الباب الحادي عشر

العقد الاجتماعي

لما لم يكن المَلِكُ يتحكم في المكان الذي يحيط به، فقد تأمر على الزمن، ومَلَكَ عليه نفسَه هَمَّان، أولهما أن يراقب سير السياسة، وثانيهما أن يتحاشى نوائب العمر البيولوجي. يظهر هذا الطموح المزدوج من خلال تدبير تقويمٍ مستندٍ إلى عصرِ حُكْمِهِ، ووضعِ الحَجَرَ الأول في صروح «ملايين السنين». وهو يفترض كذلك التذَكُّر الدوري للعقد الاجتماعي بغية تجديد نشاط المَلك والمجتمعَ في آنٍ واحد، مضيِّقًا الفجوة بين حال الفقراء وحال الأغنياء، ومقللًا التفاوت بين سلطة الأميين وسلطة المتعلمين.

والتحكم في الزمن إذ يولِّد عالَمًا من اليقينيات يجعل توقعات المستقبل ممكنة. ويصبح من الرشد بمكان أن يكوِّن الملِك لنفسه تراثًا قابلًا للنقل بكل أمان إلى ذريته. والثقة في المستقبل هي أيضًا شهادة إيمان بإمكان حل المنازعات سواء كانت منازعات عائلية أو اجتماعية أو عالمية: والملك مخول مهمة التحكيم بين القوى المتعادية. وصوَرُهُ الأولى في عصر ما قبل الأسرات تظهر ذلك تمامًا. فهو إذ يندس بين حيوانين متوحشين يرمز إلى العالم المتحضر؛ وهو إذ يفوقهما في القوة يجسم مرحلة جديدة في تنظيم الخاءوس Chaos.١ منذ ذلك الحين لم تعد الكائنات الحية فقط مجمعة في أحزاب متعارضة بعد أن تواجهت في أعنف لانظام. اختل توازن القوى الاجتماعية الذي ترمز إليه مجابهةُ الأسُود أو الكلاب المساوية لها في البنية، لصالح دولةٍ لا تزال أشدة قوةً، قادرةً على أن تتجاوز النزاع بين «الدستوريين» المخلصين لنظام حورس Horus الجديد وبين «متملقي الشعب»٢ الذين يحنِّون إلى اللانظام القديم. ومتملقو الشعب لن يحكموا أبدًا، ولكنهم سيعرفون كيف يتكيفون مع الوضع، مثلهم مثل ست Seth الذي قبِلَ صاغرًا الحكمَ الذي صدر ضده وقلص سلطته وحصرها في الإقليمية. والملك وقد بلغ أوج قوته لم تعد به حاجة إلى أن يدس نفسه فاصلًا بين أعداء الزمان الماضي بعد أن أصبحوا منذ ذلك الحين مرتبطين جميعًا بشجرة أو بجذع رمزًا للزراعة المروية في مشهد تغلب عليه سمات الحقول أكثر من سمات مروج الصيد. ولما كان السلام الملكي قد تبع حرب الكل ضد الكل، فهؤلاء هم الغرماء وقد أصبحوا الآن شركاء يعبدون معًا النبْتَ المقدس.٣
fig9
شكل ١١-١: تمثيل التحكيم والسلطة في بلاد الرافدين ومصر.
  • (أ)

    الإله ست يعزف على الناي لينظم العالم الوحشي حيث كل حيوان ذئب للآخر.

  • (ب)

    شخص راكع على ركبتيه حاملًا الشارات الملكية — اللحية، التاج، الشعر المستعار، الحماية النجومية — تكتنفه من الناحيتين شجرةٌ مقدسة يعلوهها قرصُ الشمس المجنَّح والمُخَوَّذ.

  • (جـ)

    الإلهان حورس وست يربطان نباتات الجنوب والشمال حول عمود يحمل الكون.

وبقي العالَم الوحشي (أو الذي نال وحوشُه ترويضًا متفاوتًا) وبقي أفق القبائل (أو أفق القرى) جميعًا على أية حال، وقد اجتازا دون صعوبة كبيرة التقلبات الأيديولوجية التي كان السبب فيها خلق عالم سياسي جديد. وهذه هي الأيديولوجية الفرعونية القائمة على أساس مثال الدولة ذات النزعة المطلقة في التراث العتيق تسيغ الثقافات الأكثر محلية والأكثر ديمقراطية التي كانت موجودة من قبلها دون أن تبيدها. وقد استخدم أولئك الذين أبدعوا هذه الأيديولوجية بنجاح أكثر المعتقدات شعبية ضامين إيَّاها إلى «المأثور العظيم» الذي أرادوا أن يقنعوا معاصريهم بأنه لا تاريخ له، وادعوا بالفعل أن الآلهة ورَّثوا خلفاءهم الذين أصبحوا ممثليهم على الأرض.

في هذه الرؤيا النظرية تمامًا يؤدي نجاح حورس الكامل إذ يرفض كل حل وسط إلى إعادة تنظيم مجمع الآلهة بهدف تأسيس دعاية ملكية تفصل فرعون عن رعاياه. وتتنمَّق ميثةُ الخَلْقِ بفقرة صعود إلهٍ هَرِمٍ واهنٍ إلى السماء، يدع شبكة من اللعاب تنساب من حز بين شفتيه، وتخدعه إيزيس بسهولة فتجعله يكشف لها عن اسمه الخفي. ولما كان هذا الاسم الخفي الذي عرفته إيزيس هو مصدر السلطة الحقيقي، فسيكون في مقدور إيزيس أن تنقله من خلال حورس إلى الفراعنة القادمين، مؤسِّسة بحركة واحدة شيئين، أولهما شرعية النظام السياسي وثانيهما مبدأ قلب النظام السياسي. وتتوازى الحكاية مع قصة نزول أوزيريس Osiris تحت القشرة الأرضية، وقد سُحبَ هو الآخر من بين الأحياء، ولن يلقاه الأحياء منذ ذلك الحين إلا بعد موتهم. وأوزيريس هو مُكمل بتاح Ptah، وهو خالق العالم بكلمة منه وحده، مهندس الكون ومؤسس القوانين، ثم هو مكمل آمون، المفعم بالأسرار، هو الخفي عن الأنظار، يفرغ من تحويل ما كان من قبل جماعةً إلهيةً جسدية، متجسدة، ومتجسدة من جديد إلى مجمع آلهةٍ سماوي بعيد وحافل بالألغاز ومجرد غير محسوس.
فكيف يمكن أن تجري على نحو قابل للتصديق معالجة مسألة جسمَي الملك الحساسة، أحدهما جسم أرضي، ثمرةُ توفيقيةٍ ثقافيةٍ، يفسح مكانًا للأعراف الصادرة عن العالم القبَلي أو الزراعي، والآخر جسم سماوي يؤسس ديانة دولة ويضفي القدسية على مؤسسات هذه الدولة؟ كيف يمكن التوفيق بين الجسم الأول القابل للنقد، وبالتالي الملحوظ، والجسم الآخر الذي هو فوق كل الشبهات حيث إنه شرارة إلهية؟ وتكشف الحلول العديدة المقدمة لهذه المشكلة المركبة عن خيال جامح. في مصر تمييزٌ بين الإنسان وبين الإله، بين اﻟ «كا» ka الخاصة به وبين اﻟ «با» ba الخاصة به، بين مقبرته المليئة بالكنوز وبين مقبرته التذكارية الفارغة بلا تابوت (وكانت تفصل بين المقبرتين أحيانًا مئات من الكيلومترات). وفي بلاد ما بين النهرين كان الملك في بعض الأحايين يلازمه بديل ملكي يتلقى الضربات عنه. في كل مكان تتوزع الأدوار بين هذا الذي يمسك بزمام السيادة وبين أولئك الذين جردوا منها.

وكان الشعب، كما تبين منظومة الأوقاف الخيرية في الواديين — وادي النيل ووادي الرافدين — يَقْبل هذا النظام السياسي المتفاوت في مقابل إعادة توزيع الموارد الجماعية مثلما تقبل الآلهة أن تعتبر فرعون أو الملك الآشوري البابلي واحدًا منهم في مقابل قرابينه. وشرعية الإنابة متضمنة بتمامها وكمالها في مفهوم العاهل الحامي الذي يضمن بعقد مزدوج مع الآلهة ومع البشر سريان الطاقة الكونية والاجتماعية، لأنه يتحمل ما قد ينجم عنها من مخاطر شخصية. ونقد التباعدات بين النظام المثالي وبين السياسة اليومية هو في المقام الأول من شأن أولئك الذين يقتربون من مصدر السلطة إبان خدمتهم الإدارية أو الدينية، أعضاء الهيئات المؤسسية، الراسخين في مناصبهم أو في أقاليمهم. فإذا لم تعد لهم هم القوة المعنوية الكافية لكي يجعلوا حججهم مقبولة، يكون على المعارضة الشعبية أن تتولى السهر على سلامة تطبيق العقد، حتى لا يضار طرف له مصلحة. وبين الحين والحين يقوم الحُكْمُ الجديد في الوقت المناسب بالتشديد على أن الملك هو بحق في خدمة الجمهور في إطار قانون ليس له السلطة على تعديله تعسفيًّا. فالعاهل الجديد يعلن العفو عن هؤلاء وأولئك، وعن إعفاءات من الديون، ويذكِّر أولي القوة بأن دورة الهيمنة تنتهي دائمًا إلى نهاية. هكذا يرتفع التعاقب ليبلغ القدَر وإن لم يبلغه فهو يبلغ الفضيلة.

والحل الذي تقدمه النصوص الدينية للمشكلة التي لا يمكن التغاضي عنها والالتفاف حولها، مشكلة قبول التفاوتات الاقتصادية والطبقية الاجتماعية، حل أريب. وكان يكفي أن يجري فيما بعد إظهاره في الدنيا بتطويعه من أجل خلق قالب جديد للنظام السياسي عبارة عن دولة كاملة بتشكيلاتها المختلفة للسلطة وبتمييزها بين القوانين وبين اللوائح، وبإداراتها القائمة على الجدارة وبتنظيمها الدقيق لمؤسسات عامة ولتجمعات من الأراضي، كل هذا مُطَعَّم على مفهوم عائلي للمجتمع ظل حيًّا نشيطًا.

وعندما كان العاهل البشري يناله الوهن فلا يعود يستطيع أن يضمن للحقيقة أن تقال، وللعدل أن يقام، كان التوتر بين دولة تأخذ بالتحديث وبين مجتمع مقيم على المحافظة تترجمه حركات مستهجنة: تحول العجرفة الملكية إلى عصمة إلهية؛ وتحول السيادة والمحاباة إلى الفساد، بل إلى الإجرام.

(١) جسد الملِك

تتصدر النِّعَم الربانية المدينةُ الدولةُ الملكية باعتبارها خير نظام تبنته كل مدن العالم المعروف (أمَا كانت سومر هي البلد «الذي أفاء بالسلطات على الشعوب كلها؟»).٤ ودستورها سماوي؛ فالملك يتلقى السلطات من الآلهة («تاج عظيم وعرش ملكي، مراسم مقدسة وسلطات مهيبة»)٥ شريطة استخدامها في هذه الأرض استخدام رب أسرة طيب.

