(١-١) رسول … بطل
وكان على الملك، لكي يبرر أن سلطته أعلى من سلطة
البشر، أن يعزوها إلى أصل فوق مستوى البشر. فهو الذي
يضمن استمرار الرباط الاجتماعي بصراعه ضد الخاءوس
Chaos، وهو يقوم بذلك
في الداخل باستباق الثورات أو بالقضاء عليها؛ وفي
الخارج باكتساب أراض جديدة للحضارة. وهو يستمد وسائل
تنفيذ هذه الرسالة من قدراته الجسدية والعقلية
الاستثنائية، وهي قدرات البطل أو حتى الإله الذي يدعي
أحيانًا أنه يجسده.
وليس التبرير الشرعي عن طريق الدين بالأمر الممكن
دائمًا. ويبقى طريق الأسطورة.
٦ والإلهام في الأسطورة مستمد من حياة وأعمال
رجال مرموقين، مبدعين ومؤسسين دنيويين لا سماويين،
بنائين أكثر منهم كهنة. في مصر حتى الدولة الحديثة كان
هناك نحو عشر شخصيات «أحاطتهم ذريتهم، بل وبعض الجاليات
المحلية أو المهنية، بالإجلال بعد مماتهم». ولعب الملك
لعبة المقاربة بينه وبين هؤلاء الأبطال القوميين، قادة
شعبه من قبله بزمن (مهندسين من نوع إيموحتب
Imhotep وأمينحوتب
Amenhotep في مصر؛
٧ وبناة مدن حصينة من قبيل إيتانا
Etana وأجا
Aga، وجلجاميش في
بلاد الرافدين). وإذا كان قد اشتهر في أعين الغرباء على
أنه لا يقهر، فإن ناسه كانوا يرونه بأعينهم. وفي آشور
حيث لا نجده مُكَبَّرًا على حساب من يحيطون به في
الجداريات الزخرفية التي ازدانت بها قصوره، بل قد يحدث
أحيانًا أن يظهر أصغر من أفراد معيته من حوله: فنراه
قزمًا يركب مهرًا.
٨ وكانت مصر هي التي جاءت منها عادة عمل
العكس: فقبل أن يظهر فرعون على هيئة الإله، ظهر على
هيئة عملاق وإن لم يبد دائمًا أكبر من كبرائه إذا نحن
حكمنا بناءً على جدارية في معبد الكرنك حيث يظهر مهندس
رمسيس التاسع المعماري أمينحوتب، كاهن آمون الأعظم، في
مثل قامة الملك نفسه.
٩
والالتجاء إلى الأبطال يمكن تفسيره دون صعوبة. كانت
عمليات التأليه قد فشلت (كما حدث في بلاد الرافدين منذ
إمبراطورية سارجون
Sargon في النصف
الثاني من الألفية الثانية ق.م.) أوَلَم تبدأ ممارستها
إلا في وقت تأخر تأخرًا مفرطًا مما يعني أنها لم تكن قد
ترسخت ترسخًا دائمًا في عادات الناس وتقاليدهم (كما حدث
في مصر بعد ذلك بنحو ألف سنة في الدولة الحديثة). أساء
العاهل الأكادي نارام — سين
Narâm-Sîn في غمرة
قوته بعد انتصاراته السياسية الرائعة تفسير الدور الذي
كان السومريون يجعلونه لآلهتهم متمثلًا في أن الآلهة
تمنح البشر الملَكية. وأخطأ فهم تقديسهم اثنين من
ملوكهم الأوائل وحاول لأول مرة أن يؤلِّه نفسه في أثناء
حياته. واضطر ابنه نفسه إلى أن يرجع عن هذا التأليه في
مواجهة مقاومة السومريين الذين كان يتولى منذ ذلك الحين
حكمهم. إلا أن هذه التجربة الفاشلة لم تدع اليأس يوهن
بأس خلفائه في أسرة أور
Ur السومرية الثالثة،
أو منافسيه إيسين
Isin
ولارسا
Larsa، ولكن هذه
المحاولة لا تخفي عنا ما حدث بعد ذلك حيث لم يعد ملك
آشوري أو بابلي إلى خوض التجربة من جديد.
١٠ في وادي النيل لم يقم الملك إلا في الدولة
الحديثة «بتنظيم طقوس تقديس تماثيله في حياته» كما فعل
توت عنخ آمون في النوبة.
١١ وأمر أمينوفيس الثالث ببناء «حريم آمون
الجنوبي» في القصر، «وهو أول معبد خصص لتكريس قدسية
الملك في أثناء حياته.»
١٢ وأغلب الظن أن طقوس هذه الاحتفالات من عمل
الوصية على العرش حتشبسوت التي كانت تريد أن تُعتبر
ملكًا رجلًا لدرجة أنها قوَّت شرعيتها السياسية الهشة
بتقنين منظومة طيبة اللاهوتية.
١٣ ولكن الملك لم يكن فيها على أية حال إلهًا
حيث إنه يتكون من شِق أرضي وشِق سماوي،
١٤ ولكنه كان «تجسيدًا حيًّا للألوهية،
والوسيط الإلهي المختار، الوحيد القادر على عبور الحدود
الفاصلة بين السماء والأرض وعالم ما تحت الأرض، لكي
يتمكن فعلًا من الوفاء بمهامه في المجالات الثلاثة من
أجل خير الإنسانية»، إنه «مقابل أرضي» لآمون (هكذا كان
تحتمس الثالث في ردهته بالكرنك).
١٥ وإنما يشار إلى وجود إلهي في جسد عندما
يكون مشهودًا، مثلًا في أثناء المواكب التي يرسم فيها
بمروحته منشورة مثل قديس بهالته: هذا الرمز الذي يلازم
كالظل تمثالًا أو رسمًا يبين أن الإله يسكنه. وتماثيل
الملك — على نحوٍ — مُناظِر — «تماثيل مصونة في حماية
الرب»، هي «صور للملك وللرب.»
