وكان من الضروري أخيرًا إنشاء مجتمع دائم انطلاقًا من
قرى وقبائل. وقدَّم المصريون — عند الانتقال من نظام
العائلات والعشائر المنزلي إلى النظام السياسي للمؤسسات —
الدليل على دهاء هائل تمثل في فرض نظام اعتلاء العرش
بالخلافة من خط نسل مباشر، دون صدام، بمجرد تحوير المنظومة
العشائرية التي يتوالى فيها أنصاف الإخوة على السلطة (وهو
نهج لا يزال متبعًا في المملكة العربية السعودية
والكويت).
فالأخ، أو على الأصح العم، هذا السند الذي لا محيص عنه
لكل منظومة قرابة، هو المحور الذي دار حوله فيما مضى مستقبل
ذلك الشكل من التنظيم الذي أطلقنا عليه فيما بعد اسم:
الدولة. وليست الدولة هي فقط مجموعة قواعد إجرائية وهياكل
مؤسسة. فهي إذا استندت أيضًا إلى المؤسسة العائلية لم تكن
سوى التحور الذي تحورته هذه المؤسسة العائلية: فلكي تولد
دولة لا بد — بادئ ذي بدء — من ألا تظل القرابة فيها خاضعة
للقواعد القبلية. وسرعان ما خضعت مجتمعات الشرق القديم إلى
توتر شديد بين تنظيم فيدرالي لخطوط تناسل أبوية
partiarcal وبين تجاور
قومي لعائلات أصهار أمومية
matriarcal. والميثات
mythes الرافدينية توضح
ذلك إذ تضع تَطَرُّفَيْن في وضع التضاد على طرفيْ نقيض، من
ناحية تطرَّف الانغلاق عندما يقضي الملك الإله (إرَّا
Erra) في خلوة قصره
الحميمة الوقت بطيئًا كسولًا مع زوجته الشرعية بدلًا من أن
يقوم بمهام منصبه في العلن؛ وتطرَّف الانفتاح عندما يأخذ
بربريٌّ (إنكيدو Enkidu،
قرين الملك المواطن جلجاميش) نفسه بالتحضر فيتزوج في السهوب
عاهرة من الحضر. هاتان القصتان تنتهيان إلى خلاصة أخلاقية
مزدوجة، ألا وهي أن: الحب أفضل على أية حال من الحرب ولكن
مصاهرة امرأة أجنبية (حتى لو كانت قليلة الفضيلة) أنسب من
الزواج بامرأة قريبة (حتى لو كانت زوجة شرعية). والزواج
بامرأة أجنبية أفضل وسيلة لتفادي الحرب مع الخارج.
أما إذا زوجوني ببنت أبعد درجةً من ناحية القرابة (ابنة
خالتي، أو تشاركني الجد أو الجدة) أو بعيدة القرابة (أو
مجهولة تمامًا)، فإنني بذلك أصاهر عشائر أخرى. وأرضى بألا
تُغسل ثيابي المتسخة من بَعد في العائلة (غالبًا، ولكن ذلك
أمر بلا خطورة بصفة عامة)، وأقبل في المقابل بأن أرفع
خلافاتي إلى عائلتي بالمصاهرة (وهو أمر أقل ورودًا، ولكنه
يتسم بمزيد من العنف عندما لا يكون هناك سبيل لتفادي
النزاع). فمَن يبقى في منظومة قرابة بسيطة يجد نفسه محكومًا
عليه بأن يدبر أمره وحده، وبأن يكون عليه ذات يوم أن يبرح
أرضه تفاديًا لجيران غير مرغوب فيهم. أما مَنْ يأخذ بمنظومة
قرابة مركَّبة، فإنه يحسم أمره على أن يتفاوض وعلى أن يعيش
بجانب أولئك الذين بينه وبينهم خلاف، وأن يجد وسيلة لتقسيم
الموارد الجماعية، وأن يضمن قدر المستطاع استمرار بقاء
الحلول الوسط أو العقود أو المعاهدات. ويصبح من المُلِحِّ
أن تُبتكر قواعد عمومية عالمية ومقننة للحكم في المنازعات
ما دامت المبادئ التي كان الفصل في المنازعات يتم باسمها
تتغير من مجموعة إلى مجموعة أخرى من البشر. وبدلًا من الثقة
في شيوخ القبيلة وما حفظته ذاكرتهم من حالات مشابهة، لا بد
من اللجوء إلى محكمة لا نعرف كل أعضائها: فلا تأتي أحكامهم
متأثرة بضغوط عاطفية.
وإذا لم تكن الكائنات الاجتماعية قد قاربت التناقض،
فإنها لا تعدم الرغبة في أن تترك لورثتها ميراثًا يكون لهم
عليه سلطة في مكانهم المنزلي على الرغم من وزن المؤسسات
العامة المتزايد في الاقتصاد. ويبدو أن الأوقاف الخيرية
التي كانت تقرر للأجيال المستقبلية حق الانتفاع المشاع
بعائد رأس المال استجابت لهذه الرغبة. ولكن الظاهر كان
شيئًا، والحقيقة شيئًا آخر، فقد أدى تضاعف أعداد المستحقين
جيلًا بعد جيل إلى ذوبان الثروة الخاصة في القطاع العام، أو
ربما حدث العكس عندما تكون هناك هبة عامة يتبدد رأسمالها
شيئًا فشيئًا عن طريق التملك الشخصي.
(١) عائلات الأصهار
لكي نعرف إذا كان مجتمعٌ ما قد اعتبر أن الزواج
المثالي عنده (وإن لم يكن بالضرورة هو الذي يُمارَس، أو
لم يكن هو الغالب) الزواج بين الأقارب أو المصاهرة
الحقيقية، فلا بد من أن نجد وثائق عن هذا الموضوع.
والتوراة شاهد قيِّم على عادات الزواج التي كانت قائمة في
المنطقة منذ الألفية الثالثة ق.م. والتوراة في تشديدها
على تاريخ نسل إبراهيم الأوائل تبين ضرورة الزواج
الاغترابي
exogamique
للخروج من الدولة القبلية وتأسيس دولة عصرية. والزواج من
بنات الخئولة — من ناحية الأم — وهو أقل تقليدية من
الزواج من بنات العمومة من ناحية الأب، كان يتحاشى في
فترة أولى الزواج من أجنبيات كاملات. وفي فترة ثانية جعل
من الممكن الزواج منهن. وامرأة إبراهيم سارة التي كانت
عاقرًا دفعت زوجها إلى أن يأخذ في حضنه «جارية مصرية» (أي
أجنبية بعيدة بعدًا مضاعفًا). وولدت هاجر إسماعيل، وسيعيش
أولاد إسماعيل في ديار وخيام على تخوم مصر مع اثني عشر
رئيسًا «حسب قبائلهم»، وكل واحد منهم في مواجهة أخيه
مستعد للهجوم عليه.
٦ وليس من الصعوبة بمكان أن نرى في ذلك أمثلة
على تصرفات بدوية. وسارة التي أتيحت لها فرصة الإنجاب
متأخرة أعطت بعلها الشيخ ابنًا آخر هو إسحاق. ولقد تزوج
إسحاق فيما بعد واحدة من بنات عمومته يشاركها في الجد هي
رفقة (حفيدة عمها)،
٧ التي ستلد عيسو ويعقوب. وفعل عيسو كما فعل
جده إذ تزوج أولًا امرأتين حيثيتين جعلتا الجو في بيت
والديه عسيرًا. ثم اتبع مثال جده فتزوج امرأتين:
«مَحْلَةَ ابنة نبايوت
٨ و«بسمة»
٩ أخت نبايوت». أما يعقوب، فهو على العكس،
يختار للزواج راحيل وليئة، وهما ابنتا خاله لابان الذي
لجأ إليه عندما أحس بأن أخاه التوأم يبيت النية للانتقام
منه لأنه جرده من الميراث الأبوي. وعمل في العائلة التي
صاهرها على زيادة القطعان بفضل إدارة ذكية واعية محنكة،
وسبق بذلك ابنه يوسف الذي سيشتهر في بلاط فرعون فيما بعد
مؤسسًا للإدارة الرشيدة وزوجًا لأميرة مصرية. وبعد سنوات
من المنفى عاد يعقوب إلى بيته وسرق عائلة أمه واستولى على
أملاكها (حسب ما جاء في التوراة). ولم يبقَ لنا لاستكمال
عرضنا هنا إلا أن نجعل من اثنين من ذرية يوسف البعيدة هما
داود وسليمان مؤسسي مملكة إسرائيل عن طريق ممارسة التحالف
بالمصاهرة مع الدول الأجنبية التي طمعا في نسائها (حسب ما
جاء في التوراة).
١٠
وهناك نصوص أخرى لها قيمة تاريخية أكثر توثيقًا.
والمعلومات التي تقدمها إلينا تبين — باستثناء زواج الأخ
بأخته المحظور في كل مكان إلا في مصر التي كان فيها
استثنائيًّا — أن الزواج بين أبناء العمومة المشتركين في
الجد كان يضمن في الشرق القديم (وفي الشرق الأوسط إلى وقت
ليس ببعيد) أكبر درجة من قرابة دم ممكنة بين كل أشكال
الزواج المتاحة في داخل عائلة كبيرة. وكان أهل الرافدين
يمارسون هذا النمط من الزواج بنفس النية: الحفاظ على
الميراث في نفس «الدم» («دمو»
damu بالأكادية
وبالمصرية، و«دم» بالعربية) في هذا السائل الثمين الذي
منح الإنسانية الحياة. ولقد حاول المصريون، من ناحيتهم،
أن يربطوا هذا المبدأ بمبدأ التحالف بالمصاهرة، فكان من
الممكن أن يجري الدم ثنائيًّا، وهذا ما لا تستطيعه
الجينات (كا
ka) التي لا
ينقلها إلا الأجداد الأبويون وحدهم.
١١ ولم تكن زيجات «الإخوة» و«الأخوات» في أكثر
الأحيان إذن إلا إشارات مرجعية إلى الزيجات الأولانية بين
التوائم والزيجات التاريخية لأبناء العمومة المشتركين في
الجد من ناحية الأب.
١٢
وهناك على الرغم من ذلك زيجة من هذه الزيجات السفاحية
«الأخ أختية» تنوء بوطأة ثقيلة جدًّا على أصول الدولة.