(١-١) رسول … بطل

وكان على الملك، لكي يبرر أن سلطته أعلى من سلطة البشر، أن يعزوها إلى أصل فوق مستوى البشر. فهو الذي يضمن استمرار الرباط الاجتماعي بصراعه ضد الخاءوس Chaos، وهو يقوم بذلك في الداخل باستباق الثورات أو بالقضاء عليها؛ وفي الخارج باكتساب أراض جديدة للحضارة. وهو يستمد وسائل تنفيذ هذه الرسالة من قدراته الجسدية والعقلية الاستثنائية، وهي قدرات البطل أو حتى الإله الذي يدعي أحيانًا أنه يجسده.
وليس التبرير الشرعي عن طريق الدين بالأمر الممكن دائمًا. ويبقى طريق الأسطورة.٦ والإلهام في الأسطورة مستمد من حياة وأعمال رجال مرموقين، مبدعين ومؤسسين دنيويين لا سماويين، بنائين أكثر منهم كهنة. في مصر حتى الدولة الحديثة كان هناك نحو عشر شخصيات «أحاطتهم ذريتهم، بل وبعض الجاليات المحلية أو المهنية، بالإجلال بعد مماتهم». ولعب الملك لعبة المقاربة بينه وبين هؤلاء الأبطال القوميين، قادة شعبه من قبله بزمن (مهندسين من نوع إيموحتب Imhotep وأمينحوتب Amenhotep في مصر؛٧ وبناة مدن حصينة من قبيل إيتانا Etana وأجا Aga، وجلجاميش في بلاد الرافدين). وإذا كان قد اشتهر في أعين الغرباء على أنه لا يقهر، فإن ناسه كانوا يرونه بأعينهم. وفي آشور حيث لا نجده مُكَبَّرًا على حساب من يحيطون به في الجداريات الزخرفية التي ازدانت بها قصوره، بل قد يحدث أحيانًا أن يظهر أصغر من أفراد معيته من حوله: فنراه قزمًا يركب مهرًا.٨ وكانت مصر هي التي جاءت منها عادة عمل العكس: فقبل أن يظهر فرعون على هيئة الإله، ظهر على هيئة عملاق وإن لم يبد دائمًا أكبر من كبرائه إذا نحن حكمنا بناءً على جدارية في معبد الكرنك حيث يظهر مهندس رمسيس التاسع المعماري أمينحوتب، كاهن آمون الأعظم، في مثل قامة الملك نفسه.٩
والالتجاء إلى الأبطال يمكن تفسيره دون صعوبة. كانت عمليات التأليه قد فشلت (كما حدث في بلاد الرافدين منذ إمبراطورية سارجون Sargon في النصف الثاني من الألفية الثانية ق.م.) أوَلَم تبدأ ممارستها إلا في وقت تأخر تأخرًا مفرطًا مما يعني أنها لم تكن قد ترسخت ترسخًا دائمًا في عادات الناس وتقاليدهم (كما حدث في مصر بعد ذلك بنحو ألف سنة في الدولة الحديثة). أساء العاهل الأكادي نارام — سين Narâm-Sîn في غمرة قوته بعد انتصاراته السياسية الرائعة تفسير الدور الذي كان السومريون يجعلونه لآلهتهم متمثلًا في أن الآلهة تمنح البشر الملَكية. وأخطأ فهم تقديسهم اثنين من ملوكهم الأوائل وحاول لأول مرة أن يؤلِّه نفسه في أثناء حياته. واضطر ابنه نفسه إلى أن يرجع عن هذا التأليه في مواجهة مقاومة السومريين الذين كان يتولى منذ ذلك الحين حكمهم. إلا أن هذه التجربة الفاشلة لم تدع اليأس يوهن بأس خلفائه في أسرة أور Ur السومرية الثالثة، أو منافسيه إيسين Isin ولارسا Larsa، ولكن هذه المحاولة لا تخفي عنا ما حدث بعد ذلك حيث لم يعد ملك آشوري أو بابلي إلى خوض التجربة من جديد.١٠ في وادي النيل لم يقم الملك إلا في الدولة الحديثة «بتنظيم طقوس تقديس تماثيله في حياته» كما فعل توت عنخ آمون في النوبة.١١ وأمر أمينوفيس الثالث ببناء «حريم آمون الجنوبي» في القصر، «وهو أول معبد خصص لتكريس قدسية الملك في أثناء حياته.»١٢ وأغلب الظن أن طقوس هذه الاحتفالات من عمل الوصية على العرش حتشبسوت التي كانت تريد أن تُعتبر ملكًا رجلًا لدرجة أنها قوَّت شرعيتها السياسية الهشة بتقنين منظومة طيبة اللاهوتية.١٣ ولكن الملك لم يكن فيها على أية حال إلهًا حيث إنه يتكون من شِق أرضي وشِق سماوي،١٤ ولكنه كان «تجسيدًا حيًّا للألوهية، والوسيط الإلهي المختار، الوحيد القادر على عبور الحدود الفاصلة بين السماء والأرض وعالم ما تحت الأرض، لكي يتمكن فعلًا من الوفاء بمهامه في المجالات الثلاثة من أجل خير الإنسانية»، إنه «مقابل أرضي» لآمون (هكذا كان تحتمس الثالث في ردهته بالكرنك).١٥ وإنما يشار إلى وجود إلهي في جسد عندما يكون مشهودًا، مثلًا في أثناء المواكب التي يرسم فيها بمروحته منشورة مثل قديس بهالته: هذا الرمز الذي يلازم كالظل تمثالًا أو رسمًا يبين أن الإله يسكنه. وتماثيل الملك — على نحوٍ — مُناظِر — «تماثيل مصونة في حماية الرب»، هي «صور للملك وللرب.»١٦ وحتى إذا كانت لفظة «رمسيس» تعني «الرب أَوْلَدَهُ»، فإنها تعني أيضًا الرب «شكَّله»: أي إن الاسم يمكن أن يدل على الإنسان رمسيس أو على تمثاله. والملك ليس الرب، إنه يقلده أو يتصرف كما لو كان الرب هو الذي يتصرف. ومعبده نموذج مصغر للعالم، إنه نموذج مجسم أقيم فوق هضبة أو ربوة كأنها أكمة طفت عند الانفجار الأولاني في وسط بحيرة تمثل الأغوار السحيقة أو المستنقعات الأولانية، وزود المعبد بمسلات تخترق الأفق في شكل أبراج لتتواصل مع الإلهي، وتكتنف المعبد مقابر غمرت لتتواصل مع العالم تحت الأرض.١٧ إننا في عالم المحاكاة، الكناية، المجاز، لا في عالم تجسيد الرب السماوي في ابن أرضي.
وكان التبرير الشرعي للحق في الحكم مشروعًا توفيقيًّا لا شموليًّا. وهناك مثل رائع عليه يتمثل في وجود عناصر أجنبية غريبة على وادي النيل في أماكن ممارسة طقوس تقديس الزوجين الإلهين حورس Horus وحتحور Hathor، وأصول الزوجين الإلهيين أصول شرقية بالغة الشرقية: في معبد حورس قرد وفرس نهر، وحورس نفسه علامته صقر وقرص شمس، وهما عنصران أصلهما الرمال العربية والليبية؛ وهناك تمثال بِس Bès؛ ذلك القزم الوحشي الأسود مثل مضحك الملك النوبي، في مقصورة الربة حتحور Hathor الجميلة الممشوقة ذات البشرة البيضاء كاللبن. وهاكم مثل آخر: الخرطوشة المحتوية اسم مؤسس السرة الفرعونية الأولى فيها صقر هوائي أصله من الجنوب يركب فوق ثعبان جهنمي أصله من الشمال منحوت أعلى حائط كُسِيَ على الطريقة الرافدينية. وهناك ما يثير المزيد من الدهشة: هناك التماثيل العملاقة البدائية الأسلوب والتي وُجدت فعلًا في موقع قفط١٨ الفرعوني. وهي أسطوانية الشكل تعلوها رءوس صلعاء ملتحية، تحمل علامات سابقة على الهيروغليفية: بروق، قواقع أحفورية من البحر الأحمر، فيل، ضبع، جاموس. أقيمت «بعمل جماعي من الأهالي» دون استخدام لتقنيات معقدة (بطريقة تشبه إلى حد ما تماثيل جزيرة الفصح بالمحيط الهادئ Île de Pâques١٩ ولا تزال تحمل آثارًا مثيرة للأيدي التي لمستها عندما كانت ممدة على الأرض بعد وقوعها. وهناك تباين بين الحمية الشعبية المتواضعة وبين الإغفال البيروقراطي حيال تصوير للخصوبة لم يحفل بالمراسم إلا قليلًا.٢٠
هكذا صورة الإله الخالق النازعة إلى القديم السحيق وإلى الأصول الشرقية تتعايش مع تماثيل أكثر تدقيقًا، وأكثر تطابقًا مع تحديدات اللحظة، أي يدركها الإنسان مباشرةً على أنها فرعونية. ومع ذلك فهذه التماثيل لا تشهد إلا على صفحة واحدة من صفحات الأسلوب الأكاديمي الذي اخترع له صناع المفهوم موروثًا (إما بضفر رموز فلكلورية سبقت تدويل الديانة، وإما باستبعاد تلك التي كانت من بينها أقل مطابقة للأهداف السياسية في لحظتها). وربما حدث أن غلب المكون المحلي في هذا الأسلوب المهجن كما حدث في تعميم استخدام الجعارين التي ترجع في أصولها إلى مصر الوسطى، فأصبحت الأختام المعتمدة بعد أن هجرت أجهزة الإدارة القومية الأختام الأسطوانية المصنوعة من الطين المستوردة من بلاد ما بين النهرين.٢١ وأشد الأشياء دلالة بالنسبة إلى موضوعنا هو بلا شك الكسوة، فوق أعمال نحتية تمثل هياكل نذور، على مقصورة محمولة مصنوعة من الخيزران بهرم شمسي ثابت مبني من الحجارة. أو نذكر كذلك: تطور المقابر الملكية والأرستقراطية التي صممت في البداية لتكون أماكن اعتكاف أمام الجثة في خيام مؤقتة تحولت مرحلة بعد مرحلة إلى إنشاءات جنائزية متوارية ثم بارزة فوق الأرض، متدرجة درجة تلو درجة، ثم منحدرة انحدارات متتالية.٢٢ وهذه رؤى مدهشة لفنانين كأنهم يطرزون على ينابيع متمايزة كانت فيما مضى متعارضة في الحضارة المصرية، إنها صور توحد في آنٍ واحد الشمال مع الجنوب والبدو مع الفلاحين، وأدوات طقوس التقديس الهالكة مع الصروح الدينية المنيعة التي لا تبلى. والملكة — في عالَم من النزعات التفردية particularismes المحلية ومن التعلق العنيف ﺑ «روح الإقليم» — تتعرض لما يهددها بالانفجار بعد مرور وقت طويل على تكوينها. ويعتبر الملك، إذ يعمل دون هوادة على صون التماسك الاجتماعي، الموحِّد الأعلى للمقدسات والمعتقدات.٢٣
ويجسد وجها الملك على هذا النحو عدة ثنائيات من المتضادات، بدلًا من الانتهاء إلى المواجهة الحزينة بين دنيا تحتية انتقالية قابلة للفساد وبين أخرى تتسم بكمال خالد. وفي مصر نجد أوزيريس نتيجة فعل إيزيس إلهًا ميتًا يعود إلى الحياة في المُلك النباتي أو الحيواني كما يعود إلى الحياة في المُلك السياسي: وهو يصبح على هذا النحو خالق الطبيعة (بفضل دورة فصول السنة) ومؤسس وظيفة سياسية (حيث إنه جدٌّ ملكي أول).٢٤ ومع ذلك فهو إله برح الأرض، فهو بالمعنى الحرفي متوفى (لم يعد ينهض بوظائف). ومنذ أن اختفى، تحتم أن يتولى مهامه ملكٌ وكاهن، أو فرعون بما هو منظم التقديس. في بلاد ما بين النهرين كان إله اللبن والحبوب (دوموزي Dumuzi بالسومرية وتمُّوز Tammuz بالأكادية) يلعب دورًا شبيهًا.٢٥ وكان يختفي عن أنظار البشر موسمًا ويظهر موسمًا. وكان عليه بالفعل، منذ أن أظهرت له عشتار Ishtar عاصفة صبابة عارمة مسرفة، أن يقيم بدلًا منها في مملكة الجحيم التي كانت الربة عشتار نزلتها بدافع المغامرة الهوجاء عن غير تدبر: ولهذا ترك الملوك الأرضيين لمصيرهم منذ الخريف، عندما يروب اللبن من أثر العاصفة ويجف الحَبُّ.٢٦ في الأناضول تيليبينو Télépinou ابن إله الجو هو الذي يختفي والآلهة تلاحقه لأن الحياة كلها انسحبت من الأرض معه. في هذه الحالات الثلاث نجد أولئك الذين يحكمون العالم مضطرين لاتخاذ رد فعل حيال اختفاء إلهٍ مُطعِم بقصد إعادته إلى ساحته أو اتخاذ مكانه. وسواء كان الإنسان رجلًا أو امرأة، فإن تأدية دور إلهٍ يعيد الصلة بين عالميْن منفصلين يعتبر بالنسبة إليه مهمة مستحيلة. كان من الضروري في بلاد الرافدين تجديد التماثيل الإلهية البراقة التي تعكس في عريها النور السماوي لكي تحوله إلى «موجات ارتطام متتالية من المعبد إلى المدينة، ومن المدينة إلى القطر والدنيا كلها»، والاتصال مباشرة بالكهرباء الربانية، والطقطقة بالأصابع على طرف قبضة مرفوعة على هيئة مانعة الصواعق، مثل آشورناسيربال Assurnasirpal،٢٧ أو «تناول يد الرب» مثل نبوخذنصر Nabuchodonosor،٢٨ في ثوب أبيض علامة على الذل والحِداد والمحدودية (بينما يوحي الذهب واللون القرمزي بالغطرسة والشمس والدم). ولو امتنع لأدى امتناعه على العكس إلى ما يشبه الانفجار الداخلي،٢٩ ولأثار الكثير من الكسوف الشمسي. كان من الضروري في آشور إذن اللجوء إلى «بديل ملكي» يشد إليه الطاقة الشريرة التي لا بد من أن يحمي الملك. نفسه منها لأنه هو حامي حمى شعبه. ولبس البديل ثياب الملك، وما هو إلا رجل من أصل متواضع، رُفع من أجل القضية إلى رتبة شرفية (بينما الملك الحقيقي مستمر في إدارة شئون البلاد من مقر آخر)، وينتهي البديل بالموت، علامة على انقشاع الخطر.