بينما العقد الاجتماعي عقدٌ أُبرم بين شعب ورئيس دولته،
الحلفُ السياسي حلفٌ يُلزم رئيسَ الدولة حيال النُّخَب
الحكومية والإدارية. والسلطات، من حيث هي وسطاء بين الملك
وبين شعبه، تستطيع احتواء نفاد الصبر أو تذكي ما في الرماد
من نار. فإذا اقتنع الموظفون ومستخدمو الدولة بأن دائرة
الترقيات وتحقيق الثراء وإعادة توزيع المناصب والموارد قد
انقطعت، وضعوا نهاية لالتزاماتهم حيال ملكهم. وهنا تصبح
حركات التمرد والعصيان واغتصاب السلطة والانقلابات ومؤامرات
القصر وحركات الانفصال ممكنة، سواء في وادي النيل المشهور
باستقراره، أو في وادي دجلة والفرات الذي كان يعتبر أكثر
هياجًا.
(٢) دستور الأجداد
هذا هو على سبيل المثال شأن مجموعة التعاليم التي
يرجع تاريخها إلى العصر الذهبي للدولة القديمة (أو بتحديد
أكثر دقة: إلى الأسرة الرابعة) والتي جرى تفسيرها على مدى
مئات السنين واتخذت التفسيرات أشكالًا عديدة (مراسيم،
مراسلات، قصص، حوليات، إلخ) يمكن أن نسميها «دستور سنيفرو
Snefrou.»
٤٤ فيها تشريف لذكرى الملك الصالح الذي حكم على
مدى جيل في وسط الألفية الثانية (تقريبًا من ٢٥٣٨ إلى
٢٥١٥ق.م.). وسنيفرو هو السلف المباشر لباني الهرم الأكبر
خوفو الذي يسميه الإغريق
Khéops، كان رجلًا
بسيطًا، لا كلف عنده بالمظاهر، وظل اسمه من بعد يطلق
مرارًا وتكرارًا على الأولاد على مدى خمسة قرون (وثماني
أسر ملكية). والدستور في واقع الأمر ميثاق مَلِك من
الأسرة الثانية عشرة تحتفل به هذه النصوص: ذلك هو
سيزوستريس
Sésostris أول
«بطل قومي»، واضع لوحات الحدود الحجرية، الذي أصبح عن
طريق هذا التذكار شخصية أسطورية احتفى بها المحتفون على
مر الزمن حتى العصر الهيلِّينستي ووصل إلى أصقاع نائية
مثل ثراقيا [بالفرنسية
Thrace بالإغريقية
Thrakê] أو بين الإسكيت
[بالفرنسية
Scythes
بالإغريقية
Skuthai،
وبلادهم تسمى اسكيثيا = بالفرنسية
Scythie، بالإغريقية
Skuthia].
٤٥
حياة هذين الملكين الفذين وأعمالهما تجعل الإنسان
يفكر في طبيعة السلطة والقيود التي ينبغي أن تفرض عليها.
إقامة دولة مثل إقامة الصروح العامة: يجب اللجوء فيها إلى
«من يعرفون فن الإدارة»، وكذلك إلى أفضل الخبراء، وتركهم
يعملون على سجيتهم طالما لم يخرقوا حدود التعليمات العامة
التي تلقوها، وكأنهم يبحرون بين صخرتين («لا تسببْ للكبار
أضرارًا في ممارستهم وظائفهم»؛ «لا تثقلْ كاهل الزارع بالضرائب»).
٤٦ وهناك نصان آخران يبينان بدقة معنى المعايير
الدستورية للمنظومة السياسية المصرية: المثل الأعلى الذي
يرسمه سنيفرو وسيزوستريس تتغنى به «نبوءة» شعبية إبان حكم
الأسرة الثانية عشرة، هي نبوءة نيفرتي
Neferty، وهي نص دعاية
ينظر من الحاضر إلى الماضي في تناول الأحداث التي يصفها،
متنبئًا بقدوم ملك «منقذ» في نهاية فترة مضطربة ويختم
بوصية خيتي الثالث
Khéti
III إلى ابنه ميريكارع
Mérkarê. وهناك طبقًا
لهذه الوثيقة الأخيرة التزامات مفروضة على كل ملك، مهما
كان من القوة، وهي: «أَحِطْ بالاهتمام» كبار المستخدمين
وأهل الحل والعقد المحليين، «أظهِر الاحترام» لشخصهم،
وأموالهم، ومنشآتهم الجنائزية، وأعطهم الأجور والمكافآت
حتى لا يتبرموا ولا يضعفوا أمام إغراء الرشوة، لا تتخلصْ
من أنصار النظام السابق واقصر الإعدام على من «قام بثورة
وتكشفت مخططاته». وخلاصة القول، لا تفعل بمنافسيك،
وبمعارضيك، ولا حتى بأعدائك ما لا تحب أن يفعلوا بك،
«والزم في هذا الأمر جانب الحذر. فما من ضربة إلا جلبت
ضربة أخرى».
وبناءً على هذا المصدر الآخر الذي خلَّفه نيفرتي
Neferty، فإن «الكبار»
يشكلون «حكومة مصر». فهم إذن يتقاسمون مهامها. وتسير
الأمور على ما يشبه أن يكون أسلوب الجمهورية الخامسة في فرنسا،
٤٧ فالوزير الذي يقودهم يحدد ويسيِّر السياسية
الداخلية للأمة، بينما يضع الملك التوجهات الكبيرة ويحتفظ
لنفسه بالسياسة الخارجية (ساهرًا على أن تكون للاتفاقيات
الأسبقية على القوانين). وكان المصريون مولعين
بالاستعارات الملاحية فكانوا يقولون عن ممارسة الحكم إن
على السفينة الأولى أن تجتهد في إيصال السفينة الثانية
التي تلزم المسار إلى الميناء الصحيح. ونحن نعرف،
اعتمادًا على عدد من الوثائق التي دونت في لحظات مختلفة
من تاريخ مصر، وبخاصة في زمان الدولة القديمة والأسرة
الثامنة عشرة، أن على «رئيس الوزراء» في مثل هذا النظام
أن يحتفظ لأطول مدة ممكنة بثقة «رئيس الدولة» دون أن
يُخفي عليه شيئًا من المشكلات التي تطرحها السياسة التي
وقع عليها الاختيار.
٤٨ ومن اختصاصات الوزير أن يحمي فرعون من النقد
(حيث إنه «ستار كبير للبلد كله وساتر كبير يحمي صاحب
الجلالة»). ونظرًا لأنه ينوب عن الملك حتى في المراسم
الدقيقة للقاءات العامة التي يترأسها، فعليه مهمة فرز
الطلبات المرفوعة إلى فرعون
٤٩ بعد أن يكون قد سمعها كلها بحسب ترتيب
البروتوكول أو الدرجات. وإذا ما اعترض بعضهم على إعطاء
الكلمة لصاحب شكوى أقل درجة منه، فإنه يأمر في الحال
بإلقاء القبض عليه. وهو المتحدث الرسمي باسم الحكومة التي
يرأسها فرعون، فهو الذي يصوغ تصريحات فرعون لينقلها إلى
الشعب وليضمن نشر قرارات جلالته. والوزير — في الوثائق
التي تتناول بالحديث «واجبات» منصبه — هو رئيس الإدارة
(بينما يوصف الملك بأنه رئيس الجيوش). فالوزير إذن هو
الذي تُوجَّه إليه كل الالتماسات وكل الاحتجاجات على
تجاوزات الموظفين لسلطتهم («سيأتي أصحاب الشكاوى من
الجنوب ومن الشمال، من البلد كله»، هذا هو ما ينبه فرعون
إليه وزيره ريخميرع
Rekhmirê).
