الباب الأول
العودة إلى المنابع
ليس الشرق البيئة الطبيعية للاستبداد. ولم تكن لأنانية
خوفو ومطلقية رمسيس وعجرفة نبوخدنصر
Nabuchodonosor١ الضخامة والأهمية اللتان تنسبان اليوم إليهم،
بل كانت أمثال هذه المثالب، على أكثر تقدير، تمثل
استثناءاتٍ مثيرة (استمرت بضع عشرات من السنين على امتداد
خمسة وعشرين قرنًا!) استثناءات من قاعدة لا يدركها الجمهور
الواسع من خلال مقولاته
catégories الخاصة، ونحن
نجد أن قراء الروايات «التاريخية» ومشاهدي الأفلام الحافلة
بالمناظر المثيرة إذ يعتبرون الرغبة في التملك المألوفة في
العالم الحديث سمة عمومية عالمية يَقْبَلون دون مواربة بأن
تَمَلُّك الثروات والأراضي كان الدافع الوحيد لدى كبار
شخصيات العالم القديم. وليس الجهل هنا ناتجًا عن قلة الفضول
الفكري، بل عن إفراط في الانتباه. ولما كان عالَم الكتاب
المقدس مألوفًا لدينا جدًّا، فإننا نظن أننا نعرف ماضي
الشرق العتيق معرفة طيبة.
إلا أن الثقافات السياسية على ضفاف البحر المتوسط، وإلى
حدٍّ ما على الضفاف المطلة على المحيط الأطلسي، لم تتولد من
تراث واحد، بل انبثقت من ثلاثة تيارات كبيرة متمايزة في
ظاهرها، بل من الصعب توفيقها مع بعضها البعض الآخر وهي:
الكتاب المقدس
la Bible
والمدينة
polis٢ والهللينية
hellénisme٣ وقد تشعب كل تيار من هذه التيارات الثلاثة
بدوره، فكان هناك التراث اليهودي والتراث المسيحي، وكان
هناك التراث الإغريقي والتراث الروماني، وكان هناك التراث
البيزنطي والتراث الإسلامي. وجَمَعَ التراث الإسلامي كل هذه
التراثات وقال إنه تمكن من أن يحتويها جميعًا ومن أن
يتجاوزها، فسارت هذه التراثات في غير عجل من آسيا الصغرى
إلى أوروبا، عابرة من شرق المتوسط إلى شمال أفريقيا ثم إلى
الأندلس، بدلًا من أن تسلك الطريق القصير عبر البوسفور.
وكانت هذه التراثات تتكون من مصنفات شعرية فقامت بينها وبين
التاريخ علاقة ملتبسة: كان العصرُ عصرَ سقطات بشرية أرادت
هذه المصنفات أن تتغلب عليها، وكان الماضي بالنسبة إليها
منبعًا مفيدًا للتعليم، ولكنها فضلت أن تستقي منه الأخلاق
على المعارف، لأنها اهتمت بحقيقة دروسه أكثر مما اهتمت
بواقع أحداثه.
ولما كانت هذه المؤلفات من بناء الفكر، فقد أنشأها
مؤلفوها ضد معتقدات زمانها. فنجد فيها مذاهب متعارضة يمكننا
أن نتخيل صراعها بعضها ضد البعض الآخر، ولكنها بقدر
تعارضها، كانت تساند بعضها بعضًا في مواجهة غريم مشترك هو
الشرق القديم.
وكل مؤسسي نظام فلسفي جديد يشاركون في نفور واحد حيال
المجتمعات القبلية النفعية الملتوية. فهم يرون في القَبَلية
أرضًا خصبة للتحزب والمناوأة. ويجدون في التجارة والمساومة
ما يثير حفيظتهم. وبدافع من كرههم التجارة والمتاجرة محا
أربابُ الفكر، حَمَلةُ هذه التراثات الثلاثة، ما وصلت إليه
أيديهم، حتى آثار المجتمعات الأولانية
primordiales٤ لأنهم كانوا على يقين من أن الحلول الوسط تنتهي
دائمًا بصنوف من التورط. وعظَّموا على العكس من ذلك الروح
الدينية والتشيعية في المَلَكيات الشرقية التي امتُدحت
لنزوعها إلى الخلط بين السياسة وبين تقديس الإله، بين تدبير
شئون العمل العام وبين التعامل مع مجال الرب، بين غزو
الأراضي وبين غزو النفوس. ونبذوا من التاريخ التجار
النابهين والأساطين الروحانيين والسياسيين الحصيفين، وركزوا
اهتمامهم على الملوك والكهنة وقادة الجيش ومدبري الخطط كما
نراهم في الكتب المصورة التي اشتهرت بها في فرنسا مدينة
إيبينال
Épinal.
٥
ونحن وقد غشيتنا ثقة ساذجة من خلال قرن من تقطع الصلات
بالفهم القائم على السليقة، اعتبرنا حداثة مملكة إسرائيل
والمدينة الإغريقية القطعية أمرًا مقررًا دون أن نسعى إلى
معرفة أصولها البعيدة. لقد صدَّقنا في سذاجةٍ الفلاسفة
الكلاسيكيين، مطمئنين إلى أنهم قاموا بعملٍ علمي عندما
كبتوا بكبرياء ذخيرتهم الثقافية القديمة من أجل تفسير
العالَم على نحو أفضل، وهو ما زلنا نبذل الجهد يوميًّا من
أجل فعله في حرفتنا. وادَّعى المُدَّعون أنهم سبقوا مشاهير
المتخصصين في تاريخ العلوم من قبيل باشلار
Bachelard وبوبر
Popper أو كون
Kuhn في فهم الفضائل
المفترضة «للمنعطفات القاطعة» أو «الحدود الفاصلة» أو
«الثورات العلمية»، نابذين إلى ماضٍ أسطوري مجتمعات
وُصِمَتْ بأنها كانت متعنتة حيال المداولات والتمثيل
النيابي.
ولنا أعذارنا: فكثير من الكتَّاب المرموقين أساءوا
تقدير التراث الشرقي القديم! إرنست رينان
Ernest Renan مثلًا، وكان
عقلًا كبيرًا في عصره، لم يتردد عن النيل من قدر التراث
الشرقي القديم بكلمات مغرضة مقصودة. في العصر الذي كتب فيه
كان المشهد الاستشراقي يضع على طرفي نقيضين شكلين اجتماعيين
يتسمان بدرجة من الخشونة تساوي درجة اعتدال أشكالنا
الاجتماعية.
«لم يعرف الشرق السامي
sémitique وسطًا بين
الفوضى الكاملة للعرب البدو وبين الاستبداد الدموي العارم.
فكرة القضية العامة، أو الصالح العام لا وجود لها على
الإطلاق لدى هذه الشعوب.»
٦
مثل هذا الحكم القاطع يستند فيما يبدو إلى الاستعمار،
الذي انتهى زمانه من حسن الحظ. ونحن ندين لرجل مسلم هو ابن
خلدون بوصف حركة متأرجحة اتصلت أسبابها بين عنف القبائل
البدوية السافر والفساد المحتوم في المدينة الإسلامية.