٣٠ وفي مصر كان التحول من جسم بشري إلى جسم رباني شيئًا يكتنفه الطمع كما يكتنفه الخطر. والرجل الذي يتربع على العرش ملكًا، والذي أصبح فرعونًا، له امتيازات مرعبة. فهو الوحيد الذي يستطيع أن يعيد آلية الخلق ورد الفعل في سلسلة يصفها علماؤنا الفزيائيون الحديثون بهذا الوصف، وأن يروض الطاقة الكونية التي ترمز إليها الشُّهُب، والتي تتركز في المعابد كما تتركز في مراكزنا الذرية الحديثة، كما توجد حاضرة في المقابر من قبيل مقبرة توت عنخ آمون حيث تتضمن التجهيزات اللازمة للاحتفال بفتح الفم أن يقوم خليفة الفرعون — وهو مبدئيًّا ابنه البكر أو المدعي أنه كذلك — ﺑ «إيقاظ الإله وتكليفه من جديد»٣١ الملك وحده يعرض نفسه لحرارة العين الشمسية «التي تدفئ قوتها النارية وتبث الحياة عندما يتم السيطرة عليها، والتي تهلك وتخرب في حالة هياجها العارم غير المنضبط.»٣٢ وهو الكائن الوحيد الذي تزور الآلهة أحلامه، ولهذا فمن شأنه أن يجسد مصدر السلطة السياسية ووسيلتها (والسلطة السياسية اسمها «حيكات» hekat والكلمة تعني كذلك الصولجان المنحني) على هيئة طاقة خلاقة (حيكا heka الآلهة «كا» ka جماعية للأجداد). وهو يتوحد معهم بإدخاله العلامة الهيروغليفية الرمزية emblématique لوظائفه «المكونة من لباب الخبز الممضوغ.»٣٣ بل إن الملكة حتشبسوت تقول عن ماعَت Ma’ât: «إنها كذلك خبزي، وأنا أشرب نداها فهي جسم واحد مع الرب»، إلى حد أن قصيدة بنتاور Pentaour تلزم — بعد عدة عصور — الملك الحيثي بأن يشهد أن رمسيس الثاني «ابن رع الذي خرج من جسمه.»٣٤
والانتقال أمر بالغ الصعوبة والعسر يلزم للقيام به الأخذ باحتياجات لا تعد ولا تحصى، حتى لا يتعرض الملك للحرق أو للإشعاع: تبدأ بالاغتسال المضيء بالماء الطهور قبل أن يتدهن بالزيوت المقدسة والدهانات (بأخلاط من مواد دهنية وتراب خصيب ومواد معدنية نادرة)، ثم يشرب لبن الأم؛٣٥ ويلبس ثيابًا بيضاء (تبعد الحرارة)؛ ويسير مرحلةً بعد مرحلة في الطواف الموسوم بالركعات والقرابين والاقتراب شيئًا فشيئًا من قديس القديسين من أجل دعم التعظيم المتزايد للطاقة التي تبثها الكا ka الفرعونية. وتحقيق النجاح في مثل هذه التجربة يعني اكتساب نظرة «أكثر إشعاعًا من نجوم السماء»،٣٦ وتثبيته في وضعه وسيطًا بين الإنساني والرباني، وتلقي السلطة السياسية والدينية المطابقة لهذا المركز الرفيع.٣٧ ولكن تحقيق النجاح في هذه التجربة مرة أولى لا يكفي. فلا بد من أن يعرف كيف يقدِّر ويوزع المخاطر المحسوبة في التعرض المتكرر لمصدر الإشعاع بتجديد العملية مرة أخرى بعد ثلاثين سنة، ثم بعد ذلك مرات متكررة، يتزايد تكرارها على إيقاع تناقصِ قدراتِ الملكِ البدنية، فقد كانت قدراته على تحمل التجربة تتناقص نقصانًا متزايدًا. ولكن التجربة ظلت ضرورية لم تفقد شيئًا من ضرورتها لتحاشي حدوث أي خلل في السلطة يلائم نشوب مؤامرات؛ لأن المؤامرات كانت غالبًا ما تنطلق قبيل الاحتفالات اليوبيلية بالفراعنة «ففي اللحظة … التي يجدون أنفسهم فيها، وقد استهلكوا هالتهم، قاصرين على الحالة الإنسانية.»٣٨
وبينما يقترب الملك من الربانية يعرف بالفعل أن محاولته محدودة لأن الإله ليس خالدًا بالمعنى الذي نفهمه، فهو يموت أيضًا في كل عام٣٩ في الشرق القديم كله (بل وفيما وراءه، في العالم الهندي الذي أتت منه بلا شك تيمة الميلاد المتجدد دوريًّا). حتى في أوجاريت Ugarit، حيث يعنون أن الشمس «تشرق وتغيب» عندما يقولون عن بعل Baal إنه «يأتي إلى الحياة» (ح ي hy) و«يموت» (م ت mt) يوميًّا وعن «سيد الأرض» الرب الأكادي إيا Ea إنه الرب الحي لفصول السنة (ح ا ي ا hayya).٤٠ ولما لم يكن من الممكن أن يقيموا له جنازات لا في مصر ولا في بلاد الرافدين فقد اعتبروه مؤقتًا مختفيًا وقالوا إنه لن يعود إلى الحياة إلا عندما يتم الاحتفال بطقوس العام الجديد من أجل إعادة ميلاد النبات وإسالة اللبن البليل. وكان العامة في مصر يحتفلون ﺑ «يوم الموتى» احتفالًا صاخبًا، ويشربون حتى الثمالة تحت رعاية حتحور Hathor بغية الوصول إلى حالة الانجذاب الملائمة للقاء الأجداد الأوائل الميتين. وعندما يميل هذا اليوم الأخير من العام إلى الغروب، يطفئون مشعلًا متقدًا في إناء لبن.٤١ ثم يوقد فرعون شعلة جوسقه الذي شيده خصوصًا للاحتفال بالعيد، كذلك يوقد المشاركون في الاحتفال شعلاتهم قبل أن يذهبوا ليؤججوا في الموكب نار المقصورات الربانية (وربما أيضًا نار المقصورات العائلية).٤٢ هكذا يولد كل واحد من جديد، مثل سمكة المياه العذبة المفضلة لدى مزخرفي القبور، سمكة التلابيا tilapia التي تبتلع الأمهات ذرياتهن عند الخطر، ثم تطلق سرب الزريعة عندما تستطيع الصغار العوم من جديد مطمئنة كل الاطمئنان.٤٣ و«تكرار الميلاد» هو تجديد حياة السلطة. عندئذٍ يتم تنشيط المكون السياسي للعاهل، وقدرته على الحكم بكلِّ روعةِ يوم جلوسه على العرش. والملك يخلع ثوب بلاطه ويلبس بدلًا منه كفنًا طويلًا، وينسحب مع تماثيله الجنائزية الصغيرة «ليرتاح داخل المقبرة». ثم يلبس بعد ذلك معطفًا مُرْبِكًا أبيض اللون في مثل بياض الثوب الملكي الرافديني قبل أن يقفل «الدائرة حول السور» (رمز أسوار ممفيس البيضاء) بنفس المئزر القصير المناسب لمغامرات المراهقة البطولية الذي كان يلبسه يوم جلس على العرش.٤٤ في اللحظة التي تولد فيها المنظومة الفرعونية، تكون هذه العملية بالفعل وبلا شك وسيلة للتحقيق من المواهب الدنيوية للمرشحين المتطلعين إلى العرش،٤٥ وهي تقيِّمها على قدر تقييمها الرمي بالقوس أو الجري للوصول إلى هدف في وقت محدد. والملك الصالح لا بد من أن تكون له القدرة على أن يصيب أهدافًا متحركة وعلى أن يروض خيوله ليبلغ بها هذا المبلغ. ويلزمه أن يسبح بسرعة، وأن يسبق جنوده عدْوًا في ساحة (أو في «مضمار بطولة»)، أن يحقق أرقامًا قياسية أو يحطم بعض المتحقق منها. ويلزمه في نهاية المطاف أن يمارس رياضة التحطيب (مستخدمًا نبابيت طويلة)، وأن يمارس ألعابًا رجولية مع رجاله (مستعينًا بكرات من الجلد) وأن يغلبهم.٤٦
وفي الربيع، في أول يوم من شهر نسيان،٤٧ كان البابليون يستعدون هم كذلك لمهرجان يبدأ بعد أربعة أيام بإنشاد ميثة الخلق، كانت فيما مضى يعقبها اقتران الملك بالكاهنة الكبرى وكرنفال يستمر أسبوعًا كانت «الخادمة في أثنائه تساوي السيدة.»٤٨ ثم كان كاهن ماردوك Marduk الأكبر يجرد الملك من كل رموز الملَكية، وكان الملك أحيانًا يلبس كما يليق بالطقوس ثوبًا أبيضَ فضفاضًا قصير الكمَّين يتدلى إلى كاحليه،٤٩ ثم يصفع كاهن ماردوك الأكبر الملك صفعة أولى، ويلزمه بالركوع أمام تمثال الرب وبأن يشهد بما فعله من خير طوال العام المنصرم؛ وكان الملك والكاهن الأكبر يتلوان الصلاة معًا فإذا تقبلها الرب بقبول حسن أعاد الكاهن الأكبر إلى الملك رموز الملك وصفعه صفعة ثانية (وكانت دموع الألم التي يسكبها تشهد على حظوة الرب المجدَّدة).٥٠ ونفهم أن الملك كان يستطيع أن يتحلل من هذه الطقوس عندما تتاح له الفرصة، على الرغم من التعرض لمخاطر نشوب اضطرابات كونية وسياسية نتيجة الإثم الذي يرتكبه: ففي نهاية القرن السابع ق.م. وبداية القرن السادس ق.م. كان كُتاب الأحداث التاريخية المحليون يرجعون ما مُنِيَ به الملوك البابليون والآشوريون من سوء العاقبة في الحرب والحظ إلى أنهم لم يذهبوا إلى المعبد لحفل العام الجديد، وأنهم لم يأمروا «بإخراج» الرب بعل من محرابه، وأنهم وكلوا أمر الأضاحي والقرابين وصيانة المحراب الرباني إلى الكاهن الأكبر كالمألوف في «الوقت العادي.»٥١
وهذا هو الملك الشرقي، سواء تأمل في قبره متمثلًا صورة شبيهة بالموت الفيزيقي، أو لمح من خلال شق ضيق احتمال ميتته السياسية، يتلقى في كل عام من السلطة السماوية تنبيهًا مباشرًا يحضه على أن يأخذ بالعدل في ممارسته السلطة الأرضية. ويتلقى منها كذلك تنبيهًا يذكِّره بأن كل شيء يزول ويدور على هذه الأرض. والجذر الاشتقاقي المصري «و ح م whm» والجذر السومري «ب ا ل bal» والأكادي «ب ا ل palu» وكلها جذور تؤكد — مثل اللفظة العربية «دولة» — السمة الدورانية للسلطة، على عكس الكلمات الغربية الدالة على الدولة État (state, Staat) فهي تعني الثبات، ثبات الدولة وصلابتها ودوامها بمؤسساتها وهيئاتها وطبقاتها (اﻟ Stände الجرمانية والطبقات الفرنسية الثلاث المسماة les trois états في «العهد القديم» في فرنسا قبل الثورة الفرنسية). وكلمة (بالا) «ب ا ل ا bala» مشتقة من فعل يعني «يدور، يدير، يقتلع، يحدث بلبلة، يقلب رأسًا على عقب» أو يعني أيضًا «يغير» (يغير تعليمات مثلًا). وهي الكلمة التي تستخدم عندما يقوم حارس من حرس الملك بقلب منضدة في لحظة غضب (= يثور) فتكون وسيلة «لعن». كذلك تعني الكلمة «اختراق» (وبخاصة السماء، فيدور نجم «دورةً»)٥٢ «تحويل» (موارد)، «تسليم» (جزية)، تأدية «خدمة»، دفع «ضريبة» أو إنجاز «سخرة»، بل تعني الحصول على «جراية». ومما يطابق عبقرية اللغة أن اللفظة انتهى بها الأمر إلى أن أصبحت تدل على «حكم»، «عصر»، «أجَل»، «مدى.»٥٣ ويمكننا أن نتصور دون مشقة أن اللفظة دلت على «الدور» بمعنى عبارة «كل واحد يأتي دوره في الوصول إلى السلطة»، سواء كان الأمر، أمر تعيين موظف، أو بصعود عائلة مالكة. وربما جاء من هنا الارتباط ﺑ «الحظ» أو «الحظوة» أو «المزية»، وهي كلمات نجدها في سجلات لغوية أخرى للسلطة. فهناك باختصار دلالة على موقف مؤقت، قابل للانقلاب، يستدي تبدلًا ويجعل من التاريخ السياسي في العصور التي تعنينا «سلسلة متتابعة من عائلات مالكة كوَّنت كل واحدة منها كلًّا متكاملًا، خلف بعضها بعضًا حسب نظام محدد، واستمرت الوقت المتاح لها.»٥٤
عندما حكمت أسرة أور الثالثة Ur III التي كانت منظمة تنظيمًا شديدًا، كانت «بالا» bala عبارة عن ضريبة مختلفة عن الإسهامات المالية الأخرى التي يتم تحصيلها خارج نواة الدولة السومرية، لأنها كانت تضمن «مبادلة»، ودورانًا للثروات، حيث إنها كانت تسمح بتبادل المنتجات التي تخصصت فيها المناطق المختلفة، وبتخطيط الإنتاج وإعادة التوزيع على المستوى القومي لموارد البلاد.٥٥ ولقد بلغت هذه الآلية الكمال إبان القرن الواحد والعشرين ق.م. الرافديني الذي اتسم بالمركزية أشد المركزية ولكنها ظلت تطابق واجب عدل اجتماعي عالمي على أية حال. وكان من الضروري تحقيق ما لا يقل عن نظام عالمي. وكانت السوائل الثمينة، والمواد المعدنية النادرة والطاقات المتجددة التي يستمد الملك منها قوته تُمنح له في مقابل مجتمع مقبول حتى في أعين من قل نصيبهم من النعم. وكان المرشح لاعتلاء سدة الملك يوقع عقدًا مع الآلهة ومع البشر، يلتزم فيه بأن يكون وسيطًا أمينًا بين الآلهة الذين يعطون المواد الأولية والطاقة وبين البشر الذين يمزجونها لكي يحولوا الطبيعة إلى عمران. كان الواجب يفرض أن ينال كل واحد نصيبه العادل سماويًّا كان أو أرضيًّا من المنتج الكوني، نصيبه المحفوظ أو المُسْتَرَدُّ على الرغم من آليات الاقتصاد الإكثارية.