نجد أن الصفة الأولى التي وُصف بها ست
Seth — وست هو عم أو
خال حورس — متباينةٌ، فابن أخيه أو أخته حورس كان يعتبره
عمًّا كما كان يعتبره خالًا (لأن أوزيريس تزوجته أختهما
المشتركة إيزيس). فإذا وصفه بأنه عمه فمعنى ذلك أنه يحفظ
التقاليد القبلية للشعوب السامية. أما إذا وصفه بأنه خاله
فمعنى ذلك أنه يتجاوز هذه التقاليد القبلية. ونجد في فترة
أولى أن الميثة
mythe الأوزيرية
١٣ تبين قوة المنظومة القبلية. فأقدم صياغات هذه
الميثة تجعل من حورس وست ابنيْ رع: أي تجعلهما أخوين، أما
أحدث الصياغات فتجعلهما عمًّا وابن أخ (أو خالًا وابن
أخت). وهذا التغير رئيسي: فبدلًا من أن تجعل السلطةَ على
مصر الموحَّدة لأصغر الأخوين عند موت الأخ الأكبر البكر،
١٤ تميز الأسطورة
légende ابنه، مقيمة
نظام الخلافة على أساس حق البكورية بين الأب
والابن.
ولكي يقنع كاتب الأسطورة جمهوره بأن الفرع الأبوي
والفرع الأمومي مهمان كلاهما بنفس الدرجة، يبدأ الكاتب
بجعلهما متكاملين، مثل التمييز الذي يأخذ به العرب إلى
اليوم بين: دائرة العاطفة والمحبة والتسامح (الخال، عائلة
الخال) وبين ضدهما: العالم السلطوي والسياسي على نحو فائق
(العم
amm’ عائلة العم).
فغرام إيزيس يتسم في أداء دوره بسمة الرومانتيكية، وبخاصة
لأن أختها نفتيس تساعدها في الخفاء، وأختها هذه هي زوجة
القاتل التي شانها الخزيُ والعار. والربة إيزيس تُقدَّم
على أنها نائبة أوزيريس العطوفة والمتمكنة التي صدعت
بالحكم في أثناء رحلته الطويلة التي قام بها من أجل
مَدْيَنَة العالم
civiliser le
monde، بعد أن أنشأ نظامًا سياسيًّا
وأقام عبادةً دينية في بلاد الفراعنة. وهي تحس بالشفقة
حيال ست
Seth عندما وقع
ضحية شعوذة سحرية دبرت لصالح حورس في معركته العارمة ضد
عمه. وصارح ست إيزيس بحجة نهائية ليحصل على العدل فقال
لها إنه «أخوه من رحم واحد»، مُنَوِّهًا بأنهما ولدتهما
أمٌّ واحدة (هي نوت
Nout
التي تمثل السماء). ولكي تكون مرافعته أكثر إثارة للشفقة
وتتخذ بمزيد من الوضوح موضعها في منظومة النسب الأمومي،
يسكت عن أنه كذلك عم حورس. وعندما يسأل إيزيس لماذا «تفضل
الغريب على خال ابنه»، لا يتصور أنه يصدم أخته عندما يصف
ابن أخيه بهذه الصفة (وهو يجيب بنبرة منحازة للنسب
الأبوي: «هل ينبغي أن يوكل المنصب إلى الخال عندما يكون
ابن الميت حيًّا؟»).
١٥ أمَّا أن العم نفسه يعامل حورس على اعتبار
أنه غريبٌ فشيء لا يمكن فهمه إلا إذا كان حورس تزوج
غريبةً (ليست معروفةً في النص، ولكنها يقينًا من البشر
وليست من الآلهة، وهي ما يبرز البعد عن الأعراف السماوية)
بدلًا من ابنة خاله التي يشاركها الجد من ناحية الأم
(التي لا وجود لها مطلقًا في الأسطورة).
١٦ وهكذا يكون حورس-حورسماتاوي
(
Horus-Horsmatawi «ذلك
الذي وحَّد القطرين») الموحِّد الميثي للمملكة هو مؤسسها
لأنه يكون أول من فصم عروة الزواج بالأقارب إذ لم يخشَ
أشد أنواع الزواج الاغترابي بعدًا.
١٧
(٢) قُطران ومنظومتان للقرابة
يستند النظام الفرعوني للدولة في وقت واحد على
الأعمام وعلى الأخوال، نظرًا لأن مصر تتكون من مجتمعات
قبَلية ومجتمعات قروية، فقد صُنعت من «قطرين» يدبر أمرهما
«سيِّدان» nabawi (هما:
حورس وست). والأيديولوجية الفرعونية توفيقية، توفق بين
مصالح البدو ومصالح الفلاحين، ولكنها مع ذلك تميز مصالح
الفلاحين غير قليل. وأصبح الزواج الاغترابي على مر الزمن،
سواء عن قبولٍ أو على مضض، لغةَ المدينة المشيدة ضد لغة
القبيلة الأصلية، على عكس جزء من الواقع (وقد استمر
النظام القَبَلي في قلب القرى التي حفظت المنظومةَ
السابقةَ على تسكين العشائر التي تكوِّنها). وبينما كانت
الطاقة الحيوية مركزة في هذا المكوِّن من النفوس التي كان
المصريون يسمونها «كا»، فإنها لم تكن تنتقل فرديًّا من أم
إلى أبنائها البيولوجيين، بل كانت تنتقل جماعيًّا من جيل
من الآباء إلى الجيل الذي يليه، منذ جاء أولُ مانح اسمٍ،
هو «المؤسس الميثي
mythique» المذكَّر
لتسلسل الذرية وهو «تشخيص
personnification
استمرار قوة الحياة الإلهية عبر أجيال لا تعد ولا تحصى في
حضن عائلة واحدة، فهو يربط أعضاء العائلة بعضهم بالبعض
ويضمهم على خط مباشر يصعد إلى الأجداد الأولانيين»
Primordiaux. وهجرة اﻟ
«كا» الجماعية بين الأجساد التي تسكنها مؤقتًا يعيد هكذا
عند كل ميلاد معجزة «الخلق» على يد إله خنثوي. ومن هنا
يستطيع كل واحد أن ينسب نفسه إلى جد إلهي، وهذا شكل من
أشكال الخلود (حتى وإن كان خلود «القديم» المؤلَّه في
سلسلة الذرية) كما يفعل فرعون بالضبط.
وفرعون يتلقى سلطته من اﻟ «كا» الملكية التي يجسدها
شعائريًّا عندما يُتَوَّج، وفي مطلع كل عام جديد، وإبان
كل يوبيل. ويتم «النقل الميتافيزيقي» لجزء من هذه «المادة
الجينية» الثمينة من «الأب» (الإلهي) إلى «الابن» (الذي
أصبح وسيطًا بين الرب وبين البشر)، في حضن «العشيرة
الفرعونية المتخيلة ذات التسلسل النسلي الأبوي». وهناك
ملوك كثيرون لم يكونوا ينتمون إليها بيولوجيًّا، وهو ما
كان يدفعهم إلى الارتباط بها دينيًّا عن طريق شعيرة اﻟ
«كا» الخاصة بهم، وسياسيًّا باﻟ «كا» الخاصة بأبيهم وجدهم
من ناحية الأب، وفي بعض الأحيان باﻟ «كا» الخاصة بأب وجد بالتبني.
١٨
تحت صورة صاحب اللوحة وهو يصلي إلى أوزيريس (فوق، إلى
اليمين) نرى: في الصف الأول، من الشمال إلى اليمين، زوجته
ثم أمه ثم جده من ناحية الأب: وفي الصف الثاني تحت نرى
الأب يليه إخوته الثلاثة (أي الأعمام).
ونحن نقيس هشاشة الحل الوسط الفرعوني اعتمادًا على
ضروب التفضيل التي تتكشف تاريخيًّا من خلال المرشحين
للعرش والمصريين المرموقين الذين يسجلون شجرة نسبهم
ويعرضونها في معابد أو مقصورات جنائزية.
١٩ وأشجار أنساب العائلات الملكية التي بين
أيدينا — على الرغم — من حالتها المجتثة — تحفظ أثر مفهوم
التسلسل النَّسَبي الأبوي. في عصر الأسرة الثالثة عشرة
(وهي في الحقيقة من أصل آسيوي) تسجل لوحة جنائزية لإحدى
الملكات — خايسينيبو
Khaesenebou — قائمة
أولاد عمومتها وتسكت عن أسرة زوجها الذي كان فرعونًا. لا
تذكر خايسينيبو
Khaesenebou زوجها بل
تذكر بدلًا منه «عمها» وتتبعه بوالديها.
٢٠ وينطبق نفس الكلام على العائلات الليبية أو
الإثيوبية حيث يتتابع الإخوة، إن لم يكن ابن أخ لهم اعتلى
العرش، وهو ما يحدث أحيانًا. أما الرعامسة الذين كثيرًا
ما اتبعوا حق البكورية — أي حق الابن البكر في الخلافة —
فلم يشذوا عن هذه القاعدة: فكان رمسيس التاسع نفسه ابن أخ
في تسلسل أبوي يرجع إلى رمسيس الرابع.
٢١ وهناك حامل لواء من الدولة الحديثة، «بطل
متواضع» في الصعود الاجتماعي، يصور نفسه ببساطة وسط
والديه، وزوجته وخليلته، وأولادهما، ولكن دون أن يغفل عن
ذكر أحد إخوته المتوفين هم عم ذريته.
٢٢ ونجد بين الموظفين عديدًا من الممارسات تشهد
على استمرار شعبية العادات التقليدية. واستنادًا إلى ألفي
نص شملها تحليل لغوي انطلاقًا من ١٦٠٠ لوحة (وكذلك ٤٥٠٠
من المخربشات) نتبين أن منظومة القرابة المصرية التي
ترتسم خطوطها أمامنا لا تشبه التحديد الميثي
canon mythique. وهذه
بعض الأمثلة: اختيرت قياسًا على درجة دقة الكلمات
المستخدمة، التي كثيرًا ما يكتنفها من الغموض المفرط ما
يحول دون إمكان التمييز بين الجانب الأمومي وبين الجانب
الأبوي، أو التمييز بين الأجيال.