وحديثًا بيَّنَ ميشيل سورا Michel
Seurat — الذي سيقع ضحية الهمجية التي ظل
يُدينها بشجاعة — كيف أن تحليل ابن خلدون، العالم المغربي،
ظل حيًّا، يشد الأزر، بين المسلمين السنيين وهم الغالبية في
سوريا، وقد نُحُّوا عن السلطة في مدنهم الجميلة حمص وحماة
ودمشق وحلب. ولم يكن في غفلة عن وجود مساحة عامة في سوريا
كان من الممكن أن يزدهر
فيها النقد قبل عصر الأسد، وكان يرى أن الترويع والإرهاب
كانا من علامات عدم النضج السياسي أكثر مما كانا من علامات
الاضمحلال. وقد ذهب إلى أن الدولة العربية لم تولد بمعنى
الكلمة قط.
«تتميز أصالة الممارسة السياسية السورية بالقياس إلى
بلاد أخرى في العالم الثالث — ونحن نفكر هنا خاصةً في
أمريكا اللاتينية — بأنها ليست شاهدة على وجود دولة، بل
شاهدة في كثير من الأحيان على نفيها … فبعد «كارثة»
désastre يونيو ١٩٦٧م
وانهيار الناصرية، تكونت في المشرق
Machreq علاقات جديدة
للسلطة تأسست على أشكال ولاء سابقة على السياسية هي:
والدولة القبيلة، الدولة الطائفة، إلخ، والأحزاب تعمل مثل
العصابات، والطوائف الدينية مثل الأحزاب.»
٧
وعلى الرغم من فارق زمني يزيد على قرن من الزمان بين
رينان Renan وسورا
Seurat، ومن اختلاف كبير
في المنطلقات، فإن الرجلين يعبران بمهارة عن نفس الرؤية
المتشائمة للشرق. ولكن معيار القياس تغير من أحدهما للآخر؛
فالغرب في رؤية رينان قابعٌ كله في أوروبا، أما الغرب في
رؤية سورا فيمتد إلى العالم الجديد. والاستبدادية التي
يتحدث عنها رينان يمكن أن تكون التحور الحربي للجمهورية
الرومانية، أما الديكتاتورية التي يشير إليها سورا فتكون
الوجه الشاحب للديمقراطية البورجوازية. لم يفهم رينان ولا
سورا الاستبدادية والديكتاتورية على أنها حفظ النظام المدني
بوسائل أخرى. إنهما يتخيلان الاستبدادية والديكتاتورية
تسعيان إلى أهداف أخرى غير أهدافنا، فهما شاهدان مقلقان على
عصر ما قبل تاريخ بائد أثار العنف المتحجر الأحفوري
fossile في ما
ينفرهما.
استبدادية أم فوضى: من وراء ومن أمام السياسة التي
يطوقها هذان الشبحان بطوق من التهديد. كذلك سادت القوة قبل
أن ترتبك السياسة ﺑ «التعويضات»
compensations العصر
السحيق، كذلك في رأيهما أن عصر القوة قبل أن تربكه
«التسويات»، وقبل أن تتلاشى «العصابات» خلف احتكار العنف.
يقول رينان:
«إذا نحن بحثنا عما قدمته هذه الشعوب الساميَّة إلى
هذا الكيان العضوي الحي المتكامل الكبير الذي نسميه
الحضارة، وجدنا أولًا في السياسة أننا لا ندين لها بشيء
على الإطلاق. وربما كانت الحياة السياسية هي أشد ما
تمتلكه الشعوب الهندوروبية خصوصية، وهذه الشعوب الهندوروبية
٨ هي الوحيدة التي عرفت الحرية والتي فهمت
الدولة واستقلال الفرد في وقت واحد.»
٩
دولة قوية وفرد حر: لقد كانت محاضرة إرنِست رينان في
«اللغة العبرية والكلدانية والسريانية» التي ألقاها في
الكوليج دي فرانس في ٢١ فبراير ١٨٦٢ أكثر من درس تمهيدي، بل
قد نعتقد أننا نستمع إلى الدرس الخامس من «دروس علم
الاجتماع» لإميل دوركهايم Émile
Durkheim عن «العلاقة بين الدولة
والفرد»، لو لم تكن أحكام دوركهايم على الإجبار والاستقلال
مختلفة كل الاختلاف.
والرأي عند
دوركهايم بالفعل أن «كلَّ مجتمع استبداديٌّ، وأنه يظل كذلك
إذا لم يأتِ على الأقل من خارجه شيء يحد من استبداده
ويحتويه.» ومن هنا فإن الفروق بين المجتمعات في هذا الصدد
فروق في الدرجة لا في الطبيعة: فمعرفة ما إذا كانت الشعوب
السامية مثلت في يوم من الأيام كيانات «استبدادية أحادية
unitaire كبيرة» كما ادعى
رينان لكي يباين على نحو أفضل بينها وبين الديمقراطيات
التعددية
pluraliste، كلام
فَقَدَ ضرورتَه الملحَّة. وهناك ما هو خير من ذلك: إن القوة
«التي تأتي من خارج المجتمع» وتؤدي إلى تحرر الفرد فيه هي
الدولة، تلك الدولة التي يمكن أن تكون دعامة محتملة
للطغيان، اللهم إلا إذا حُجِّمت بدورها بفعل سلطات وسيطة.
وعندما يختار دوركهايم بين اللاتمييزية الثقيلة في
المجتمعات الأولى وبين البيروقراطية التوحيدية في المجتمعات
الحديثة، يختار الثانية لأنه يفكر في موازنات اجتماعية أكثر
منها مؤسسية: ويعتمد الاتحادات ويراها قادرة على كبح جماح
الإغراءات المطلقية
absolutiste.
١٠
وهكذا يرتهن كل النقاش الدائر حول طبيعة السياسة في
الشرق القديم بطريقة الحكم على عمليتين متعارضتين: من ناحية
عملية بناء دول تنتزع البشر من جماعاتهم الخانقة لتجعل منهم
أشخاصًا؛ ومن ناحية ثانية البقاء الجمعي لهذه الجماعات في
شكل كيانات وسيطة ترد على الدولة الضغط الاجتماعي الذي كانت
تلك الجماعات من قبل تثقل به على أعضائها. والدول الشرقية
الآخذة بالتحديث كانت بالأمس ولا تزال اليوم تتصدى
للانتماءات العرقية التي لا يفلت منها منظِّرو البناء
«القومي» المحليون، لأنهم يعتمدون على جماعتهم الأسلافية
الخاصة في إقامة مجتمع جديد، وتلك محاولة عقيمة ومحفوفة
بالمخاطر ينسحبون منها دون فخار.
والنظامان
البعثيان السوري والعراقي يبينان على أكمل وجه المتناقضات
الحقيقية التي سيكون من مجافاة الحكمة أن نحولها إلى
متنافرات incompatibilités
فلسفية. ولقد أعلن المعلنون مرارًا قرب سقوطهما مما جعل
استمرار بقائهما يثير فضولنا، فنحن على يقين من أن أية
ديكتاتورية وحشية لا يمكن أن تحتفظ على مدى طويل بركائز
شعبية. ولا بد من أن يكون الإنسان قد شم رائحة الرطوبة
الخانقة في أحياء حلب الخائرة في الصيف الملائمة للهمسات
والهمهمات والتقولات المتشددة، لكي يفهم الحاجة إلى الإفلات
من الضغط الاجتماعي، وهو تطلع يؤدي بالمتمردين إلى المنفى
وبالزعماء إلى الانضمام إلى الحكومة. والبديل الماثل أمام
الشخصيات القوية هو أن يهرب الإنسان من عشيرته، أو يقود
مجتمعه أو يهاجر أو يسترسل في التنديد. وأيًّا كان اختيارها
فستتبع هذه الشخصيات القوية مجموعات كاملة، تلك المجموعات
التي كان للشخصيات القوية نفوذ عليها من قبل أن تقرر عدم
شرعيتها! وتلك سخرية التاريخ، إن منازعة النظام الاجتماعي
لا تكون فعالة إلا بفضل نفس البنيات التي تستهدفها، إلى حد
إنقاذها بنقلها من مجتمع الفصائل الضاربة إلى بيروقراطية
الشِّلل. في ظل الأسلوب الوضعي السائد في القرن التاسع عشر
أطلق إميل دوركهايم على مثل هذه اللاتمييزية
indifférenciation
المُطْبِقَة الثقيلة اسم «التضامن الآلي»
solidarité mécanique
مشددًا على سمتها الآلية وعلى سلوك الآلات الأوتوماتيكية
المتطابقة كل التطابق التي تميز هذه الشمولية الاجتماعية
الخاصة بتقسيمِ عملٍ يُمليه الاقتصادُ ويمليه أفضلُ توزيعٍ
ممكنٍ للصفات الفردية.