(١-٢) عدل … ومظالم

ويتلقى الملك لتحقيق هذا الغرض «منصبًا» على شكل «ميراث»، و«رصيدًا من الخيرات» البيتية imyt-per من شأنه أن ينميها باعتباره ابن (الآلهة) الصالح والمدبر الصالح (للبشر). لم يكن المصريون يتلقون شيئًا من السماء إلا في مقابل القرابين الخاصة التي كان فرعون شخصيًّا يقوم بتسليمها باعتباره القائم بتصريف منتجاتهم لدى الآلهة الذين «يكافئونه» «ويثيبونه» في مقابل تدبيره الخالص الذي لا تشوبه شائبة.٥٦ ولفرعون أن يوزع بين البشر ثمرة اتصاله هذا بالآلهة. وهو يقوم بهذا التوزيع علنًا مضفيًا على عمله هذا سمة احتفالية وهو ما يتيح للشعب أن يقاسمه الطقوس المنتجة وثمارها. والملك لا شيء بغير شعبه، والمعبد أو دائرة الوقف الجنائزي لا يمكن أن يكون لهما وجود بغير بيئتهما المحيطة بهما. هكذا فرعون وكهنته لا يتصرفون في الظل من وراء أسوار صفيقة، إنهم بحاجة إلى كل المصريين حتى تقوم لمشروعية أدوار كل منهم قائمة وتظهر في وضح النهار٥٧ في احتفالات كبيرة يطعم الملك في أثنائها شعبه على نحو خلاب يشد الأبصار. والرأي عند ماسبيرو Maspero أن «الفراعنة وقد اضطروا في كل يوم إلى أن يكافئوا واحدًا من مستخدميهم، لم يكونوا قط يحتفظون مدة طويلة بعائد مشروعاتهم … أما الرب فكان على العكس منهم يتلقى كل شيء باستمرار ولم يكن يرد شيئًا قط.»٥٨ والرب الاجتماعي هو بداهةً ذلك الذي يجوع ويبدو شرهًا إلى الاستهلاك لا يشبع أبدًا وهو دائمًا سريع التصديق يستغله بعض الكبراء الخبثاء.
وكان عقرب الزمن يعود دوريًّا إلى نقطة البداية لكي يضبط أجهزة قياس الزمن البندولية. فكان الملك الجديد يأخذ على نفسه تعهدات، ويقرر إصلاحات، ويقسم على أنه لن يقبل الجور بعد اليوم، وأنه سيدافع عن الضعاف ضد قهر الأقوياء المتنامي. وكان الملوك الآشوريون يرجون ربهم آشور Assur أن يمنحهم «حس العدل وروح الوفاق.»٥٩ ونشيد تتويج آشوربانيبال Assurbanipal يتمنى له: «أن يوهَب الفصاحة، والفهم، والحقيقة، والعدل.»٦٠
وتلك أمنية جديرة بالاهتمام لأنها تفصح عن الصفات المطلوبة في رجل الدولة (أن يعرف كيف يخاطب مواطنيه دون أن يكذب عليهم، وأن يعرف كيف يسمعهم لكي يعدل بينهم). والمدهش فوق هذا وذاك استخدام كلمتَي «الحقيقة» و«العدل»، حيث إنهما أيضًا المعنيان الرئيسيان لكلمة ماعَت ma’ât المصرية التي تدل على واجب كل ملك: أن يكون عادلًا بالمعنى المزدوج لكلمة: العدل équité والحقيقة vérité (صدق التحليل).٦١ والفرق الرئيسي بين الثقافتين السياسيتين يكمن في أن إحداهما تستخدم كلمتين حيث تكتفي الأخرى بكلمة واحدة.٦٢
والمفاهيم الثلاثة غنية بالدلات الترابطية، والشرقيون القدامى لم يحرموا أنفسهم من استخدامها في تحليلاتهم للنشاط السياسي. وبينما تعني الماعَت في اللغة المصرية «الحقيقة والعدل» معًا، بل الأصالة والسداد والاستقامة والأمانة والثبات والثقة والثواب الحق٦٣ فإن الكيتُّو kittu في الأكادية يتضمن فكرة الحقيقة (أي الاستقامة والأمانة) وفكرة الثبات (أي النزاهة والإخلاص والثقة)،٦٤ والميشارو mîsharu توحي بالعدل (والسداد) أو النظام (في الفلك يعني الفعل المشتق من هذا الأصل أن الجرم السماوي «في فلكه الصحيح»).٦٥ كل هذا يمكن أن نلخصه دون التواء مفرط في مفهومنا الحديث «الشرعية.»٦٦ أن يكون الهدف في حكم دولة رافدينية هو الكيتُّو kittu يعني تمييز الحق عن الباطل، الفصل بين صدق النية والخيانة، تحديد الاتجاه الذي يجب التزامه في الحكم، رسم الطريق المستقيم الذي ينبغي أن يرجع إليه من تنكب عنه. ولكن ذلك كله لا يتم في مقابل ظلم أو في مقابل التمسك بألوان من التفرقة: ولا بد من أن يكون الحاكم كذلك مستقيمًا وأن يتحرى اللياقة في سلوكه وفي تحليله، ولهذا غالبًا ما يواكب اﻟ كيتُّو kittu اﻟ ميشارو mîsharu، فنجد العدل الذي يتقرر بمرسوم، يناله المحرومون، والمخدوعون وضحايا سوء القيام على الاقتصاد. والملك هو الراعي الصالح الذي يجب عليه أن يعدل في معاملة أغنامه،٦٧ وهو القاضي الصالح الذي يقرر ما هو ضروري اجتماعيًّا من أجل بقاء الدولة. وهو يقيم العدل بالمعاني الثلاثة المقبولة للفظة «عادل» (معنى الإجراءات القضائية، ومعنى العقد الاجتماعي، ومعنى التحليل السديد للأحداث السياسية). والحكم الذي ينطق به هو يقينًا حكم يرسمه (كي-ناتوم ki-natum أي «هو ذاك» [= رسمنا بما هو آت])،٦٨ وكما أن ماعَت Ma’ât في مصر هي الربة التي تحاكم الموتى وهي ترسم مصيرهم في العالم الآخر (في الشكل الذي اتخذ صورة وزن ريشة ترمز إلى روح الميت لمعرفة هل قال الحقيقة ومارس العدل في حياته)
ولما كانت العدالة «القضائية» هي — بادئ ذي بدء — أداة تعويض يقدم إلى الضحايا، فقد كان الرأي الذي كونه الشرقيون القدامى بعامة عنها هو أنها تعني التبادلية. والشر هو الأنانية الشَّرِهَة، الانطواء على الذات، الصمم، الكسل: ألا تعيد للناس ما أعطوك إياه، فهذا يعني نسيان الخدمات، والتصرف ضد المبدأ المصري القائل «اعمل من أجل الذي يعمل» أو ضد التعاليم البابلية التي تحض على التزام العدالة والكرم إذا سعى الإنسان ليكون حكيمًا رشيدًا.٦٩ ومعنى ألا يقوم الإنسان بتوزيع ما أوتي من نِعَم هو تعطيل عملية خلق الثروات وتحرير الإنسان من الضغوط الطبيعية. والمصريون يفهمون آلية العمل الاجتماعي على أنها «تعشيق التروس» بعضها في البعض الآخر، وهي آلية لا بد من صيانتها لكي تحتفظ بفعاليتها. واتخاذ موقف مسئول يعني القبول بأن الإنسان ليس ملزمًا بأن يحب قريبه في محاولة لتجعله يحبه بالإحسان إليه. إن مساعدته تسمح بعدم قطع سلسلة التضامن الاجتماعي نتيجة رفض الإنسان أن يضع نفسه في خدمة الآخرين.٧٠ فالالتزام يفرض نفسه إذن على الملك كما يفرض نفسه على مواطنيه أولي الألباب، كلٍّ على مستواه، ولكن على الملك أولًا وقبل كل شيء آخر أن يعمل على سيادة النظام والخير (ماعَتْ Ma’ât) وعلى مكافحة اللانظام والشر (إسفت Isfet)، ولا يزال هذا إلى اليوم هو واجب كل مسلم صالح وواجب أمير المؤمنين في التصور الإسلامي. وتخفيف التباينات من شأنه أن يحدث «الوفاق» بين أعضاء المجتمع،٧١ وأن يقيم الاتصال بين الآلهة والبشر، وأن يعلن استقلالهم، مقفلًا دائرة الكائنات الحية في كفاحها ضد الطبيعة الميتة للأشياء (التي لا تتحور بسهولة) وللبشر (الذين لا هم طيبون ولا هم كرام بالفطرة).
والمفاهيم الثلاثة المبدئية، وقد نجمت عن أخلاقية تأقلمت طبقًا لاحتياجات دولة جديدة من قبيل الدولة القديمة في مصر، والممالك السومرية ثم البابلية الأولى لها قوة القانون. وهي تشكل أساسيات قانون لا يجرؤ الإنسان على وصفه بأنه «طبيعي» نظرًا لأنه يندرج في مدارج مضادة لمساوئ الطبيعة الممكنة الحدوث (فيضانات، وطوفانات وغيرها من التغيرات الجوية التي تجلب غزو المدن وتخريبها)، فإن نصوصها تعمل على أية حال عمل المبادئ العامة للقانون. وهذا هو السبب الذي من أجله تسمى بيان الإصلاح الذي صدر في مصر مستهدفًا فجر عصر جديد — أو مستهدفًا منحه من جديد معنى حيث إنه استمر منذ ما يزيد على جيل — باسم «ودجات» wadjat، أي مرسوم ملكي يستند إلى مذهب (ماعَتْ ma’ât٧٢ أما في بلاد الرافدين فقد اتخذ اسم «سيمدات شارِّيم» simdat sharrim٧٣ وهو اسم يعني نفس الشيء بالنسبة إلى مذهب «كيتو ميشاروم» kittu-mîsharum. ولفظة «ميشاروم» mîsharum تدل فوق هذا وذاك على «العدالة» الاجتماعية، من حيث هي رد في المجال الزمني الذي يستطيع الملك أن يتصرف فيه، صادر عن النظام الروحي الثابت الذي لا يتغير (كيتو kittu) الذي يفرضه إله قابض على الحقيقة.٧٤ والملك الرافديني شرعي (شارُّو كين sharru-kîn) لأنه عادل (شار ميشاريم shar mêsharim). والملك المصري صالح لأنه يطبق مبادئ القانون الطبيعي: واﻟ (ماعَتْ ma’ât) هي المعادل الفرعوني للشريعة الإسلامية charia، الشِّرعية المستقيمة.
ونحن نعرف ما لا يقل عن ست مجموعات تشريعية رافدينية (منها مدونة حامُّورابي Hammourabi الشهيرة) في مقابل وثيقتين مصريتين (منها مرسوم حورمحب Horemheb الشهير) تبرزان دون مواربة هذه النوايا المتمثلة في تطبيق القانون تطبيقًا عادلًا.٧٥ حامُّورابي مثلًا «يهدم المؤذي والشرير حتى لا يطغى القوي على الضعيف»، وهو ينقل تقريبًا كلمة كلمة النص السومري الذي كان الملك «أورنامُّو» قبل ثلاثة قرون ونصف قد حرره، وكان الملك «أورنامُّو» Ur-Nammu قد التزم من قبل «بألا يسلم الأرملة واليتيم إلى الغني أو القوي»،٧٦ وبأن يرعى مصالح الصغار (يسميهم موسكينو muskenu وهم من كانوا دائمًا في حال متواضعة، وكانوا غالبًا خاضعين للإدارة).٧٧ أما القائد المصري حورمحب الذي وصل إلى السلطة في أعقاب انقلاب ضد خليفة توت عنخ آمون، فقد خطا إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما جعل نفسه في عون «الضعيف» و«الفقير» و«اليتيم» ضد تحكم الموظفين العموميين (sérou).٧٨
وعلى هذا النحو أعلنت الدولة الحامية إجراءات استثنائية في «مدوناتها القانونية»: إعفاء المثقلين بالديون من بعضها، إحاطة الضعاف بالحماية القانونية، مكافحة الثراء غير المشروع، بل ومكافحة فساد أصحاب السلطة وارتكابهم التزوير في الإجراءات. وعلى الرغم من أن كبار الموظفين والمستشارين كانوا في بعض الحالات أول المستهدفين، فقد كان عليهم أن يقوموا في الحال بتطبيق القواعد الجديدة، والعمل على تنفيذ مستتبعاتها القضائية («اجتمعت لجنة من قضاة أور Ur ولارسا Larsa» إبان السنة الخامسة والثلاثين من حكم ريم سين Rîm-Sin لكي تقوم — بحسب تعبيرها نفسه — «بتسوية النزاعات التي نجمت عن تطبيق المرسوم الملكي»)؛٧٩ في ظروف مشابهة قام مستشارون آخرون «بنقض عقود بيع أصبحت لاغية.»٨٠
كان الملك — بإقامة العدل، وإعفاء الفقراء، ومنح تخفيضات للعادلين — يطهر نفسه؛ وهذا هو بالضبط ما تعنيه لفظة ثالثة استخدمت في بلاد الرافدين هي «زاكوتو» zakûtu (طهارة، إعفاء، استخلاص). والنعت «زاكو» zakû يعني «طاهر»، خالص من فرض، مبرأ من اتهام، مسدد ما عليه من مستحقات، غير مرهون. والإنسان لا يمكن أن يمنع نفسه من تقريب هذه اللفظة باللفظة العربية «زكي» التي تعني «طاهر»، وعلى نحو خاص بفريضة «الزكاة» الإسلامية — الصدقة الشرعية — وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة، التي «يطهر» أداؤها دافعها، ويشهد على أن «قلبه طاهر»، وأنه عادل ونزيه، وأنه يعرف الحقيقة (إذ يعترف أن السائلين والمحرومين لهم حق معلوم في أمواله كما تبين إحدى سور القرآن الكريم).٨١ والملك الرافديني يبرر نفسه بما هو مؤمن، ويثبت نزاهته kittu قاضيًا، ولكنه بوصفه موقعًا على المراسيم ينطق بالمصلحة العامة؛ بالعربية «المصلحة» maslaha، مصلحة الجماعة، الصالح الاجتماعي، المنفعة العامة وهي من هذا المنظور أساس الشريعة القرآنية.٨٢
وهو كذلك يمارس شريعته في الأحكام العادية البسيطة أكثر مما يمارسها في الأوامر السامية التي تخرج رسميًّا إلى الكافة لدعم سلطته؛ لأن القرارات السياسية أو القضائية التي يتقاسمها مع أصحاب مناصب الحل والعقد في مدنه كلها تتسم بالتكريس المتضمن في استخدام اللفظة التي تدل في الأكادية على نبوءات الغيب والأحكام الإلهية، لفظة «دينو» dînu وهي ليست بلا علاقة بالمحك المفهومي السومري «الإلهي» dingir — وتعني اللفظة حرفيًّا «الإله الشخصي» الذي يمثل الحصول على حمايته مرادفًا للحصول على «فرصة تفوق التصور»، على «حظ عظيم واضح» —٨٣ كما أنها ليست بلا علاقة بلفظة «دين» في العربية. وقبل أن يعبر هذا الجذر السامي في اللغة العربية عن «الدين» religion الذي يتبعه المؤمن، فإن هذا الجذر السامي الذي يأتي منه المفهوم يدل في وقت واحد على الحكم المنطوق والجزاء الممنوح من لدن الخالق، كما هي الحال في مفهوم «الحكم الأخير» يوم الدين.٨٤ ولقد صاغ حامُّورابي، رغبةً منه في بلوغ فهم أفضل للعلاقة بين اللفظتين، قواعد عادلة «دينات ميساريم» dînât mîsarim.٨٥

(٢) مدونات القانون المختلفة

و«دينو» dînu هو أيضًا الالتماس المرفوع، والشكوى المقدمة، والادعاء الذي يحاول شخص عادي جعل محكمة ما أو جعل البلاط الملكي يقره. وهكذا فقول الحق أو العمل على إقرار الحق يُعبَّر عنهما بنفس الطريقة، فليس هناك فرق كبير بين الإجراءين في نظام اجتماعي يرتكز على التضامن. العدل من شأن الدولة التي تجعله ممكنًا ولكنها لا تدس أنفها فيه على نحو مباشر عندما يتمكن المواطنون من تحقيقه وحدهم.

(٢-١) شكاوى

والدولة، على عكس الظواهر، لا تتدخل إلا عند الطعن الأخير في المنازعات الشخصية. اللهم إلا إذا كان الأمر أمر جرائم،٨٦ فهي الحالات الوحيدة التي تلاحق فيها المتهمين بنفسها. وينحصر دورهها في أغلب الأحيان في التذكير بالمبادئ الكبيرة، وتجميعها ونقشها على لوحات حجرية أو مستنسخات تنشر على نطاق واسع لكي يعلم بها كل شخص يتعامل مع العدالة. إننا هنا في المجال العلماني الخالص للقضاة، ولسنا في النظام الكهنوتي لدولة ثيوقراطية. ثم إن المرافعات انتقلت شيئًا فشيئًا من المعابد إلى أماكن أكثر علمانية٨٧ حيث إنها تتناول مسائل بين أشخاص عاديين سيظل لهم طوال ردح من الزمن أن يقضوا بالعدل بأنفسهم في شئونهم عندما تنطق السلطة القضائية٨٨ بالحكم تحت الضغط الاجتماعي، بدلًا من الالتجاء إلى القوة العامة أو التهديد بها.٨٩
وفي أحيان كثيرة يدور الأمر حول مطالبة المحكمة بأن تتثبت، بالاستعانة بمحامين وبوسطاء آخرين، من أن التزامًا مقررًا في عقدٍ لم يتم مراعاته. وتتداول المحكمة أساسًا في إثبات الوقائع (وبخاصة عند عدم وجود وثائق أو شهود ثقاة) وفي تحديد مسئولية الأطراف الحاضرة بأن تجعل من تسمعهم يقسمون على أنهم يقولون الحقيقة، كل الحقيقة.٩٠ وكانت المحكمة تخصص وقتًا أقل للعقوبات والتعويضات الممكنة والتي كان جدولها مبينًا في المدونات القانونية،٩١ أو كان في أحيان أكثر ندرة يستند إلى قرارات سابقة لها قوة التشريع.٩٢ ويحكم القضاة بأنه ينبغي التعويض عن ضرر يتم التحقق منه وذلك طبقًا للقوانين السائدة والأعراف القائمة (وهو ما يشار إليه في أغلب الأحايين).٩٣ في بلاد ما بين النهرين تسمح اللوحة الحجرية — التي نقشت عليها الإجراءات القانونية التي يتخذها كل أولئك الذين أصابهم ضرر — لكل واحد بأن يتحقق من أن قضيته يمكن الدفاع عنها قبل أن تعرض على القضاة.٩٤ وكانت أحكام القضاة تحدد التعويضات المادية أو المبالغ المقدرة بالفضة التي يجب دفعها نظير أيام العمل الضائعة والبضاعة التي لم يتم توريدها والأوزان والمقاييس المطففة بالغش والتدليس. ونظرًا لعدم وجود نقود حقيقية تستخدم في التبادل كان كل شيء يجري وزنه، ولم يكن هذا يحول دون حساب فوائد التأجيل، أو التخفيض الحكمي للنسب المبالغ فيها، في مصر أيام الرعامسة كانت القروض لا تحسب عليها فوائد إذا لم تزد مدتها على عشرة أيام. ومع ذلك فقد غلب رفض دعاوى الشاكين على العكس. في مصر في عصر الدولة الحديثة كانت هناك منظومة تعاون بين المحاكم القومية والمحلية تسمح بتعمق دراسة كل شكوى تقدم. وكان هناك مناظرون لما يعرف عندنا «بمفوضي الحكومة» أو «وكلاء النيابة» يقع على عاتقهم ضمان استمرار تناول القضايا على المستويين: مستوى المحكمة المحلية (أهل الحل والعقد أو شيوخ المدينة الذين يجتمعون في القنبيت qenbet في المركز) ومستوى المحكمة الإقليمية (القنبيت qenbet العالي في الجنوب أو القنبيت العالي في الشمال، وكان قنبيتا طيبة وهيلوبوليس يرأسهما الوزيران شخصيًّا). وهذه الازدواجية في مستويات التقاضي لم تكن تهدف أساسًا إلى ضمان إمكانية الالتجاء إلى الدرجات الهيراركية الأعلى، تلك الإمكانية التي يبدو أنها لم تستخدم إلا قليلًا، بل كانت على الأحرى تتيح للمتخصصين في الإجراءات — الذين تقرر المحكمة العليا أن شكواهم يمكن التقدم بها إليها — فرصة استعراض مواهبهم، وللأشخاص العاديين غير الراضين على القضاة إمكانية الشكوى في درجة أعلى من العمولات التي طالبوهم بها والاختلاسات التي فرضوها عليهم. ولكن هذه الازدواجية كانت في المقابل تطيل الإجراءات إطالة مفرطة (كان من الممكن أن يتطلب التقاضي لتقسيم قطعة أرض خمس قضايا متتالية يدعى إليها عدد كبير جدًّا من الشهود).٩٥
إذا لم يؤد المستخدم العام التزاماته المنصوص عليها في العقد، أو إذا تجاوز استخدام سلطته، كان النص الذي يستند إليه القضاة هو المرسوم الملكي المعمول به. والمرسوم الملكي لحورمحب Horemheb كان يعاقب على المصادرات غير المبررة وينص على تعويض ضحاياها، ويلغي الضرائب التي تفرض في إطار معطيات لم يعد لها وجود، مثلًا الضريبة التي كانت فيما مضى موجهة لصيانة المقار المختلفة التي كان فرعون يلم بها، مرحلة بعد مرحلة، عند قيامه برحلة على طول النيل، وكانت هذه المقار قد أصبحت بمضي الوقت مكتفية بذاتها. وهكذا كانت الدولة حاضرة دائمًا، في المنازعات التي تتهم مستخدميها على نحو مباشر، حضورها في المنازعات بين الأشخاص العاديين: وعلاوة على الاستناد إلى القانون فإن صلاحية عقد أو وصية كان من الممكن أن يضمنها ختم سلطة مختصة، حتى لو كانت محلية، تتصرف كما يتصرف كاتب العدل الحديث — مأمور الشهر والتوثيق — في أوروبا أو «المختار» في (بعض مناطق) الشرق الأوسط (الذي يشبه إلى حد كبير «حارس الحي» وكيل بابتوم wakil babtum لدى إيشنونَّا Eshnunna).٩٦ ولكن الملك والقضاة والموظفين تربطهم المدونات القانونية القائمة وكان هامش مناورتهم ضيقًا. وكان أقصى ما يمكنهم عمله هو السير في اتجاه الشعب الغاضب، والحفاظ على أسعار أول ما يحتاج إليه الناس من الحاجيات ونسب الفائدة منخفضة، على نحو ما فعل مشرِّع إيشنونَّا لضبط نشاط المقاولين المحليين،٩٧ أو إدانة «خيانة الأمانة» التي يرتكبها البيروقراطيون، كما يقول حورمحب بعبارة حادة لكي يعرف كل واحد في مصر كلها أنه يشجب السلوك المقيت: «اعلموا أن هذا المسلك مسلك مقيت (أو نذالة)! فلا يتصرفنَّ أحد منكم بعد الآن على هذا النحو!» ووثيقة فرعون تدين على النحو نفسه المستشارين والموظفين الذين يقبلون الرشوة: «لا تورطوا أنفسكم مع الناس؛ لا تقبلوا مكافأة من غيري».
هكذا تهتم الدولة اهتمامًا متزايدًا بالقضايا بين الأشخاص العاديين عندما يفقدون الثقة في عدالة بلادهم، أي عندما ينفسخ «العقد الاجتماعي» بين الحكام وبينهم.٩٨ والعملية التي تمس الدولة في تظلمات الأشخاص العاديين تلزم محققيها بأن يدرسوا بأنفسهم حالات خرق القوانين، أي إن الدولة تفتح الطريق أمام إمكانية الاستئناف والنقض.٩٩ وفي بعض فترات التاريخ يتحاشى كل إنسان بالفعل اللجوء إلى المحاكم، وحسبه أن يصل إلى تسوية يبذل وسطاء مهرة جهودهم لتحقيقها. وكانت المنازعات المحلية في مصر يسويها مستشارون إقليميون في محاكم يرأسها عُمَد القرى، إلا إذا كانت رشوة موظفين فكانت ترفع إلى عاصمة الإقليم. ولم يكن الدينو dînu في بلاد الرافدين حُكْمَ محكمةٍ، أو قرارًا قضائيًّا أو مرسومًا فقط، بل كان أيضًا اتفاقًا يعقد بالتفاوض بين الأطراف المتنازعة: كانت الأطراف تحاول ألا «تتورط في قضية» فتقبل أن «تدفع دون نزاع من نوع آخر». وأسوأ من ذلك «أن الناس يفزعون من إجراءات التقاضي ولا يمثلون أمام المحكمة» أو يسحبون شكواهم. واللعنات ونُذُر السوء التي تتنزل على الغادرين أو من يخونون الأمانة (ينذرهم نذر الشؤم «بالمرض وبالقضايا»!) لا تدع مجالًا للشك في الحالة النفسية لأصحاب المظالم حيال المحاكم.١٠٠ وعلى الرغم من كل شيء فقد كانت المحكمة العمومية تمتاز بميزة لا تمتاز بها الحلول الوسط الخاصة: فهي تضمن دون غموض عدم سقوط الدعوى، وهذا هو السبب الأكبر في تمسك الأشخاص بالحق المتوارث وإن ظلوا في فترات القلاقل يخشون تحيز القضاة أو جشعهم.