٢٣ فبينما يظهر على السجل العلوي من لوحة حوي
Huy رمز اسم حوي الأب
patronyme أمام اسم
ابنه، يظهر على السجل السفلي رسم اسم أبيه هو قبالة اسم
عمه. وعلى لوحة أخرى،
٢٤ يرد ذكر صاحبها في آخر السطر، مثل كل واحد من
أصحاب أشجار الأنساب عندنا الذين ترد أسماؤهم أسفلها.
وشجرة النسب في هذه الحالة المطروحة هنا مبتورة: ليس هناك
توازن بين خط النسب الأبوي وخط النسب الأمومي نظرًا لأن
خط النسب الأبوي جاء التنويه به أولًا. أما خط النسب
الأمومي فقد جاء ذكره في شخص الجد من ناحية الأم فقط
(فالأجداد الأُوَل من ناحية الأم أُغفلوا). ثم إن الجد
المذكور من ناحية الأم لم يربط بزوجته، أي الجدة من ناحية
الأم — وهي نفسها لم تذكر في القائمة — بل ربط بأخيه،
الخال الأكبر لصاحب اللوحة النذورية. ومن الأمور التي
تثير الدهشة كذلك أن نفس الشخص يتخذ في السجل السفلي وضع
الوقوف، وهو يؤدي شعائر تقديم القرابين إلى الإله، تحت
نظر إخوته وأخواته الجالسين وهم يسبقون العمَّيْن. وعلى
العكس من ذلك يظهر الابن — على لوحة أخرى مقدمةٍ من أب
وابن معًا — ممثلًا على نحو عاطفي أجداده من ناحية الأم،
ولا يمثل أخواله. وهناك مثل خامس يؤكد هذا المخطط: فصاحب
اللوحة الذي أمر بنحتها يقدم القرابين واقفًا، وهو هنا
أيضًا يواجه ستة أشخاص جالسين على كراسي وثيرة، الثلاثة
الأول يكونون مجموعة غير متوقعة في منظومة القرابة
الاغترابية، هؤلاء هم: الأب وأخو الأب وزوجته. ومعنى هذا
أن الزوجة تنعم بتمييز بروتوكولي على أم صاحب اللوحة
الجالسة من خلفها. وليس من شك في أن هذا التمييز يرجع إلى
امتيازها المتمثل في أنها ولدت واحدة من امرأتين جلستا في
المركز الأخير من السجل العلوي، هاتان الضرتان اللتان
تزوجهما الرجل إحداهما على الأقل ابنة عمه (ولا يزال
المصريون إلى اليوم يسمونها «بنت عم»، ويسميها علماء
الأعراق «بنت العمومة الموازية على خط النسب
الأبوي»).
وتمثل اللوحات الأعمام دائمًا عندما يكونون موجودين.
أما الأخوال فأصبح ظهورهم يزداد ندرة، أحيانًا عند غياب
الأعمام، وأحيانًا على نحو متلازم.
٢٥ ولم تتم ملاحظة هذه الأمور إلا مؤخرًا لأن
علماء المصريات لم يهتموا اهتمامًا كافيًا بوضع الأعمام
والأخوال، وهل هم من عائلة الأم أم من عائلة الأب.
٢٦
ومع ذلك فهناك كذلك شواهد موثوقة على اتباع خط النسب
الأمومي منذ الأصول الأولى، وربما كان هو أصل تغير منظومة
القرابة عند العبرانيين بعد مرورهم بمصر.
٢٧ وهناك دليل إضافي على وجود حل وسط بين
منظومتَي القرابة المتمايزتين، فبعد فترة هيمنة طويلة
استأثرت بها منظومة الخط الأبوي، نجد أن اختيار ربط ابنٍ
ما ﺑ «اسم عائلة» أمه تواكبه ممارسة لا تزال قائمة ومؤكدة
بالشواهد في الشرق الأدنى في أيامنا الحالية وتتمثل في
إطلاق اسم الجد الأبوي على الابن.
٢٨ ولدينا شجرة أنساب متأخرة هي من أطول شجرات
الأنساب المتأخرة التي وصلت إلينا (الأسرة الخامسة
والعشرون) تحصي ثلاثة عشر جيلًا من الأجداد والجدات يُدعى
زوار المقصورة العائلية إلى تقديم القرابين إليهم.
٢٩ وفي عصر الدولة القديمة يحتمل أن يكون خوفو
(الأسرة الرابعة) قد بنى هرمه والقرافة الملكية بعد أن
جرى دفن أمه حتب-حيريس
Hetep-Herès، أول
مدفونة في الجيزة. أيًّا كان الأمر فمنذ ذلك العصر ظل
التوازي بين منظومتَي القرابة ملحوظًا في نقل السلطة
الفرعونية بين الإخوة، أو بين الآباء والأبناء. ولو أن
هرمًا تابعًا لهرم خوفو أنشئ لبيَّن كيف كان تَوَجُّه
القرافة في أصلها الأول بالقياس إلى هذه المقبرة الخاصة ﺑ
«جماعة اﻟ «كا»»، فيما يتعلق بغالبية الذكور.
٣٠ في بداية الدولة الحديثة كانت استراتيجيات
المصاهرات الواقعية غالبة مؤقتًا على مثاليات قرابة الدم.
ونعدُّ إبان الفترة التي تتابع فيها اثنا عشر ملكًا على
العرض ما لا يقل عن اثنتي عشرة «ملكة» لا يجري في عروقهن
دم ملكي، في مقابل ثماني ملكات فقط يمكنهن أن يتفاخرن
بهذه الميزة.
٣١ وأمينوفيس الثالث لم يتزوج أخته، وهي أميرة
مصرية نبيلة، بل فعل ما هو أكثر من ذلك إذ تزوج بامرأة من
السواد، هي تيي
Tiyi —
ابنة أحد أعيان الأقاليم حقق لنفسه ثراء، وهو من أصل نوبي
— ظلت زوجة ثانوية يحوطها الغموض إلى أن تم اكتشاف مقبرة
ابنها: توت عنخ آمون. وأصبح الآن من الممكن جمع شتات سيرة
حياتها. وقائمة ألقاب تيي
Tiyi «تضم ما لا يقل عن
أربعة وعشرين لقبًا وصفة يتسم بعضها بالندرة كل الندرة.»
وتبين الأرشيفات «أنها كانت تقاسم (زوجها) السلطة
السياسية»، فنراهما معًا يحيط بعضهما البعض بذراعيه،
بينما كان من سبقوهما من ملوك يفضلون أن يقف الملك بجانب
زوجته التي تلد ولي العهد.
٣٢ ثم ميَّز فرعون بعد ذلك ابنته ساتامون
Satamon بدلًا من أن
يميز أبناءه الذين سيخلفونه وإن حملوا أسماء سمينخيريع
Smenkherê الذي اكتنفه
الغموض وأمينوفيس الرابع المشهور. وأمينوفيس الرابع هو
الذي سيتزوج نفرتيتي التي ربما كانت ابنة خاله «أيي»
Aÿ. وسيعبر عن عاطفة
خاصة نحو بناته، اللاتي كثيرًا ما رسمن على أشياء اكتشفت
بين آثار عصر العمارنة.
٣٣ ولم يبقَ إلا أن يواكب تولي توت عنخ آمون
السلطة، وعودة الأرثوذوكسية الدينية واعتلاء الرعامسة
العرش … عودة إلى خط التناسل الأبوي.
٣٤ هكذا عقَّدت الممارسة الفرعونية مبدأ حق
البكورية تعقيدًا شديدًا، ذلك الحق الذي فرضته ميثة حورس؛
لأن الخلف المعين كان من الممكن أن يكون أخا الملك أو
أكبر أبناء أميرة ملكية أو أكبر أبناء زوجة عادية، أو
يكون أكبر أبناء الزوجة الأولى لفرعون أو أي زوجة أخرى،
وكان في استطاعته أن يشرِّع حقه في العرش بالزواج من أخته
الشقيقة أو غير الشقيقة، أو بنت عمه أو بنت خاله، أو حتى
أجنبية غريبة.
٣٥
أما الشعب فقد أفصح خلال هذه الفترة كلها عن اتجاه
إلى الفصل بين الإخوة الذين انعزلوا تدريجيًّا في حضن
العائلات الأصلية.
٣٦ ومع ذلك فقد اصطدمت تطورات التقدم الظاهرة في
الارتباط بالمصاهرة والتي شهد عليها نقل أملاك الأم إلى
أولادها بنقل مهام الأب إلى الابن. وعلاوة على ذلك كانت
الالتزامات الاجتماعية، والمناصب العامة، والألقاب
السياسية تأتي من الأب الذي كان في مقدوره أن ينقل كذلك
أملاكه لابنه، وكان الابن يتلقى من أمه الأملاك وكثيرًا
ما كان يأخذ عنها اسمه الصغير. كان هناك إذن تكافؤ في
الإجراءات التي تربط الشخص بعائلة أبيه، وتلك التي تربطه
بقرابة أمه. وتشهد على ذلك تعبيرات متواترة من قبيل:
«عائلة أبيه وعائلة أمه» في عقود الزواج؛ و«زبانية أبيه
الحَفَظَة، وزبانية أمه الحَفَظَة» في النصوص الدينية.
ومع ذلك ظلت عشيرة الأب موضوع إطلاقات نوعية
٣٧ في إطار مقولة تشير على السواء إلى مجموعات
القرابة من ناحية الأب، ومجموعات القرابة من ناحية الأم.