وفي سياق حوار من صنع الخيال مع إرنست رينان نجد إميل
دوركهايم يمتاز عنه حيث يكتشف وجود السياسة في تجميعه الذكي
للجماعات العتيقة وكذلك في دمجه التبسيطي للاختلافات
الدقيقة. ألا يرجع ذلك إلى أنه يُلحق السياسة بإدارة
التعقيد
complexité بدلًا
من أن يلحقها بتأكيد السيادة
souveraineté؟ ألا يؤكد
بذلك «ما يبدو من تعسف كبير في رفض أي صفة سياسية للمجتمعات
البدوية الكبيرة التي يتسم نظامها أحيانًا بحصافة شديدة»
بحجة أنها ليست لديها أراضٍ خاصة بها؟
١١ نعم. فالمجتمع السوري والمجتمع العراقي
حاليًّا، وكذلك المجتمع المصري القديم ومجتمع ما بين
النهرين فيما مضى، على الرغم من غياب حدود آمنة ومعترف بها،
مجتمعات منظمة بحصافة لم يؤتَها أحيانًا الغربيون الذين
يقفون منهم موقف الملاحظين. والمبدأ الذي يقوم عليه تنظيم
هذه المجتمعات ليس الفوضى البهيجة التي تناسب عصابات
متنافسة متناحرة ولا الاستبدادية الأليمة التي تمارسها
نُخبة دجماطية. لقد نشأت هذه المجتمعات كلها ثمرة توتر خلاق
اتصلت أسبابه بين ضغطٍ قَبَلِي وطموح إلى العمومية
العالمية.
والحق أن مجتمعات الشرق القديم صانت حرية قبائلها
وعشائرها. وقَبِلَ مفكروها — على نحوٍ أفضل من «الشعوب
الهندوروبية» — الجزء اللعين من السياسة المكون من توفيقات
مريبة ومحسوبية مُعَمَّمة: وهو النقيض الكامل لهذا «العالم
الثلجي» الذي يجيش «بنزوات مستبدين اتسمت بالحمق والدموية
وتمرد ولاة وتغير أسر حاكمة»، تلك هي الصورة العكسية لتلك
«الإنسانية الغائبة كل الغياب»، التي تكلم عنها رينان وقال
إنها إنسانية لم تعرف أية «حركة حقيقية وأصيلة من جانب الشعب»
١٢ ومفكرو هذه المجتمعات أقل تعجلًا من اليوم في
تقليص التعقيد عن طريق عقلنته، فقد فهموا أن السياسة ليست
علمًا يختص بالساعات، بل هي معرفة اجتماعية، وأن السياسة لا
تقوم على تنظيم الزمان والمكان داخل دستور جبري بقدر ما
تقوم على ضمان سريانٍ كافٍ للسلطة وللموارد في ظل احترام
لتعاقدٍ تتم الموافقة عليه بحرية ويتجدد المرة تلو المرة.
لقد عملت مجتمعات الشرق القديم في وقتٍ أسبق وعلى نحو أشد
حسمًا من مجتمعات أخرى على تكوين سلطة مرنة رقراقة. وهي
لهذا تستحق اهتمامنا كله.
(١) علم الإنسان السياسي
ضد المصادر الكلاسيكية
علينا لكي نعرف هذه المجتمعات أن نتخلص من شاشة
معلومات القدماء ومن أحكام الفلاسفة الإغريق المسبقة على
البرابرة
barbares
فالإغريق، إذ اخترعوا علاقة ضرورة كاريكاتورية بهم
ارتكبوا في حقهم عن غير عمد أكبر خطأ. فقد اعتبر الإغريق
أنفسهم هكذا أكثر حرية، بقدر ما كانت الشعوب الآسيوية
عبيدًا. فقد أخذوا بالمعنى الحرفي تصريحات جاهر بها
الأخيمينيون
Achéménides١٣ ناسبين لأنفسهم الجلالة «الطغيانية»
tyrannique١٤ على النقيض من التواضع الذي عرف به رؤساء
عشائرهم الحربيون المعروفون باسم «باسِلاي»
basilei١٥ وأقاموا علاقة تبعية ثابتة بين معلوماتهم
العقلانية وبين العلوم الغيبية الشرقية (التنجيم، التنبؤ)
بدلًا من أن يعترفوا بما يدينون به لمصر ولبلاد الرافدين
من ديْن يتمثل في مكتسبات علمية من مصر أو من بلاد
الرافدين. ونجح هؤلاء في أن يجعلونا نصدق أن هيرودوتوس
(هيرودوت) كان أول عالم أعراق — وهو الذي جاء بعد سينوحي المصري
١٦ بقرون طوال! — كما اعتبروا ثوقيديدس المؤرخ
الأول، وهذا أمر ما زال الهيلِّينيستيون يتجادلون فيه حتى اليوم.
١٧ لم يبقَ من الموروث الشرقي بعد أفولهم إلا
«معرفة» باطنية
ésotérique، جرى
إنقاذها بعناية أي عناية من الغرق المحتوم الذي حاق بشعوب
غامضة لها عادات غريبة ومثيرة للحفيظة قيل إن المؤلفين
الإغريق نقلوا إلينا المعلومات الوحيدة المفيدة عنهم.
نقول: «معرفة»
savoir لا
علم
science؛ لأن غالبية
المفكرين الهيلِّينيين لم يرجعوا إلى مصادر عالمهم الذي
أصبح مفرط الكلاسيكية، إلا بدافع من حنين إلى المعرفة
الغيبية
occultisme.
وفيما يشبه أن يكون معزوفة متضافرة الألحان قوامها ما
أدهشهم من مدهشات خداعة يلوح هيرودوتوس (هيرودوت)
١٨ الأكثر بصيرة، إذ نسب إلى المصريين اختراع
الهندسة
géométrie لأسباب
تتصل بالضرائب
١٩ واختراع علم الفلك لأسباب دينية
٢٠ وقال إن المسح العقاري المصري والتقويم
المصري ثبت أنهما أفضل من نظيريهما الإغريقيين. ولكن
هيرودوتوس الذي سجل هذا الكلام المحكم سجل أيضًا بعض
الترهات التي جمعها من رواة من أهل البلد ينتمون إلى عالم
أوشك على التلاشي، وكان بعضهم قد عملوا مرشدين له لقاء
حفنة من الدراخمات،
٢١ ولكن، كما قال عالم المصريات ماسبيرو
Maspero، لو لم يكن
هيرودوتوس ساذجًا «لكانت تلك خسارة كبيرة. فالهيروغليفيات
تنبئنا بأنباء الحقيقة الواقعة … عن خوفو ومن حملوا اسم
رمسيس ومن حملوا اسم تحتمس في عالم الواقع. أما هيرودوت
فينبئنا بما كان الناس يقولونه عنهم في شوارع ممفيس»
٢٢ في العصر المتأخر الذي استطاع فيه أن يسأل
أحفادهم عنهم. ربما سمع منهم ما كان يحب أن يجمعه من
كلام، وهي الخبرة التي كثيرًا ما مر بها علماء الأعراق في
تعاملهم مع مصادر معلوماتهم من أهل البلد؟ إلا إذا كانت
الذاكرة الجماعية قد عملت على تجميد خط هذه الأسرات التي
كان عمرها آنذاك ألفي عام على نحو ما تعمل ذاكرتنا
الجماعية اليوم بالنسبة إلى روما.
