 11–328, 3 أورد النص فالبيل: Valbelle, 1998. في أبو سمبل رع بنفسه هو الذي يمسك الصولجان «أُواس» ouas (القوة) بيد ويمسك ريشة «معات» Ma’ât (العدل) بالأخرى (Valbelle, 1998, p. 294).
١٠  انظر كتاب: Stadelmann, 1996, p. 22 شتادلمان يشك في أن يكون رمسيس الثالث قد استخدم هذا البناء في أي وقت: فلم تتم منه إلا قاعات الاحتفالات، أما الحجرات الأخرى، باستثناء الحمام الملكي الملاصق لقاعة العرش (انظر كتاب: Grandet, 1993) فلم تزود بمنظومة صرف، وليس هناك أثر لمطابخ. في أثناء حياة فرعون كانت أسرته بلا شك تسكن في الأبراج التي كان الناس إلى يومنا هذا يعتبرونها تحصينات، وكان برج منها للملك وبلاطه وحرسه الخاص؛ وكان البرج الثاني للملكة وحاشيتها (Stadelmann, 1996, p. 29).
١١  انظر D.D. Luckenbill, The Annals of Sennacherib, OIP, 1924، يستشهد به: Garelli, Lemaire, 1997, p. 128؛ وانظر كتاب: Albenda, 1994.
١٢  هناك أمثلة من المصورات تؤكد ثبات هذا الثالوث. وتبين نصوص الدولة القديمة هي أيضًا الملك (النحلة والبوصة) وقد وهب «الحياة» (المفتاح) و«القوة» (الصولجان «أُواس» ouas، عصا مقبضها على مستوى العينين وتقوم على رجْلين) ووهب الصحة الغامرة (من حيث هو كائن بشري الزمن ملك يمينه)؛ انظر كتاب: Lauer, Leclant, 1972 (fig. 15 a, bloc 1, p. 60 et fig 34, bloc 19, p. 72)؛ وانظر كتاب Labrousse, Mauss, 1990, p. 49 (على العمود الغربي من البوابة الجنوبية لمعبد أُوناس نرى صولجانيْن أُواس ouas يفصلان السماء عن الأرض ويحددان حدود مكان وردت به ثمانية أسماء للملك). وهناك تفسير آخر يرمي إلى التشديد على الأصل الرعوي لعصا المروحة والحربة اللتين استخدمتا فيما بعد رمزين للملكية.
١٣  الزراعة التي لا تعتمد على الري. (المترجم)
١٤  indigènes.
١٥  الضعالة = الزواج في داخل القبيلة أو العشيرة. (المترجم)
١٦  تنطق: نابوخودونوصور.
١٧  نظم حكم دينية، إلهية.
١٨  انظر ص٤٣ من كتاب: Grandet, 1993: استنطق رمسيس الرابع والده رمسيس الثالث، فذكر رمسيس الثالث أباه سيتنخت Sethnakt (الذي كان قائدًا عسكريًّا من عامة الناس وأسس الأسرة العشرين) مدعيًا أن الآلهة اختارته «من بين ملايين البشر» بناءً على كفاءاته لا بناءً على أصله ونسبه. أما مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، رمسيس الأول، فكان وزيرًا في عصر الفرعون السابق، وقد أصبح مثل أمينمحات Aménemhat أول ملوك الأسرة الثانية عشرة بعد أن خدم آخر ملوك الأسرة الحادية عشرة مونتوحوتب الرابع Montouhotep IV (انظر ص٢٨٦ من كتاب: Valbelle, 1998).
١٩  انظر ص١١٤ و٢٦٦ و٢٧٠ من كتاب: Grandet, 1993؛ وانظر ص٥٠–٥١ من كتاب: Valbelle, 1998؛ ويُرجع فالبيل إلى التنافس السياسي بين تحتمس الثالث وحتشيبسوت المزايدة الدينية التي يقدم عصراهما أول أمثلة عليها (انظر Valbelle, 1998, p. 286).
٢٠  انظر كتاب: Samuel Finer, 1997.
٢١  انظر ص٤٠٢ من كتاب:Grimal, 1988 وانظر كتاب: Grandet, 1995.
٢٢  انظر ص٢٥١ من كتاب: Grandet, 1993 (كان لبتاح صنم يحظ بشعائر تقديس شعبية في مدينة هابو، معبد رمسيس الثالث الجنائزي) ونرجع إلى ص٢٦٦ (إبان الاحتفال بسوكار Sokar كان الناس يحملون حول الرقبة عقدًا من البصل قبل أن يضعوا باقات من البصل على مقابر أقاربهم) ونرجع إلى ص٢٧٩ (بنى رمسيس الثالث مصلى في ألماظة جنوب شرق هليوبوليس)؛ انظر ص٩٣ من كتاب: Kemp, 19؛ (استعادة تصميم مصلى متنقل مصنوع من الخوص)؛ انظر ص٣٥٣ من كتاب: Grimal, 1988.