٥٠ ويعهد الوزير بالتحقيق في الشكاوى إلى مكتب
خاص أو لجان مناسبة في أثناء أعمال التفتيش أو الرقابة
التي تصدع بها. وتتبع التحقيقات أحيانًا جلسات محكمة
تأديب الموظفين، يدعى إليها الشخص المتهم عن طريق مرسال
من لدن الوزير كما تفعل الشرطة في أيامنا هذه، وللمتهم
الحق في أن يدافع عن نفسه. وتشتد حاجة الموظف المتهم إلى
الدفاع عن نفسه في حالة العودة إلى ارتكاب الفعلة، حيث
يكون ملفه المحفوظ في قسم المحفوظات قد أصبح متخمًا.
وللرؤساء الأعلى درجة أن يشكوا من سلوك من تحتهم من
مستخدمين، ولكن ليس لهم أن يعاقبوهم مباشرةً: الوزير وحده
هو الذي له أن يأمر بعقوبات مطابقة للتعليمات العامة التي
تلقاها من فرعون. وبينما يُعتبر فرعون — بصفته حامي اﻟ
«ماعَتْ»
ma’ât — الحارس
الحقيقي للدستور، يُعتبر الوزير المسئولَ عن تنفيذ
القوانين والأعراف التي أصبحت قواعد مقررة «حاب»
hap.
٥١
ويشهد على ذلك محضر يسجل جلسات الاستماع العامة له
أسلوب من التدقيق نراها شديدة الشبه بالأسلوب البريطاني،
فهي تنعقد في «قاعة اﻟ «ماعَتْ»
ma’ât المزدوجة» التي
تمثل منطقتي الشمال والجنوب، وهي قاعة فسيحة، أو في قاعة
بمقره (الشمالي أو الجنوبي): وعلى الوزير أن يجلس على
كرسي وثير خاص، ومن فوقه سقيفة من الخيزران، ومن وراء
ظهره نُمرُقَة من الجلد، وتحت قدميه طنفسة أخرى من الجلد،
وأمامه القانون المدوَّن على لفائف رق منشورة؛ ويُدخل
الموظفون بحسب نظام درجات ورُتَب صاعد؛ وكان المألوف في
مصر العليا أن يقسَّم العشرة الكبار في الجنوب إلى صفين
عن يمين الوزير، وكل مشارك في المشهد يحدق فيما أمامه.
٥٢ والدليل على أن الوزير كان مربوطًا بالقانون
يظهر في العبارات التي تصف مهامه: «هو الذي يسهر على
القوانين بكل أمانة؛ ويسمع كل أصحاب الشكاوى طبقًا
للقانون الذي عليه أن ينفذه؛ وكذلك طبقًا لحق أصحاب الشكاوى.»
٥٣ «وهو الذي يطبق وينشر كل قرارات الملك»، وله
ما يشبه أن يكون الحق في توقيعها التوقيع الثاني «لأنه
يعي كل مراسيم الملك». فمن المنطقي إذن أن يرأس القضاء
الإداري الأعلى، ويظل فرعون الملاذ الأخير للقضايا
المدنية. ولما لم تكن النصوص تحدد فصلًا فعليًّا للسلطات،
فقد كانت ترسم الحدود بين القانون المدني والقانون
الإداري والقانون الدستوري، وتفصل بوضوح وعلى كل
المستويات بين الذين يبَلِّغُون وبين الذين يفتشون وبين
الذين ينفذون وبين الذين يراقبون، وكذلك بين الجاجات
djadjat (المجالس
التنفيذية والتشريعية) والقنبيت
qenbet (محاكم قضائية
إدارية أو مدنية). منذ الدولة القديمة كان وزير واحد يرأس
هكذا «ست محاكم» بينما كان هناك العديد من رؤساء المحاكم
يسمونهم «أمراء الدور الكبرى» أو «الساحات الكبرى» التي
كانت مراحل لا محيص عنها في الحياة الوظيفية الصاعدة لمن
سيصبح وزيرًا يساعده قضاة الشئون العامة وقضاة «الشئون
السرية» (الخاصة بإدارة القصر الملكي).
٥٤
لا بد من أن تشكل الحكومة (أو «الطاقم») من رجال
مختارين، لا يكون عددهم كبيرًا (على أقصى تقدير ثلاثين)
حتى لا يشل بعضهم بعضًا، يعرفون كيفية التعامل في الضرائب
باعتدال، ويلزمون الحزم في حفظ النظام العام (فليس الهدف
هو «أن يطلب الإنسان الخبز بالدم!») وعلى رأس هؤلاء نجد
وزيرًا أو ربما وزيرين: فإما أن يكون رجلًا مجربًا ومعه
خليفته المعين، وإما أن يكون وزيرًا تجري في عروقه الدماء
الملكية في زمن الدولة القديمة (ويمكن أن يتقاسم الرجلان
فوق ذلك المهام جغرافيًّا أو وظيفيًّا)؛
٥٥ ومن الممكن أن يكونا وزيرين، وزيرًا للشمال
ووزيرًا للجنوب، كما حدث في الدولة الحديثة.
٥٦ ومن هنا يتسم التنسيق اليومي بالضرورة: فنجد
الموظفين الرئيسيين الضالعين بالسلطة المعاصرين لنشأة
الدولة (وهم الوزير أو الوزيران، ورئيس قسم الخزينة،
والمسئولون عن الأمن وعن الأشغال العامة) يتشاورون كل يوم
منذ القرن السابع والعشرين ق.م.، وهذا شيء لا غرابة فيه.
٥٧ وعلى الرغم من أن الوزير يعاونه موظفون كبار
آخرون فإنه وحده مسئول عن أعمالهم، نظرًا لأنه يرأس
تدابير العدالة العادية. وهو، كما يبين لقبه «رئيس الهرم»
بيانًا لا لبس فيه، في الوقت نفسه رئيس الدرجاتية
الإدارية، ورئيس المؤسسات الجنائزية ومشروعات الأشغال
العامة. ويبلغه القائمون على الإدارات الوزارية من ناحية،
والمهندسون المعماريون والمهندسون الصناعيون من الناحية
الأخرى، دوريًّا بنتائج نشاطهم. ثم إنه يعين رؤساء
المكاتب والمأمورين، وهو يقوم بجولات منظمة في الإقليم أو
في منطقة عمله، ويراقب عمليات الحصر المساحي، والتسجيل
المحفوظاتي للنصوص التنظيمية، وخطط الصروح وغير ذلك من
عمليات الشهر والتوثيق.