(٢-٢) تظلمات

وظلت مؤسسة العدل الملكية — وقد ضعفت وفسدت — قائمة في قلب الحياة العامة. وقد تعرضت للنقد وكانت كذلك سند معارضة سُمح لها بأن تعبر عن نفسها وبخاصة لأنها كانت قضائية أكثر منها سياسية. وفي تقسيم الواجبات بين الحاكمين والمحكومين كان المحكومون ينددون بأصحاب السلطة أكثر مما كانوا ينقدون السلطة، وكان الحاكمون يفتشون على مَنْ وُجِّهَت الاتهامات إليهم والأمل يحدوهم أن يتحاشوا الاضطرار إلى الحكم عليهم. ومن الناس من لهم «آلاف الأفواه»، ومنهم من لهم «آلاف الآذان»، كما يقول كتبة فرعون. ولما كانت تظلمات البسطاء مشروعة كل الشرعية هكذا فقد أمدت الكتَّاب الساخرين بالأسلحة الأثيرة إلى نفوسهم، كما نرى في نص «ابن الواحة»١٠١ من وادي النطرون في مصر،١٠٢ ونص «فقير نيبور» من بلاد الرافدين١٠٣ اللذين يعتبران نموذجين ممتازين على هذا الاتجاه. والشعب عندما يقع تحت وطأة ضغط مالي أو إداري بالغ الشدة، وعندما يتبين أن الضرائب التي يدفعها هائلة بالقياس إلى المنافع الملموسة التي يتلقاها، وعندما لا يعود صوته مسموعًا في المجالس التي تناقش مصيره (المجالس، الجمعيات، المحاكم)، لا يبقى له من سبيل إلا أن يطعن صراحةً وعلنًا في السلطة، وأن يبدل طيبةَ قلبِ المواطن وثقتَه بمكرٍ وسخرية مَنْ يتحدى السلطة.
في وادي النيل وفي وادي الرافدين نجد نماذج الشاكي قابلة للمقارنة بعضها بالبعض إلى حد بعيد. فابن الواحة (الفلاح الفصيح) يتعرض لمن «يجرده من ملكية منتجات واحة الملح الكثيرة المنوعة الطيبة الجميلة» التي كان حَمَلها على ظهور حميره. أما الرجل النيبوري فهو رجل فقير، ولكنه ربما عومل معاملة أفضل حينذاك إذا حكمنا قياسًا على تظلم رجل آشوري آخر أُخذ منه الحمارُ (الذي يتنقل به) والثور (الذي يحرث به) وهو يُذَكِّر بأن هذين الحيوانين قد منحهما إياه الملك السابق، عندئذٍ كان يستطيع أن يتنقل راكبًا فلا يخشى أن يتعرض لعبارات الاستهزاء من أولئك الذين يمرون به محمولين في هودج أو ممتطين صهوة بغل، وها هو ذا أصبح لا يجرؤ على الخروج من بيته سيرًا على قدميه، اللهم إلا إذا تحاشى الأنظار وخرَّم تخريمة مهينة «من خلال الصحراء.»١٠٤ وليس الفقر هو البؤس، ولكن الفقر نسبي، وهو يقاس بالنسبة إلى الآخرين (مصر) أو بالنسبة إلى السلف (بلاد الرافدين). والفقر يترجم إلى الافتقار (الفقير يفتقر إلى «ملابس غيار»، وإلى «زوجين من الخفاف»، والفقر يترجم إلى عجز الفقير عن زراعة حقله كما ينبغي؛ فليس لديه أدوات وليس لديه خدم أو أجراء)، والفقر يترجم إلى الجوع الذي يتربص بالإنسان دون أن يكون جوعًا قارصًا، والذي يشحذ العقل ويجعل صاحبه جريئًا جسورًا. والشاكون وقد نال منهم الفقر ما في ذلك شك، ظلوا على الرغم منه قادرين على المطالبة بحقهم، مستخدمين ما بقي لهم: وإذا كانوا هدف جشع وانتقام وعقاب أهل الحل والعقد الشرهين فقد ظل لهم الحق في أن يعبروا عن أنفسهم، وهم لا يحرمون أنفسهم من هذا الحق (كما يقول مثل سائر آشوري: «ما زال لمن ضُرب بخنجرٍ في ظهره فَمُهُ ليتكلم به»)؛ وفي «ابن الواحة» نقرأ: «أنت تضربني وتسرق مالي ومتاعي، ثم تريد فوق هذا وذاك أن تمسك شكوى فمي!» وتحين لحظة لا تعود فيها الكلمات الطيبة والوعود السياسية تكفي (يعترف الآشوري بأنه تمنى في سذاجة أن يحصل على بديل لحماره وثوره لأن الملك التزم بذلك كتابةً، ولأن رسالة الملك عُرضت علانية فوق هيكل الرب نابو Nabû). هنالك ينتظر الناس أفعالًا، ويطالبون بإعادة العدل إلى نصابه.

والشخصيات تلعب ورقتها الأخيرة: فابن الواحة يذهب إلى قيِّم الملك فيبيعه كل ما له قيمة من ثمار عمله، ويبدل ملابسه القديمة الباهتة بعنزة عجوز يحملها إلى العمدة على أمل أن يُدعى إلى مائدته (لأنه لم يعد يستطيع أن يشتري لنفسه حملًا سمينًا ولا أن يكمل الوجبة بالبيرة الجيدة). إنهما ضحيَّتا ثقتهما الهائلة المفرطة في أصحاب السلطة الذين يجردونهما بالمكر من مواردهما. وأحد أقرباء القيِّم المصري يضيق هكذا الطريق الذي يسوق فيه ابن الواحة حميره بأن يفرش حبوب الشعير على ناحية، ويفرش ملاءةً على الناحية الأخرى: فتدوس الركائب الملاءة وتقضم حبوب الشعير، مقدِّمة على هذا النحو الحجة الملفقة للاستيلاء عليها، وإن لم يتم ذلك دون دفع وجذب. أما العمدة الرافديني فقد قبل العنزة من النيبوري، ولكنه بدلًا من أن يستبقيه ضيفًا على مائدة الغداء، طرده وحمَّله بعظم وسقط الذبيحة. وهكذا لم يتم التبادل على نحو سوي، بل ضد الأعراف والقوانين.

كان رد الفعل الأول لشخصيات القصة يتمثل في المطالبة بالعدل لدى السلطة العليا (قيِّم الملك في مصر، والملك ذاته في بابل). ونسجل هنا أن مثل هذا اللون من الالتجاء كان أمرًا مألوفًا، فقد كان الوصول إلى الملوك أيس من الوصول إلى العاملين تحت إمرتهم، وكان الملوك أكثر كرمًا ممن دونهم، وكان الملوك يعقدون لقاءات استماع مفتوحة للجميع. ولم تكن السلطة استبدادية إلا على المستوى المحلي، حيث كان أهل الحل والعقد هناك يصمون آذانهم عن شكايات وتأوهات الأخيار، بل كانوا يفعلون ما هو أسوأ من ذلك، فيبتزون البقشيش («ربما غيرت سلة من فاكهة رأي القضاة»، كما يقول الفلاح الذي يهاجم أهل الحل والعقد عندما يكونون «سلابة ولصوصًا وخطافين شلاحين») ويستولون بظلم على الحقول التي ليس لهم فيها إلا الربح.١٠٥ وبينما أقارب القيِّم يتعجبون من هذا الذي يزيد ويعيد في حكايات عن قليل من الملح والنطرون، يقدم فرعون لابن الواحة (الفلاح الفصيح) تعويضًا يتمثل في معاش مدى الحياة، ويحكم على اللص بالعبودية في مقابل ما عليه من ديْن. أما النيبوري فيعطيه ملكه الوسائل التي تمكنه من أن ينتقم، يعطيه ما يتخفى به على هيئة أمير من عربة فاخرة وثياب بديعة مطرزة، فيخدع بمظهره العمدة الذي يستقبله في هذه الزيارة الثانية استقبالًا حافلًا. ويبقى هناك شكٌّ لا مراء فيه يحيط بالدوافع الحقيقية لأصحاب السلطة العليا. ففرعون يدرك في الحال أن الفلاح الشاكي على حق، ويعرف المذنب؛ ولكنه مع ذلك يحلو له أن يدعه يعيد تلاوة اتهاماته تسع مرات بلغة مدبجة بزخارف البيان والبديع لينشرها على لفائف البردي متمتعًا بذلك متعة كبيرة. كذلك الملك الرافديني يدرك حق النيبوري ويقبل أن يستأجر له بسعر باهظ عربة فارهة وملابس فاخرة تليق بأمير دون أن يسأله أدنى سؤال عما ينوي فعله بها، والمواطن الصالح ينوي أن يرد للملك ما تحمل من نفقات من الأموال التي ستبتزها من العمدة عندما يستخدم العربة وثياب التنكر في خداعه.١٠٦ وكأنما كانت تلك طريقة للكشف عن معنى بين السطور وهو أن رجال الدولة يثمنون الترف غاليًا بينما الشعب يفتقر إلى الضروري الجوهري، ويتسلى بالقليل في الوقت الذي تصف فيه الوقائع التي وصلت إلينا وضعًا اجتماعيًّا مقلقًا. وعلى الرغم من ذلك كان الملوك يمثلون الملاذ البعيد، يتسمون بأنهم أبرياء من آثام العاملين تحت إمرتهم («يقول ابن الواحة (الفلاح الفصيح) للقيِّم: عندما يلم الملك بحجراته الخاصة وتكون دفة الأمور في يدك أنت، يقوم الشر حواليك»؛ ويقول النيبوري: «الأمراء والمحافظون يتخذون بناءً على تعليمات الملك قرارات عادلة»، وهو يلمح بين السطور إلى أن الأعمال الظالمة لا يمكن أن ترتكب إلا إذا رضي بها الملك).
فلما خاب رجاء البطلين كافحا من أجل بلوغ الغاية المنشودة مستخدمين الوسائل الوحيدة المتاحة للضعاف: الفصاحة في حالة ابن الواحة، والذكاء في حالة النيبوري. أما ابن الواحة فقد ابتهل إلى ماعَتْ Ma’ât، وقارن محدثه بالدفة التي تنحرف عن الاتجاه الصحيح، وبالكتلة الخشبية المتوازنة الحاملة عندما تميل، وبخيط الرصاص الذي لا يبين المسقط العمودي،١٠٧ ويحصره في فخ منطقي عندما يقول: إذا كان مسئولًا عن الحقيقة والعدل فكيف يسمح لنفسه بالتستر على الكذب والظلم؟ وإذا هو قهر الفلاحين عندما تَروج الأعمال، فهل يمكنه الاعتماد عليهم عندما يخسر كل شيء؟ وإذا داعبه الأمل في أن يكسب بمسلكه امتنان فرعون في الدنيا، فهل سينال امتنان تحوت Thot الذي يزن الخير والشر في الآخرة؟

ويعتبر خطابه إعلانًا حقيقيًّا لحقوق الإنسان، تلك الحقوق التي ينقد باسمها السلطة نقدًا هو من قبيل رقابة الرقباء: حق التنقل الحر، حق التعبير الحر عن الرأي، حق الحصول على المعلومات، حق الحصول على العدالة بلا مقابل، عدالة إنصاف سريعة متضمنة حق الطعن والنقض، حق الملكية الثابتة، حق الحياة الكريمة للفرد وأسرته، حق الحماية الاجتماعية. والتنويه بالحقائق التي يقبلها أصحاب السلطة يسمح له بأن يعبر عن نفسه بلا حدود. وفي لقاء واحد فقط من اللقاءات التسعة — اللقاء الثالث — بين ابن الواحة (الفلاح الفصيح) يأمرُ القيِّم به أن يجلد لوقاحته؛ أما اللقاءات الثمانية الأخرى فقد قبل أن يسائله الرجل في خشونة جهرًا في الطريق العام، وعلى عتبة بيته، أو على رصيف المعبد، وأن يسمعه عدة مرات — حتى في عقر داره — يصفه بأنه لص وأنه صقر يعيش على حساب أضعف الطيور، وأنه صياد يقتل الحيوانات دون تمييز، وأنه جزار يتمتع بآلام الذبائح، وقائم على الطريق لا يسمح بالمرور إلا لمن لديهم ما يدفعونه.