١٦ وحتى إذا كانت لفظة «رمسيس» تعني «الرب
أَوْلَدَهُ»، فإنها تعني أيضًا الرب «شكَّله»: أي إن
الاسم يمكن أن يدل على الإنسان رمسيس أو على تمثاله.
والملك ليس الرب، إنه يقلده أو يتصرف كما لو كان الرب
هو الذي يتصرف. ومعبده نموذج مصغر للعالم، إنه نموذج
مجسم أقيم فوق هضبة أو ربوة كأنها أكمة طفت عند
الانفجار الأولاني في وسط بحيرة تمثل الأغوار السحيقة
أو المستنقعات الأولانية، وزود المعبد بمسلات تخترق
الأفق في شكل أبراج لتتواصل مع الإلهي، وتكتنف المعبد
مقابر غمرت لتتواصل مع العالم تحت الأرض.
١٧ إننا في عالم المحاكاة، الكناية، المجاز،
لا في عالم تجسيد الرب السماوي في ابن أرضي.
وكان التبرير الشرعي للحق في الحكم مشروعًا
توفيقيًّا لا شموليًّا. وهناك مثل رائع عليه يتمثل في
وجود عناصر أجنبية غريبة على وادي النيل في أماكن
ممارسة طقوس تقديس الزوجين الإلهين حورس
Horus وحتحور
Hathor، وأصول
الزوجين الإلهيين أصول شرقية بالغة الشرقية: في معبد
حورس قرد وفرس نهر، وحورس نفسه علامته صقر وقرص شمس،
وهما عنصران أصلهما الرمال العربية والليبية؛ وهناك
تمثال بِس
Bès؛ ذلك
القزم الوحشي الأسود مثل مضحك الملك النوبي، في مقصورة
الربة حتحور
Hathor
الجميلة الممشوقة ذات البشرة البيضاء كاللبن. وهاكم مثل
آخر: الخرطوشة المحتوية اسم مؤسس السرة الفرعونية
الأولى فيها صقر هوائي أصله من الجنوب يركب فوق ثعبان
جهنمي أصله من الشمال منحوت أعلى حائط كُسِيَ على
الطريقة الرافدينية. وهناك ما يثير المزيد من الدهشة:
هناك التماثيل العملاقة البدائية الأسلوب والتي وُجدت
فعلًا في موقع قفط
١٨ الفرعوني. وهي أسطوانية الشكل تعلوها رءوس
صلعاء ملتحية، تحمل علامات سابقة على الهيروغليفية:
بروق، قواقع أحفورية من البحر الأحمر، فيل، ضبع، جاموس.
أقيمت «بعمل جماعي من الأهالي» دون استخدام لتقنيات
معقدة (بطريقة تشبه إلى حد ما تماثيل جزيرة الفصح
بالمحيط الهادئ
Île de
Pâques)،
١٩ ولا تزال تحمل آثارًا مثيرة للأيدي التي
لمستها عندما كانت ممدة على الأرض بعد وقوعها. وهناك
تباين بين الحمية الشعبية المتواضعة وبين الإغفال
البيروقراطي حيال تصوير للخصوبة لم يحفل بالمراسم إلا قليلًا.
٢٠
هكذا صورة الإله الخالق النازعة إلى القديم السحيق
وإلى الأصول الشرقية تتعايش مع تماثيل أكثر تدقيقًا،
وأكثر تطابقًا مع تحديدات اللحظة، أي يدركها الإنسان
مباشرةً على أنها فرعونية. ومع ذلك فهذه التماثيل لا
تشهد إلا على صفحة واحدة من صفحات الأسلوب الأكاديمي
الذي اخترع له صناع المفهوم موروثًا (إما بضفر رموز
فلكلورية سبقت تدويل الديانة، وإما باستبعاد تلك التي
كانت من بينها أقل مطابقة للأهداف السياسية في لحظتها).
وربما حدث أن غلب المكون المحلي في هذا الأسلوب المهجن
كما حدث في تعميم استخدام الجعارين التي ترجع في أصولها
إلى مصر الوسطى، فأصبحت الأختام المعتمدة بعد أن هجرت
أجهزة الإدارة القومية الأختام الأسطوانية المصنوعة من
الطين المستوردة من بلاد ما بين النهرين.
٢١ وأشد الأشياء دلالة بالنسبة إلى موضوعنا هو
بلا شك الكسوة، فوق أعمال نحتية تمثل هياكل نذور، على
مقصورة محمولة مصنوعة من الخيزران بهرم شمسي ثابت مبني
من الحجارة. أو نذكر كذلك: تطور المقابر الملكية
والأرستقراطية التي صممت في البداية لتكون أماكن اعتكاف
أمام الجثة في خيام مؤقتة تحولت مرحلة بعد مرحلة إلى
إنشاءات جنائزية متوارية ثم بارزة فوق الأرض، متدرجة
درجة تلو درجة، ثم منحدرة انحدارات متتالية.
٢٢ وهذه رؤى مدهشة لفنانين كأنهم يطرزون على
ينابيع متمايزة كانت فيما مضى متعارضة في الحضارة
المصرية، إنها صور توحد في آنٍ واحد الشمال مع الجنوب
والبدو مع الفلاحين، وأدوات طقوس التقديس الهالكة مع
الصروح الدينية المنيعة التي لا تبلى. والملكة — في
عالَم من النزعات التفردية
particularismes
المحلية ومن التعلق العنيف ﺑ «روح الإقليم» — تتعرض لما
يهددها بالانفجار بعد مرور وقت طويل على تكوينها.
ويعتبر الملك، إذ يعمل دون هوادة على صون التماسك
الاجتماعي، الموحِّد الأعلى للمقدسات والمعتقدات.