٥٨
أما البحث في بلاد الرافدين، عن «دستورٍ» ملزم لكل
واحد، فأمر يكتنفه قدر أكبر من الصعوبة، فقد تغير النظام
هناك مرات عديدة، ولم يبد على أي ملك قديم أنه كان
نموذجًا للحكمة، بل على العكس كان الملوك، الذين ربما جاز
أن يقلدهم المقلدون، ملوكًا لم يقتصدوا في اللجوء إلى
القوة الغاشمة. وعلى الرغم من ذلك فقد بقيت مجموعة من
التعاليم الدستورية من نفس نوعية المعايير المصرية وعبَرت
التحولات السياسية. فهذا نص بابلي من الألفية الثانية
ق.م. يفرض على الملك أن يحترم العدل، وأن يحترم الأعيان،
الذين هم مستشاروه، وأن يحترم البسطاء، الذين هم مواطنوه،
وأن يحترم بخاصة أهالي المدن المعفاة من الضرائب ومن
السخرة ومن الجندية ومن المصادرات، أو المتمتعة بالحصانات
القضائية مثل أهالي نيبور
Nippur وسيبار
Sippar وبابل
Babylone. ولا يجوز
لموظفيه أن يلجئوا في الحكم إلى القوة وإلى الاستيلاء على
الأموال بالباطل. وكانت شروط المعاهدات الموقعة والمواثيق
المؤكدة بالأيمان تفرض نفسها على الملك الجديد الذي لا
يجوز له أن يفسخها من جانب واحد. وأخيرًا، على الرغم من
أن المدن كانت تحتفظ بإعفاءاتها، فإن المعابد كانت مندمجة
في منظومة إدارية وقضائية موحدة.
٥٩ وأضافت آشور — بعد ألفية من السنين — إلى هذه
المجموعة من الترتيبات ضرورة أن يجري اعتماد شعبي دوري
للسلطة
adû.
٦٠
جرى تقسيم للمهام بين مَلكٍ أوتي «فهمًا واسعًا»
و«عينًا واعية»، مسئولٍ أمام آلهة الشعب الذين يقوم عنهم
بدور «الراعي»، وبين حكومة «قصيرة النظر» مرتبكة في
الإدارة اليومية لمستخدميها يقوم منها مقام «الناظر.»
٦١ والمستشار الرافديني هو رئيس إدارة القصر
ورئيس إدارة المملكة، المكلف بتنسيق الأنشطة المدنية
والعسكرية، ومراقبة التجارة البعيدة المدى وأشغال الري
وملء خزائن الدولة. وهو شخصية أكثر انطماسًا من شخصية
الوزير المصري، وهو يحمي مَلِكِه من سخط الناس على نحو
أضعف من نظيره. كذلك لا يبدو على المستشار الرافديني أنه
يلعب دورًا في التنظيم القضائي، إلا أن يكون ذلك في
ممارسة مهمته العامة المتمثلة في تطبيق القوانين («لا يقل
عدد ما تضمه مدونة حامُّورابي
de
Hammourabi منها عن مائتين واثنين
وثمانين قانونًا!»). وفي المقابل حدث له ما حدث لنظيره
المصري وهو أنه لم يكن منفردًا في ممارسة وظائفه، فقد
لوحظ أن نوزي
Nuzi كان
فيها على ما يبدو ثلاثة مستشارين يتولون المنصب نفسه في
وقت واحد، ونلاحظ مثل ذلك في عيلام
Élam (حيث كان اثنان من
المستشارين يسمون سوكَّاللو
sukkallu ويعملان
معاونيْن للثالث المسمى سوكَّالماح
sukkalmah والذي كان
يقيم على التبادل في رئاسة دائرتهم، في مدينة سوس [شوش]
Suse شتاءً ومدينة
أنشان
Anshan صيفًا).
٦٢
والتمييز الرافديني بين شارُّو
sharru وبين سوكَّال
sukkal شبيه بالتمييز
المصري بين فرعون
pharaon
وبين وزير
vizir الذي هو
أقرب ألفة إلينا (في لغتنا بين ملك
roi ومستشار
chancelier). في
البلدين جرى إنشاء الوظيفة «الوزارية» في نفس الوقت الذي
أنشئت فيه دولة حقيقية إبان الألفية الثالثة ق.م.: منذ
الأسر الأولى في مصر، ومنذ المحاولة الأولى التي قام بها
سرجون
Sargon الأكادي
لتوحيد بلاد الرافدين، نجد الملك يرافقه منسق للأنشطة
الحكومية وإدارة الأقاليم. فوجود «ثنائي رئاسي» هو إذن
علامة دالة على بناء سياسي جديد قريب من أبنيتنا السياسية
الحالية. وإذا لم نكن فهمنا هذا؛ فالسبب في ذلك أن علماء
المصريات في القرن التاسع عشر استخدموا — في مجافاةٍ
لمسار الزمن — كلمة فارسية
٦٣ ثم عثمانلية هي
vizir «وزير» (وكانت
الكلمة مطابقة للفكرة التي كان الناس يكونونها فيما مضى
عن الاستبداد الشرقي) للدلالة على ما كان المصريون يسمونه
«تايتي ساب تجاتي»
taïty sab
tjaty وما كان الرافدينيون يسمونه
«سوكَّالماح
sukkalmah»
أو «سوكالُّو دانُّوا
sukallu
dannu»: الوزير الأول، في نقطة التقاء
العام والخاص، المحلي والقومي، الإدارة البعيدة المدى
والإدارة القصيرة المدى. وبفضل هذا التقسيم للمهام لا
ينشغل الملك مباشرةً بإدارة البلاد، مكتفيًا بأن يضفي
معنى على السياسة المتبعة، وبأن يمارس حق العفو بأن يعاقب
المجرمين أو يخفف العقوبة، وبأن يمارس سلطة التعيين
باختيار موظفي السلطة أو تغيير وظائفهم.
(٣) السلطات العامة
تتميز الدولة l’État
بعدد كبير من متخذي القرار
décideurs يمارسون
جزءًا من السلطة الشرعية. ولما كانت زيادة الوظائف ذات
المسئولية — وهو مصدر قوة بالنسبة إلى من يدير البلد —
تفترض أن ينهض بتأمين السلطاتِ المرتبطة بكل واحدةٍ منها
فريق له تشكيل جيد ومناسب، يحمل لقبًا جذابًا متسقًا معه
يكون درجة من درجات سلم وظيفي صاعد حقيقي. وفن الحكم
قوامه منح صلاحيات دقيقة ومعروفة للجميع يتم تقديرها
بعلامات تمييز تشريفية تستتبع ميزات مادية. وسوء التمكن
من هذه المعرفة التي لا بديل عنها يعرض لخطر تشجيع ضروب
من المطالبة باستقلال ذاتي مفرط، بل ومن إعلان استقلال
كامل.