٣٨
(٣) الأمومية … الأبوية
حافظت المنظومة القبَلية في بلاد الرافدين على
هيمنتها مدة أطول. وبينما كان التكوين
la
Genèse السومري يفهم نشأة الحياة على
أنها ثمرة جدل عام بين ملاك الضياع الكبيرة، كانت ملحمة
ماردوك الساميَّة تختزل الخلق
la
Création إلى شجار عائلي واسع بين خطين
نَسَبِيين، الخط الأبوي للماء العذب (أبسو
Apsû) والخط الأمومي
لماء البحر (تيامات
Tiamat). قام
المُنْجِبون الأولانيون بإنجاب توائم مرتين متتاليتين:
أولًا ولدين ثم ولدًا
Ansar وبنتًا
Kisar وتزوجوا وأنجبوا
أنو
Anu واقترن أنو
بامرأة مجهولة فأنجب إيا
Ea، ابنه المفضل،
وزمرةً من الأولاد المزعجين الذين أساءوا استغلال سماحة
جدتهم الأولى تيامات
Tiamat. وحيال عجز
الخالق (أبسو
Apsû) عن
وضع حد لتصرفاتهم، قام الحفيد المتأخر بقتله، واستولى على
سلطاته وأنجب بطل الميثة ماردوك من امرأة اسمها دامكينا
Damkina (التي ربما
كانت غريبة على العشيرة؟) أما جده، الذي أصبح منذ ذلك
الحين ملك الآلهة، فقد أعجب به إعجابًا مذهلًا وهو في
مهده، ونقل إليه كل نزواته، وأهدى إليه لعبًا صاخبة أو
خطيرة، باختصار عيَّنه صراحةً وريثًا له مما جعل أعمامه
يتمردون. وحقق أحدهم وهو قينجو
Qingu لنفسه نفوذًا
متعاظمًا لدى تيامات، جدته الأولى، وأرملة أبسو التي
انتهى أمره معها إلى الزواج بها في اقتران أمومي التسلسل
اعتُبِرَ منافيًا للشرعية إلى حد بعيد مما دفع ماردوك
٣٩ إلى مقاتلتهما والقضاء عليهما، مؤكدًا هكذا
انتصار المنظومة الأبوية في نقل الاسم والميراث.
ويبدو أن الاختلاف بين الميثِيَّتَيْن يعكس عن قرب
شديد الواقع التاريخي فقد تحولت بابل في هذه الأثناء من
نظام سياسي يحكمه رؤساء المدن إلى نظامٍ وُضِعَ تحت نفوذ
رؤساء القبائل. ومع ذلك فلم تغفل القرابة البابلية الخط
الأمومي. وهناك ميثة معاصرة لميثة ماردوك، هي ميثة حاراب
Harab تشهد على ذلك:
وتحكي عن أحداث جرت إبَّان ستة أجيال أولانية حيث قتل
الأبناء أباهم وتزوجوا أمهم ثم أختهم. إلا أن السمة
المتطرفة للروابط الأمومية تلين عندما تكف البنات من
ناحيتهن عن قتل الوالدة التي أنجبتهن بينما يكف الابن
الأخير المذكور عن الزواج بأمه ويكتفي بربط والده الذي
أنجبه بالسلاسل. وفي اتجاه عكسي يحمل الرجال جميعًا أسماء
أعلام شخصية، بينما تحمل غالبية النساء أسماء جنس عامة
(أرض، بحر، نهر، مرعى): فالذرية تسير في خط أبوي كما يبين
ذلك أيضًا التشابه بين المعركة التي يواجه فيها جايو
Gaiu البحر والمعركة
التي يواجه فيها ماردوك
marduk تيامات-المحيط
Tiamat-l’Océan.
٤٠
كانت العائلات الأبوية من الناحية التاريخية تلعب
دورًا كبيرًا في المدن الدول بالجزء الجنوبي من بلاد
الرافدين سواء في عصر هيمنة أوما
Umma، الذي جاءتنا منه
٤١ الإشارة إلى زواج بين أولاد العمومة
المشتركين في الجد، أو بعد ذلك العصر بقليل في نهاية
الألفية الثالثة، إبان أسرة أور الثالثة السومرية التي
ترددت بين أنماط التناسل والقرابة المختلفة.
٤٢ فقد عيَّن ملكها شولجي
Shulgi ابنه سوسوين
Su-Suen حاكمًا
عسكريًّا على أوروك وعين خال ابنه هذا واسمه باباتي
Babati في نفس المنصب
في ماسكان شاروم
Maskan-Sharrum. ولكن
خليفة شولجي
Shulgi وهو
إيبي سوين
Ibbi-Suen
ولَّى رجلًا اسمه لوجالينجاردو
Lugalengardu إدارة
معبد الربة إينانَّا
Inanna في نيبور، وعين
عمه لوجال أزيدا
Lugal-Azida في معبد
إنليل بالمدينة نفسها.
٤٣
في إدارة معبد نيبور التي تولاها نسل من ذرية جد واحد
هو «أور مي مي»
Ur-Me-Me
يقوم الدليل على الانتماء إلى العشيرة الأبوية من خلال
الإشارات إلى ما لا يقل عن أربعة عشر رجلًا (وامرأة
واحدة) من بينهم أربعة أبناء إخوة من ناحية الأب، ولا أحد
بينهم من ناحية الأم.
٤٤ والكلمة المستخدمة في الأكادية للدلالة على
«النسيب» هي «إيمو»
emu،
ويبدو أن لها علاقة واضحة بكلمة «عم»
amm بالعربية (والعم هو
أخو الأب الذي تزوج ابنُ أخيه ابنتَه، أي تزوج بنت عمه).
ومع ذلك فهذه الواقعة المشتركة بين القدماء وبين الشرق
أوسطيين
Moyen-Orientaux
لم تشد اهتمام علماء السومريات ولا علماء الآشوريات. فعلى
الرغم من الشواهد لم يربطوا الألفاظ المنبثقة عن مفهوم
«إيمو
emu» بالمصدر «عم»
amm بل بمصدر سامٍ آخر
هو «حم»
hamm الذي يعني
بكل بساطة أسرة النسيب، سواء كانت القرابة عن طريق الزوجة
أو عن طريق الزوج، سواء كان المقصود والد العروس أو والد
العريس، كأنما لم يعد للتمييز بين الجانبين من الأهمية
أكثر مما كان لها لدى علماء المصريات. حقيقة أن اللغة
الأكادية لا تميز بدقة بين أبي الزوجة وأبي الزوج، فهما
على ما يبدو متداخلان في مفهوم النسيب تحت اسم «إيمو»
emu. ومع ذلك فنحن
عندما ننظر إلى «إيمو»
emu عن كثب نجد أنه لا
يضم الصهر — زوج البنت — الذي يستمر في الحياة في عائلة
أبيه بعد زواجه ولا الصهر — زوج البنت — الذي سيعيش في
عائلة عروسه. والصهر الذي سيعيش في عائلة عروسه يعتبر إلى
حد ما مثل القاصر «الذي يتبع زوجته» أو «إيمو صهرو»
emu sehru بالمقارنة
بالصهر المرموق
emu rahû
الذي يستقبل زوجته في عائلة أجداده الأبويين.
٤٥ والشعوب التي كانت تتكلم الأكادية تميِّز
بوضوح الزواج الأبوي المحلي وكانت تستخدم أيضًا كلمات
مختلفة للدلالة على نمطين من الكنَّات: أخت الزوج وزوجة
الأخ، حيث لا تجد اللغات الهندوروبية ضرورة للتفرقة بين
اللفظة الأولى التي تنطبق على علاقة دم مشتركة واللفظة
الثانية التي تشير إلى علاقة مصاهرة. ودون أن نسعى إلى
جعل هذه التفرقة تناظر التعارض بين ما هو قائم في العربية
بين «العم» و«الخال» (وهو ما نجده في التسميتين السابقتين
في شكل «إيمو» و«كَل»)، فإن التفاعل المحيِّر للحروف
الساكنة وارتباطات المعاني يدعونا إلى ألا نَقنَع بترجمة
«إيمو» ﺑ «صهر»
٤٦ (أو «حمو») وكَلاتو
kallatu ﺑ «كَنَّة»
(زوجة الابن) (أو ﺑ «سِلفة»).
٤٧
وإذا لزمنا التوافقات المعروفة لكلمة «إيمو»
emu فمن الممكن أن تختص
على نحو متباين بالزيجات بين أولاد العم من ناحية الأم
ومن ناحية الأب، أو بالزيجات بين أغراب. إلا أن هناك
استخدامات أخرى للكلمة تشدد على بقاء تفضيلات الزيجات
داخل الأسرة غير الاغترابية. وهكذا فإن الإشارة إلى عمة
للعروس بصفتها منتفعة بالتعويض الذي تتلقاه العائلة عندما
تفقد بنتًا (أي قوة عاملة)
٤٨ أو الشرف الذي يتاح لزوج البنت بأن يقيم في
بيت أقارب زوجته (ولا نفهم لماذا يبرز الأقارب كلفهم هذا
بكرم الضيافة إذا كان هو القاعدة). أو نلاحظ أمرًا آخر،
فعندما يكون لزوجة الابن التي ترملت أن تتزوج ابنًا آخر
لحميها (وتلك ممارسة مشهود عليها لدى اليهود القدامى
والمحدثين ويسمونها «زواج السِّلْفَة» أي زواج أرملة
الابن المتوفى بأخيه ولدى بعض العرب في خمسينيات القرن
العشرين)، فهذا يفترض ضمنيًّا الإقامة في الأسرة الأبوية
لزوجها المتوفى. والحق أن الوضع العكسي يمكن أيضًا تصوره،
أي أن يتزوج أرملٌ أخت زوجته المتوفاة. وما من شك في أننا
نجد هنا دليلًا على وجود تماثلية
symétrie كاملة بين
نمطَي الزواج، وقد جرى التكفير فيهما على نحو منفصل،
ولكنهما عوملا من الناحية القضائية معالجة متطابقة (وكان
من الملائم بيان نمط كل منهما بوضوح في بند من بنود عقد
الزواج، وتلك علامة دالة على أن المعادلة لم تكن بديهية
تلقائية). والنص المقتطف الذي يتضمن أن عودة الصداق
المؤجل إلى عائلة الزوج الذي ترك زوجته لتوِّه يواكبها
إعطاؤه مهره لأولاده تسير أيضًا في اتجاه بناء تماثلي
لنمطَي الزواج.