٢٣
ويجسد وجها الملك على هذا النحو عدة ثنائيات من
المتضادات، بدلًا من الانتهاء إلى المواجهة الحزينة بين
دنيا تحتية انتقالية قابلة للفساد وبين أخرى تتسم بكمال
خالد. وفي مصر نجد أوزيريس نتيجة فعل إيزيس إلهًا ميتًا
يعود إلى الحياة في المُلك النباتي أو الحيواني كما
يعود إلى الحياة في المُلك السياسي: وهو يصبح على هذا
النحو خالق الطبيعة (بفضل دورة فصول السنة) ومؤسس وظيفة
سياسية (حيث إنه جدٌّ ملكي أول).
٢٤ ومع ذلك فهو إله برح الأرض، فهو بالمعنى
الحرفي متوفى (لم يعد ينهض بوظائف). ومنذ أن اختفى،
تحتم أن يتولى مهامه ملكٌ وكاهن، أو فرعون بما هو منظم
التقديس. في بلاد ما بين النهرين كان إله اللبن والحبوب
(دوموزي
Dumuzi
بالسومرية وتمُّوز
Tammuz بالأكادية)
يلعب دورًا شبيهًا.
٢٥ وكان يختفي عن أنظار البشر موسمًا ويظهر
موسمًا. وكان عليه بالفعل، منذ أن أظهرت له عشتار
Ishtar عاصفة صبابة
عارمة مسرفة، أن يقيم بدلًا منها في مملكة الجحيم التي
كانت الربة عشتار نزلتها بدافع المغامرة الهوجاء عن غير
تدبر: ولهذا ترك الملوك الأرضيين لمصيرهم منذ الخريف،
عندما يروب اللبن من أثر العاصفة ويجف الحَبُّ.
٢٦ في الأناضول تيليبينو
Télépinou ابن إله
الجو هو الذي يختفي والآلهة تلاحقه لأن الحياة كلها
انسحبت من الأرض معه. في هذه الحالات الثلاث نجد أولئك
الذين يحكمون العالم مضطرين لاتخاذ رد فعل حيال اختفاء
إلهٍ مُطعِم بقصد إعادته إلى ساحته أو اتخاذ مكانه.
وسواء كان الإنسان رجلًا أو امرأة، فإن تأدية دور إلهٍ
يعيد الصلة بين عالميْن منفصلين يعتبر بالنسبة إليه
مهمة مستحيلة. كان من الضروري في بلاد الرافدين تجديد
التماثيل الإلهية البراقة التي تعكس في عريها النور
السماوي لكي تحوله إلى «موجات ارتطام متتالية من المعبد
إلى المدينة، ومن المدينة إلى القطر والدنيا كلها»،
والاتصال مباشرة بالكهرباء الربانية، والطقطقة بالأصابع
على طرف قبضة مرفوعة على هيئة مانعة الصواعق، مثل
آشورناسيربال
Assurnasirpal،
٢٧ أو «تناول يد الرب» مثل نبوخذنصر
Nabuchodonosor،
٢٨ في ثوب أبيض علامة على الذل والحِداد
والمحدودية (بينما يوحي الذهب واللون القرمزي بالغطرسة
والشمس والدم). ولو امتنع لأدى امتناعه على العكس إلى
ما يشبه الانفجار الداخلي،
٢٩ ولأثار الكثير من الكسوف الشمسي. كان من
الضروري في آشور إذن اللجوء إلى «بديل ملكي» يشد إليه
الطاقة الشريرة التي لا بد من أن يحمي الملك. نفسه منها
لأنه هو حامي حمى شعبه. ولبس البديل ثياب الملك، وما هو
إلا رجل من أصل متواضع، رُفع من أجل القضية إلى رتبة
شرفية (بينما الملك الحقيقي مستمر في إدارة شئون البلاد
من مقر آخر)، وينتهي البديل بالموت، علامة على انقشاع الخطر.
٣٠ وفي مصر كان التحول من جسم بشري إلى جسم
رباني شيئًا يكتنفه الطمع كما يكتنفه الخطر. والرجل
الذي يتربع على العرش ملكًا، والذي أصبح فرعونًا، له
امتيازات مرعبة. فهو الوحيد الذي يستطيع أن يعيد آلية
الخلق ورد الفعل في سلسلة يصفها علماؤنا الفزيائيون
الحديثون بهذا الوصف، وأن يروض الطاقة الكونية التي
ترمز إليها الشُّهُب، والتي تتركز في المعابد كما تتركز
في مراكزنا الذرية الحديثة، كما توجد حاضرة في المقابر
من قبيل مقبرة توت عنخ آمون حيث تتضمن التجهيزات
اللازمة للاحتفال بفتح الفم أن يقوم خليفة الفرعون —
وهو مبدئيًّا ابنه البكر أو المدعي أنه كذلك — ﺑ «إيقاظ
الإله وتكليفه من جديد»
٣١ الملك وحده يعرض نفسه لحرارة العين الشمسية
«التي تدفئ قوتها النارية وتبث الحياة عندما يتم
السيطرة عليها، والتي تهلك وتخرب في حالة هياجها العارم
غير المنضبط.»
٣٢ وهو الكائن الوحيد الذي تزور الآلهة
أحلامه، ولهذا فمن شأنه أن يجسد مصدر السلطة السياسية
ووسيلتها (والسلطة السياسية اسمها «حيكات»
hekat والكلمة تعني
كذلك الصولجان المنحني) على هيئة طاقة خلاقة (حيكا
heka الآلهة «كا»
ka جماعية للأجداد).
وهو يتوحد معهم بإدخاله العلامة الهيروغليفية الرمزية
emblématique لوظائفه
«المكونة من لباب الخبز الممضوغ.»
٣٣ بل إن الملكة حتشبسوت تقول عن ماعَت
Ma’ât: «إنها كذلك
خبزي، وأنا أشرب نداها فهي جسم واحد مع الرب»، إلى حد
أن قصيدة بنتاور
Pentaour تلزم — بعد
عدة عصور — الملك الحيثي بأن يشهد أن رمسيس الثاني «ابن
رع الذي خرج من جسمه.»