لم يكن القصاصون الذين عرضوا قصة ابن الواحة (الفلاح الفصيح) والنيبوري يتجهون إلى كبراء هذا العالم بقصة مغامراتهم، التي كانت سماتها — من أسلوبٍ وميلٍ إلى ضرب العُلَق الكثيرة المتكررة، وأخذٍ بطريقة الأدوار المقلوبة — تقربها من نوع الكوميديا المرتجلة commedia dell’arte أكثر مما تقربها من نوع التقرير الموضوعي.١٠٨ كان البطلان يردان على كل خروج على قواعد السلوك وخرق النصوص الدستورية، بالعديد من أعمال الانتقام. هكذا أجبر فرعون قيِّمه على أن يستمع في صمت إلى الشكاوى التسع التي تلاها ابن الواحة (الفلاح الفصيح) وكذلك إلى نصائحه التي يخطئ من يظنها ساذجة («لا تكذب فأنت رجل رفيع القدر» — «لا تكن خفيفًا، لأنك رجل ثقيل») والنيبوري من جانبه يؤدب ثلاث مرات العمدة الذي عجز عن أن يكشف أمر المقالب المدبرة له على الرغم من أنها كانت تهدده على نحو مكشوف. فالنيبوري يوهمه بأنه أمير يحمل الكثير من الذهب، ولا ينهض لينصرف بعد تناول الغداء وقد تعب مضيفه من كلامه (وكان هو نفسه مضطرًّا للإنصات إلى مضمونه دون تعليق لأنه كان يعتقد أن هذا الذي يزوره مبعوث ملكي غني). وينتهز فرصة خمول العمدة بعد الوليمة وفتوره في إقناعه بأن صندوق الذهب قد سرق، ويحمله المسئولية ويضربه علقة. ويذهب إليه مرة ثانية، وقد حلق لحيته ونعَّم بشرته، وتنكر على هيئة الطبيب، فيرحب به العمدة أشد الترحيب لأنه كان جريحًا، وينفرد به في حجرة منعزلة مدعيًا أنه يريد أن يكشف عليه متئدًا، وينال عليه ضربًا مبرحًا. ويستأجر رجلًا يكون عليه أن يتقدم إلى العمدة وخدمه على أنه هو، ويستفيد من المطاردة التي يتعرض لها هذا الطُّعم الصاخب على يد خدم العمدة ليدلف إلى داخل البيت، حيث يجد العمدة وحده، فينهال عليه ضربًا للمرة الثالثة، وكأنما كان شبحًا انطلق فجأة من الحفرة التي اختفى فيها حتى يعبر الموكب الجسر.
ويكمن الفرق الرئيسي بين القصتين في درجة اسوداد كل منهما. أما القصة المصرية فقليلة العنف: يلقى الفلاح — الذي يتعرض بصفة عامة للسخرة الظالمة — قيِّمًا ملكيًّا يتبين أنه أمين، يعاقب مستخدمه الجلف، وينصفه، فيعود إلى بيته وقد حصل على معاش مريح. وأما الأقصوصة الرافدينية فهي أشد شراسة: العمدة رجل مرتش (لأنه يقبل العنزة المهداة إليه على اعتبار أنها رشوة، لأنه يظن أنه يستطيع شراء سكوت زائره عندما يطير الكنز الوهمي)؛ ويحقق النيبوري أهدافه وينتقم لنفسه متوسلًا بالتنكر وبنصب الكمائن، ولكنه يضطر إلى الالتجاء إلى الأحراش فرارًا من ملاحقة السلطة. وكان الفرار من ملاحقة السلطة والاختفاء في الأحراش كثير الحدوث في مصر وفي بلاد الرافدين: ونحن نعرف حالات استدعي فيها متهمون للمثول أمام الإدارة دون جدوى، تلقوا الاستدعاء ثم ذابوا في الزحام، أو رفضوا بكل بساطة أن يتقدموا للإدارة.١٠٩ وكان من يستمعون إلى هاتين القصتين يستطيعون أن يفهموا بين ضحكتين أن رفض قواعد الحياة في المجتمع كان مشروعًا على حالة القحط الذي كان أولو القوة يعتبرون مسئولين عنه («السرقة أمر طبيعي بالنسبة لمن ليس عنده شيء … وهي فعل من شأنه أن يخيف من لا يعوزه شيء، ولا يجوز أن نلوم فقيرًا على ارتكابها»)، هذا ما يقوله ابن الواحة (الفلاح الفصيح). وأقصى ما يمكن قوله، هو أن الاختلافات السردية من بلد إلى آخر يمكن أن تعكس التباينات بين نمطين من نظام حكم، يكون فيه أهل الحل والعقد ملاينين بقدر كبير أو صغير حيال الضعفاء، محترمين بقدر كبير أو صغير لمواثيقهم الأساسية. كذلك من المحتمل أن تكون درجة التهكم رهنًا بتسامح كبير أو صغير حيال قلة الاحترام. اللهم إلا إذا كانت الاختلافات ناجمة عن الفارق الزمني الذي يباعد بين القصتين (فقصة ابن الواحة «الفلاح الفصيح» ترجع إلى منعطف الألفية الثانية، أما قصة النيبوري فترجع إلى الألفية الأولى).
ولسنا متأكدين إلا من حقيقة واقعة واحدة: وهي أن الصراحة تظهر دائمًا واضحة جلية في مصر، والكاريكاتير (الذي يبدو أنه غير موجود في بلاد الرافدين) يلعب هنا دور الصمام بالنسبة إلى السخط. وتخرج بعض الرسوم أحيانًا على السمات المألوفة في التصوير لكي تظهر غضب الضعفاء: في سجل إحدى المقابر نجد فلاحًا أكبر سنًّا من رفيقه الطيِّع يحتج على أوامر رئيس العمال الذي يبين حلمه أنه ليس لديه من الوسائل ما يمكنه من إسكاته.١١٠ وقد نجد على الأقل تعبيرًا عن التعاطف معه: فهذا نص من جبانة العمال في دير المدينة يبين رئيس عمال ينازع في عقوبة حكمت بها محكمة على واحد من العمال المشتغلين تحت إمرته.١١١ وقد تسلى الفنانون المصريون بالرسم على شقاف من الفخار مناظر تنافي الاحترام والتوقير، مثل صورة الخادمة التي تنتهز فرصة غياب سيدتها فتلبس ثوبها وتلون بشرتها بألوان زينتها، ومثل صورة القرد الذي ربما أضافه فنان آخر ونراه يدغدغ أنف نبيل، بينما يشارك آخر في وليمة دون أن يحلق ذقنه.١١٢ بل نجد أحيانًا بعض رسامي الصور الوجهية يجعلون الملك وندماءه على هيئة الحيوانات المتوحشة ليدعموا شجبهم لنهمهم وجشعهم. ولم يصل إلينا ما يدل على أن مثَّالين أو مصورين أدينوا بجريمة العيب في الذات الملكية أو بجنحة المساس بصورة الملك.١١٣
fig10
شكل ١١-٢: النظام الطبقي المقلوب.
في الصورة (a) امرأة من طبقة اجتماعية عالية رسمت كاريكاتيريًّا على هيئة فأرة سمينة تمسك سفا سمكة (ربما كريهة الرائحة؟) بدلًا من زهرة اللوتس العبقة. وهي تتلقى آيات احترام زائفة من قط أصغر حجمًا من القط الطبيعي يضم ذيله بين رجليه. هذه الشقفة الساخرة رسمها بلا شك عامل من عمال المقبرة الملكية في طيبة، دير المدينة، ولعلها مستوحاة من قصص القط والفأرة التي كانت شائعة جدًّا في الأسرة العشرين. الصورة (b) لرجل من البلاط والصورة (c) لامرأة من البلاط، وقد رسمتا بلا احترام أو توقير.
وغياب الاحترام والتوقير حيال السلطة في أواخر الدولة الحديثة في مصر يظهر ظهورًا صارخًا في دقائق القضايا التي أقيمت ضد لصوص المقابر الملكية الذين كانوا يعترفون بفعلتهم دون أن يدعوا السائل يلح عليهم، لأنهم كانوا يعتقدون أنهم مسنودون من شركاء يشغلون مراكز رفيعة. فإذا قبض عليهم متلبسين كانوا في أول الأمر يتخلصون من الورطة بشراء سكوت الموظفين المكلفين بملاحقتهم فيتركون لهم نصيبهم من الغنيمة.١١٤ بل إن بعضهم كانوا يَبْلُغون بوسائلهم الملتوية أن يطلق سراحهم بعد القبض عليهم في حالة تلبس. وكان الملك من حين لآخر (وبخاصة في سنة «تجديد ميلاد المواليد») يقرر إعلان الحرب على الرشوة والنهب، ويكلف لجنة بتقييم الأضرار والقبض على المذنبين. في عصر رمسيس الحادي عشر أدى مثل هذا الإجراء إلى الكشف عن تعرض مقبرة رمسيس الرابع للنهب، وأنَّ ذهبَ الأُطُرِ قد انتزع ليصهر، وأن المجوهرات خبئت عند بائع مسروقات ليبيعها، وأن الأثاث الخشبي بيع للهواة، وأن أنواع الخمور والزيوت القيمة جرى نقلها أو استهلكت في مكانها خوفًا من تهمة امتهان المقدسات، تلك الفعلة التي تفاخر بها بانيب Paneb الفاجر الذي عب خمر سيتي الثاني جالسًا على تابوته.١١٥
وبدلًا من قيام الفراعنة في حياتهم بتوزيع الثروات التي اكتنزوها، كان يجري تدويرها على هذا النحو بعد وفاتهم. وفي مجتمع يقيَّم على أنه غير عادل كان أكثر الموظفين العموميين وقاحة (أولئك الذين كانوا يعملون في بناء المقابر ويعرفون أسرارها) لا يخافون من أن يمدوا أيديهم إليها، ولم يكن القمع المتزايد يصرفهم عن ذلك بحال من الأحوال. وما مرت إلا أربع سنوات على عقاب المذنبين حتى قامت السلطات باستخراج مومياء رمسيس الثاني العظيم من لحدها لتضعها مع بعض الآثار العظيمة الأخرى في مخبأ بوادي الملوك في محاولة منها أن تنأى بها عن أطماع الطامعين. وكان لصوص المقابر في واقع الأمر لا يترددون عن استهداف رمز السلطة: فكانت النعوش الملكية تحرق أحيانًا.١١٦ وفي بلاد الرافدين كانت المعابد وأصنام الآلهة تلقى أحيانًا نفس المصير (ويقولون إن أهالي مالجوم Malgum نزلوا جميعًا إلى الشارع في هوجة عارمة تمتهن المقدسات حيث أحرقوا مصلى المدينة المقدس).١١٧ وكان امتهان المقدسات١١٨ يُمارس في وادي النيل وفي وادييْ دجلة والفرات. وهذا كاهن سومري يشكو مر الشكوى من «كتابات وقحة» كتبها الملك شولجي Shulgi الكبير، ومن ألواحه المليئة بالأكاذيب عن طقوس طهارة الآلهة وما يمكن أن تؤدي إليه من غمطِ صورة الكهنة. ولقد أخطأ الكاهن فيما شكا منه، فلقد كان الأمر بلا شك أمر الاستيلاء على طقوس تمارسها مدينة تنافس عصبة المدن السومرية، أو على الأحرى أمر مشروع علْمَنة موجَّهٍ ضد السلطة الروحية («لقد شوهَ على نحو غير لائق طقوس تقديس أنو Anu، وأحكام أوروك Uruk، وعلوم الحكماء السرية، وسجَّل كتابةً أمر السُّخرة التي أمر بها سين Sîn، سيد أور Ur»).١١٩ ولم تكن هذه القضية جديدة: فمن قبل تصدى أوروكاجينا Urukagina، ملك لاجاش Lagash، لتسلط الكهنة المتزايد، «بأن أعاد النظام القديم» لكي يحول دون قيام «الكاهن باجتثاث شجرة في حديقة رجل فقير وقطع ثمارها.»١٢٠
وكانت مظاهر التذمر في أكثر الأحيان تغلب عليها السوقية. في الشرق القديم كان الإضراب عن العمل أكثر ورودًا وأقرب إلى القبول من الاختلاس والتمرد أو التآمر. وأشهر الإضرابات عن العمل: الإضرابات الافتراضية التي يقولون إن الآلهة الثانوية في المثيولوجيا السومرية البابلية قامت بها، وكذلك الامتناع التاريخي عن العمل الذي ظاهر به عمال قطع الحجر، والنجارون والفنانون في جبانة طيبة. والشواهد التي بين أيدينا تبين أن هذا الإضراب الاحتجاجي عن العمل كان متمايزًا عن البطالة الفنية المفتعلة (حيث لا تتوافر على سبيل المثال اسكتشات رسوم قبرية، وأصباغ، أو غيرها من المواد التي لا غنى عنها للرسامين). كانت تلك وسيلة مألوفة يستخدمها المضربون للمطالبة بحقوقهم، ثم كان المضربون بعد ذلك يسيرون في الطرقات يهتفون بما يعانونه من سخط حيال دولةٍ هي صاحب عمل لا يفي بالتزاماته (لا تورد الأجور في مواعيدها)، ولا تقوم في الوقت نفسه بالتمهل في الحجوزات عند تعثر المديونين في تسديد الديون. ونقرأ عن «متزعمي» الإضراب كما نقرأ عن «وسطاء» (كتبة دير المدينة مثلًا الذين حاولوا أن يعيدوا العمال والفنيين، بناة المقابر الملكية، إلى أماكن عملهم).١٢١ والحالات المذكورة تشد الاهتمام على نحو خاص لأن الساخطين ليسوا أشد الناس استحقاقًا للشفقة. فهم يحصلون على جراية يومية من السمك وزنها ٢٨٠ جرامًا، كما يحصلون على حطب وملابس، وينعمون بشروط عمل عادية (تتضمن إمكان الغياب دون عقاب، وإن كان المشرفون يسجلون الغياب بعناية في تقاريرهم)، ولهم الحق في أن يحتجوا على لا أخلاقية الموظفين العموميين الذين يعملون تحت أوامر منهم.١٢٢
بدأ هذا الإضراب — الذي يعتبر أشهر إضراف في زمن الدولة الحديثة — في عصر رمسيس الثالث، واستمر فترة طويلة: حيث تجمع العمال عدة مرات في معبد جنائزي (معبد حورمحب Horemheb) الواقع فيما وراء منطقة الإقامة الإدارية؛ وبعد مرور ثلاثة أشهر من بداية الأزمة، عادوا من جديد، وأقسموا يمينًا على أن يتجمعوا ليلًا ونهارًا عند أطراف الموقع١٢٣ على مقربة شديدة من الصروح الجنائزية لرمسيس الثاني ورمسيس الثالث. واحتلوا الرمسيوم لحظةً هاتفين برؤساء عملهم.

«إذا كنا وصلنا إلى هذا الذي وصلنا إليه؛ فالسبب هو الجوع، السبب هو العطش. لا كساء، لا زيت، لا سمك، لا خضراوات. اكتبوا إلى فرعون … وإلى الوزير، رئيسنا، لكي يدبروا لنا أسباب الحياة».