والتوازن بين احتكار الأسرة الحاكمة للسلطات العامة
وبين تفتيت السلطات بين عدد هائل من المتنافسين توازن يتم
تحقيقه بآليات بسيطة. في بلاد الرافدين على سبيل المثال
كانت الأختام تعطي حاملها التبرير الشرعي اللازم لممارسة
وظيفته التي كلف بها. وكانت حيازة الأختام تعتبر رهانًا
حقيقيًّا دالًّا على السلطة نظرًا لأن التعليمات الصادرة
لا يمكن أن تنفذ وأن تؤدي إلى نتائج إلا إذا كانت مختومة.
وبينما كانت أختام الصلصال الأسطوانية فيما مضى شخصية إلى
حد بعيد وقاصرة على التجار، فقد أصبحت في بداية الألفية
الثالثة أدوات إدارية ذات مواصفات معيارية تشتمل على رسم
شمله تطوير أسلوبي متزايد («تقديم» الموظف إلى من يعلوه
في الرتبة، ويصاحب الشخصيتين [المرسومتين على الخاتم]
إلههم الخاص) وعلى تأشيرة زادت أهميتها شيئًا فشيئًا.
والصورة التي تبين الملك ونائبه وجهًا لوجه تؤكد أن
المسافة التي يُدخلها بُعد الإقليم (أو عددُ الرتب في سلم
الدرجات) لا تحول دون اتصالٍ بين الاثنين إبان جلسات
الاستقبال الخاصة. وعندما تتغير وظيفة الموظف، يجب عليه
أن يسلم الخاتم إلى الإدارة (إلا إذا خلفه في الوظيفة
أخوه أو ابنه). وإذا فقد الموظف الخاتم فمن الممكن أن
تُسلَّم إليه نسخة معتمدة موثقة مطابقة مع نشر خبر ضياع
الخاتم على نطاق واسع. وعندما يتغير الملك (ويتغير معه رب
أو ربة عاصمته) تتغير الأشكال المرسومة على الأختام
بتغيره، إلا إذا خلفه وريثه من خط عرقي مباشر.
٦٤ وفي حالة نشوب نزاع يعتبر الخاتم الدليل
الوحيد على صدق الادعاء وسلامة القصد. في أوجاريت
Ugarit على الساحل
الفينيقي وجدت أسرة نيقماد
Niqmad بطريق المصادفة
الحسنة خاتمًا أُسَرِيًّا أسطوانيًّا قديمًا برر مطالبة
الأسرة بالعرش شرعيًّا ضد أولئك الذين لم يكن لديهم سوى
نسخة من الأصل كان يمكن أن يكون لها هي الأخرى صفة رسمية
(وكان يكفي لإثبات ذلك أن يقوم نفس الحفَّار المحلَّف)
المكلف بحفر النقوش على الأختام (بتقرير صحة التشابه
بمطابقة طبع الخاتمين).
٦٥
في وادي النيل كان الملوك يوقعون قرارات التعيين
وأوامر التكليف بمهام التي تفصِّل على نحو دقيق صلاحيات
كبار الموظفين وحدودها. من هذا القبيل مرسوم من الأسرة
الثامنة يضع تحت سلطة وزير مصر العليا جميع المستخدمين
العموميين (وهم «الأشراف، وحملة أختام الملك، والرفاق
الأفذاذ، والمشرفون على العرافين، والسادة، والقائمون على
إدارة الأملاك، والنبلاء») في الأقاليم الجنوبية السبعة
المعينين بالاسم، وكانت سلطة الوزير «لا يجوز لأحد نقضها
شرعًا». وهناك أمر من ملك من الأسرة الثالثة عشرة يخول
وزير طيبة سلطة ملاحقة المزارعين الذين يخرجون على
الشرعية، كذلك هناك أمر من الأسرة السابعة عشرة يخول
موظفًا حكوميًّا كبيرًا سلطات تحقيق واستقصاء واسعة في
إدارة معبد قِفْط تتضمن رفت كاهن ونفي أسرته كلها. ونجد
رسالة تكليف بمهمة من الأسرة العشرين تحض والي كوش
koush على أن «يتعاون
كل التعاون» مع حاملها لتسوية قضية محلية على النحو الذي
يتمناه فرعون،
٦٦ وذلك إجراء مطابق لإجراء مهمة «مبعوثي
الوزير»، أو مطابق في آشور لإجراء مهمة مبعوثي الملك،
«المقربين» «قوربوتو»
qurbûtu الذين يأتون
للبحث والتقصي في الأقاليم.
٦٧ وهناك وثائق مسماة من هذا النوع، كلها من قطع
واحد، ومصاغة على نحو واحد في كل عصر، كثيرًا ما خرجت
للنشر. وبعضها منتجات رائعة خرجت من أفران الفخار: كان من
الضروري إنتاج ثمانية ألواح لأرشفة قرارات الملك
نيفركاوحور
Neferkauhor
في يوم واحد،
٦٨ ونحن نعرف أكثر من ٢٥٠٠٠ وثيقة أرشيفية
أصدرتها في أقل من قرن واحد أسرة أور
Ur
السومرية الثالثة.
٦٩
في بلاد الرافدين تضاعف عدد التعيينات مع إنشاء
تقاسيم إقليمية جديدة، أدت إلى زيادة مقابلة لها في
إمكانات تعيين موظفين: في النصف الثاني من القرن الثامن
ق.م. لجأ «تيجلات فالازار الثالث
Tiglath
Phalazar III» إلى هذا الإجراء
للحيلولة دون تمرد النبلاء الآشوريين.
٧٠ ومع ذلك لم يكن التضخم في الوظائف الإدارية
هو القاعدة. فقبل ترسيخ أركان الإمبراطورية الآشورية
الجديدة لم تستطع إلا أسرة أور الثالثة
Ur
III وحدها أن تدبر طاقمًا من المحافظين
المتنقلين من منصب إلى آخر. وبعد سقوط آشور عاد الملوك
البابليون الجدد من مثل نبوخذنصر
Nabuchodonosor
ونابونيد
Nabonide إلى
نقل المأمورين في تكتم وحذر من منطقة إلى منطقة.
٧١ أما فراعنة الدولة الحديثة في مصر فقد نفذوا
هذا الأسلوب على نحو أفضل قليلًا، وبخاصة مع الموظفين
والمستخدمين مع أصل سوري أو نوبي أو إثيوبي قبل أن ينقضوا
على العرش.
وفيضان الألقاب التي منحها الملك أو التي طالب بها
الوجهاء أهل الحل والعقد على نحو عاطفي في شوق عارم إلى
التقدير فيضان لافت للنظر في البلدين كليهما. هكذا نجد
منذ الأسرات الأولى ألقابًا رسمية جليلة: «نظار»،
و«مراقبون» من كل صنف («مفتشو الصوامع» في مصر، «مفتشو
القنوات» في بلاد الرافدين)؛ و«قضاة» من كل درجة؛ وسدنة
القصر من كل شاكلة «رئيس مستخدمي القصر الكبير»، و«كبير
الغرفة»، و«شيخ البوابة»، و«حامل المروحة»، و«حامل
أخفاف»، و«حامل جفان الحلاق»، و«حامل أختام»، أو حتى
«مصفف شعر»، و«مزيِّن أيادي»، و«حارس كلاب» الملك، في
مصر؛ و«الساقي الأعظم»، و«المستشار الأعظم»، و«كبير
الخدم» و«رئيس الخصيان»، و«رئيس الدائرة الملكية»،
و«رسول» أو «عمدة القصر» في آشور.