٢٣  انظر ص١٧٤–١٧٥ من كتاب: Garelli, Lemaire, 1997 والمؤلفان يصلان إلى حد الحديث عن «حب الآلهة حبًّا حقيقيًّا» في آشور؛ في شأن ديانة البيت عند أهل الرافدين (آلهة البيت، تقديس الأجداد) انظر كتاب: Van der Toorn, 1996.
٢٤  انظر ص١٥٥–١٥٨ من كتاب: Huot, 1987 (نجد هنا دحضًا مقنعًا لمفهوم «الاستبدادية الآسيوية»، وهو دحض قائم على بحوث آدمس Adams)؛ ويذهب جاريلِّي وليمير Garelli, Lemaire, 1997 نفس المذهب على نحو ما نقرأ في ص٢٦٣–٢٦٨ (وهما يلاحظان التشابه مع الإمبراطورية العثمانية).
٢٥  كما لاحظ ذلك أيضًا صامويل فينر Finer, 1997, p. 154، وهو يشدد على مهمة (وظيفة) إعادة التوزيع القومية للحبوب المخزونة بعد أخذها من محاصيل الزراعة المروية اللامركزية؛ ويتحدث كيمب Kemp, 1987, p. 41 عن «الدور المحدود للدولة في الوفاء باحتياجات الأهالي» وعن «المساحة الواسعة المتاحة للمبادرات المحلية لتوسيع قاعدة الاقتصاد».
٢٦  accumulation temporaire.
٢٧  انظر ص١٣٧–١٤٥ من كتاب: Garelli, Lemaire, 1997؛ وانظر ص١١٥ من كتاب: Charpin, 1987 (التربيعة — sibtum قطعة أرض يعطيها الملك لقاء خدمة، وهي تختلف عن توزيع حصص الأطيان على الموظفين، وهي أصغر من الحصص، حيث يقولون عنها إنها «حقل معاش»).
٢٨  انظر ص٢٠٩ و٢١٢ من كتاب: Garelli, Lemaire, 1997.
٢٩  انظر كتاب: Valbelle, 1998؛ وانظر كتاب: Grimal, 1988؛ ويبين فرانكه (Franke, 1991) أنه كان يكفي ألا يُسمَّى أبناء «الولاة» الراغبين في خلافة آبائهم لكي تزول قاعدة سلطتهم. في الدولة الوسطى، إبان حكم أمينمحات الأول وابنه سيزوستريس الأول، لا يجد فرانكه أكثر من ستة من الأعيان المحليين يمكن وصفهم بأنهم ولاة nomarques هم في الحقيقة «عمد» maires ورءوس عائلات لها سطوتها المحلية.
٣٠  انظر ص١٥–١٧ من كتاب: Assmann, 1993 وأسمان يبين أن «التقطيب» و«الراديكالية البناءة» و«التوتر بين التعددية والمركزية» أو «الثنائية الموَحِّدة» تشكل أساسيات الفكر السياسي للمصريين القدماء — وهي، يقينًا، رموز ضمنية من الناحية النظرية، ولكنها على الرغم من ذلك محركات للممارسة «العملية».
٣١  انظر ص٤٩ و١٢٧ من كتاب: lauer, 1988 «كأنما أراد أن يحفر الميثة … على نحو … بلغ من الموضوعية درجة تحول دون الشك فيه»، وانظر ص٧٦–٧٧ من كتاب: Lauer, 1993 (اللون الوحيد الذي عُثر عليه في المجمع الجنائزي لزوسر أو الأصفر المائل إلى الحمرة الذي دهنت به الأعمدة والأسوار والأوتاد والعروق والقواعد المدورة ومصراعا الأبواب المزيفة، إلخ وكانت تتخذ من الحجر أو من الآجر في تقليد للخشب مما يثبت أن هذه الديكورات كانت أصلًا من الخشب أي إنها كانت مؤقتة). أما أن المادة التي قلدوها كانت سعف النخل أو الخوض المضفور ولم تكن على الأرجح ألواحًا طليت بالراتنج فهذا ما لا ينقض هذا الاستدلال (انظر كتاب: Kuhlmann, 1996).
٣٢  انظر ص٣٠٥ و٣١٥ من كتاب: Valbelle, 1998.
٣٣  في فرنسا بعد ثورة ١٨٤٨م. (المترجم)
٣٤  برنامج وضعه الرئيس الأمريكي فرنكلن روزفيلت. (المترجم)
٣٥  يرى مارك لينر Mark Lehner أن كتل الحجارة التي نقلت لبناء معالم الجيزة تطلبت قدرًا أقل من الجهود لأنها بصفة أساسية كانت تقطع على الامتداد الطولي للقاعدة الصخرية التي قامت عليها الأهرامات الثلاثة.
٣٦  hiérarchisée.