ومن الناحية المقابلة نجد أن كلمة كَلاتو
kallatu — على الرغم من
الاستخدامات المتباينة حسب الأمكنة والأزمنة — تدل بما لا
جدال فيه على امرأة أجنبية غريبة على العشيرة؛ فالسِّلفة
التي يستطيع إخوة الزوج أن يقدموا إليها هدايا ببراءة
كاملة (ربما لأنها أيضًا ابنة عم مشتركة في الجد ولأنهم
تربوا معها، وإلا لكان تقديم الهدايا إليها عملًا
مستهجنًا) والكِنَّة التي لا تعيش في العائلة التي ولدت فيها
٤٩ والتي «تزوجت رجلًا من اختيارها» (ولم تتزوج
ابن عمها)،
٥٠ رجلًا «اتخذها» زوجةً بنقلها حقوقيًّا من
رقابة الأب إلى رقابة الحمى. هذه العملية أخرجتها من
عشيرتها وأدخلتها في عشيرة أخرى، بعد استرضاء أهلها
بهدايا (لا ﺑ «ثَمَن العروس»). فهي تلك التي «لا يجوز
تركها تعود إلى عائلة أبيها» أو التي يستطيع زوجها على
العكس «أن يدعها ترجع إلى أبيها» (فالعائلة إذن عائلة
أجنبية غريبة لأنه في حالة الزواج بين أبناء العمومة يعيش
الحمو والصهر في البيت نفسه). والإغراء كبير في اللجوء
إلى هذا الإجراء المتطرف في حالة ما إذا كانت الكنة لا
تتفاهم مع حميها وحماتها. والادعاء بأن زوجة الابن «تكره
حماها» سيبدو غريبًا إذا كان هو عمها، لأنها في هذه
الحالة تكون قد عاشت معه تحت سقف واحد، ومثل هذا الادعاء
يمكن فمهمه إذا علمنا أن الزوج سيكون عليه في هذه الحالة
رد جزء من الدوطة — التي كثيرًا ما كانت تتمثل في أراضٍ —
التي دفعها أبو الزوجة (بدلًا من مطالبتها بدفع الصداق
المؤجل الذي كانت ستحصل عليه في حالة الزواج بين أولاد العمومة).
٥١
كل هذه الترتيبات وصلت إلينا في صورتها القضائية:
عقود زواج ومدونات قوانين مدنية. وهذه علامة دالة على
وضعٍ للعلاقات الاجتماعية تضاف فيه الريبةُ بين متحالفين
دوَّنوا كتابةً بنود اتفاقهم إلى الثقة بين أقارب الدم
المطيعين لقانون الشرف. ولهذا فإن اختيار نظام أبوي أو
أمومي يعتمد على الحظ والصدفة أكثر مما يعتمد على المبادئ
الكبيرة. والعامل الحاسم هو في الواقع العمر الذي يموت
فيه أبا العروسين: فطالما كان الأب على قيد الحياة
فأملاكه لا يمكن تقسيمها وزوجة ابنه تأتي للسكنى عنده.
ويقدر متوسط السن الذي يتحرر فيه الابن بثلاثين سنة بدلًا
من عشرين سنة على الأكثر بالنسبة إلى البنات،
٥٢ أي إن العديد من آباء العرسان يموتون في نحو
الستين. عندئذٍ يستطيع أولادهم أن يتصرفوا في ممتلكاتهم
كما يشاءون ولهذا فهم يناقشون مباشرةً بنود عقد زواجهم مع
أبي الخطيبة الذي يكون في قوته لا يزال لأن ابنته أصغر
سنًّا من الخطيب نظرًا لفارق السن الذي يعتبرونه معقولًا
بين زوجين.
٥٣ وهكذا نلاحظ تضافرًا محتومًا لمنظومتي
الزواج، أكثر مما نلاحظ حلول نموذج زواج أمومي محل نموذج
زواج أبوي يقوم على علاقة دم مشتركة.
٥٤
وهناك براهين أخرى منها: اختراع ثمن الدم والتعامل مع
جريمة الشرف. فعندما يكون الحفاظ على عشيرة الأب معتمدًا
على التضامن الذي يلتزم الرجال بتقديمه في كل الظروف إلى
كل من يحتاجون إليه، فإن قانون العقاب من نوع الجريمة
ينطبق على كل الجرائم، إلا إذا قبلت عائلة الصهر أن تدفع
عينيًّا (في أغلب الأحيان ماشية) أو فضة (بناءً على تحكيم
الشيوخ). وتفترض فكرة هذا التعويض ذاتها وجود شكلٍ من
التحالف مع أجانب أغراب ورفضٍ لدائرة الانتقام الجهنمية.
ولكننا نلاحظ في المقابل أن قيام الإنسان بنفسه بتحقيق
العدالة لنفسه انتقامًا من قريب بريء للمذنب، وغسل شرف
الرجال عن طريق قتل نسائهم أو من أغروهن، يقوم علامة دالة
على رفض هذا التحالف وعلى العجز عن اكتساب القدرة على
التحكم في الذات وهو ما يتطلبه نسيان الخطايا المرتكبة
والضرر الناجم عن ألوان من السلوك تعتبر «شائنة».
والقصة التوراتية تفيد في هذا المقام أيضًا. فهي تحكي
عن يعقوب الذي ضرب خيامه على مقربة من مدينة شكيم وهو
يعلم أنه لا يستطيع أن يستقر فيها، وأن يتمدن إلا إذا قبل
التحالف مع متمدنين، أهل مدينة. وأتيحت له الفرصة متمثلة
في عاشقٍ عشق ابنته، هو أمير جميل في مقتبل العمر، قَبِلَ
أن يعترف به صهرًا عندما عُرضت عليه تسوية زواجية، فقد
عرض عليه أبو هذا الأمير الذي يعيش عيشة ذهبية، والذي جن
بالبنت الجميلة «دينة»، أن يتزوج ابنه من البنت. ولو كان
هذا الزواج قد عُقد لرَبَطَ كذلك البدو الآراميين
والحضريين الكنعانيين معًا في لحظة فريدة للتوفيق بين
أساليب الحياة، ولقد فتن هذا الزواج الكنعانيين أي فتنة
حتى إنهم قبلوا شروطه المبدئية (وهي اعتناق دين يعقوب
والختان). ولسوء حظ يعقوب وأهله أن اثنين من أبنائه هما
شمعون ولاوي غسلا شرفهما بأن دخلا ليلًا مدينة المذنب:
فقتلاه بالسيف وقتلا أباه «وكل ذكور» المدينة، واستردا
أختهما «دينة» ورجعا بها من حيث جاءا. وعادت عائلة يعقوب
مرة أخرى محكومًا عليها بأن يهيم ناسها على وجوههم في
الأرض يعيشون حياة البدو الرحل وبأن يسمعوا توبيخ كبيرهم
(يعقوب موجهًا الكلام إلى ابنيه: شمعون ولاوي):
«كدَّرتُماني بتكريهِكُما إياي عند سكان الأرض». وكان
يعقوب يعرف بالفعل إلى أي حد يضر التصرف الأهوج الذي
تصرفه ابناه دون تفكير باستقرار العشيرة، على الرغم من
اتفاقه مع التقاليد «… لأنه (الأمير الشاب) كان قد نجس
دينة أختهم. فقالوا لهما (الأمير وأبيه) لا نستطيع أن
نفعل هذا الأمر أن نعطي أختنا لرجلٍ أغلف، لأنه عار علينا.»
٥٥
ونحن نعرف في المقابل حالات تسوية ودية حددت نوع
وقيمة التعويض الذي قُدِّم إلى عائلة الضحية. هناك لوحات
آشورية في القرن السابع ق.م. تذكر هكذا الإجراء المتبع في
حالة القتل لمنع كل انتقام شخصي خاص. يقوم أبو القاتل
بالإقرار بذنب ابنه ملتزمًا أمام مسئولين رسميين من القصر
يمكنهم أن يؤكدوا ذلك علنًا بأن يدفع لأقرب قريب للضحية
مبلغًا من المال يتحدد إما بالاتفاق المتبادل، وإما بعد
التشاور مع الشيوخ (شيوخ القبيلة أو القرية). وفي أرشيفات
نينوى وثيقة تسجل المسئولية الجماعية لعائلة المذنب وتحدد
تعويضًا «سارتو»
sartu عن
الدم المسفوح، ويظل هذا التعويض مفروضًا على والدي المذنب
حتى لو مات قبل تنفيذ العقوبة عليهما. وتبين إحدى اللوحات
أن هذا الالتزام كان يمكن اتخاذه حتى إذا لم يكن أقارب
المذنب يعلمون أين يجدون أقارب الضحية: في هذه الحالة كان
شيوخ القرية يعلنون على الكافة أن أقارب الضحية سيحصلون
منهم على التعويض إذا تقدموا إليهم. ويتم الإجراء أمام
موظف يقوم بدور الشاهد في حالة نشوب نزاع، وتحفظ الوثيقة
في مكان رسمي يمكن للجميع الرجوع إليها فيه، والوثيقة تحل
أقارب الضحية من كل إجراء آخر (العقاب الشخصي الخاص،
المطالبة بتعويضات أكبر)؛ والوثيقة تخرق بشكل واضح وعلني
صريح تعاليم «قانون» القصاص — العقوبة من نوع الجريمة —
(فليس من الممكن إعطاء حياة في مقابل حياة أخرى). وعندما
لا يتم دفع ثمن الدم، فإن القاتل، وقد نبهه أقاربه لكي
يحترس من انتقام شخصي خاص يتعرض له في أثناء المفاوضات،
تُعدمُه السلطات القضائية العمومية. وأخيرًا — بغية وقف
عجلة الانتقام — يمكن أن تقوم قرية كاملة متضامنة بتحمل
الدية عن القاتل إذا لم يكن أقاربه قادرين على ذلك بأنفسهم.
٥٦ هذه النوعية من الأمثلة تشهد على استمرار
بقاء المنظومة الأبوية حية (والعلامات الدالة عليها هي
قانون القصاص — العقوبة من نوع الجريمة —، والمسئولية
الجماعية للعشيرة)، وعلى إعداد إجراء مكتمل الصياغة،
تعتمده الدولة، من أجل حل الصراعات بين أسرة الأصهار أو القرى.
٥٧
فليس من الضروري إذن السعي إلى إثبات أسبقية محتملة
للأمومية. ومع ذلك فقد قامت عالمة في السياسة بهذه
المحاولة، وهي باتريتسيا شبرينجبورد
Patricia Springbord.
والرأي عندها أن «مولد دولة في الزمان السحيق لم يتخذ
مفهوم تكوين منتدى أخوي من المحاربين الذكور الذين كانوا
يمضون حياتهم في حملات عسكرية لا تنتهي» بل مفهوم «صراع
من أجل الميلاد»، «صراع ملوك ضد أمهاتهم اللاتي كن وحدهن
يملكن القدرة على الإقرار بقرابة شرعية». وترى أن الأبناء
حاولوا تقليد خصوبة والداتهم بإنشاء مؤسسات وصروح بدلًا
من إنجاب نساء ورجال.