(٢) هل نصدق جامعي الأقوال؟
اعتبر البعض هيرودوتوس جامع أقوال وحِكَم عجيبة ممن
يسمونهم بالفرنسية
٢٣ لوجوجراف
logographes وهو مدين
لصياغة كلامه على نحوٍ لا تُسبر أغواره بأنه يأتي بأقوال
الآخرين دون أن يتوسع في الحكم عليها. فهو يدون بهذه
الطريقة ملحوظة مفادها أن المصريين «وضعوا عادات وقوانين
تتعارض في أغلبها مع عادات وقوانين بقية البشر.»
٢٤ وهناك إغريق آخرون انفعلوا أكثر منه حيال
غرائب جيرانهم إلى الحد الذي جعلهم يخطئون فهم نواياهم.
ونكتفي بمثال واحد؛ فالتضحية بالبشر التي نسبوها إلى
الفينيقيين والقرطاجنيين من المؤكد أنها لم توجد قط إلا
في تفسيرهم الخاطئ للشعائر الجنائزية التي كانت عكس
شعائرهم تمامًا. فالجِرار التي كان الفينيقيون يدفنونها
بكل تقوى بعيدًا عن الجبانات العادية كانت تحتوي على رماد
الأطفال الذي غشاه السواد، بينما كانت عند الإغريق تضم
عظام الأبطال التي غشاها البياض. ألم يكن من البديهي أن
تكون الكائنات التي يُضحَّى بها من أجل المجموع، والتي
تساق عبر الساحة العامة بوساطة الكاهن أو الشاعر، وقد
فُصلت عن أشباهها بالموت والدفن، هي الوحيدة التي يتاح
لها أن تتلقى معاملة تطهيرية استثنائية إلى هذا الحد؟
«الموت الجميل» الذي يموته الشاب الإغريقي المحارب الشجاع
الذي تحفظ ذكراه هكذا إلى الأبد، والذي لا ينال من بدنه
شيء من عوادي الطبيعة،
٢٥ يضاد في كل جوانبه التضحية بالأطفال على يد
الشيوخ الفينيقيين الجبناء الذين يدفنون مع البهائم
أضحياتهم البريئة، شهداء تنمحي ذكراهم إلى الأبد لأن
الجرار البونية
٢٦ بلا أسماء. هناك بين «الوصول إلى شباب دائم
لا يبلى» والموت قبل الأوان، تشابهٌ في حياة تقتضب وموت
بشع يضفي على التضحية قيمتها كلها. ومن الممكن أن نرى
فيها أيضًا الهوة التي تفصل مجتمع الأفراد عن مجتمع
السواد: الجثة التي تعذب لم تعد شخصًا، فقد رُدَّت إلى
وحشية الطبيعة المتصلة بالتراب وبالمخلفات الحيوانية التي
يخشى سينوحي المصري مقاربتها كل الخشية. وسينوحي المصري
الذي يشارك الإغريق نفورهم من الموت البربري يخشى أن يتخذ
فراء شاة كفنًا وأن يموت ميتة البدو إذا لم يرجع من منفاه
الآسيوي لتنطفئ حياته برفق في وادي النيل.
٢٧
هذا النفور نفسه أوحى إلى الكُتَّاب اللاتين تفسيرات
سيئة النية، لا تقوم على أساس. فالاكتشافات الأثرية
الأخيرة تقطع أوصال الأطروحة التي ذهبت إلى أن رفات
الحيوانات التي عثر عليها في جبانة الأطفال
le tophet بقرطاجنة
يمكن أن تشهد على ترقيق العادات «الوحشية» الفينيقية،
بينما لم يظهر قط دليل عليها على الساحل السوري الذي هو
الموطن الأصلي للقرطاجنيين. وتندر دفنات الحيوانات في
الطبقات الأحدث من المدافن، بدلًا من أن تزيد بمرور الوقت
لو صحت النظرية التي تقول بأنه يجب أن نرى فيها بديلًا
توراتيًّا biblique
خالصًا، حيث يبدل الطفل بالحيوان، فيكون على الوالدين
التضحية بحيوان قربانًا إذا كانا ممن اتبعوا عادات العصر
التي قيل إنها وحشية. وهناك تفسير أبسط يخطر بالبال: «إن
الفينيقيين فيما وراء البحر يمكن أن يكونوا ضحوا بحيوانات
عند قيامهم بدفن ولدٍ أملًا في ولد آخر: أي إن الوالديْن
كانا يقدمان حيوانًا حيًّا قربانًا في مقابل ولد حي
قادم»، حتى اللحظة التي بدا فيها أن خلط البقايا
الحيوانية والبقايا البشرية لا يضيف شيئًا إلى صَلاتهم.
كان يهمُّهم على العكس من ذلك وإلى أعلى درجة أن يترسخ خط
فاصل قاطع قل انتباه القدماء إليه. كان القرطاجيون يفصلون
رفات البالغين عن رفات الأطفال؛ لأن الأطفال لم ينضموا
إلى المجتمع بعد، فلم يكن من الممكن لهذا السبب أن
يُدفنوا في الجبانات العادية. وهناك جنازات عديدة متزامنة
في الأماكن المخصصة للأطفال تجعلنا نخمن حدوث أوبئة رهيبة
ونرجحها على القول بميتة جماعية بشعة ماتها شهداء.
هل كان في استطاعة المؤرخين الكلاسيكيين أن يفهموا
العادات الجنائزية المختلفة عن عاداتهم؟ كيف كان يمكنهم
أن يعرفوا أن جبانات الأطفال
les
tophets كانت أول مساحات محددة عند
إقامتها في مستعمرة فينيقية جديدة (وهو ما يرجح تقديسها)
وأنها كانت غير منتظمة في شكلها (يبدو أن اضطراب نظام
الأماكن لم يكن يلائم إلا قليلًا التهليل لمجد المدينة
الأصلية وإحياء ذكراها؟)
٢٨ ربما رأوا في هذه المتناقضات دليلًا على
ضرورة اجتماعية عارمة (طلب الحماية الإلهية لسكان مدينة
جديدة معرضة لكثير من الأخطار في مقابل أضحيات إبراهيمية)
تقابل حالات ندم شخصي خواف (تظهر في تغيير فوضوي
للدفنات). وليس من شك في أنهم تصوروا طقوسًا عربيدة
orgies٢٩ بربرية صاخبة حول ألسنة نيران التضحية،
تتبعها شعائر حج خفي ليلي تتصل حلقاتها في أماكن محرمة.
وهكذا تكون جبانات الأطفال شاهدًا على كمال الثنائيتين
الملعونتين في الحضارات الشرقية: الطغيان والفوضى —
التكبر والإذلال.