٧٢ أما الألقاب غير الرسمية والتي اتخذها
أصحابها فهي موجودة وبخاصة في الدولة الحديثة التي نجد
فيها الكثير من الرؤساء الصغار «رؤساء فرق»، رؤساء عمال،
عمال من ذوي الأقدمية أو الموهبة، بسطاء ولكنهم معتزون
بأنفسهم، أو تتملكهم ببساطة رغبة في الصعود الاجتماعي من
أجل ورثتهم، فيلقبون أنفسهم في سذاجة مثيرة للوجدان
«مشرفين على الأشغال في دار الخلود»، «أساطين النجارة في
ساحة العدالة»، أو نجد «حجَّارين» (ونجد كذلك «صناع
الأحجار النفيسة» في بلاد النهرين، و«محكِّمين» مختارين
بين الفنيين في التعدين).
٧٣ بين بداية الدولة القديمة ونهاية الدولة
الحديثة واكب تعقيد المهام وتضاعف الألقاب ما يمكن أن
نسميه اليوم التحول الديمقراطي للوصول إلى الوظيفة
العامة.
ففي الدولة القديمة وحدها لا يقل ما نعرفه من ألقاب
عن ٢٦٠٠ لقب كان يحملها ١٧٦ فردًا (من بينهم ٦٧ وزيرًا)،
ونحن نعرف أن أغلبهم يحملون لقبين، وأن الوزراء يحملون
أكثر من ذلك، ولكننا نجهل هل كانوا يحملون الألقاب
المتعددة متزامنة، أم أنهم كوموها الواحد بعد الآخر على
مر المسار الوظيفي. ولما كان المصريون يميزون في هذا
الوقت المبكر الرتبة عن الوظيفة، فقد كانوا يمنحون
الألقاب الشرفية أو المناصب التي تصف أنشطة فعلية تمامًا،
ومن الصعب أن
٧٤ يشق الإنسان طريقه وسط الكم الكبير من لوائح
الألقاب في ظل أنظمة عديدة، وعلى مدى ألفيات مختلفة، تعلو
وتهبط حسب حركات الإصلاح التي ربما جعلتها أقرب منالًا أو
على العكس أشد تدقيقًا في الاختيار. وإذا اتخذنا لنا
موقعًا عاليًا ننظر منه إلى الألقاب والمهام من تحتنا،
استطعنا على أية حال أن ندرك وجود منطق مزدوج يؤثر في
صناعة الألقاب والوظائف. هكذا يمكننا أن نميز من ناحية
وظائف تفتيش ووظائف تنفيذ، وظائف قضائية ووظائف تنفيذية؛
ومن ناحية أخرى هناك صلاحية تعتمد على الإدارة المركزية،
كما أن هناك وظائف ملحقة بمكونات للدولة (الأوقاف
الخيرية، أو الإدارات المحلية، أو «إدارات المستعمرات»)
منحت بناء على مرسوم ملكي شخصية معنوية تستتبع مخالفات
منوعة (إعفاءات، أساليب خاصة في السيطرة والأحكام … إلخ).
ولكن نكوِّن فكرة أكثر دقة عن منظومة وُضعت على مدى اثني
عشر قرنًا، علينا أن نقارن الألقاب بعد ذلك بوظائف زمنية
أو دينية، وظائف القصور أو الدولة، وظائف داخلية أو
خارجية، مدنية أو عسكرية.
جاء تكاثر الوظائف ثمرة نمو النشاط الاقتصادي: فلم
تعد العائلة الملكية في مصر منذ الأسرة الرابعة تفي
باحتياجات إدارة البلاد. وأصبح لزامًا على الأمراء أن
يتعايشوا مع الخبراء، ثم أن يتخلوا لهم عن مكانهم، مكتفين
بالألقاب الشرفية التي لا يجوز نقلها إلى آخرين والتي خلت
من كل مضمون دقيق، بينما تضاعف عدد الوظائف الخالية. وكان
تزايد عدد الوظائف ذات السلطة إذ يعطي الملك هامشًا طيبًا
للمناورة (ويحد من سلطة معاونيه المباشرين، وبصفة خاصة
وزيرٍ كان فيما مضى على صلة به)، يفتح أمام الموظفين
الملكيين كذلك مجال إمكانات متعددة للتذمر والتنافس بل
التصادم من أجل «الجرايات» والمكافآت والمنح في مصر كما
في بلاد الرافدين، أو في النوبة وسوريا فلسطين والأناضول
أو في عيلام. كذلك أدى تزايد هذه الوظائف في نهاية المطاف
إلى تصنيف الثورات السافرة بناءً على العلاقة بنوعية
موظفي الدولة التي تأتي من بين صفوفهم: عمليات اغتصاب
صادرة من إدارة القصر الملكي أو من الإدارة الثقافية،
تمرد الجيش، تذمر رجال الإدارة المحلية أو إدارة
المستعمرات.
(٤) رقابة محكمة
انطبع البلدان — مصر وبلاد ما بين النهرين — منذ وقت
مبكر بانتهاج السياسة نهج الاحتراف وهو ما فتح الباب أمام
رجال جدد كانوا أحيانًا من أصل متواضع ليدخلوا في الإدارة
المركزية أو في الإدارة بعد تفكيك مركزيتها. اكتسب هؤلاء
القادمون الجدد شيئًا فشيئًا نفوذًا على حساب العائلات
المالكة والعشائر التي لها بها صلة، وكانت هي حتى ذلك
الحين التي تحمل مهام رئاسة الأقسام الإدارية الكبيرة.
وقويت العائلات المالكة وعشائرها وتحددت صلاحياتها بدقة
بعد أن كانت عائمة جدًّا. وفصل القادمون الجدد مواردهم
الخاصة عن الموارد العامة التي حملوا مسئوليتها، وزادت
ثرواتهم وزاد نفوذهم إلى الدرجة التي انتهى فيها أمر
السلطة الملكية وسلطتهم إلى التوازن في منظومة سياسية
وإدارية وإقليمية خاضعة لدرجاتية مزدوجة، وبالتالي لرقابة
مزدوجة.