٥٨ لا ريب في أن دلائل الصبغة الأنثوية للشعارات
الملكية أو الإلهية (التاج، الخرطوشة، العرش، القرين أو
«كا» الملك) مثيرة للفكر، ولكنها لا تثبت حقيقة هذا
الزعم. لنأخذ العلامة الدالة على القرين الروحي لفرعون
(ذراعان مرفوعتان إلى أعلى)، وجسمه الخالد والإلهي
المنتقل من ملك إلى ملك منذ حورس على عكس جسمه الفاني
والإنساني. هذه العلامة تأتي من مصدرين: أحدهما مذكَّر
وقَبَلي (الراعي المتعبد، وهو يحمل أو لا يحمل حَمَلًا)
والمصدر الثاني مؤنث وحضري (الأمة الحامية، التي نرى
صدرها في بعض الرسوم أقل أسلبة
stylisés مما نراه في
البعض الآخر).
٥٩ وفي إطار الافتراض المحض، يمكن القول بأن
المفاهيم السياسية المؤسسة على فكرة الرينيسانس (=
الميلاد مرة أخرى) لم يكن في مقدورها أن تتخذ بمثابة
أشكال شعبية إلا ظاهريات الميلاد اﻟ «نيسانس»، وأسبابه،
ومستتبعاته: الأعضاء التناسلية (اﻟ «كا» في آنٍ واحد ثور
ورحم أو مشيمة)، حَمْل، حبل سُرِّي (حبل أوزيريس السُّري
نُقل إلى حورس وخلفائه الذين رمز إليهم بحبل زخرفي من الزهور)
٦٠ أو بآلة موسيقية ذات أوزان معادلة متلابسة،
٦١ رضاعة (في المواضع التي خصصت للرضاعة في
المعابد والتي تبين إنسانًا تتبناه العائلة الإلهية،
وتبين بصفة خاصة عودة هذا الإنسان إلى براءة الطفولة في
لحظة تتويجه).
٦٢ ولقد أسرف البطالمة في استغلال هذه الكناية
حيث وضعوا الربة المشخصة للقمر حتحور
Hathor في وضع يوشك أن
يكون مساويًا لوضع الإله رع (وكانت حتحور قد أصبحت في عصر
البطالمة زوجة حورس). وهكذا كانت العودة إلى العالم
الأوزيري، الليلي، الأنثوي، الحسي تتم بعد لفَّة من خلال
العالم الآموني، الشمسي، الذَّكري، المتصلب. كل هذا صحيح،
ولكنه لمكن تفسيره بالحاجة إلى أنسنة شعيرة قدسية فرعونية
أصبحت مجردة تجردًا مفرطًا، كما يمكن تفسيره بإعادة
اكتشاف المبدأ الأنثوي الأصلي.
(٥) إعادة توزيع
ليس من شك في أن هذه الآلية اخترعت منذ القرن السابع
عشر ق.م. في بلاد الرافدين قبل الأسرات، وفي مصر إبان
الدولة القديمة. وهناك نص من نصوص مدينة لاجاش السومرية
يذكر ضيعة مساحتها ٦٦ كيلومترًا مربعًا تخص معبد
Ba-u ثلثاها مزروعان.
وقسمت الضيعة إلى ثلاثة أقسام: أراضٍ مخصصة لصيانة
المعبد؛ وأراضٍ مخصصة فرديًّا للقائمين عليها والمزارعين
والفنيين لتمكنهم من المعيشة، دون أن يكون لهم أن يغيروا
تخصيصها أو أن يورِّثوها؛ وأخيرًا أراضٍ لهم أن يستثمروها
(في مقابل توريد جزء من الريع إلى الخزينة الكهنوتية).
وكانوا ينتفعون بعائدها كله، دون أن يكون لهم أن يبيعوها
ولا أن يضموا إليها شيئًا بالشراء. وفيما عدا السكنى
الخاصة، لم يكن لهم أن يعرضوا في الأسواق إلا حقوقهم في
الري خشية أن يتسببوا في إحداث تفاوتات في الثروات تمس
الأحوال القائمة بين عائلات العاملين الملحقين بالمعبد.
٦٥ وأدخلت تحسينات على هذه المنظومة في أواخر
الألفية الثالثة ق.م. فقد أنشئت مجاورة من الشقق الخاصة
ملحقة بمكاتب معبد إينانَّا
Inanna في نيبور
Nippur لسكن أسرة رئيس
الإدارة. وكان رئيس الإدارة يملك سلطة حقيقية على إدارة
المؤسسة الدينية: وكان يوصف بأنه «الوجه العام» للمعبد،
وكانت له شخصية اعتبارية أمام القضاء، فكان يوقع العقود
مع الموردين وإيصالات استلام التوريدات. أي إنه كان
مسئولًا عن كل تصرفاته المحاسبية على موارد المعبد وربما
على أملاكه الخاصة. وتحسبًا لهذا الاحتمال كان يتسلم
أراضيَ يؤجر منها بضعة هيكتارات (٣٫٥ هيكتار من ١٧ في
حالة لدينا وثائقها المؤكدة).
وكان يمكن أن تعتبر تلك علامة دالة على بيروقراطية
حديثة جدًّا، لو لم تتح له إمكانية توريث منصبه وممتلكاته
إلى أولاده وعائلاتهم. في حالة «أور مي مي»
Ur-Me-Me ظل تراث
المعبد ينتقل بالتوريث على مدى خمسة أجيال في العائلة
نفسها التي كبرت واتسعت. ونجح طاقم الموظفين، المنتمين
إلى العائلة المحدودة لرئيس الإدارة انتماء قرابة، في
التدخل دون تخويلٍ رسمي طوال قرن من الزمان في إدارة شئون
الأرض والإشراف على فتح أبواب المعبد وتوقيع العقود
الخاصة مع المورِّدين المعهودين واستخدام عمال زراعيين.
بل إن بعض الأقارب البعيدين كانوا يتصرفون بالتفويض
نيابةً عن رئيس الإدارة في الأسواق العامة، ومنهم من
جادلوا في المساحة المخصصة للزراعة التي كان لهم أن
يستغلوها بحرية أو طالبوا بنصيب في موارد الضيعة اعتبروه
من حقهم. ولم تكن هذه الموارد قاصرة على مردود الأراضي
وقطعان الماشية في الضيعة الموقوفة، ولا على بيع المنتجات
الحرفية للحجاج، وهي المنتجات التي كانت تنتجها الطوائف
الحرفية المحلية الملحقة بالمعبد، بل كانت تتضمن ضريبة
تدفعها الدولة حسب منظومة «بالا»
bala وكانت تصل إلى
ستين بالمائة من محاصيل الحبوب التي تحت يد الدولة (عندما
كان حاكم المدينة يعمل على الإسراع في التوريد ويسلم
المستحقات في المواعيد المقررة). وعلى الرغم من الصراعات
الحتمية حول حقوق الملكية أو الاستغلال، كان تماسك هذه
المنظومة من القوة بحيث بقيت بعد أسرة أور واحتفظ الخلف
وحلفاء «أور مي مي»
Ur-Me-Me بإدارة المعبد
في زمن أسرة إيسين Isin
التي تلتها.
وفي أحضان نظام كان في ذلك الزمان شديد المركزية، لم
تتمكن العائلة المالكة والموظفون الكبار المرتبطون برباط
القرابة من منع ظهور منظومة إعادة توزيع مستقلة. فلا
تحصيل ضريبة الدولة التي كانت على أية حال تمثل رافعة لا
يستهان بها في الإشراف على مثل هذا النوع المستقل من
مصارف الحبوب، ولا فرض ضريبة على الدخول المتزايدة لموظفي المعابد،
٦٦ كانا كافيين لتحقيق توازن موارد المؤسسة
العائلية المتزايدة. كانت منظومة اﻟ «بالا» التي تمنح
الحبوب على سبيل الهبة تُخزن أو تحول إلى منتجات أخرى لأن
هدف الوقفية الخيرية ذاته كان يتمثل في ضمان استمرار
الخدمة الدينية في كل الظروف بفضل احتياطيات المعبد
وموارده الخاصة. فإذا عجزت الدولة عن الوفاء بالتزاماتها
المالية فلم تدفع للمعبد الدعم الموعود اللازم لعمله، كان
جهاز الموظفين يستخدم المقدم الذي حصلته الخزينة على دخل
الأملاك الداخلة في الدائرة؛ ذلك الدخل المتولد عن عمل الأسرة.
٦٧ وكان هذا الإجراء يمنح جهاز الموظفين نوعًا
من الثقة بالنسبة للتعيينات القادمة، والتي تسمح للعائلة
المتسعة ﺑ «احتكار» بعض المناصب في داخل الحكومة المحلية
وبالاشتراك في مداولات مجلس شيوخ المدينة.
٦٨
والظاهر أن مصر إبان الدولة القديمة وصلت على نحو
أفضل إلى ضبط إدارة المعابد الجنائزية الملكية. وكانت هذه
الإدارة تحقق لكبار موظفي دوائر أوقافها من الموارد ما
يمكنهم من تأدية مهامهم تأدية سليمة، وإن لم تكن هذه
الموارد تكفيهم لوضع أساس تقوم عليه سلطة منافسة. وكانت
مساهمة الدولة يضمنها مردود استغلال أراضي الأوقاف
المتحقق عن طريق تتابع دوري للموظفين الذين كانوا يقسمون
إلى خمسة فرق، كل فرقة
phyles منها تنقسم إلى
مجموعتين، وكان العدد الكلي للفرق عشر فرق، أفرادها بين
٢٥٠ و٣٠٠ فرد، تخصص كل واحدة منها شهرًا في العام لخدمة
الشعائر. ويبدو أن خدمة الشعائر التي كانت تجري طبقًا ﻟ
«جدول الخدمة» الشهري، كانت كاملة جدًّا (دورة حراسة،
جرد، رصد سماوي على الأرضية لتحديد الساعات وأحيانًا
الأيام الملائمة للشعائر، إنجاز الشعائر اليومية حول
المقبرة الملكية — إراقة الخمر والزيت، ورش النطرون على
تماثيل الملك الخمسة لتطهيرها قبل كسوتها — نقل المشاعل
المضيئة والقرابين المقدمة للميت إلى المعبد، تقديم
القرابين على لوح مرتين يوميًّا، لوجبتيه؛ وجبة الصباح
ووجبة المساء، إدارة المخازن، العمل في المذبح أو في
دولاب الفخراني، إلخ).