٣٠
(٣) رد اعتبار الشرق؟
هناك على النقيض من هذه الرؤى الاختزالية للشرقي
٣١ مفهوم أكثر تفتحًا عن «الآخر»
l’Autre تأكد هذا
المفهوم عند بناء علمٍ أكثر تسامحًا للتراث الأنتيكي
science de l’antiquité
أكثر تسامحًا، بل ربما كان مفرطًا في الثناء. نجد الحضارة
في هذه المردة تولد على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط.
كان الإتروسكيون
Étrusques٣٢ «ثوريين»
Thyrrnes أي إذا أبدلنا
الثاء «صادًا» صوريين «أبناء مدينة صور»
Tyriens، وأثينا
بالإغريقية
Athina جاءت
من مصر [بتبديل الحروف] (حات نايث
Hat
Neith = بيت الربة نايث).
٣٣ مثل هذه المسارات لا تؤدي إلى أصول تصوراتنا
أكثر مما تؤدي إلى أصول العالم. ولقد قدم مارتين برنال
Martin Bernal مؤخرًا
الأسس العقلية لفكرة «أثينا السوداء» و«مصر أفريقية» نقلت
إلى أثينا ثقافتها بين «عام ٢١٠٠ و١١٠٠ق.م.»
٣٤ وتدليل برنال خلاب، ولكن تصديقه بلا تحفظ أمر
غير مناسب. وليس هناك شيء أكثر سخفًا من بحثٍ عن الأصول
إذا كان عليه أن يبدل أبوة الإغريق بأبوة حضارة مثالية
أكثر قدمًا. وقد يسوقنا بحثنا عن هوية إلى أن نستخرج من
مكمنها جذورًا أجدر بالتبجيل، ولكن ظمأنا إلى المعرفة لن
يكسب بذلك شيئًا. والشعب الأولاني — الأطلنطيون
Atlantes٣٥ الذين ظن الإغريق أنهم من نسلهم
٣٦ لا وجود له إلا في خيالنا.
ونجد عند المختصِّين في بلاد الرافدين أن إبدال أثينا
بسومر
Sumer مصدرًا للنور
أمر مغرٍ مثل اختراع أطلانطيس (بالفرنسية
Atlantide) بالنسبة إلى
الإغريق، وأفرقة
africaniser أثينا
بالنسبة للمشتغلين بالهيلِّينيات. ومع ذلك فليس هناك نفع
يُرجى من أن نضع العصر الكلاسيكي لفلسفتنا في موضع من
التاريخ أسبق من موضعه المعهود. وعلى الرغم من الأحلام
الخفية التي راودت صامويل كرامر
Samuel
Karmer أو ثوركيلد ياكوبسن
Thorkild Jacobsen،
اللذين فعلا الكثير من أجل تصحيح صورة السومريين، فإن
السومريين لم يعطونا كل شيء. فما الفائدة التي نجنيها من
التدليل على أن الدَّفعات الثلاث الكبار في تراثنا هي
انفصامات وهمية عن الماضي، إذا كان قصدنا أن نخترع
انفصامًا أكثر قدمًا ولكنه عجيب مثلها تمامًا؟ إن مثل هذه
الدعوى ستكون علاوة على ذلك طائشة تمامًا: فمن الممكن أن
تظهر في المستقبل كشوف أثرية في البنجاب
Pendjab تهدم الدعوى
مبينة أن الممارسات السياسية في وادي النيل ووادي دجلة
ووادي الفرات أتت من الممارسة السياسية في وادي نهر
الهندوس
Indus.
٣٧
كذلك لا يجوز
أن نمشي وراء وهم رد اعتبار الشرق في مواجهة غرب تصوره
مصادرنا دائمًا على أنه مهدَّد.
٣٨ إن المواجهة بين الإغريق والطرواديين، بحسب
التفسير الذكي لبيير فيدال-ناكيه
Pierre
Vidal-Naquet،
٣٩ ليس الرحم الذي تخلقت فيه كل اللقاءات
التالية بين الشرق والغرب، الحروب الميدية بين الإغريق
والفرس، ملحمة الإسكندر، منازلة أنطونيوس وأوكتافيوس،
مقاومات كليوباترا ملكة مصر، ثم زينوبيا
Zénobie٤٠ ملكة بالميرة
Palmyre،
٤١ وأطلال بونية
delenda est
Carthago٤٢ أو غزوات عربية، صراعات بين الرومان
والساسانيين، الصليبيين والمسلمين، البيزنطيين
والعثمانيين، الرأسماليين والشيوعيين. وما حرب طروادة في
الحقيقة إلا انتصارًا رمزيًّا: انتصار النظام على
اللانظام، انتصار التنظيم والصبر على البلبلة والاندفاع.
كان لدى الآلهة والقراء ألف سبب للوقوف في صف هيكتور
والآخيين
Achéens،
٤٣ ولكن أخيلِّيوس
٤٤ والإغريق هم الذين انتصروا.
وحرب طروادة أكثر من مجرد صورة علاقات لا محيص عنها
بين الشرق والغرب، إنها تظل المواجهة بين أشكال اجتماعية
متضادة من المرجح أن أقدمها وُجد على الشاطئ الآخر للبحر
المتوسط وبحر إيجة. ويستند هيرودوتوس
٤٥ على شواهد فارسية فيرجع حرب طروادة إلى قيام
تجار فينيقيين كانوا يبحرون إلى مصر باختطاف يو
Io [ابنة الملك
إيناخوس] ورفيقاتها الأرجويات [نسبة إلى مدينة أرجوس
Argos] كان هذا هو
الاعتداء الأول الذي تعرض له الإغريق، وهو الذي استتبع
اختطاف أوروبة
Europê
ابنة ملك صور
Tyr (أي إن
الأميرة أوروبة فينيقية من مدينة صور، على الرغم مما
يثيره اسمها فينا). وأدى أخْذهم ميديا
Mêdeia، ابنة ملك
كولخيس —
٤٦ تلك المنطقة «المصرية» — رهينة إلى إحداث
اضطراب في توازن العلاقات «المتبادلة». ومن أجل إعادة
توازن الانتهاكات الذي اختل قام باريس
Pâris باختطاف هيلينا
Helenê [بالفرنسية
Hélène].
ولم يكتفِ هيرودوتوس بجعل الهيلِّينيين مسئولين عن
حرب طروادة، بل بيَّن أنهم هم الذين أشعلوا نار الحروب الميدية.
٤٧ «ومنذ تلك اللحظة (اختطاف هيلينا) تحمَّل
الإغريق أوزارًا أشد خطرًا. فقد حملوا بالفعل الحرب إلى
آسيا قبل أن يحملها الفرس إلى أوروبا»
٤٨ وليس الإغريق معتدين فحسب، بل إنهم يظهرون
بمظهر رجالِ سياسةٍ تافهين كل التفاهة بينما غرماؤهم
الآسيويون يملكون أنفسهم عند الغضب ويمارسون حق انتقام
محدود. والرأي عند المؤرخ أن الإغريق يعوزهم النضج. ولا
يعرفون السبيل إلى السيطرة على عواطفهم، ولهذا فإنهم لا
يحفلون بالغد. وهم معتدُّون باستقلالهم الذاتي اعتدادًا
عارمًا؛ ولذا فهم لا يعرفون من «قواعد النزال» سوى
الفاعلية الحاسمة. فإذا ما حققوا النتيجة، لم يفكر أحد
منهم في انتقام الخاسرين المحتوم.