في الدولة الحديثة أصبحت الحكومة والإدارة في مصر
متمايزتين عن بيت الملك الذي أصبح تدبيره منفصلًا (يقوم
على ما يناظر «المخصصات الملكية» الحديثة) يمكن مقارنته
بتدبير الأراضي الأجنبية تحت النفوذ المصري. قبل هذه
الفترة بألف عام كان أصحاب مناصب رفيعة من القصر الملكي
يدبرون كل الأمور الداخلية (تعداد البيوت، التموين، تنظيم
العمالة، الشهر العقاري، إدارة التجمعات المحلية)، وهي
وظائف كان يتولاها «رؤساء كتبة وثائق الملك»
imyr zash neswyt. وهذا
لقب كثيرًا ما ارتبط بلقب وزير اعتبارًا من أواخر الأسرة
الخامسة، كما مُنحه أفراد من مستويات متزايدة التواضع
عندما كانوا يمارسون هذا العمل بصفة أساسية. في هذا العصر
نفسه لم تعد المقابر الخاصة بكبار الموظفين تحيط
بالأهرامات الملكية، وتَرَسَّخَ هذا الاتجاه بمرور الوقت
على الرغم من ارتداد إلى الوراء كان يحدث أحيانًا.
٧٥
في آشور كان الفصل بين البيت الملكي والإدارة الوطنية
أقل وضوحًا. فكانت معية الملك تدبر كل شيء لأنه يطلب منها
على مستوى صلاحياتها القادرة على النبوءة والتوقعات
المستقبلية. ولم يكن التمايز الذي يرفع الموظفين بعضهم
فوق بعض على سلم الدرجات رهنًا باختلاف الوظائف (التي لم
تكن بصفة عامة محددة بدقة) أو رهنًا بالأصل الاجتماعي أو
الأُسَري (الذي لم يكن معروفًا إلا على نحو سيئ)، بقدر ما
كان رهنًا بالكفاءة المتفاوتة التي تتاح للمحللين من حيث
قدرتهم على التنبؤ بالأحداث، ورهنًا بشهرة امتيازهم في
السلك الذي يأتون منه (الكَتَبَة، العرافون، المتخصصون في
الهواتف الغيبية). وأيًّا كان الأمر فقد كانت هناك «أُسَر
من علماء»
urmânu متخصصون
فيما كان يسمى إبان القرن التاسع عشر بعلوم الحجرة
les sciences camérales
(أو «العلوم السياسية») حتى إن الملك كان يفضل أن يختار
مستشاريه من بينهم. ولكي يتحرر من سطوتهم نراه يعين من
حين لآخر رجالًا غير معروفين («ابتداءً من الآن ستكون في
معيتنا»، عبارة ساحرة تدعو من توجه إليه إلى أن يحضر كل
اللقاءات الملكية وتتيح له أن يعمق هكذا معلوماته عن
الدولة أو توسيع شبكة الشخصيات ذات النفوذ). وكان الملك
علاوة على ذلك يتخذ مجموعتين من المستشارين، الرسميين
وشبه الرسميين، وكان يفعل ذلك على سبيل الاحتياط، وإن لم
يمنع هذا الاحتياط بمرور الوقت
٧٦ من نمو سلطة المثقفين المطلوبين ويدل هذا
الاحتياط على تكتم الملوك الآشوريين حيال التمييز الكامل
بين أمور الأسرة المالكة وبين الأمور العامة. يشهد على
ذلك أيضًا ما كان يجري في السهل السوري وعلى الساحل
الفينيقي من معالجة الأمور العامة في حجرة النوم الخصوصية للملك.
٧٧
وعندما تم هذا الفصل بين الشئون الخاصة والشئون
العامة كانت له نتيجة إيجابية أخرى هي تحصين الإدارة على
مدى طويل ضد الصراعات على خلافة الملك. وربما كان من
الممكن تفسير الاستمرارية المصرية بهذا الإجراء الحكيم.
وليس من شك في أن اختراع نوع من الفصل بين من يأمرون
بالصرف وبين القائمين بالمحاسبة — قبل أن تنشأ هذه
الكلمات — من قبيل الفصل بين المكلفين بالرقابة وبين
المكلفين بالتنفيذ، قد لعب دورًا في بناء دولة حديثة
تمتنع الهيئات البيروقراطية فيها عن التدخل في الحياة
السياسية وهذا فصل أكثر تحددًا في مصر منه في بلاد
الرافدين. إلا أن السومريين عرفوا في الألفية الثالثة
إجراءات ميزانية مركبة تواكبها حسابات مالية في ختام
العملية حيث قورنت الواردات والمصروفات بالسيولة المتوقعة.
٧٨ في ماري
Mari
في مطلع الألفية الثانية كانت وظائف عديدة مجمعة في شخص
موظف واحد محلَّف يسمونه «إيبوم»
ebbum وهي وظائف
المراقب والمحاسب ومسجل المساحات، والقائم على منتجات
الزراعة وتربية الحيوان والعمال ومستحقي الجرايات أو
الأرباح. وكان أصحاب هذه المهمة ممارسين قدامى من الفرع
المقصود وقد أصبحوا مكلفين بالرقابة عليه بفضل ما أتيح
لهم من معرفة جيدة بألاعيب المهنة ومنظومات تحويل الأوزان
والمكاييل والمقاييس.
٧٩
هذا الحرص واضح كذلك في مصر: حيث نلاحظ اهتمامًا
بتحاشي أن تختلس الموارد الجماعية أو تبعثر بحماقة. هناك
المختصُّون في المالية الذين لا يبخلون على «وزراء» العمل
والصوامع العامة بالمساندة، وهم بالرغم من ذلك يشغلون
وظائفهم تحت سلطة «وزير» الخزانة (وكان وزير الخزانة هذا
منذ الدولة القديمة يعاونه «مسئول الخزانة» الجنوبي الذي
يقيم في أبيدوس،
٨٠ ثم أصبح منذ عهد أمينوفيس الثالث يساعده في
المنطقة نفسها في الدولة الحديثة «كيَّال صومعة قرابين
آمون الأول»).
٨١ أما الحسَّابون الملحقون بالأوقاف والمعابد
وزمامات الدولة (والذين كانوا يلقبون ﺑ «ريودو»
rewudu أي مراقبين،
والكلمة هي المرادف المصري لكلمة «أوجولا»
ugula السومرية) فكان
يرمز إليهم بشارة هيروغليفية نتبين فيها رجلًا يمسك عصا.
٨٢ وحيث إنهم كانوا يقومون بمعايرة النتائج (أو
مقاييس النيل) فإننا نجدهم يذكرون في سجلاتهم بالأرقام
وبكل دقة نشاط أولئك الذين يقومون بأعمال وأولئك الذين
يجمعون القرابين، ويسلمون دون تعليق إلى السلطات المختصة
السجلات المختومة (التي تختم أحيانًا بخاتم «سري»)
٨٣ التي يبينون فيها المطالبات تمهيدًا لملاحقات
محتملة.