٣٤
والانتقال أمر بالغ الصعوبة والعسر يلزم للقيام به
الأخذ باحتياجات لا تعد ولا تحصى، حتى لا يتعرض الملك
للحرق أو للإشعاع: تبدأ بالاغتسال المضيء بالماء الطهور
قبل أن يتدهن بالزيوت المقدسة والدهانات (بأخلاط من
مواد دهنية وتراب خصيب ومواد معدنية نادرة)، ثم يشرب
لبن الأم؛
٣٥ ويلبس ثيابًا بيضاء (تبعد الحرارة)؛ ويسير
مرحلةً بعد مرحلة في الطواف الموسوم بالركعات والقرابين
والاقتراب شيئًا فشيئًا من قديس القديسين من أجل دعم
التعظيم المتزايد للطاقة التي تبثها الكا
ka الفرعونية. وتحقيق
النجاح في مثل هذه التجربة يعني اكتساب نظرة «أكثر
إشعاعًا من نجوم السماء»،
٣٦ وتثبيته في وضعه وسيطًا بين الإنساني
والرباني، وتلقي السلطة السياسية والدينية المطابقة
لهذا المركز الرفيع.
٣٧ ولكن تحقيق النجاح في هذه التجربة مرة أولى
لا يكفي. فلا بد من أن يعرف كيف يقدِّر ويوزع المخاطر
المحسوبة في التعرض المتكرر لمصدر الإشعاع بتجديد
العملية مرة أخرى بعد ثلاثين سنة، ثم بعد ذلك مرات
متكررة، يتزايد تكرارها على إيقاع تناقصِ قدراتِ الملكِ
البدنية، فقد كانت قدراته على تحمل التجربة تتناقص
نقصانًا متزايدًا. ولكن التجربة ظلت ضرورية لم تفقد
شيئًا من ضرورتها لتحاشي حدوث أي خلل في السلطة يلائم
نشوب مؤامرات؛ لأن المؤامرات كانت غالبًا ما تنطلق قبيل
الاحتفالات اليوبيلية بالفراعنة «ففي اللحظة … التي
يجدون أنفسهم فيها، وقد استهلكوا هالتهم، قاصرين على
الحالة الإنسانية.»
٣٨
وبينما يقترب الملك من الربانية يعرف بالفعل أن
محاولته محدودة لأن الإله ليس خالدًا بالمعنى الذي
نفهمه، فهو يموت أيضًا في كل عام
٣٩ في الشرق القديم كله (بل وفيما وراءه، في
العالم الهندي الذي أتت منه بلا شك تيمة الميلاد
المتجدد دوريًّا). حتى في أوجاريت
Ugarit، حيث يعنون أن
الشمس «تشرق وتغيب» عندما يقولون عن بعل
Baal إنه «يأتي إلى
الحياة» (ح ي
hy)
و«يموت» (م ت
mt)
يوميًّا وعن «سيد الأرض» الرب الأكادي إيا
Ea إنه الرب الحي
لفصول السنة (ح ا ي ا
hayya).
٤٠ ولما لم يكن من الممكن أن يقيموا له جنازات
لا في مصر ولا في بلاد الرافدين فقد اعتبروه مؤقتًا
مختفيًا وقالوا إنه لن يعود إلى الحياة إلا عندما يتم
الاحتفال بطقوس العام الجديد من أجل إعادة ميلاد النبات
وإسالة اللبن البليل. وكان العامة في مصر يحتفلون ﺑ
«يوم الموتى» احتفالًا صاخبًا، ويشربون حتى الثمالة تحت
رعاية حتحور
Hathor
بغية الوصول إلى حالة الانجذاب الملائمة للقاء الأجداد
الأوائل الميتين. وعندما يميل هذا اليوم الأخير من
العام إلى الغروب، يطفئون مشعلًا متقدًا في إناء لبن.
٤١ ثم يوقد فرعون شعلة جوسقه الذي شيده خصوصًا
للاحتفال بالعيد، كذلك يوقد المشاركون في الاحتفال
شعلاتهم قبل أن يذهبوا ليؤججوا في الموكب نار المقصورات
الربانية (وربما أيضًا نار المقصورات العائلية).
٤٢ هكذا يولد كل واحد من جديد، مثل سمكة
المياه العذبة المفضلة لدى مزخرفي القبور، سمكة
التلابيا
tilapia التي
تبتلع الأمهات ذرياتهن عند الخطر، ثم تطلق سرب الزريعة
عندما تستطيع الصغار العوم من جديد مطمئنة كل الاطمئنان.
٤٣ و«تكرار الميلاد» هو تجديد حياة السلطة.
عندئذٍ يتم تنشيط المكون السياسي للعاهل، وقدرته على
الحكم بكلِّ روعةِ يوم جلوسه على العرش. والملك يخلع
ثوب بلاطه ويلبس بدلًا منه كفنًا طويلًا، وينسحب مع
تماثيله الجنائزية الصغيرة «ليرتاح داخل المقبرة». ثم
يلبس بعد ذلك معطفًا مُرْبِكًا أبيض اللون في مثل بياض
الثوب الملكي الرافديني قبل أن يقفل «الدائرة حول
السور» (رمز أسوار ممفيس البيضاء) بنفس المئزر القصير
المناسب لمغامرات المراهقة البطولية الذي كان يلبسه يوم
جلس على العرش.
٤٤ في اللحظة التي تولد فيها المنظومة
الفرعونية، تكون هذه العملية بالفعل وبلا شك وسيلة
للتحقيق من المواهب الدنيوية للمرشحين المتطلعين إلى العرش،
٤٥ وهي تقيِّمها على قدر تقييمها الرمي بالقوس
أو الجري للوصول إلى هدف في وقت محدد. والملك الصالح لا
بد من أن تكون له القدرة على أن يصيب أهدافًا متحركة
وعلى أن يروض خيوله ليبلغ بها هذا المبلغ. ويلزمه أن
يسبح بسرعة، وأن يسبق جنوده عدْوًا في ساحة (أو في
«مضمار بطولة»)، أن يحقق أرقامًا قياسية أو يحطم بعض
المتحقق منها. ويلزمه في نهاية المطاف أن يمارس رياضة
التحطيب (مستخدمًا نبابيت طويلة)، وأن يمارس ألعابًا
رجولية مع رجاله (مستعينًا بكرات من الجلد) وأن يغلبهم.