واختطاف هيلينا حالةُ اختطاف خالصة، والإغارة على
أسوار طروادة نموذجُ إغارة-حملة مفاجئة خبيثة قامت بها
القبائل ضد المدائن، وممارسة مقدسة للسلطة في حالة
الطبيعية
l’état de
nature ضد السلطة المتحضرة
police٤٩ يقول بيير فيدال-ناكيه
Pierre
Vidal-Naquet:
كل بطل جدير بهذا الاسم أسدٌ، والأسد شخص من
الشخوص المفتاحية في الإلياذة … ولكن هذا الأسد في
الإلياذة كلها لا يواجه نظيره إلا مرة واحدة في
النشيد السادس عشر … والأسد العادي خَطَّاف يخطف
القطعان … وليس عنده على أية حال تمييز بين الليل
والنهار، وليس عنده قواعد للقتال … القوة وحدها هي
التي يُحسب لها حساب. وكان الأسد في جزء كبير من
الشرق المطل على البحر المتوسط حتى وقت قريب صفة يوصف
بها صغار الرؤساء المحليين … في هذا العالم الذي تسمه
الندرة أكثر من الوفرة كان الاستيلاء على قطعان الجار
أكثر حدوثًا من حصار مدينة كبيرة. وليس من الخطل أن
نقول إنه يجب أن نقرأ من خلال السطور فنستشف تحت
منازلات أبناء الآخيين
٥٠ الجريئة غارات هؤلاء «الأسود».
٥١
وهكذا فإن حرب طروادة تدل على شيء آخر غير مغلوبٍ
شرقي، إنها تدل على: عدو دائم، على منافسٍ موجود منذ
الأصول الأولى، على «نحن» آخر، هذا هو العدو الدائم الذي
يجب التخلص منه بغية اللحاق بالحضارة. وربما كان
أخيلِّيوس وأجاممنون وأوليسيوس (يوليس، أوليس) في
الإلياذة
Olysseus, Agamemnon
Akhilleus (أو باريس وهيكتور وإينياس
Pâris, Hector, Aeneas
في الإنيادة)
٥٢ هي الوجوه الثلاثة المتتابعة لنفس البطل، لم
يبلغ منهم إلا الثالث النضج الضروري لسلوك مسلك السياسي
الأريب قاهرًا آنذاك العقبات في سبيل تأسيس مدينة على
أساس متين دائم.
في مواجهة البحث عن نَسَبٍ افتراضي جامع للشرقيين
والغربيين يتسم بكمال أصيل أفسده فيما بعد تصادُمهم
الكوني، يجب أن يجري طرح بحثٍ مضاد أكثر تواضعًا، ولكنه
أكثر واقعية. فالسياسة — عن طريق تغيير موضع الحدود بين
عالم البدو عديم الشكل
informe وعالم المجتمع
المدني المنظم — تجرؤ على الظهور على حقيقتها الواقعة. لم
تكتفِ فالعهود التي ربطت شعب إسرائيل بربه، والمواطن
الإغريقي بديمقراطيته، والأمة الإسلامية بشريعتها، لا
تكتفي بإعلان العقد الاجتماعي: بل وارت في طي النسيان
الوجه الآخر لكل حلف؛ ذلك الوجه الآخر المتمثل في ألوان
من البون بين الحلم والواقع، بين الاقتناع والعمل، بين
المحاولة والخطأ. وهذه مساحة مريبة تصبح فيها السياسة
موالاة، ثم خيانة، ثم تزلفًا، ثم شجبًا، ثم حريةً بلفظ
القانون وعبوديةً في الواقع، واستيلاء القطاع الخاص على
المِلك العام وتلاعبًا عامًّا بالرموز الخاصة. السياسة هي
كل هذا، وأكثر: وهي إذ تحفظ وعينا الجماعي مقوِّضةً
روابطنا الاجتماعية تضمن للمجتمعات البشرية استمرارًا دون
تراكمٍ دائمٍ للسلطة. وهي إذ تحفظنا من الاضطراب الذي
تنتهي إليه حتمًا كل منظومة حية، لا تركز السلطة أبدًا في
أيدٍ قليلة قلة مفرطة. وأيْماننا التي نحلفها أقلُّ
ضرورةً للنظام السياسي من نجاح مخططاتنا «نحن» الصغيرة أو
فشل دسائسهم «هم» الكبيرة. واليوم وقد أصبح من الأمور
المغرية كل الإغراء أن نحط من قدر السياسة وحِرَفِها،
فربما استطاعت قراءة جديدة للحياة السياسية في الشرق
القديم أن تصالحنا مرة أخرى مع ديمقراطيتنا، بشرط أن نقبل
مثالب بكل تواضع.
وإذا نحن صدقنا القدماء الذين أعمتهم الصوفية، وكانوا
أسرى دياناتهم، مصدقين للخرافات، ساذجين بدرجات يمكن أن
نكون قد نسيناها، فلن نستطيع أن نراهم كما كانوا، مثل كل
البشر: واعِين بمصالحهم، متصرفين بدهاء، ومتصلبين في
الوقت نفسه كالعظام في أيديولوجية تتجاوزهم على الرغم من
أنهم أسهموا في وضعها. رجالًا ونساءً نابهين، أو ببساطة
معاندين، متبلدين — وفي بعض الأحيان منفِّرين! — أقل من
أن يكونوا مستكينين بفعل السلطة،
٥٣ قادرين على اللعب بالقاعدة دون أن يقفوا عند
حد معاناتها. رجالًا ونساءً ليست أفكارهم وأعمالهم خارج
نطاق فهمنا، حتى إذا كانوا مختلفين عنا.
(٤) علم الشرقيات ضد الاستشراق٥٤
لدى المتخصصين في علم الإنسان السياسي
anthropologues
politiques في مجال تخصصهم على ما يبدو
حكايات عن الأصول أكثر عددًا من تلك التي لدى المتخصصين
في «الهلال الخصيب» حيث قامت أديان التوحيد الثلاثة
منهجيًّا بمحو المعتقدات الوثنية واضعة الكتب المقدسة
موضع تفسيراتها لمولد السياسة. إلا أن علماء المصريات
وعلماء السومريات وعلماء الآشوريات يعكفون هم أيضًا على
وثائق تتميز بثراء ودقة لم تبلغها من قبل قط، على الرغم
من أن النصوص النبوئية فيما بعد وُهبت نسمة أكثر غنائية
وتماسكًا كليًّا أكبر. وليس وضعهم فريدًا إلا من زاوية
واحدة: فهم بحسب محور اهتماماتهم اللحظية يواجهون تارةً
فقر الوثائق (وبخاصة الدنيوية)، وتارةً أخرى وفرتها
(الملحوظة، في موضوع الدين).
٥٥ وعلى العكس نجد أن الملهِمين الرئيسيين
لفلاسفة الرباط الاجتماعي والدولة (المتخصصين في علم
الإنسان والمتخصصين في الكلاسيكيات) تارةً ضحايا افتقار
إلى أرشيفات (خاصة لدراسة المجتمعات التي لم تعرف
الكتابة)، ونجدهم غرقى تحت كم هائل من المصادر الأدبية
(لمعرفة المدن الدول الإغريقية).