ولمَّا لم تجد السلطات حلًّا للأزمة، أقام العمال بعائلاتهم في معبد ستي الأول الجنائزي، حيث أخرجهم رئيس شرطة المقابر. ودارت مفاوضات، وتم تدبير جرايات شهر، ولكن هذا لم يمنع أحد المضربين من أن يرفع صوته بتهديد عنيف متهيئًا «لانتهاك حرمة أحد القبور». وفي نهاية المطاف قدم المضربون إلى المحكمة التي استصوبت عملهم، وهو ما لم يمنع الموظفين العاملين في هيئة المقابر من العودة إلى تجاهل حقوقهم في الشهور والأعوام التالية. فإذا قامت لجنة شكلها المحافظ بتوجيه النقد إليهم واتهامهم بأنهم يختلسون الجرايات أو الأدوات الجنائزية، ظل أهل الحل والعقد المحليون قادرين على تنظيم مظاهرة مضادة تسير إلى قلب طيبة صارخة محذرة من مؤامرة، وكان طاقم من رجال الأمن القائمين على النظام يحيط بالشخصيات المشاركة التي لبست أعظم ثيابها الرسمية.١٢٤ ومع ذلك لم يكن الوزير الأول ولا الملك يجهلان آثامهما حيث إنهما أقرَّا بخلاصة المذكرات التي بعث بها الشاكون.١٢٥
أن يكون الشعب كله، أو تكون بعض المجموعات الاجتماعية المهنية فقط قد عبرت دون توقف عن رأي في الشئون العامة، فذلك واقع ثابت بالبرهان. في وادييْ دجلة والفرات كان هذا «الرأي» التلقائي أو المستفز بخطب مثيرة بارعة يسمى «رأي الشارع» pî suqim،١٢٦ أو «الحكم العام» têm mâti، أو «الإرادة الشعبية» milik mâti، أو «فم البلد» pî mâtim، «فم المدينة» pî alîm، أو «فم الشعب» pî nishê، أو «التهامس» أو «الشائعة». وربما «فاقت قيمة هذا الرأي رأي الملك» pî mâtim ana sharri ikabbit.١٢٧ عندما «غير» الشعب تقييمه لقدرات الحكومة، أحدث تطويرًا في المواقف بمجلس الشيوخ، ومرونة في التعليمات الملكية، حيث أيقن المسئولون السياسيون من أن عليهم آنذاك أن يتساهلوا.١٢٨ وجد الشعب متحدثين بلسانه عرفوا كيف يصوغون مطالبه: وهو إذا لم يكن قد وكَّلهم كما ينبغي ليمثلوه،١٢٩ كان على أية حال يتعرف إلى ذاته دون شُقَّة في خطابهم النقدي المعبر عن مثقفين ملتزمين، مشكِّلين للرأي، مدافعين عن أشد الناس معاناة للحرمان بإسماع صوتهم pî mushkenîm ورفع المعاملة التمييزية عن الفقراء في وقت القحط. ونجد محافظ مدينة من مدن مملكة ماري Mari يخشى نشوب انتفاضة فيرفض أن يُرَحِّل أعيان مدينته وحدهم دون سواهم، كما طالبه الملك الذي كان يسعى إلى تجميعهم في عاصمته لأنه لم يعد يستطيع أن يوفر الغذاء لجميع أقاليمه على نحوٍ مقبول. وما زال حديثنا عن مملكة ماري موصولًا: فهذا هو عمدة توتول Tuttul — إحدى مدنها — يخشى من رجل نزل المدينة مؤخرًا وأخذ يوغر صدور الأهالي ضده، فقد كانت له القدرة على إقناع غالبية المواطنين («ومولاي يعلم أن رجلًا واحدًا يمكنه أن يقلب رأي الكثيرين» على أية حال «رأي العامة»).١٣٠ ونجد في طيبة بمصر عاملًا «تملكه هياج أي هياج» يخطب في الحشد خطبة مثيرة في تظاهرة موجهة ضد العمدة.١٣١
في بلاد الرافدين تكررت تظاهرات السخط العام تكرارًا كان كافيًا لزيادة الكلمات الدالة عليها من قبيل: «المظالم»، «الإثارة»، «القلاقل»، «الاضطراب» (اشتقت من مصدر اشتقت منه كذلك كلمات أخرى من قبيل «الكسوف» «التواري»، «التلاشي» وبخاصة «الفوضى»).١٣٢ ولم تكن هذه التظاهرات تجري دون حوادث: في وكالة آشورية بالأناضول نجد رسالة تخبرنا أن «أناسًا ثاروا، وأن دمًا سال وأن السلطة الملكية لم تعد مضمونة.»١٣٣ البلد «يزمجر» ضد الملك،١٣٤ «لم يعد يطيعه» (لأنه لا يطيع إلا الرؤساء الذين ينتجون الرخاء)، وهو يرد على محاولات الملك استمالته «بما يثبت نفوره»، وهو «يرد يده» عندما يمدها إليه، ولا تزال الحال على هذا المنوال إلى أن تأتي اللحظة التي يكون فيها الملك «قد فقد التقدير في مملكته فقدانًا خطيرًا.»١٣٥ كان هناك تزامن في حركات احتجاجية مختلفة، تتداخل مطالباتهم عندما تنشب أزمة، يشهد على ذلك التحليل الكئيب التالي: «لقد أصبح الشعب مضطرب الفكر، ينشر الشائعات، وعارضه بلده كله، بل استثناء.»١٣٦
هناك إذن بلا شك منازعة داخلية، متمايزة عن الانتفاضات الداعية إلى الاستقلالية، وعن القلاقل التي يشجعها الخارج، ومؤامرات القصور التي سنتناولها في الباب التالي. كانت هذه المنازعة تنصب على الحكام أكثر مما تنصب على النظام، وكانت تترجم في المصرية إلى حالات تمرد أكثر مما تترجم إلى ثورات. لا ريب في أن الكلمة المستخدمة في الأكادية للدلالة على هذه اللحظات الفاجعة — نبالكاتُّو nabalkattu مرتبطة بالجذر بال bal — تستخدم كذلك للدلالة على التمرد الشعبي révolte populaire وعلى دوران كوكب révolution (كلمة دوران كوكب بالفرنسية هي نفس الكلمة التي تعني ثورة révolution). كذلك تدل الكلمة على تغير رأي أو قرار يبرره خرق عقد (ولماذا لا نقول كذلك: خرق عقد اجتماعي؟) أو حنث بيمين، أو تجاوز الحقوق أو الصلاحيات القانونية، كما يبرره «تجاوز حدود بلد» أو «حائط» فاصل. يشهد على ذلك التعبير الدال على الإضراب في المصرية «تجاوز المتاريس» franchissement des redoutes. كل هذه التعبيرات الشعبية عن رفض الخضوع للسلطة تتضاد على خط مستقيم مع «تجاوز الحدود» في لغة القابضين على السلطة. ألسنا نلاحظ أن نفس الجذر الأكادي يستخدم للدلالة على «تجاوز مهلة» بما يجعل من الممكن القول بانطباقه على (التجاوز في حالة) الجرايات التي لا تصل في موعدها لأصحابها.١٣٧
وعلى الرغم من كل هذا فإننا نجد هنا دليلًا على أن ما حدث كان أقرب إلى تمردات وقتية محدودة منها إلى ثورة حقيقية. ونلاحظ تقريبًا في كل الحالات أن مصير الملك منفصل عن مصائر رجاله: فإما أن ينتهي التمرد بتطهير فيبقى الملك ويشمل التطهير رجاله، وإما أن يؤدي التمرد إلى ذهاب الملك (ويبقى الموظفون في مناصبهم على الرغم من تغير الطاقم السياسي).١٣٨ في هذه الحالة يُطاح بالملك ويبقى معاونوه، وكان الملك قد ظل زمنًا طويلًا في مأمن من الخزي الذي كان يصيب أكثر معاونيه إثارةً للريبة. فإذا لم يكن الملك مسئولًا عن شرورهم، فهو مسئول عن ابتذالهم. وإذا بقلب الأدوار الذي كان «مهرجان العام الجديد» يهدف في الخيال إلى تطهيره واقتلاعه، يحدث بالفعل: وكُتَّاب الوقائع يحكون أن ابنةً أو ابنًا بالتبني — «عاملة في حانة» أو «بستاني» — أصبحا ملكين،١٣٩ وقد تنبأ العرافون بأن «ابن رجل بسيط سيعتلي العرش»، وبأن «حلاقًا سيقتل مولاه وسيجلس على عرشه». حتى مصفف الشعر بالقصر، «رئيس الأسرار» الذي يستأمنه فرعون على رقبته وعلى حبل وريده، كان يتآمر ضده.
١  كلمة إغريقية اصطلاحية الأفضل كتابتها هكذا وهي قريبة في معناها من «اللانظام الأولاني». (المترجم)
٢  = populistes.
٣  انظر الباب الأول، الشكل ٦ والشكل ١٤ في كتاب: Kemp, 1989 وانظر الشكل ١ ص٣٩ في كتاب: Emery, 1961.
٤  انظر «إنكي Enki» ص١٧١ في كتاب: Bottéro, Kramer, 1989.
٥  المرجع نفسه، ص٥٦٥.
٦  = légende.
٧  انظر ص٣٢٣ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988.
٨  انظر ص٣٣١–٣٣٢ من كتاب Reade, 1979.
٩  انظر ص١٨٧-١٨٨ من كتاب Lefebvre, 1929.
١٠  انظر ص١١٢ و١٤٣ من كتاب Roux, 1985.
١١  انظر ص٣٤ من كتاب Bell, Aspects …, 1985.
١٢  انظر ص٢٨٩ من كتاب Bell, Luxor temple …, 1985.
١٣  انظر ص٣٠ من كتاب Bell, 1992.
١٤  انظر ص٣٢٣ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988.
١٥  انظر ص٦ و٣١ من كتاب Bell, 1992.
١٦  انظر ص٣٤–٣٧ من كتاب Bell, Aspects …, 1985.
١٧  انظر ص٣ من كتاب Bell, 1992.
١٨  Coptos.
١٩  من الأمور التي تظل مطروحة أن تكون هذه التماثيل العملاقة قد شيدها الفراعنة الأوائل، ولم يشيدها الأهالي المحليون. في هذه الافتراضية يكون أسلوب التماثيل أقل أهمية من سمتها الضخمة الهائلة (انظر ص٤٢ و٥٩ والأشكال في صفحتي ٥٠ و٥١ بكتاب Williams, 1988 والأشكال المشار إليها صممت بناءً على صور معبد نايت Neith على لوحات نارمر العاجية). ولو صحت هذه الافتراضية فإنها على أية حال لن تضعف الحجة الذاهبة إلى أن الفراعنة جمعوا طقوس التقديس المحلية وكونوا منها ديانة قومية.
٢٠  انظر ص٣٨ و٧٥ و٨٠ و٨١ (الشكل ٢٨) وص٨٢ بكتاب Kemp, 1989. بينما العضو التناسلي منتصبًا تمسكه بيد يبدو أنه يشير إلى تصوير الرب الخالق أتوم Atoum، يرى كيمب Kemp فيه صورة عتيقة أرخائية ﻟ «مين» Min الذي يصور في غير هذا الموضع جليلًا مع مدقة وحقل خس (الشكل ٢٩) والعصارة اللبنية للخس كانت ترتبط في الأذهان بماء الإله.
٢١  انظر ص٩٠ و٩١ من المرجع السابق.
٢٢  انظر ص٨٨، الشكل ٣١، ص٩٦٣، الشكل ٣٣، ص٩٥–١٠٥ من المرجع السابق. ويمكننا أن نضيف إليها تحويل مخيمات الشيوخ إلى مبانٍ فرعونية. وكانت هذه الخيال في أصلها محلاة بالقرون على النحو الذي يناسب شعوبًا بدوية، وكانت لها قبة متعددة الأقواس (بالعربية: الصريفة) تتخذ عندما تتغطى بحصيرة من السمار المجدول شكل ثنيات جلد حيوان. واتُّخذت نموذجًا للعديد من المقابر في أبيدوس وفي «البيتيْن» في سقارة اللذين بنتهما الشعوب التي تحولت إلى حياة الاستقرار (انظر Kuhlmann, 1996).
٢٣  انظر ص٢٢٤-٢٢٥ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988.
٢٤  انظر ص١٥ من كتاب Frankfort, 1951.
٢٥  انظر ص١٤ من المرجع السابق. كان تمُّوز يتمتع رغم ذلك بقدرة خلاقة عالية حيث إنه مكمن «القوة التوليدية» الدائمة التي لم يكن أوزيريس يحتكم منها إلا على المكون الدوري المرتبط بفصول السنة.
٢٦  انظر ص١٣ من الكتاب السابق، ونلاحظ أن المؤلف هنري فرانكفور Henri Frankfort يتعجل (انظر ص١١) فيستنتج فصلًا بين النظام الكوني وبين النظام السياسي في بلاد الرافدين، ويستنتج تضمينًا للنظام السياسي في النظام الكوني بمصر.
٢٧  انظر الشكل ١٠، ص١٥ من كتاب Reade, 1983. بطقطقة من إبهامه على سبابته وبنصره طلب آشورناسيربال Assurnasirpal رضاء الآلهة الخمسة الكبار (منابع الإشعاع: الشمس، القمر، النجم القطبي، البرق) والرب الأعلى الغالب آشور Assur (يمثل على هيئة خوذة يعلوها قرنان). وهو بالحركة نفسها يستمد كذلك طاقته من الشجرة المقدسة بدلًا من أن يلقحها كما ظن البعض من قبل (Albenda, 1994, p. 133).
٢٨  انظر: ص١٠١ و١٩٩ من كتاب Glassner, 1993.
٢٩  انظر ص١١١ من كتاب Cassin, 1968.
٣٠  انظر Bottéro, 1978.
٣١  انظر ص٣٦ و٤٢ من كتاب Bell, 1992.
٣٢  انظر ص١٢٤ و١٣٢ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988 (والصورة لجان يويوت Jean Yoyotte ص٢٨٣ في كتاب Sauneron, Yoyotte, 1959)، وانظر كذلك ص١٣٥.
٣٣  انظر ص٢٧٨ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988 (وكل هذا ليس دون شك بلا علاقة بسر القربان المقدس المسيحي) وانظر كذلك ص٢٨٤.
٣٤  نقش كشفه جاردنر Gardiner واستشهد به أسمان ص١١٩-١٢٠ Assmann, Ma’ât, 1989 هذا من ناحية؛ ونص مقتبس من قصيدة بينتاور Pentaour (انظر Wente, 1990, p. 30)، من ناحية أخرى.
٣٥  انظر ص٢٧٢-٢٧٣ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988: «هذه المُرَكَّبات والأخلاط المصنوعة من مواد دهنية ومواد معدنية، تطلق الطاقات المتضمنة في مادة العالم وتمد جسم الملك بها».
٣٦  انظر: Wente, 1990, p. 35 (بردية أناستاسي Anastasi، الأسرة التاسعة عشرة).
٣٧  متناسبًا مع الجهود المبذولة والقرابين المقدمة! (انظر ص٥٨-٥٩ Bell, 1992).
٣٨  انظر ص٢٩٢ و٢٩٨ و٣٠٦ من كتاب: Bonhême, Forgeau, 1988.
٣٩  خلوده «يتكون من سلسلة لا تعد ولا تحصى عمليًّا من ميلاد متجدد» انظر ص٥٤ من كتاب Bell, 1992.
٤٠  انظر ص٢٩ من كتاب Gordon, 1987.
٤١  انظر ص١٠ من كتاب Bell, 1992.
٤٢  انظر ص٢٩٨ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988.