٦٩
وكانت خدمة الأوقاف الجنائزية لملك سابق تعتبر شرفًا
يسعى إليه أقرب أقربائه ممن خلفوه. هكذا كانوا يأتون من
سلك الإدارة وسلك الخدمة الشخصية للملك (رؤساء الأطباء،
مصففو الشعر، الحلاقون، مقلمو أظافر القدم، المغنون،
عازفو الناي، الكهان القراء، رؤساء الغرف، أمناء المخازن،
الطهاة، الشواءون) أو من مكتبه الملكي (الأمين الخاص،
مسئول المراسلات، أمين المحفوظات، القائم بالأعمال بل والوزير).
٧٠ وكانوا على سبيل المكافأة العينية يحصلون على
«أنصبة من القرابين» يقدمها القصر في مقابل «إسهاماتهم»
الخاصة (كانوا يسمونها «إنج»
inj وهي قريبة من
العربية «إنتاج»). وكان بعضهم يستولون أيضًا على إنتاج
أراضي الوقف ويتصرفون فيه كما يحلو لهم إذا أرادوا ذلك في
أثناء الشهور التسعة التي لم يكونوا فيها قائمين بالخدمة
في المعبد. وليس من نافلة القول أن نذكر أن واحدة من
طائفتي «الكهنة» المؤقتين الأكثر عددًا كانت طائفة
«المستغِلِّين الزراعيين» على الرغم من أن واجباتهم ربما
لم تكن بعيدة بعدًا كبيرًا عن المهام التي يتولاها «خُدام
الرب» (باستثناء ملحوظ هو استثناء أعمال النقل بالسخرة
المرتبطة بالتوزيع التجاري للمحاصيل أو بالتناثر الجغرافي
لأملاك الدوائر). وتحقيقًا لهذا الهدف كان يساعدهم بعض
شباب العمال، ربما كانوا صبية متدرجين ورثوا هذه المهمة
الكهنوتية عن آبائهم.
٧١ وحتى لا يتعرض أحد للغبن، كانت المنظومة تنص
على تسجيل دقيق في دفاتر الحسابات يتضمن بيانات عن اللحوم
والفاكهة والحبوب «التي يوردها كل فرد» أو التي توزع على
كل واحد. وهنا نلاحظ حرصًا على موازنة الحسابات «ح س ب
hsb» بدقة: فكان
التسجيل يميز الوارد والمنصرف والمتبقي والمرحَّل.
٧٢
وقد نهضت المنظومة على مدى عدة أجيال برعاية طقوس
التقديس الجنائزية للملك المتوفى، وضمنت في الوقت نفسه
للملك الجالس على العرش أن المقربين الحميمين لن يكوِّنوا
في الخفاء قاعدة سلطة دائمة. فلم يكونوا قابضين على
الملْكية الكاملة للموارد الهائلة التي يشرفون عليها، بل
كان عليهم أن ينزلوا عنها على التوالين وكانت المدفوعات
القادمة من القصر ترتهن بإرادة موظفين آخرين، ولم تكن
حالات تأخير التوريد أو نقصه نادرة الحدوث. يضاف إلى ذلك
أن الرجوع في تمويل لم يكن مشمولًا بضمان، كذلك كان من
الممكن أن يقوم أعضاء فرق أخرى بتجاهل أعمال عقارية أو
بالإبلاغ عن تجاوزات سابقيهم المباشرين (ذاكرين فقدان
كتلة مكورة من البخور أو المساس بأدوات على نحو يحط من
قدرها فتكون «مرقعة أو مخرمة أو مخربشة»، مثل صندوق
الاستيراد الذي أحاط به الكثير من القيل والقال في محضر
وصف الوضع القائم الذي دوَّنه فريق عمل عندما تقرر استخدامه).
٧٣ وأخيرًا نذكر أن الأرباح التي تحققها كل
دوائر الأوقاف كانت تدخل بدقة في النظام المحاسبي
بالإدارة المركزية — وهو ما مكَّن الدولة القديمة من
تفادي ظهور درجاتية — هيراركية —
٧٤ كهنوتية تنافس الدرجاتية الإدارية.
٧٥
(٦) رواتب
على الرغم من هذه الوصفات وما تضمنته من الاحتياطات
التي تهدف إلى الحيلولة دون إطباق الإقطاع على المملكة
وخلق طبقة كهنوتية، فقد عرف رجال البلاط كيف يستثمرون
الأراضي التي مُنحوها أفضل استثمار، بل نجحوا في أن
يورِّثوها. فعندما حصلت هذه الشخصيات الماكرة على
«تفويضات» ممن فوقهم من كبراء تخلوا على هذا النحو عن
الاشتغال بأراضي الوقف وعن التربح منها،
٧٦ عملت على أن تُلحق نفسها بعدة دوائر وقف
جنائزية في السنة بغية زيادة دخلها. كذلك طالبت هذه
الشخصيات الماكرة بمبالغ خيرية قلت أو كثرت من دوائر وقف
جنائزية أحدث، ودون شك أقل شأنًا في السلطة، أخذتها لتزيد
من مواردها
٧٧ زيادة كبيرة، وكانت بذلك تهيئ عملًا وتدبر
أنصبة من القرابين لأقاربها وعملائها. أما كان الملك يعطي
المثل على المحاباة عندما كان يعين في هذه المناصب عشرة
أضعاف من كان سيختار تعيينهم في دوائر الوقف الجنائزية
للعمل طوال الوقت؟ ومنهم عدد احتلوا مكانًا في الذاكرة
العامة بعد وفاتهم، كما حصلوا على إعفاءات ضريبية على
أعمال أدوها في أثناء حياتهم. ولقد زادت هذه الإعفاءات
زيادة كبيرة أدت إلى احتكاكات متكررة بين الفراعنة وبين
أعضاء الفرق الأكثر ثراءً، وكان هؤلاء يتحركون للدفاع عن
مصالحهم وفي الوقت نفسه عن مصالح دوائرهم الوقفية، التي
كانت وثيقتها تشترط أن الموارد لا يجوز استخدامها لأهداف أخرى.
٧٨
أضف إلى ذلك أن قواعد الإشراف على المستوى القومي لم
تكن تنطبق على المستوى المحلي. وحدث هنا مثل الذي حدث في
بلاد الرافدين في نهاية الألفية الثانية ق.م.، فكانت
المعابد الإقليمية تحظى باستقلال كامل في إدارة أراضيها
ومواشيها وقرابينها الخاصة. وكان المديرون العاملون عليها
طول الوقت يورِّثونها ورثتهم صراحةً وعلنًا، اللهم إلا
إذا استقطعوا قطعة ليكوِّنوا منها دائرة وقفية لهم تقوم
على مدى عدة أجيال برعاية طقوسهم الجنائزية. وهناك نص
إقليمي يذكر «ناظر» وقف غامضًا كان يقوم على معبد ناءٍ
خصص للربة حتحور Hathor
في قرية بمصر العليا، وكان ناظرًا بلا موظفين، وظل الأمر
على هذه الحال، إلى أن نجح الورثة في تحويل هذا العمل
الحِرَفي إلى مؤسسة عائلية حقيقية.
كان استمرار هذه المنظومة وشمولها إبان القرون
التالية ظاهرين للعيان. وقام الرعامسة في الدولة الحديثة
بتحسينها سعيًا بها إلى الكمال بأن كونوا شبكات من
المعابد يتم بينها تبادل بنود دائنة ومدينة، أو موظفين
أصبحوا عندئذ دائمين. وهكذا شغَّل معبد آمون بالكرنك
أموال دائرة وقف شاسعة تتكون من الأراضي التي تتبع كل
معبد ثانوي موضوع تحت مسئوليته. كانت هذه الأراضي تسجل في
سجل المساحة، مقسمة إلى مجموعتين حسب نظام استغلال كل
منها («مينة»
mine
و«خاتو»
khato) وكانت
أراضي المجموعة الثانية ناجمة عن هبات ملكية تحدد
استغلالها حيث إن فرعون دون سواه هو الذي له الحق في أن
يرد الحق في الأرض التي يمتلكها إله فرعون وحده. وكان
الكهنة بدورهم يعتبرون أنفسهم ممثلين يمثلون وكيل الرب،
فكانوا يتصرفون بثقة متزايدة في الأراضي بالتغيير
والتوريث على الرغم من أنها تعتبر أملاكًا موقوفة (وكانت
لهم عليها «اليد العليا» كما تقول اللغة المصرية بعبارة
لطيفة). وكانت هذه الأراضي يتولى استصلاحها واستغلالها
«مراقبون» يراقبون الإنتاج، يتخففون من مهامهم فيستعينون
بمن يختارون من «مزارعين» وفلاحين وأجراء لهم أن ينقلوا
بدورهم إلى آخرين قطعًا من الأرض حصلوا عليها من
المستفيدين في مقابل خدمات أدوها لدوائر الوقف.
٧٩ وفي المقابل كانت مصلحة الضرائب تتمكن بسهولة
أكبر مما مضى من فرض الضرائب عليها على الرغم من
الاعتراضات على الضرائب المقررة سنويًّا، والتسويات
المؤقتة، والإعفاءات التي لم تكن تفيد منها إلا دوائر
الوقف الجنائزية الحديثة التي لم تكن حققت أرباحًا بعد.
وكانت مهمة مصلحة الضرائب يسهلها قيام المصلحة بالتدعيم
الإلزامي لميزانية كل دوائر الأوقاف الجنائزية. وهكذا
حققت مصلحة الضرائب رؤية شاملة متكاملة للعمليات
المحاسبية مكنتها من القيام بتخفيضات مشروعة في حالة وجود
معبد في وضع المدين حيال معبد آخر.