٤٦
وفي الربيع، في أول يوم من شهر نسيان،
٤٧ كان البابليون يستعدون هم كذلك لمهرجان
يبدأ بعد أربعة أيام بإنشاد ميثة الخلق، كانت فيما مضى
يعقبها اقتران الملك بالكاهنة الكبرى وكرنفال يستمر
أسبوعًا كانت «الخادمة في أثنائه تساوي السيدة.»
٤٨ ثم كان كاهن ماردوك
Marduk الأكبر يجرد
الملك من كل رموز الملَكية، وكان الملك أحيانًا يلبس
كما يليق بالطقوس ثوبًا أبيضَ فضفاضًا قصير الكمَّين
يتدلى إلى كاحليه،
٤٩ ثم يصفع كاهن ماردوك الأكبر الملك صفعة
أولى، ويلزمه بالركوع أمام تمثال الرب وبأن يشهد بما
فعله من خير طوال العام المنصرم؛ وكان الملك والكاهن
الأكبر يتلوان الصلاة معًا فإذا تقبلها الرب بقبول حسن
أعاد الكاهن الأكبر إلى الملك رموز الملك وصفعه صفعة
ثانية (وكانت دموع الألم التي يسكبها تشهد على حظوة
الرب المجدَّدة).
٥٠ ونفهم أن الملك كان يستطيع أن يتحلل من هذه
الطقوس عندما تتاح له الفرصة، على الرغم من التعرض
لمخاطر نشوب اضطرابات كونية وسياسية نتيجة الإثم الذي
يرتكبه: ففي نهاية القرن السابع ق.م. وبداية القرن
السادس ق.م. كان كُتاب الأحداث التاريخية المحليون
يرجعون ما مُنِيَ به الملوك البابليون والآشوريون من
سوء العاقبة في الحرب والحظ إلى أنهم لم يذهبوا إلى
المعبد لحفل العام الجديد، وأنهم لم يأمروا «بإخراج»
الرب بعل من محرابه، وأنهم وكلوا أمر الأضاحي والقرابين
وصيانة المحراب الرباني إلى الكاهن الأكبر كالمألوف في
«الوقت العادي.»
٥١
وهذا هو الملك الشرقي، سواء تأمل في قبره متمثلًا
صورة شبيهة بالموت الفيزيقي، أو لمح من خلال شق ضيق
احتمال ميتته السياسية، يتلقى في كل عام من السلطة
السماوية تنبيهًا مباشرًا يحضه على أن يأخذ بالعدل في
ممارسته السلطة الأرضية. ويتلقى منها كذلك تنبيهًا
يذكِّره بأن كل شيء يزول ويدور على هذه الأرض. والجذر
الاشتقاقي المصري «و ح م
whm» والجذر السومري
«ب ا ل
bal» والأكادي
«ب ا ل
palu» وكلها
جذور تؤكد — مثل اللفظة العربية «دولة» — السمة
الدورانية للسلطة، على عكس الكلمات الغربية الدالة على
الدولة
État (state,
Staat) فهي تعني الثبات، ثبات الدولة
وصلابتها ودوامها بمؤسساتها وهيئاتها وطبقاتها (اﻟ
Stände الجرمانية
والطبقات الفرنسية الثلاث المسماة
les
trois états في «العهد القديم» في
فرنسا قبل الثورة الفرنسية). وكلمة (بالا) «ب ا ل ا
bala» مشتقة من فعل
يعني «يدور، يدير، يقتلع، يحدث بلبلة، يقلب رأسًا على
عقب» أو يعني أيضًا «يغير» (يغير تعليمات مثلًا). وهي
الكلمة التي تستخدم عندما يقوم حارس من حرس الملك بقلب
منضدة في لحظة غضب (= يثور) فتكون وسيلة «لعن». كذلك
تعني الكلمة «اختراق» (وبخاصة السماء، فيدور نجم «دورةً»)
٥٢ «تحويل» (موارد)، «تسليم» (جزية)، تأدية
«خدمة»، دفع «ضريبة» أو إنجاز «سخرة»، بل تعني الحصول
على «جراية». ومما يطابق عبقرية اللغة أن اللفظة انتهى
بها الأمر إلى أن أصبحت تدل على «حكم»، «عصر»، «أجَل»، «مدى.»
٥٣ ويمكننا أن نتصور دون مشقة أن اللفظة دلت
على «الدور» بمعنى عبارة «كل واحد يأتي دوره في الوصول
إلى السلطة»، سواء كان الأمر، أمر تعيين موظف، أو بصعود
عائلة مالكة. وربما جاء من هنا الارتباط ﺑ «الحظ» أو
«الحظوة» أو «المزية»، وهي كلمات نجدها في سجلات لغوية
أخرى للسلطة. فهناك باختصار دلالة على موقف مؤقت، قابل
للانقلاب، يستدي تبدلًا ويجعل من التاريخ السياسي في
العصور التي تعنينا «سلسلة متتابعة من عائلات مالكة
كوَّنت كل واحدة منها كلًّا متكاملًا، خلف بعضها بعضًا
حسب نظام محدد، واستمرت الوقت المتاح لها.»
٥٤
عندما حكمت أسرة أور الثالثة
Ur
III التي كانت منظمة تنظيمًا شديدًا،
كانت «بالا»
bala عبارة
عن ضريبة مختلفة عن الإسهامات المالية الأخرى التي يتم
تحصيلها خارج نواة الدولة السومرية، لأنها كانت تضمن
«مبادلة»، ودورانًا للثروات، حيث إنها كانت تسمح بتبادل
المنتجات التي تخصصت فيها المناطق المختلفة، وبتخطيط
الإنتاج وإعادة التوزيع على المستوى القومي لموارد البلاد.