٤٣  انظر ص٣٦ من كتاب Manniche, 1987.
٤٤  انظر ص٢٨٧–٢٨٩ و٢٩٦–٢٩٨ و٣٠٠-٣٠١ من كتاب Bonhême, Forgeau, 1988.
٤٥  وبخاصة عندما يرثون شيئًا منها على نحو مباشر (انظر ص٣٦ من كتاب: Vernus, 1986). وربما كان هذا هو أصل عادة «تسلق الصاري» قليلة الحظ من العظمة؟ (انظر ص٢٩٢–٢٩٤ من كتاب: Valbelle, 1998).
٤٦  انظر ص٢٢ و٢٧ و٥٧ من كتاب Decker, 1992؛ في ص٦٢–٦٤ لوحة طهارقا (طهرقا) Taharqa الرياضية تعلمنا أن الملك كان يقدِّر المباريات الخارقة للمألوف التي كان يؤديها الصفوة من حرسه الخاص والذين كان يدعوهم إلى مائدته أيًّا كانت النتيجة التي حققوها في اختبار قاسٍ (قطع مائة كيلومتر في تسع ساعات).
٤٧  في الأصل nisan. (المترجم)
٤٨  انظر ص٧٥ من كتاب Schmöckel, 1964.
٤٩  انظر الشكل ١٠، ٢١٥ من كتاب Reade, 1983 (أدى الملك الآشوري هذه الطقوس أحيانًا في بابل).
٥٠  انظر ص٣٦ من كتاب Jacobsen, 1970.
٥١  انظر ص١٩٠ من كتاب Glassner, 1993: «ظل بعل Bêl لمدة عشرين سنة (تحت الحكم الآشوري) في آشور ولم يجر الاحتفال بالعام الجديد (في بابل) … لم يذهب نابو Nabû من بورسيبا Borsippa إلى موكب بعل … Bêl لا نابو Nabû ذهب، ولا بعل Bêl خرج».
٥٢  كلمة دورة يقابلها حرفيًّا في اللغات الأوروبية كلمة تدل على «دورة و«ثورة»» في آنٍ واحد révolution. (المترجم)
٥٣  انظر المادة Bal في CAD.
٥٤  انظر ص٦٤ من كتاب Glassner, 1986.
٥٥  انظر ص٢٨ من كتاب Steinkeller, 1987.
٥٦  انظر ص١٢٦–٢٧ و٢٣٩ في كتاب: Bonhême, Forgeau, 1988.
٥٧  انظر ص٧-٨ في كتاب Bell, 1992.
٥٨  انظر ص١٠ في كتاب Lefebvre, 1929 وهو ينقل عن ماسبيرو Maspero, Histoire, II, p. 313.
٥٩  انظر المادة kittu A، المعنى ب (b)، في CAD.
٦٠  انظر Parpola, SAA III, 11 (8).
٦١  وهذا هو أيضًا معنى العدل القضائي la justice judiciaire في العبرية (انظر Draï, 1996, p. 283 et 294) حيث العدل équité والتمييز discernement يرتبطان بموقف الوساطة بين الأطراف، موقف قاضٍ مستقيم لا يميل إلى هذا أو ذاك الجانب، ويفرق بين الخير والشر.
٦٢  في الفينيقية كذلك كلمتان تدلان معًا على مفهومي العدل والحقيقة: في القرن الثامن ق.م. «ص د ق» sadaq العدل و«ح ك م» hukm = الحكمة، وهما من الصفات الملكية (انظر Bron, 1976, p. 62-63).
٦٣  انظر ص١٧-١٨ و٧١ و٩٨ و١٠٥ في كتاب: Assmann, Ma’ât, 1989.
٦٤  انظر: AHW, article “kittu(m)”, et CAD, article “kittu A”, sens (a).
٦٥  انظر: CAD, article “mîsharam”؛ وانظر: Kraus, 1984, p. 6, 7 الذي يقارب بين ميشارام mîsharam والكلمات الهندوروبية التي تدل هي الأخرى على الطريق السليم. والكلمتان السومريتان المناظرتان لكيتو kittu وميشارو mîsharu هما على التوالي nig-gi-na وnig-si-sà.
٦٦  انظر: AHW, article “kittu(m)”.
٦٧  انظر: CAD, article “mîsharu”.
٦٨  انظر: AHW, article “kittu(m)”. انظر كذلك: Lambert, 1965, 1. 22 (نبوخذنصر الثاني Nabuchodonosor II يتفاخر بأنه لم يهمل «حكمًا عادلًا صادقًا» ana dini kit-tu mi-sha-ri).
٦٩  انظر: Lambert, 1960, p. 73.
٧٠  انظر: ص٣٥–٥٥ من كتاب Assmann, Ma’ât, 1989.
٧١  انظر: Parpola, SAA IV, 75/3 (هذا هو إيسارحادُّون Esarhaddon يسأل: «هل نطقوا مخلصين بكلمات الوفاق kit-tu-i الصادقة والخالصة؟»).
٧٢  انظر ص٢١ في كتاب Kruchten, 1981 وص٧٥ في كتاب Assmann, Ma’ât, 1989.
٧٣  انظر ص١١٢ في كتاب Yaron, 1988.
٧٤  انظر ص٣١٩ من كتاب Speiser, 1967؛ وانظر ص١٧٧ من كتاب Van der Toorn, 1985 (شمش Shamash هو «رب العدل والسداد» الذي يدعوه المذنبون التائبون).
٧٥  مجموعات بلاد الرافدين هي مراسيم ومختارات تشريعية للملوك «أور نامو» Ur-Nammu، «ليبيت عشتار» Lipit-Ishtar، «بيلالاما» Bilalama، «حامُّورابي» Hammourabi، «أوروكاجينا» Urukagina والمدونة القانونية لمدينة إشنونَّا Eshnunna؛ والوثيقتان المصريتان هما مرسوم حورمحب Horemheb ومرسوم ناوري Nauri.
٧٦  انظر ص٩٩ و١٠١ في كتاب Yoffee, 1988؛ أما النص الكامل ففي كتاب Finet, 1996.
٧٧  انظر ص٧٧ في كتاب Eichler, 1987 وانظر ص١٤٢ في كتاب Yaron, 1988.
٧٨  انظر ص٣٢ في كتاب Kruchten, 1981.
٧٩  انظر ص٧٠–٧٥ من كتاب Charpin, 1986.
٨٠  انظر CAD, article “mîsharu”.
٨١  انظر Joseph Schacht, Zakât في دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى El, 1re éd والإطلاقة العربية مأخوذة من الآرامية «زكوت» zakût.
٨٢  انظر Magid Khadduri, Maslaha في دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الجديدة El, nouvelle éd. (1989) ولما كان الله يقصد فعل الخير، فسرعان ما أصبح الخير المصدر الرئيسي، إن لم يكن المصدر الأوحد الجامع المانع للتشريع القرآني.
٨٣  انظر ص٥ من كتاب: Jacobsen, Formative Tendencies …, 1965 (1970).
٨٤  انظر دائرة المعارف الإسلامية El مادية dîn بقلم Louis Gardet.
٨٥  انظر ص١٠١ في كتاب Yoffee, 1988.
٨٦  انظر ص٣١٣ من كتاب Théodoridès, 1971؛ وانظر Yaron, 1988.
٨٧  انظر ص١٠٤ في كتاب Yoffee, 1988.
٨٨  انظر ص٨٨ في كتاب Assmann, Ma’ât, 1989 من يكسب القضية في مصر له أن يتصرف مع غريمه (على النحو الذي يرتئيه)؛ «فتنفيذ الحكم إذن من شأن الطرف الذي كسب القضية».
٨٩  انظر ص١٩٣–١٩٤ في Jacobsen, An Ancient Mesopotamian Train for Homicide, 1959–1970.
٩٠  انظر ص٥٥ من كتاب Vernus, 1993 («وأتوا بالمدعو س. وجعلوه يقسم يمينًا، فحلف بسيده وحياته وصحته وعافيته ألا يكذب»).
٩١  انظر ص٢٥٦ وما بعدها من كتاب: Yaron, 1988؛ وانظر كذلك ص٢٠ من كتاب Solberger, 1966 وفيها: «إذا لم يكن الشاكي موافقًا على أن تقوم هذه المحكمة «بتناول قضيته»، فعليه أن يقسم يمينًا على باب القصر!»؛ وفي ص٤٣ نجد ما يلي: «عليه أن يروي حقل غريمه، وليس له أن يجادل في هذا الأمر!» (وهذا دليل على أن الخضوع للحكم الصادر من المحكمة لم يكن تلقائيًّا في تنفيذه، حتى في عصر عائلة أور الثالثة الذي كان شديد النظام، شديد البوليسية.)
٩٢  انظر ص١٥٦ من كتاب: Janssen, Pestman, 1968. لدينا في بردية بولاق مثل فريد على قياس على حالة سابقة ذكرت في خلال قضية لأن الظروف في القضيتين كانت متشابهة.
٩٣  انظر Harari, 1979.
٩٤  انظر ص١٠٣ من كتاب Yoffee, 1988.
٩٥  انظر ص٣٢–٣٧ في كتاب Gardiner, 1905.
٩٦  انظر ص١١٨–١١٩ في كتاب Yaron, 1988 (اﻟ «وكيل بابتوم» wakil babtum يمسك دفتر الأملاك وتقع على كاهله مهمة العمل على منع نشوب المنازعات في حيه)؛ انظر كذلك ص٢٩٣ في كتاب Theodoridès, 1971 (عن نموذج لعقد موقع أمام المحكمة المحلية التي تم تسجيله فيها في حضور شهود من الطبقة العاملة، الفنيين والعمال)؛ وانظر ص١٥٣ في كتاب Janssen, Pestman, 1968 (الابن يطالب بميراثه عن أمه مبررًا طلبه بأن قانون فرعون يجعل أملاك المتوفى أو المتوفاة من حق ذلك الشخص من خلفه الذي يعطيه قبرًا؛ وهو بالإضافة إلى ذلك أقام لها جنازة لائقة عامة أمام شخصيات رسمية، بفضل كرم الملك أمينوفيس الذي قدم التابوت منحة منه).
٩٧  انظر ص٢٢٤ من كتاب Yaron, 1988.
٩٨  انظر Goedicke, 1979.
٩٩  انظر ص٢٠٧ من Jacobsen, 1959–1970.
١٠٠  انظر مادة «دينو» dînu في CAD.
١٠١  النص معروف أيضًا باسم «الفلاح الفصيح». (المترجم)
١٠٢  انظر ص١٩٢–٢١١ من Lalouette, 1984.
١٠٣  انظر ص١٦٣–١٧٤ من Cooper, 1975؛ وانظر ص٢٤–٢٧ من Bottéro, Note additionnelle sur le conte du pauvre hère de Nippur, 1982.
١٠٤  انظر Parpola, 1987.
١٠٥  انظر ص٨١ من: Parpola, 1970 شكوى رفعها كاهن إلى الملك في أعقاب قيام محافظ المدينة بمصادرة تعسفية وحشية لحقوله. وكاتب الشكوى يطلب بأن «يحكم له بالعدل حتى لا يموت جوعًا».
١٠٦  لا يتفق بوتيرو (Bottéro, Note additionnelle …, 1982, p. 27) مع كوبر Cooper في تفسير سلوك الملك: يرى كوبر فيه دليلًا على خراب الذمة (وهذا نبع للسخرية التي بلغت فيما بلغت السلطة العليا) أما بوتيرو فيرى فيه قرينة على الكرم والسخاء (حيث إن النيبوري هو الذي يقترح استئجار عربة وملابس، والملك يستجيب له عن ثقة).
١٠٧  انظر للمقارنة ص٢٨٣ من Draï, 1996.
١٠٨  انظر ص١٦٨ من Cooper, 1975.
١٠٩  انظر ص٢١٢ من Garelli, 1982 (بعض المواطنين الآشوريين قاطعوا أحد الوسطاء)؛ وانظر ص٣٨٠ من Cerny, 1973 (بعض المجندين المصريين من مدينة هابو فروا من الجندية واختفوا في طيبة على الشاطئ الآخر من النهر).
١١٠  انظر ص٧٧ من Mekhitarian, 1954 (مقبرة مينا Menna في طيبة).
١١١  انظر ص١٣٠ من Cerny, 1973.
١١٢  انظر اللوحات رقم ٣٠ و٤٨ و٤٩ من Page, 1983.
١١٣  انظر الصفحات ١٤٩ و١٥٠ و١٥٢ و١٥٦ في Della Monica, 1980 (صُوِّر الملك على صورة فرس نهر شره، وعلى صورة أسد يلعب الشطرنج مع غزلان (زوجاته) أو على صورة ذئب يعزف الناي وسط قطيع من الظباء الخليعة، إلخ).
١١٤  انظر ص٢٠ و٣٢ و٤٤ و٥١ و٦٨ و٧٣ و٧٤ من كتاب Vernus, 1993 («كان يكفي إبلاغ الأمر كما يحدث في عمليات البيع بالمراسلة»)؛ ونجد نفس الفكرة ص١٤ من كتاب: Manniche, 1987 مع إشارة إلى أن الكلام مجرد افتراض.
١١٥  انظر ص١١٩ من كتاب: Vernus, 1993.
١١٦  نفس المرجع، ص٦٣.
١١٧  انظر ص٨ من كتاب: Finet, 1980.
١١٨  انظر ص٢٩ من كتاب: Posener, 1961 «من الممكن أن نجد البشر يحذرون الآلهة، وكان من الممكن أن نجدهم يغيظونهم أحيانًا ويهزءون منهم، إن لم يغلظوا لهم ويثوروا على سلطانهم».
١١٩  انظر ص٢٣٠ من كتاب: Glassner, 1993 (Chronique d’Uruk).
١٢٠  انظر ص٦٨–٦٩ من كتاب: Schmöchel, 1964.
١٢١  انظر ص٢٢٩ من كتاب: Cerny, 1973.
١٢٢  انظر ص٧٨–٩٩ من كتاب: Vernus, 1993.
١٢٣  انظر ص٨٤–٨٥ من المرجع السابق (لم يكن العمال يقومون «بإضراب»، بل «يتجاوزون المتاريس»، على حد قول المؤلف الذي يقارنهم بعمال باريس، بعد زمان طويل، كانوا عند الإضراب يجتمعون في ميدان جري Grève الذي أصبح التجمع فيه يعني الإضراب، ودخلت كلمة جري grève القاموس الفرنسي بمعنى الإضراب.)
١٢٤  انظر ص٣٣ من المرجع السابق.
١٢٥  انظر ص٥٢ من كتاب: Wente, 1990.
١٢٦  انظر الملحوظة رقم ٣ ص٨٠ في Kupper, 1964.
١٢٧  انظر ص١٤٥ من كتاب: Bottéro, 1973.
١٢٨  انظر ص٥ في كتاب Finet, 1973 (الاستشهاد هنا مأخوذ من Jean Nougayrol, RA, 65, p. 67–84) وانظر كذلك ص١٣.
١٢٩  يستخدم ليميه Limet, 1973, p. 88 هنا حجة قوية ضد فكرة وجود «رأي عام» حقيقي.
١٣٠  انظر ص٨١ من كتاب: Kupper, 1964.
١٣١  انظر ص١٨ من كتاب: Cerny, 1973.
١٣٢  انظر CAD مادة esatu/esu «ما يموت ملك كبير حتى تقع البلد في الفوضى».
١٣٣  انظر ص٥ و١١ في كتاب Finet, 1973.
١٣٤  انظر ص٧٠ في كتاب Limet, 1973 (والمؤلف يرى في هذه الأحداث «ثورة جماهير شعبية») وانظر كذلك ص٧٤.
١٣٥  انظر ص١٢٨ و١٤٤–١٤٥ في كتاب Bottéro, 1973.
١٣٦  انظر CAD مادة esatu/esu.
١٣٧  انظر CAD مادة nabalkutu.
١٣٨  انظر ص٨٤ في كتاب Limet, 1973 وانظر ص١٦٤ من كتاب Bottéro, 1973 («لم يكونوا ينازعون في النظام، بل كانوا يعارضون من يمثلونه»)؛ وانظر ص٥١ من كتاب: Bell, 1992 («لم يدع في مصر أي ثائر إلى قلب الملكية نفسها»).
١٣٩  انظر ص١٤٠ من كتاب: Glassner, 1993 (Chronique de la monarchie une) وانظر ص١٥٣ (وهذا هو جوديا Gudea الذي يعرفه رواد متحف اللوفر بباريس «لم يكن ابن أمه، ولا ابن أبيه» كما يقول سجل الوقائع الملكية في لاجاش Lagash، وهذا السجل أشبه شيء بمحاكاة للسجل السابق).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