في بلاد ما بين النهرين نجد محاسبين في الإدارة
المدنية كما نجدهم في الإدارة الدينية. ويدل اسمهم على
أنهم يسجلون أرقامًا كما يسجلون وثائق قانونية (فالاسم
«جودابشوم»
gudapshum
يعني في الواقع «محاسب وكاتب محفوظات») وهو ما يهيئهم
لمسار وظيفي صاعد باهر لأنهم يصلون في النهاية إلى
«شانداباكُّوم»
shandabakkum. وهناك
كلمات أخرى تتضمن في مدلولها — كما هي الحال في وادي
النيل — الرقابة بمعناها الدقيق الضيق (وهذه هي حال
«القيبو»
qîpu الآشوريين
الذين يشرفون على العمليات المالية الضرائبية لدى
المأمورين). ويصدر المحاسب المراقب إيصالات، ومخالصات،
وبيانات جرد، وبيانات توريد المخازن الرسمية، كما يصدر
شهادات (مثل شهادة تقرر ضياع لوح يعطي الحق في جراية،
وتبين أن الصورة المطابقة سيجري إلغاؤها في حالة العثور
على الأصل حتى لا يحصل صاحبها على الجراية المقررة مرتين).
٨٤ في ماري
Mari
قيِّمت حسابات المشاغل التي تصنع التماثيل للطقوس الدينية
على أنها «بلغت الكمال» في بعض المعابد، وقيل في شأن
حسابات مشاغل أخرى إنها مطلوبة بلا تأخير من قِبَل الذين
أصدروا التكليفات وقاموا بالصرف («على هؤلاء الذين أمروا
بصناعة هذا التمثال … أن يجلسوا، وأن يدونوا الحسابات»
وأن يقدموا تقريرًا ماليًّا إلى السلطات صاحبة الوصاية
التي يتبعونها).
٨٥
والمراقبون في الشرق القديم، مثلهم مثل موظفي
الحسابات في عصرنا الحاضر أو مثل مندوبي التحصيل والصرف
عندنا، كانوا في كثير من الأحايين مسئولين عن الموارد
المالية العامة وبخاصة عندما يكونون قائمين على الضرائب
في مناطقهم (لهذا السبب جعل بيبي الثاني
Pépy II، ملك مصر، في
القرن الثالث والعشرين ق.م. أصحاب المناصب في الأقاليم
المصرية مسئولين عن موارد الضرائب كل في منطقته)؛ كان
ياريم ليم
Yarim-Lim ملك
ألالاح
Alalah قرب حلب في
القرن الثامن عشر ق.م. يجمع كل الضرائب ويوزعها بعد ذلك
على الصناديق المحلية وجزية ماري
Mari والخزانة الخاصة.
٨٦ أما ملك ماري
Mari فكان يخلد إلى
الراحة معتمدًا على «أساطين المناصب» الذين كان يجمعون
الضرائب فضةً أو عينية،
٨٧ بينما كان نظيره البابلي يستخدم بعد اثني عشر
قرنًا من الزمان محصلي ضرائب محليين يسمون «ماكيسو»
mâkisu٨٨ وكان هؤلاء المحصلون المحليون في تدبيرهم
لحساباتهم على نهج يقربهم من مواطنيهم، يستطيعون كذلك أن
يلعبوا دور الضامنين للمديونين الذين كانوا يُلاحَقون في
منازعات خاصة.
٨٩ ولما كانوا يمارسون على غرار الملك مسئولية
محلية في مجال العدالة، فقد كانوا يحملون الإصر راضين على
الرغم من المخاطر، لأنه كان يحسِّن مركزهم ويعطي من يعمل
باسم الملك كل وظائف الملك.
(٥) سيطرته على أراضيه
ليس هناك في الشرق القديم شيء يبيِّن تنظيم الأراضي
الإقليمية أفضل من تقسيم السلطة بين الملك وبين ممثلي
الشعب والحكومة والإدارة. وسواء كان الأمر أمر سلطة محلية
حقيقية أو أمر ما عبروا عنه بالعبارة اللطيفة السلطة التي
تمارَس محليًّا،
٩٠ أمر تمنى إلغاء المركزية بناءً على أسباب
ديمقراطية أو مجرد إلغاء للمركزية حرصًا على الفاعلية؛
فالظاهر أن كل الصيغ جُرِّبت. في عصر سرجون
Sargon، أول موحِّد
لبلاد الرافدين توحيدًا عابرًا، حول عام ٢٣٠٠ق.م. بقي
الاستقلال الذاتي المحلي قويًّا بالدرجة التي سمحت
بالكلام عن «وهنٍ كوهنِ بيت العنكبوت يتسم به النسيج
الإداري في الأقاليم.»
٩١ بل من الجائز أن يكون بعض الملوك الذين أتوا
فيما بعد، مثل ملوك أرَّافا
Arrapha الرافدينيين،
قد عجزوا عن تعيين مأمورين دون موافقة المجالس المحلية.
٩٢ فنحن إذن بعيدون كل البعد عن النمط
المرزُباني المستبد المنسوب إلى السلطات البابلية بعد
الغزو الفارسي، وهو نمط بُولغ في وصفه وتقييمه لأن
الأسرات في البلاد المغلوبة نجحت في أن تحفظ لنفسها على
مدًى طويل مكانتها واستقلالها بالقرار استقلالًا ذاتيًّا.
٩٣
وليس الأمر سهلًا بالنسبة إلى أية حكومة: فإعطاء
استقلال ذاتي مفرط يمكن أن يؤدي إلى تفاوتات في معاملة
المواطنين، أما احتفاظ الحكومة المركزية بقدر مفرط من
السلطة ممثلًا في شخص مبعوثها فيشجع على التهاون حيال
الاستقلال. ونجد في كل الفرضيات أن الإدارة الحساسة
للأراضي — التي غالبًا ما كانت متباينة، مختلطة، بعيدة عن
المركز — من شأنها أن تغذي التطلعات السياسية لدى أعيان
الأقاليم، الذين أصبحوا منذ ذلك الحين ينافسون
بيروقراطيِّي العاصمة ويشكلون خطرًا محتملًا على الملك.
تلك حقيقة ثابتة يزيد من ثبوتها أن البيروقراطية المحلية
تبني جهازها وتتشكل مهنيًّا على نموذج إدارة الدولة.
وهكذا يجد الولاة المحليون أنفسهم على رأس جيش من
الموظفين يقومون هم في أغلب الأحيان بتعيينهم؛ وهم الكتبة
والعرافون وحملة البريد والمبعوثون ورؤساء خدم المقار
والقنواتية القائمون على التفتيش على القنوات وحرس بوابات
المدينة وحراس بوابات القصر والحُجَّاب والمنادون
العموميون المسئولون عن التبشير بالأخبار الطيبة (وهو ما
تعبر عنه أسماؤهم أحيانًا) وعن الإنذار بالأخبار السيئة
(فهم الذين ينظمون السُّخرة).