٨٠
وكما حدث في الإصلاح الكمالي الذي تناولت به أسرة أور
منظومة الوقف التي قامت في سومر في زمن المدن الدول،
استند الترشيد الذي تناول به الرعامسة منظومة الوقف التي
قامت في زمن الدولة القديمة إلى إدارة حديثة (ذات نظام
محاسبي مزدوج، وتقنيات ميزانية، وقواعد استقطاعية، أو
حساب القيمة المضافة وانتهاج نهج مهني محترف) يتولاها
إداريون من دوائر الوقف («ملحقون بالأملاك التي يسهرون
عليها»، «درجتهم في السلم الوظيفي فوق درجات كل
الموظفين») و«مسئولون من الإدارات» الإنتاجية. ومع ذلك
فقد واكب هذا التحديث في مصر سيطرة ومحاباة شاملتين. أما
السيطرة فقد شجع عليها ما استقر من عُرف تعيين موظفين
مقربين من الملك في مناصب إدارة المعابد (كانوا يسمونهم
«سيرو» serou أي «موظفو
القصر»، «موظفو التاج») أو محاسيب فرعون («أعيان
الأقاليم»، «موظفو المعابد») من المسموح لهم بأن يتلقوا
المدفوعات عينيًّا. وأما المحاباة فقد أدت إلى تفتيت
الأوقاف الجنائزية الكبيرة، وتضاعف عدد قطع الأرض الفردية
التي تزايد ضمور مساحتها.
وكان حصول شخص على مركز في دائرة وقف جنائزية يتيح له
أن يستكمل موارد دخله أو أن يحقق الثراء. وكانت الفرصة
تسنح أولًا عند بناء مقابر. فكان كتبة فرعون الذين يكلفون
بمراقبة عملية البناء ويحصلون على هذا التكليف الذي يطمع
فيه الطامعون يجدون إمكانية بيع خدماتهم للأميين
باعتبارهم كتبة عموميين. وكان الكتبة ورؤساء الأعمال في
فروع الإدارة المختلفة يتفاوضون فيما بينهم لتحديد
الموارد، وبخاصة تخصيص العمالة المجانية المنتزعة من
التجنيد والتي قد تستخدم أحيانًا في خدمات خصوصية.
٨١ وما كان يتكرر حدوثه هو أن الموظفين الملحقين
بدائرة الوقف، حتى أكثرهم ضعة، كانوا يسعون إلى توظيف
أبنائهم أو لتشغيلهم بجانبهم، وكان هذا يؤدي بهم إلى رفض
قبول اتخاذ ابن الموظف السابق معاونًا لهم بغض النظر عما
قد يكون له من جدارة.
٨٢ لم تكن مثل هذه الممارسات نادرة، على الرغم
من أن حالات المبالغة المفرطة هي وحدها التي عرفتنا بها
نتيجة الاحتجاجات والقضايا التي نجمت عنها. وفيما عدا ذلك
كانت المصلحة الشخصية، والمحسوبية والمحاباة أمورًا يمكن
اعتبارها حتمية لا سبيل إلى تحاشيها في مجتمع كانت فيه
الهدايا ومساندة المحاسيب ورد الجميل ودفع أصحاب الوساطة
والتوصيات إلى الأمام تقيَّم على أنها دلائل على حسن
السلوك، إلى الحد الذي جعل أولئك الذين كانوا يرون أنهم
يحرمون من المجاملات الكريمة المشروعة يلحون بلا انقطاع
في تذكير البخلاء ومدعي الطرش (الطناش) بالأعراف
والتقاليد. ومن هنا يتضح لنا معنى القوائم المعدة بدقة
بالغة متضمنة هدايا ضئيلة قدمت في احتفالات عائلية، فهذه
القوائم تعتبر مجرد سند للذاكرة دون قيمة قانونية، ولكنها
على الرغم من ذلك أعدت بدقة بدافع بسيط هو الحرص على
التحقق من أن الرد بمجاملات فيما بعد لم يطل انتظاره
طولًا مسرفًا (شيِّلني وأشيِّلك)، أو امتلاك بيانات يبرئ
بها الإنسان نفسه إذا أُوخذ.
٨٣
فلا عجب والأحوال على هذا المنوال أن نجد عائلات
استطاعت أن تتخصص في إدارة الأوقاف الجنائزية وأماكن
الشعائر. وبلغت هذه الجهود غايتها في عصر رمسيس الرابع
عندما بدأت وظيفة كاهن آمون الأكبر تنتقل من الأب إلى الابن.
٨٤ ونجد في عصر بعيد من الدولة الحديثة مثل عصر
البطالمة أرشيفات معبد بتاح في ممفيس تعلمنا أن من بين
ثلاثة عشر كاهنًا تتابعوا على رئاسة دائرة وقف المعبد
«كان أحد عشر أبناء عائلة واحدة، عشرة أجيال من آباء
لأبناء وأخوين. وكان الثاني عشر صهر سلفه، والثالث عشر
ابن هذا الصهر» كانوا جميعًا، وكذلك أقرباؤهم وحلفاؤهم،
يجمعون لأنفسهم ألقابًا دينية قابلة للتحويل إلى أموال في
سوق الأعمال الخاصة أو لها فائدتها في الحصول على مناصب
عامة صاعدة.
٨٥ ولسنا نعرف على وجه الدقة كيف كانت «أسرة ما
تحصل على الولاية على شيء كان في أصله شعيرة من شعائر
الدولة»، ولا كيف كان «الأب الكبير» — البطريق — يستطيع،
حسب النموذج الرافديني، «أن يضيف شروطًا أخرى وأن يقرر
مسئوليات جديدة بالقياس إلى ما كان مقررًا أصلًا في نص
الوقفية»، ولكن نقل الولاية كان يتم ما في ذلك أدنى شك،
ولقد بدأ ذلك قبل العصر المتأخر بكثير. في القرن العاشر
ق.م. يتخذ موظفٌ لنفسه لقبًا محفورًا على تمثاله هو
«الكاهن الجنائزي للمتوفى نفريركارع»
Neferirkarê (وكان هذا
الفرعون قد مات آنذاك منذ خمسة عشر قرنًا)، بينما لم تكن
معابد فراعنة الدولة القديمة على الأرجح تتصل فيها أسباب
نشاط حقيقي إلا في عصر أسرتين ملكيتين أو ثلاث أسر.
٨٦
واستمرت أيديولوجية الإدارة البيتية للممتلكات العامة
باقية، لم تتلاش. فكانت المنشآت الفائقة الطموح، والفائقة
التداخل والتراكب، مثل معابد نيبور
Nippur في بلاد
الرافدين، أو معابد طيبة في مصر، توصف فعلًا بأنها «بيوت.»
٨٧ كذلك كانت مقصورات الآلهة الرافدينية تسمى
بيوتًا
beit وكذلك كانت
الدوائر الجنائزية المصرية تسمى «بر»
per. وكان تدبير أمورها
يوكل إلى عم المتوفى أو أخيه أو ابنه، المنتفع بالطقوس أو
موظف يعيَّن له. في كل مكان، وفي أغلب العصور لم يكُف
المستحقون عن جني ثمار المناصب العامة الصاعدة التي شغلها
أقاربهم أو أجدادهم الأوائل، متملكين بهذا الشكل دون حق
ولكن بطريقة مقبولة اجتماعيًّا جزءًا ملحوظًا من الأملاك
العامة ومن موارد الدولة باسم رؤيا أبوية للحياة في
المجتمع. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك من الناحية
النظرية إلا القليل الذي يمكن أن يوَرَّث حيث إن الملكية
العقارية كانت من شأن الآلهة خالصة لهم وحدهم، فإن
الإنسان تتملكه الدهشة البالغة عندما يرى كمَّ المنازعات
على المواريث بين الخَلَف، ويرى الحرص الذي يتحراه أصحاب
الوصايا على تمييز كل الحالات المحتملة: الفصل بين
المِلْكيات أو الجمع بينها في ذمة واحدة، قصر الذمة
الواحدة على الممتلكات المتحصلة في أثناء الزواج ويذهب
الثلثان إلى الزوج أو وارثيه في حالة الطلاق أو الموت،
حرمان منتفعين محتملين عندما يسمح القانون بحرمانهم (فلم
يكن القانون يسمح للوالدين بحرمان أولادهم من الميراث كما
كان يمنع الزوجين من أن يرث الواحد منهما أملاكًا خاصةً
بالآخر). وعلى العكس كانت حالات ضم الورثة على المشاع
تشهد بوضوح دونه كل وضوح على أن تَقْوى قلوب الأبناء كان
من الممكن أن تصطدم بمصالح أنانية لا تغيب عن الفهم.
٨٨
والتأسيس الرشيد لدوائر أوقاف خيرية، طبقًا للقانون
العام، وتحولها السريع إلى أعمال عائلية، وحظوظ ونكبات
الممارسات الخاصة التي أوجدتها جيلًا بعد جيل: كل هذه
التحولات كان لها تأثيرها العكسي على تطور الدولة بشكل
تعارض مع تضاعف تحالفات المصاهرة الاغترابية على حساب
الزيجات بين الأقارب من دم واحد، وتعارض مع الأخذ بتسويات
جرائم الدم عن طريق التفاوض. فأن تنعقد الإرادة على أن
يجري تدبير أمور المعبد كما يجري تدبير أمور البيت، وأن
يجري تدبير أمور الإدارة كما يجري تدبير أمور القرية في
الوقت الذي كانت فيه ثروات حقيقية وسلطات حاسمة تلعب
دورها، فقد كان ذلك يعني تضييق حلقة الصلاحيات الإدارية
والسياسية وحصرها في الموظفين المقربين أشد القرب من
الملك. ولهذا وقع الاختيار على صياغة ميراثية لا على
صياغة حديثة للدولة. وأن يعتبر الإنسان واجبًا عليه أن
يقوم بتقسيم دخولٍ متحصلة من مِلْك عام بين أفراد عائلته،
فذلك أمر لن يلبث أن يجفف نبع الموارد الجماعية، لأنه
تقاعس عن توسيع قاعدتها بتحالفات حصيفة مع عائلات واسعة
أخرى. ولما كانت المنظومة قد تأسست على التبادلية، فقد
اتسمت، على العكس، بميزة كبيرة: ألا وهي أنها كانت تضمن
تبادلًا متوازنًا بين الملك ورعاياه، وكان هذا التبادل
يجعل الهيمنة التي يتمسك بها الملك مقبولة من رعاياه. فمن
الممكن أن نتصور المنظومة البيروقراطية والسياسية التي
أبدعها أو حسنها على طريق الكمال رجالُ دولة عباقرة على
أنها تعميم لمنظومة اجتماعية يحكمها الالتزام بالعطاء
والتلقي والرد.