٣٧  انظر ص١١٤ من كتاب: Charpin, 1987 (في اللغة البابلية مقاول = إيشاكوم ishakum) وفي ص١١٥–١١٦ (والمقاولون «الإيشاكو» ishaku ثبتوا مركزهم على أنهم خدم إله، لا خدم الملك؛ وفي عصر حامُّورابي كانت صورتهم «صورة مقاولين مستقلين يقومون بخدمات يحتاج إليها القصر، أكثر منهم مديري أعمال في إدارة القصر»)، ص١١٩ (إذا حرص الناس على الإشارة إلى أنهم «تجار» القصر، فإنما كان ذلك لتمييزهم عن التامكارو tamkaru المألوفين، العاديين جدًّا) انظر ص١٣٧–١٤٥ و٢٦١–٢٨٤ من كتاب: Garelli, 1997؛ وانظر كتاب: Diakonoff, 1996 (العائلات الواسعة تملك الأرض على نحو جماعي ولا تزرعها لحساب الدولة، ولا لحساب المعبد) بالنسبة إلى مصر انظر ص١٤٨ وما بعدها من كتاب: Allam, 1998 (والرأي عنده أن الشيئوتي shéouty «تجار بمعنى الكلمة»، بل لعلهم أيضًا «مديرون تجاريون»؛ وأسماؤهم لا ترد على ألواح فرعون) …
٣٨  انظر كتاب: Aurenche, 1982؛ وانظر كتاب: margueron, 1987؛ وانظر Stadelmann, 1996.
٣٩  انظر ص١٣٦ من كتاب: Allam, 1998؛ وانظر مينو Menu في كتاب: Grimal, Menu, 1998؛ كانوا يقدرون قيمة كل سلعة من سلع المقايضة بناءً على وحدة حسابية فضية قابلة للتقسيم، وكانوا يسددون المقايضة أحيانًا بالفضة والزيت ومكيال الحب، إلخ.
٤٠  ويبقى أن السياسة ليست في حقيقة الأمر مقطوعة كل القطع عن الأخلاق والقانون والدين. وهل نحن موقنون من أن السياسة عندنا أصبحت بمرور الوقت مقطوعة عنها، وأن يقيننا يتيح لنا أن نرى في هذه الإكمالية complémentarité علامة على «التماسكية» compacité الفكرية؟ انظر الرأي المفصل الذي يعبر عنه أسمان jan Assmann, 1993, p. 18–19.
٤١  يميز رمسيس الثالث «خطابه إلى الآلهة» بوضوح عن «خطابه إلى البشر» (انظر كتاب: Grandet, 1994).
٤٢  انظر ص٢٦٤ من كتاب: Garelli, Lemaire, 1997؛ وانظر ص٤٤ من كتاب: Durand, 1987 في ماري Mari نجد مكانًا ثالثًا خصص للإدارة هو «بيت ترتيم» bît têrtim أي بيت التدبير.
٤٣  انظر بالنسبة لمصر كتاب: Dreyer, 1991.
٤٤  انظر ص١٥ من كتاب: Assmann, 1993.
٤٥  انظر ص٩٦ من كتاب: Machinist, 1993 («الآشورية» l’assyrianité هي «معرفة المضامين الضرورية لسلوك مناسب في قلب الدولة») وانظر كذلك ص١٠٣ من الكتاب نفسه.
٤٦  انظر ص٧٤–٧٧ من كتاب: Garelli, Lemaire, 1997.
٤٧  انظر كتاب: Ockinga, 1987.
٤٨  انظر ص٤٣ و٦٤ من كتاب: Chevereau, 1991: في بداية الدولة الوسطى دُمِجَتْ قوات الحرس الخاص والقوات الحضرية — التي كانت أعدادها قد تضاعفت أبان «الفترة الوسيطة الأولى» — في الجيش، ووضعت في مواضع اختيرت بذكاء كبير ومنحت ألقابًا اختيرت كذلك بذكاء كبير.
٤٩  انظر كتاب: Beaux, 1990؛ وانظر كتاب: Baum, 1992. لم يكن لدى المصريين أحكام مسبقة حيال المُسَخ، والمعوقين والنباتات الغريبة والعجيبة، إلخ.
٥٠  انظر ص٢٢ من كتاب: Assmann, 1993، وأسمان Assmann يميز تعارض ثقافة مع ثقافة أخرى (إسرائيل)، وتعارض ثقافة مع اللانظام الخاءوس (مصر)، وهو يستشهد في ذلك ﺑ كارل شميت Carl Schmitt («الصورة الملموسة» للبغضاء ليست ضرورية؛ لأن الاقتضاب بين المدافعين عن النظام وبين مسببي اللانظام الخاءوس يتم ﺑ أو بدون صراع حقيقي).
٥١  هناك عدد من المحاولات الحافزة والحديثة التي تستحق على نحو خاص اهتمام المتخصص في السياسة لأنها تأخذ السياسة مأخذ الجد: Grimal, 1988; Kemp, 1989; Raaflaub, 1993; Huot, 1989 et 1994; Vercoutter, Vandersleyen, 1995; Garelli, Lemaire, 1997, Breniquet, Durand, 1997; Garelli, Lemaire, 1997; Valbelle, 1998.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