(٤-١) نسأل الشهود
لنطلق اسم علماء الشرقيات
orientologues على
أصحاب العقول النقدية في أيامنا هذه، لكي نميزهم عن
مستشرقي
orientalistes
الأمس الذين كان لديهم الكَلَفُ بالنص أو بالشيء، والحس
الجمالي الذي جعلهم متمكنين من استقبال الشعر والجمال
التشكيلي (وسهولة في أن يفصلوا آنذاك القطعة المثيرة عن
محيطها الذي حكموا بأنه تافه بلا فائدة، فأخذوه في
أحيان كثيرة بغير تدقيق أو هدموه). والمعلومات التي
يحتكم عليها علماء الشرقيات حاليًّا لم تُستقَ دائمًا
من أعمال فنية، ولم تصدر إلا نادرًا عن شخصيات غير
عادية، لها القدرة على أن تتحاور على مر السنين مع
المتخصصين الغربيين في علم الإنسان، أو على أن تقدم
نفسها طوال قرون لمشروعات مؤرخين كلاسيكيين. ولا مخاطرة
فيها إطلاقًا — على الأقل — بتضليل من يدرسونها، خلافًا
«للمخبرين» و«الشهود» المفضَّلين القادرين على أن
يجعلوا تفسيرات قابلة للاستقبال مقبولة، تفسيرات فيها
الكثير من الذاتية بقدر تقديم «المخبرين» إياها على نحو
تلقائي (وهذا من شأنه أن يجعل لها قيمة، وأن يسعد
الباحث أو ينهي أسئلته) أما «الشهود» فقد حفظوها على
نحو انتقائي (حارقين بعضها، تاركين بعضًا آخر دون نسخ،
غير مبقين إلا على تلك التي اعتقدوا أنها جديرة
بالانتقال إلى الأجيال التالية.)
٥٦ أما عالِم الشرقيات
orientologue فهو
يدين بمعلوماته لآلاف من الأشخاص العاديين كَسَت
الحرائق الهائلة ألواحهم بطبقة كالزجاج الصقيل فحفظتها
دون تمييز، وبقيت مخربشاتهم في الصخر أو في برديات
محفوظة تحت الرمال على حالها عندما دونت في ممارسة
الحياة اليومية، في العمل المدرسي أو المهني، حاجات
المحاسبة الخاصة أو العامة، غالبًا دون اعتبار للمكتشف
الأجنبي أو للأجيال المستقبلية. يركز عالِم الشرقيات
الاهتمام أكبر الاهتمام على التحليلات التقنية
للمهندسين المعماريين والمختصِّين في السيراميك
والمشتغلين بحفريات حبوب اللقاح والمختصِّين في علم
الأسماء، وهي أقل خصوبة للخيال من اللوحات التاريخية
العريضة ولكنها كثيرًا ما تزخر بالتعليم.
ولعالِم الشرقيات ميزةٌ أخرى، ألا وهي أن ألفته
بالعالَم المفقود الذي يمثل مجاله أكبر من ألفة عالم
الإنسان بعالَمهِ. فبفضل معرفته بنصوص التوراة سيبدو له
الكثير من أسماء الشعوب أو الأماكن، والكثير من الأحداث
والتواريخ البعيدة أقل غرابة من أسماء العائلات
والتسلسلات الزمنية الهندومريكية أو الأفريقية. وعلى
أسوأ تقدير لن يجد فيها قارئه إلا قدرًا أقل مما يربكه.
ولن تكون هناك ضرورة لتهدئة روعه بمقدمة تذكِّر بأن
الأسماء الأعلام ليس لها معانٍ ضمنية في جوهرها (وهو ما
يسمح بالانصراف عن إيرادها كاملة، سواء أسماء الأماكن
أو أسماء الأسر التي نعجز عن نطقها) وإن صح أنها ضرورية
بالنسبة للمختصين حتى يمكن التثبت من عمل المؤلِّف
علميًّا (فلا بد من
الإبقاء عليها).
٥٧ وعلى أفضل تقدير فإن العليمين بالعربية
والعبرية سيتصرفون مستعينين باشتقاق ساميَّاتي كثيرًا
ما يوضح الغامض، بل إنهم يقومون بمقارنات تقارب بين
مفاهيم هذه اللغات الحديثة ومفاهيم لغة الكتابة المصرية
أو الأكادية، تمامًا مثل علماء الآثار إذ يسمحون
لأنفسهم بمقارنة النصوص القديمة باللهجات الدارجة التي
يتكلمها الناس في مواقع الحفائر،
٥٨ بل سيوغل البعض في ما هو أبعد من ذلك،
فيحتمون ﺑ «علم آثار أعراقي»
ethno-archéologie،
وهو فرع جديد من المعرفة تولد عن ملاحظة التشابهات بين
أسلوب حياة المشتغلين بالحفريات من أهل البلد وأسلوب
حياة المجهولين الذين يكتشفون آثارها.
٥٩
وينبغي أن نسجل أن حجة عالم الشرقيات المشدد على
ألفته بالنصوص يتناقض مع التفسير الاستشراقي التقليدي
الذي تشهد عليه هذه المقدمة التي استهل بها عالم
المصريات الكبير سيرج سونيرون
Serge
Sauneron كتابه عن الكهنة المصريين:
«لكي نفهم مصر القديمة علينا أن نفقد فكرة أن
نجد فيها في وقت واحد ثقافتنا واتجاهاتنا … لقد عاش
المصريون في عالم غريب عن عالمنا كل الغرابة، عالمٍ
كان متقدمًا إلى درجة تثير الدهشة ببعض منجزاته
التقنية … ولكنه كان كذلك بدائيًّا إلى درجة تثير
الدهشة أيضًا فيما يتعلق بالبنيات الجوهرية لحياته
الذهنية … فالبحث في الحضارة المصرية عن صياغة
أولى، لم تبلغ الكمال بعد، للنزعة الإنسانوية —
الهومانية — الإغريقية اللاتينية، خطأٌ، وسعيٌ
عقيم. إنما علينا على العكس أن نفهم أن شكلًا من
الإنسانوية — الهومانية — المستقلة كل الاستقلال عن
نزعتنا الإنسانياتية الهومانية، منبثقًا من مجتمع
بلا رباط مباشر يربطه بمجتمعنا استطاع أن ينتج
أعمالًا تساوي في قيمتها الأعمال التي حفزت عليها
حتمياتٌ أخرى.»
٦٠
هذا الحكم الذي لا استئناف له كان يمكنه أن يدين
سلفًا الكلام التالي، لو لم يكن في المقام الأول موجهًا
إلى السياح الذين دعاهم المؤلف إلى «ألا يقارنوا معبد
الأقصر بكاتدرائيةٍ ما، والفرعون بالملك المتربع
حاليًّا على عرش مملكة، ومدفنًا ملكيًّا بضريح نابليون»
(ولو لم يكن متوازنًا بضروب التشجيع المعكوسة تماثليًّا
من أولئك الذين يبحثون عن آثار النصوص المقدسة
التاريخية). ولكنه لا يمنع المتخصصين، على قلة ما
يأخذون به من الاحتياطات المعمول بها لدى الباحثين
المحترفين، من أن يرفضوا هذا المنظور القائل بالتأثير
الثقافي.
(٤-٢) من الشرق القديم إلى الشرق الأوسط
المستشرق، إذا ما قارنَّاه بالمتخصص في التراث
الكلاسيكي الإغريقي الروماني، ولم نعد نقارنه بالعالِم
المتخصص في علم الإنسان، يظل محتفظًا بميزة: فهو في
الواقع يدعونا إلى أن نتجاوز البحث عن نقاط مشتركة بين
الأنظمة الشرقية وبين الأنظمة الكلاسيكية الإغريقية
الرومانية، مؤْثرًا محاولة إلقاء الضوء على الأشكال
السياسية للشرق الأوسط الحالي من خلال الأشكال السياسية
للشرق القديم.