٥٥ ولقد بلغت هذه الآلية الكمال إبان القرن
الواحد والعشرين ق.م. الرافديني الذي اتسم بالمركزية
أشد المركزية ولكنها ظلت تطابق واجب عدل اجتماعي عالمي
على أية حال. وكان من الضروري تحقيق ما لا يقل عن نظام
عالمي. وكانت السوائل الثمينة، والمواد المعدنية
النادرة والطاقات المتجددة التي يستمد الملك منها قوته
تُمنح له في مقابل مجتمع مقبول حتى في أعين من قل
نصيبهم من النعم. وكان المرشح لاعتلاء سدة الملك يوقع
عقدًا مع الآلهة ومع البشر، يلتزم فيه بأن يكون وسيطًا
أمينًا بين الآلهة الذين يعطون المواد الأولية والطاقة
وبين البشر الذين يمزجونها لكي يحولوا الطبيعة إلى
عمران. كان الواجب يفرض أن ينال كل واحد نصيبه العادل
سماويًّا كان أو أرضيًّا من المنتج الكوني، نصيبه
المحفوظ أو المُسْتَرَدُّ على الرغم من آليات الاقتصاد
الإكثارية.
(١-٢) عدل … ومظالم
ويتلقى الملك لتحقيق هذا الغرض «منصبًا» على شكل
«ميراث»، و«رصيدًا من الخيرات» البيتية
imyt-per من شأنه أن
ينميها باعتباره ابن (الآلهة) الصالح والمدبر الصالح
(للبشر). لم يكن المصريون يتلقون شيئًا من السماء إلا
في مقابل القرابين الخاصة التي كان فرعون شخصيًّا يقوم
بتسليمها باعتباره القائم بتصريف منتجاتهم لدى الآلهة
الذين «يكافئونه» «ويثيبونه» في مقابل تدبيره الخالص
الذي لا تشوبه شائبة.
٥٦ ولفرعون أن يوزع بين البشر ثمرة اتصاله هذا
بالآلهة. وهو يقوم بهذا التوزيع علنًا مضفيًا على عمله
هذا سمة احتفالية وهو ما يتيح للشعب أن يقاسمه الطقوس
المنتجة وثمارها. والملك لا شيء بغير شعبه، والمعبد أو
دائرة الوقف الجنائزي لا يمكن أن يكون لهما وجود بغير
بيئتهما المحيطة بهما. هكذا فرعون وكهنته لا يتصرفون في
الظل من وراء أسوار صفيقة، إنهم بحاجة إلى كل المصريين
حتى تقوم لمشروعية أدوار كل منهم قائمة وتظهر في وضح النهار
٥٧ في احتفالات كبيرة يطعم الملك في أثنائها
شعبه على نحو خلاب يشد الأبصار. والرأي عند ماسبيرو
Maspero أن «الفراعنة
وقد اضطروا في كل يوم إلى أن يكافئوا واحدًا من
مستخدميهم، لم يكونوا قط يحتفظون مدة طويلة بعائد
مشروعاتهم … أما الرب فكان على العكس منهم يتلقى كل شيء
باستمرار ولم يكن يرد شيئًا قط.»
٥٨ والرب الاجتماعي هو بداهةً ذلك الذي يجوع
ويبدو شرهًا إلى الاستهلاك لا يشبع أبدًا وهو دائمًا
سريع التصديق يستغله بعض الكبراء الخبثاء.
وكان عقرب الزمن يعود دوريًّا إلى نقطة البداية لكي
يضبط أجهزة قياس الزمن البندولية. فكان الملك الجديد
يأخذ على نفسه تعهدات، ويقرر إصلاحات، ويقسم على أنه لن
يقبل الجور بعد اليوم، وأنه سيدافع عن الضعاف ضد قهر
الأقوياء المتنامي. وكان الملوك الآشوريون يرجون ربهم
آشور
Assur أن يمنحهم
«حس العدل وروح الوفاق.»
٥٩ ونشيد تتويج آشوربانيبال
Assurbanipal يتمنى
له: «أن يوهَب الفصاحة، والفهم، والحقيقة، والعدل.»
٦٠
وتلك أمنية جديرة بالاهتمام لأنها تفصح عن الصفات
المطلوبة في رجل الدولة (أن يعرف كيف يخاطب مواطنيه دون
أن يكذب عليهم، وأن يعرف كيف يسمعهم لكي يعدل بينهم).
والمدهش فوق هذا وذاك استخدام كلمتَي «الحقيقة»
و«العدل»، حيث إنهما أيضًا المعنيان الرئيسيان لكلمة
ماعَت
ma’ât المصرية
التي تدل على واجب كل ملك: أن يكون عادلًا بالمعنى
المزدوج لكلمة: العدل
équité والحقيقة
vérité (صدق التحليل).
٦١ والفرق الرئيسي بين الثقافتين السياسيتين
يكمن في أن إحداهما تستخدم كلمتين حيث تكتفي الأخرى
بكلمة واحدة.
٦٢
والمفاهيم الثلاثة غنية بالدلات الترابطية،
والشرقيون القدامى لم يحرموا أنفسهم من استخدامها في
تحليلاتهم للنشاط السياسي. وبينما تعني الماعَت في
اللغة المصرية «الحقيقة والعدل» معًا، بل الأصالة
والسداد والاستقامة والأمانة والثبات والثقة والثواب الحق
٦٣ فإن الكيتُّو
kittu في الأكادية
يتضمن فكرة الحقيقة (أي الاستقامة والأمانة) وفكرة
الثبات (أي النزاهة والإخلاص والثقة)،
٦٤ والميشارو
mîsharu توحي بالعدل
(والسداد) أو النظام (في الفلك يعني الفعل المشتق من
هذا الأصل أن الجرم السماوي «في فلكه الصحيح»).
٦٥ كل هذا يمكن أن نلخصه دون التواء مفرط في
مفهومنا الحديث «الشرعية.»
٦٦ أن يكون الهدف في حكم دولة رافدينية هو
الكيتُّو
kittu يعني
تمييز الحق عن الباطل، الفصل بين صدق النية والخيانة،
تحديد الاتجاه الذي يجب التزامه في الحكم، رسم الطريق
المستقيم الذي ينبغي أن يرجع إليه من تنكب عنه. ولكن
ذلك كله لا يتم في مقابل ظلم أو في مقابل التمسك بألوان
من التفرقة: ولا بد من أن يكون الحاكم كذلك مستقيمًا
وأن يتحرى اللياقة في سلوكه وفي تحليله، ولهذا غالبًا
ما يواكب اﻟ كيتُّو
kittu اﻟ ميشارو
mîsharu، فنجد العدل
الذي يتقرر بمرسوم، يناله المحرومون، والمخدوعون وضحايا
سوء القيام على الاقتصاد. والملك هو الراعي الصالح الذي
يجب عليه أن يعدل في معاملة أغنامه،
٦٧ وهو القاضي الصالح الذي يقرر ما هو ضروري
اجتماعيًّا من أجل بقاء الدولة. وهو يقيم العدل
بالمعاني الثلاثة المقبولة للفظة «عادل» (معنى
الإجراءات القضائية، ومعنى العقد الاجتماعي، ومعنى
التحليل السديد للأحداث السياسية). والحكم الذي ينطق به
هو يقينًا حكم يرسمه (كي-ناتوم
ki-natum أي «هو ذاك»
[= رسمنا بما هو آت])،
٦٨ وكما أن ماعَت
Ma’ât في مصر هي
الربة التي تحاكم الموتى وهي ترسم مصيرهم في العالم
الآخر (في الشكل الذي اتخذ صورة وزن ريشة ترمز إلى روح
الميت لمعرفة هل قال الحقيقة ومارس العدل في
حياته)
ولما كانت العدالة «القضائية» هي — بادئ ذي بدء —
أداة تعويض يقدم إلى الضحايا، فقد كان الرأي الذي كونه
الشرقيون القدامى بعامة عنها هو أنها تعني التبادلية.
والشر هو الأنانية الشَّرِهَة، الانطواء على الذات،
الصمم، الكسل: ألا تعيد للناس ما أعطوك إياه، فهذا يعني
نسيان الخدمات، والتصرف ضد المبدأ المصري القائل «اعمل
من أجل الذي يعمل» أو ضد التعاليم البابلية التي تحض
على التزام العدالة والكرم إذا سعى الإنسان ليكون
حكيمًا رشيدًا.
٦٩ ومعنى ألا يقوم الإنسان بتوزيع ما أوتي من
نِعَم هو تعطيل عملية خلق الثروات وتحرير الإنسان من
الضغوط الطبيعية. والمصريون يفهمون آلية العمل
الاجتماعي على أنها «تعشيق التروس» بعضها في البعض
الآخر، وهي آلية لا بد من صيانتها لكي تحتفظ بفعاليتها.
واتخاذ موقف مسئول يعني القبول بأن الإنسان ليس ملزمًا
بأن يحب قريبه في محاولة لتجعله يحبه بالإحسان إليه. إن
مساعدته تسمح بعدم قطع سلسلة التضامن الاجتماعي نتيجة
رفض الإنسان أن يضع نفسه في خدمة الآخرين.
٧٠ فالالتزام يفرض نفسه إذن على الملك كما
يفرض نفسه على مواطنيه أولي الألباب، كلٍّ على مستواه،
ولكن على الملك أولًا وقبل كل شيء آخر أن يعمل على
سيادة النظام والخير (ماعَتْ
Ma’ât) وعلى مكافحة
اللانظام والشر (إسفت
Isfet)، ولا يزال هذا
إلى اليوم هو واجب كل مسلم صالح وواجب أمير المؤمنين في
التصور الإسلامي. وتخفيف التباينات من شأنه أن يحدث
«الوفاق» بين أعضاء المجتمع،
٧١ وأن يقيم الاتصال بين الآلهة والبشر، وأن
يعلن استقلالهم، مقفلًا دائرة الكائنات الحية في كفاحها
ضد الطبيعة الميتة للأشياء (التي لا تتحور بسهولة)
وللبشر (الذين لا هم طيبون ولا هم كرام
بالفطرة).
والمفاهيم الثلاثة المبدئية، وقد نجمت عن أخلاقية
تأقلمت طبقًا لاحتياجات دولة جديدة من قبيل الدولة
القديمة في مصر، والممالك السومرية ثم البابلية الأولى
لها قوة القانون. وهي تشكل أساسيات قانون لا يجرؤ
الإنسان على وصفه بأنه «طبيعي» نظرًا لأنه يندرج في
مدارج مضادة لمساوئ الطبيعة الممكنة الحدوث (فيضانات،
وطوفانات وغيرها من التغيرات الجوية التي تجلب غزو
المدن وتخريبها)، فإن نصوصها تعمل على أية حال عمل
المبادئ العامة للقانون. وهذا هو السبب الذي من أجله
تسمى بيان الإصلاح الذي صدر في مصر مستهدفًا فجر عصر
جديد — أو مستهدفًا منحه من جديد معنى حيث إنه استمر
منذ ما يزيد على جيل — باسم «ودجات»
wadjat، أي مرسوم
ملكي يستند إلى مذهب (ماعَتْ
ma’ât)،
٧٢ أما في بلاد الرافدين فقد اتخذ اسم «سيمدات
شارِّيم»
simdat
sharrim٧٣ وهو اسم يعني نفس الشيء بالنسبة إلى مذهب
«كيتو ميشاروم»
kittu-mîsharum.
ولفظة «ميشاروم»
mîsharum تدل فوق هذا
وذاك على «العدالة» الاجتماعية، من حيث هي رد في المجال
الزمني الذي يستطيع الملك أن يتصرف فيه، صادر عن النظام
الروحي الثابت الذي لا يتغير (كيتو
kittu) الذي يفرضه
إله قابض على الحقيقة.