فالاستشراق يغير عندئذٍ طبيعته، لم يعد السَّلَف
الشرعيَّ للكلاسيكية (ذات التوجه الإغريقي الروماني) من
خلال انقلاب في المنظورات من تلك الانقلابات المتكررة
في تاريخ العلوم انبثق الاستشراق من الكلاسيكية بطريقة
غير شرعية (وهذا أمرٌ استشعره سيرج سونيرون، وهو على حق
في ذلك). كان نظر أجيال من الإنسانويين — الهومانيين —
humanistes الغربيين
منذ سنوات تكوينهم منفصلين عن زملائهم المستشرقين، الذي
تركز على المدينة الإغريقية
la Cité
grecque والجمهورية الرومانية
la République
romaine، يتركز بدوره على الشرق وقد
جرى تحويره إلى أفق ثابت وإلى صور «توراتية». هذا
الشرق، الذي يعتبر التجسيد الأول للفكر العمومي العالمي
universaliste أعلنوه
مقرَّ محاولة ادَّعوا أنها عقيمة كانت تستهدف استعادة
عصر العقل. وزجوا به إلى ماضٍ سحيق له صفات الباروك
baroque٦١ وأُبدل هذا الشرق بشرقٍ أوسط أبصروا به
ابتداءً من الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط، يتسم من سمات
الأسرار والفتنة في نظر الإنسانويين بما اتسم به في
ماضي الزمان في نظر الإغريق. عالم صورته الأحلام … سراب
علمي … وهمٌ سياسي: هكذا أصبحت المنطقة منذ القرن
التاسع عشر كل هذا كما يبين كتاب إدوارد سعيد الممتاز
عن الاستشراق بحميَّة ومبالغة.
وليس في إمكان عالم الشرقيات أن يستبعد بكل بساطة
حجة لا قياسية
incommensurabilité
التصورين، التصور الغربي والتصور الشرقي؛ لأن الفلسفة
الإغريقية وأقوال الأنبياء شكلت بنية التراث الذي
انتقلت إلى المتخصصين في الشرق الأوسط. فليس الرجوع إلى
المصادر القرآنية والتلمودية والإنجيلية بغية العثور
فيها على مبادئ الحقيقة قاصرًا على أنصار الحكومة
الإلهية المنظمين وحدهم. فالعلم نفسه تحرِّكه هذه
الحركة الرجعية بالمعنى الحرفي للكلمة: فها هم أولاء
يذهبون إلى أن الكتب المقدسة تفسر كل شيء دون أن يدركوا
أن هذه القضية (النافلية دينيًّا إلى أبعد حد) لا يمكن
البرهنة عليها إلا بمصطلحات عقلية لا روحانية. وليس من
الصعب أن نتصور المصير الذي يهدد التاريخ الذي كان
دائمًا يُتهم بأنه يحيط الوحي بعلم الباطن. وهذا هو
عالم الشرقيات الذي حام حوله الشك من قبل لافتقاره إلى
الواقعية التاريخية، يدان بالإغراق في المادية.
وتاريخ ما قبل الإسلام في نظر المسلمين أنفسهم
«تاريخٌ مستهجن» أو «ذاكرة مستحيلة» كما تقول جوسلين
داخليا
Jocelyne
Dakhlia٦٢ والبحث عن «آثار نبوئية» مبشرة بالنبوة
تضفي على الماضي قبل الإسلام شيئًا قليلًا من التشريف،
ولكن هذا الماضي يخرج محوَّرًا قد حوره التاريخ تحويرًا
شديدًا؛ ذلك التاريخ الذي أراد لنفسه أن يكون رجوعيًّا
régressive، فلم يصل
إلا إلى أن يكون تراجعيًّا
rétrospective. وهكذا
نجد بعض المسلمين يُمَوقِعون طوفان نوح في شمال أفريقيا
(أي في المنطقة التي يضمها المؤلفون الأنجلو أمريكان
إلى الشرق الأوسط
Middle
East) ويذهبون إلى أن سفينة نوح جنحت
عند جبال الريف في المغرب، وأن منطقة نَفطة — وهي
حاليًّا تونسية — كانت أول منطقة برزت بعد انحسار
الطوفان، ويقال إن نَفطة
Nefta كان لها «مرفأ»
خرجت منه فيما بعد زرافات الحجيج الأتقياء إلى مكة.
ويقولون إن برج واحة تَوزَر
Tozeur بناه أحد
العمالقة (عماليق التوراة)، ليكون نسخة من برج بابل، بل
ومن «صرح فرعون الذي كان يريد له أن يعلو ليبلغ رب
موسى». في كثير من الأساطير الشعبية المغربية يملك ملك
مصر النمط الرمزي للتعالي، على نحو ما جاء في التوراة
وفي القرآن اللذين يرسمان لفرعون صورة نكراء وكافرة.
والثنائي الذي يكونه فرعون مع امرأته «آسيا» — التي
تعتبر في نظر المسلمين أفضل نساء العالمين بعد «مريم» —
يمثل على نحوٍ استعاري التضاد بين رجل محكوم عليه
بالعذاب يرمز إلى الجبروت والظلم وبين امرأة ضعيفة،
صديقة للضعفاء، يحبها الله … «تمثل الإيمان الصادق». من
تحت هذا التضاد الكلاسيكي بين المستبد الأعمى وبين
العبد البصير، نتبين دون مشقة حكمًا مسبقًا واسع
الانتشار، يقسم الجنس البشري بين رجال سماويين، أسسوا
سلالة نسب، ونشروا دينًا، وبين نساء من أهل البلد،
وأمهات همجيات، معبودات بدائية،
٦٣ كما نتبين وجهًا آخر للاستشراق يبرر موضوعه
(دراسة الشرق القديم قبل الإسلام) وعلى الأقل يبرر
المنهج (تنميط
stéréotype الاستبداد
الشرقي).
ها نحن نرى أن تاريخ السياسة في الشرق القديم إذ
تعاد كتابته ليس مجردًا من الفخاخ. هل تستحق المخاطرة
بمعالجة حقبٍ سابقة على تنزيل الأديان السماوية الكبيرة
معالجةً ضد التيار الهوماني من ناحية، وضد هوى
المستشرقين و«الشرقيين» من ناحية ثانية، العناء الذي
يتطلبه خوض غمارها؟ الإجابة بديهية: إننا عندما نقبل
خوض غمار هذه المخاطرة نستطيع أن نعيد للشرق القيمة
العامة العالمية التي يضمها بين جوانحه. والمقاربة بين
الماضي البعيد أشد البعد وبين الحاضر المتأجج أشد
التأجج، إذ ننأى به عن التهمش في مقولة «استثنائية» أو
مغبرة، تُظهر في حركة واحدة استمرارية الأسئلة وتنوعية
الإجابات على المشكلات التي تطرحها السياسة على جانبَي
البحر المتوسط. إنها تبين أحيانًا التشابهات المقلقة
بين الابتكارات الشرقية في الماضي وبين الأشكال
السياسية الحاضرة التي يبدو عندئذٍ أن تطويرها جاء ثمرة
جهد ديناميكي محلي أكثر مما جاء ثمرة استيراد مؤسسي.
إنها تدعونا إلى أن نكتشف دون حكم مسبق ما فينا من أرفع
درجات الإنسانية: لا نقول مقولاتنا الإدراكية
catégories de
perception المبتناة من خبرات منوعة،
بل نقول قدرتنا المشتركة على أن نقف موقف الفاعل المفكر
مكوِّنًا على نحو حر العالَم من حيث موضوع للنظر ومجال
للحكم.