٧٤ والملك الرافديني شرعي (شارُّو كين
sharru-kîn) لأنه
عادل (شار ميشاريم
shar
mêsharim). والملك المصري صالح لأنه
يطبق مبادئ القانون الطبيعي: واﻟ (ماعَتْ
ma’ât) هي المعادل
الفرعوني للشريعة الإسلامية
charia، الشِّرعية
المستقيمة.
ونحن نعرف ما لا يقل عن ست مجموعات تشريعية
رافدينية (منها مدونة حامُّورابي
Hammourabi الشهيرة)
في مقابل وثيقتين مصريتين (منها مرسوم حورمحب
Horemheb الشهير)
تبرزان دون مواربة هذه النوايا المتمثلة في تطبيق
القانون تطبيقًا عادلًا.
٧٥ حامُّورابي مثلًا «يهدم المؤذي والشرير حتى
لا يطغى القوي على الضعيف»، وهو ينقل تقريبًا كلمة كلمة
النص السومري الذي كان الملك «أورنامُّو» قبل ثلاثة
قرون ونصف قد حرره، وكان الملك «أورنامُّو»
Ur-Nammu قد التزم من
قبل «بألا يسلم الأرملة واليتيم إلى الغني أو القوي»،
٧٦ وبأن يرعى مصالح الصغار (يسميهم موسكينو
muskenu وهم من كانوا
دائمًا في حال متواضعة، وكانوا غالبًا خاضعين للإدارة).
٧٧ أما القائد المصري حورمحب الذي وصل إلى
السلطة في أعقاب انقلاب ضد خليفة توت عنخ آمون، فقد خطا
إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما جعل نفسه في عون «الضعيف»
و«الفقير» و«اليتيم» ضد تحكم الموظفين العموميين
(
sérou).
٧٨
وعلى هذا النحو أعلنت الدولة الحامية إجراءات
استثنائية في «مدوناتها القانونية»: إعفاء المثقلين
بالديون من بعضها، إحاطة الضعاف بالحماية القانونية،
مكافحة الثراء غير المشروع، بل ومكافحة فساد أصحاب
السلطة وارتكابهم التزوير في الإجراءات. وعلى الرغم من
أن كبار الموظفين والمستشارين كانوا في بعض الحالات أول
المستهدفين، فقد كان عليهم أن يقوموا في الحال بتطبيق
القواعد الجديدة، والعمل على تنفيذ مستتبعاتها القضائية
(«اجتمعت لجنة من قضاة أور
Ur ولارسا
Larsa» إبان السنة
الخامسة والثلاثين من حكم ريم سين
Rîm-Sin لكي تقوم —
بحسب تعبيرها نفسه — «بتسوية النزاعات التي نجمت عن
تطبيق المرسوم الملكي»)؛
٧٩ في ظروف مشابهة قام مستشارون آخرون «بنقض
عقود بيع أصبحت لاغية.»
٨٠
كان الملك — بإقامة العدل، وإعفاء الفقراء، ومنح
تخفيضات للعادلين — يطهر نفسه؛ وهذا هو بالضبط ما تعنيه
لفظة ثالثة استخدمت في بلاد الرافدين هي «زاكوتو»
zakûtu (طهارة،
إعفاء، استخلاص). والنعت «زاكو»
zakû يعني «طاهر»،
خالص من فرض، مبرأ من اتهام، مسدد ما عليه من مستحقات،
غير مرهون. والإنسان لا يمكن أن يمنع نفسه من تقريب هذه
اللفظة باللفظة العربية «زكي» التي تعني «طاهر»، وعلى
نحو خاص بفريضة «الزكاة» الإسلامية — الصدقة الشرعية —
وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة، التي «يطهر» أداؤها
دافعها، ويشهد على أن «قلبه طاهر»، وأنه عادل ونزيه،
وأنه يعرف الحقيقة (إذ يعترف أن السائلين والمحرومين
لهم حق معلوم في أمواله كما تبين إحدى سور القرآن الكريم).
٨١ والملك الرافديني يبرر نفسه بما هو مؤمن،
ويثبت نزاهته
kittu
قاضيًا، ولكنه بوصفه موقعًا على المراسيم ينطق بالمصلحة
العامة؛ بالعربية «المصلحة»
maslaha، مصلحة
الجماعة، الصالح الاجتماعي، المنفعة العامة وهي من هذا
المنظور أساس الشريعة القرآنية.
٨٢
وهو كذلك يمارس شريعته في الأحكام العادية البسيطة
أكثر مما يمارسها في الأوامر السامية التي تخرج رسميًّا
إلى الكافة لدعم سلطته؛ لأن القرارات السياسية أو
القضائية التي يتقاسمها مع أصحاب مناصب الحل والعقد في
مدنه كلها تتسم بالتكريس المتضمن في استخدام اللفظة
التي تدل في الأكادية على نبوءات الغيب والأحكام
الإلهية، لفظة «دينو»
dînu وهي ليست بلا
علاقة بالمحك المفهومي السومري «الإلهي»
dingir — وتعني
اللفظة حرفيًّا «الإله الشخصي» الذي يمثل الحصول على
حمايته مرادفًا للحصول على «فرصة تفوق التصور»، على «حظ
عظيم واضح» —
٨٣ كما أنها ليست بلا علاقة بلفظة «دين» في
العربية. وقبل أن يعبر هذا الجذر السامي في اللغة
العربية عن «الدين»
religion الذي يتبعه
المؤمن، فإن هذا الجذر السامي الذي يأتي منه المفهوم
يدل في وقت واحد على الحكم المنطوق والجزاء الممنوح من
لدن الخالق، كما هي الحال في مفهوم «الحكم الأخير» يوم الدين.
٨٤ ولقد صاغ حامُّورابي، رغبةً منه في بلوغ
فهم أفضل للعلاقة بين اللفظتين، قواعد عادلة «دينات
ميساريم»
dînât mîsarim.
٨٥