وعمدت غالبية الحكومات الرافدينية إلى تعيين شخصيات
تكون مسئولة أمامها عن النظام العام وعن التماسك
الاجتماعي في منطقة بعينها، معتمدة تعيين موظفين للسلطة
على هواها، عن اختيار محلي أو متنقل. نجدهم عُمَدًا أو
مأمورين في العديد من المناطق في كل العصور، دون أن
نستطيع الكشف عن رباط واضح بين درجة سلطة النظام وبين
الشكل المتبع في إدارة أراضيه. في ماري
Mari — التي ضرب بها
المثل على النظام القوي — نجد أن الحاكم اﻟ «سوجاجوم»
sugâgum الذي كان يعين
من حيث المبدأ لمدى الحياة (إلى أن «يسير إلى قدَره») لا
بد من أنه قد كسب ثقة مواطنيه، فهؤلاء المواطنون رشحوا
للمنصب واحدًا منهم ودعموا الترشيح بمبلغ من الفضة سددوا
إلى الخزانة العامة. وعندما نقض المحكومون سلطة الحاكم لم
يكن أمامه من سبيل إلا أن يقدم استقالته إلى الملك («لم
يعد في مقدوري أن أستمر في ممارسة مهام الحاكم في «دور–
ياحدوم — ليم»
Dûr-Yahdum-Lim. لقد
طُردت. فليعيَّن من يجب أن يعَيَّن»). وليس من شك في أن
علينا أن نرى في هذا الاحترام غير المتوقع للأعراف
المحلية من قِبَل ملكٍ قوي تراثَ إجراءات سياسية قبلية
قائمة بين الشعوب الذين جمعتهم تحت سلطته.
٩٤ ونحن نجد اﻟ «شاكنو»
shaknu البابليين الجدد
في حركة سياسية غير مستقرة قد أصبحوا على العكس — بعد
ألفية من السنين — مأمورين حقيقيين وضعوا تحت إشراف وثيق
من إدارتهم وكانوا ينقلون من حين إلى حين من موقع إلى
موقع آخر. وأقصى ما وصلت إليه الملحوظات هو أن التقطيع
إلى أقاليم، والذي يبدو عليه أنه كان بيروقراطيًّا في
الظاهر، تبع عن كثب حدود الأراضي القبَلية التي «تسمت
التقاسيم المستحدثة بأسمائها أحيانًا، كما بدا على
المأمورين أنهم ألصق بهم «عُمَد».»
٩٥
هؤلاء اﻟ «خازانُّو»
khazannu أو اﻟ
«خازيانو»
khaziânu هم في
واقع الأمر «عُمَد معينون». وهم يقومون بدور المحكمين بين
الفرقاء في المنازعات على تحديد الأراضي، وجلب الماء،
وتوارث العقارات، ويساعدهم في وظائفهم هذه الأعيان في
الدائرة. في آشور القديمة كان الذين يقومون بهذا الدور هم
ببساطة «كبراء المنطقة» «راباتو شا آلي»
rabâtu sha âli. في
ماري
Mari كان لكل المدن
والقرى «خازانو»
khazanu
خاص بهم يعمل بالاتفاق مع مجلس آباء «أبُّو»
abbû يوافقون على
الضريبة المحلية ويرعون حقوقهم العرفية في الحكم على
المنازعات. ونجدهم في أرَّافا
Arrapha شمال شرقي دجلة
وفي عيلام
Élam فيما وراء
جبال زجروس
Zagros حيث
يحملون اسمًا آخر هو «داجانو»
dajjânû أي القضاة.
٩٦ وكان الملك السومري، بغية تحجيم سلطتهم، يجمع
مأموريه دوريًّا لكي يتبادلوا معلوماتهم وينسقوا أنشطتهم.
٩٧ وكان الملك الآشوري في العصر الآشوري المحدث
يعين أحيانًا «عدة عُمَد» في الدائرة الواحدة (وصل عددهم
إلى ثلاثة في دائرة آشور) على أمل أن يراقب الواحد منهم
الآخر. أما ملك ماري فكان يضع عددًا من العُمَد تحت
السلطة الوحيدة لمحافظ المدينة «خالسو»
khalsu. فإذا ظن أن هذه
الحيطة لن تكفي، كان يضع بجانب هؤلاء اﻟ «خازيانو»
khaziânu موظفين
«شاكينو»
shâkinu، يقوم
أحدهم على الأقل بالرقابة على البلدية
٩٨ وكان الملك الفينيقي يطلب من «عُمَده» أن
يستضيفوا مبعوثه وأن يعاملوهم معاملة طيبة وأن يحموهم،
حتى إذا كانوا قد جاءوا للتفتيش عليهم.
٩٩
وهكذا نجد على كل المستويات ممثلين للملك مستندين إلى
السلطة العامة لا يقدمون حسابًا عن شيء إلا إلى مليكهم.
والقادة العسكريون إبَّان أسرة أور الثالثة
Ur III العظيمة، الحكام
العسكريون الإقليميون «شاجينا»
shagina، من أعضاء
الأسرة الملكية السومرية أو من الساميين الذين ارتبطوا
بها بعد أن نجوا بحياتهم عند انهيار نظام سرجون
Sargon، كان المستشار
الأكبر هو الذي يعينهم والملك هو الذي ينقِّلهم. وهم
مسئولون أمامهما عن نشاط الحكام المدنيين «إنسي»
ensi الذين كانوا
يختارون من بين العائلات المحترمة محليًّا وكانوا يحاطون
بالعديد من رؤساء البلديات ورؤساء القرى (الذين كانوا
يسمون «خازانو»
khazanu).
١٠٠ كان على المأمورين اﻟ «شاكين ماتي»
shakin mâti في المملكة
الصغيرة جدًّا المتمركزة حول مدينة نوزي
Nuzi أن يحسبوا حساب ما
لا يقل عن ثلاثين من الأعيان المحليين أو اﻟ «خازانو»
khazanu، بينما ظل
العُمَد منعزلين في مدنهم وقراهم.
وكان شَغْل مركز العمدية لا يأتي للعمدة إلا بالقليل
من الدخل، بل كان يكلفه الكثير. كان عليه أولًا الصرف من
أجل نيله، وتقديم مختلف الهدايا للحفاظ عليه، ومعاملة
مبعوثي الملك معاملة سخية والإنفاق على استقبالات لا محيص
عنها لدى السلطات العليا، وضمان مصالح أصحاب الشكاوى
ووعدهم بتعويضات في حالة المساس بأمن الممتلكات والأشخاص
في الدائرة تحت الرقابة. كل هذا دون مقابل رسمي: لم تكن
الوظيفة مسجلة في قائمة من يحصلون على جرايات من الحبوب
والملابس والزيوت والدهون والبيرة والنبيذ، وهي جرايات
كان ينعم بها الموظفون وحاشيتهم في المحافظات. فكان من
الصعب أن يقف واقف في وجه تحول منصب العمدة إلى منصب
«وراثي»، أو في وجه قيام بعض من يشغلونه إلى إساءة
استغلال وظائفهم ليكونوا لهم شلة من العملاء، وليثروا من
الرشوة ثم من التعديات المختلفة (من قبيل نهب المِلك
العام والخاص، وفرض عقوبات بلا مبرر ثم القيام بإلغائها
في مقابل رشوة، إلخ). وكان أشد الفلاحين تواضعًا وخوفًا —
ربما بتحريض خفي من ممثلين مباشرين للملك — يرفعون
أصواتهم بالشكوى، فكانت مثل هذه التعديات الصارخة تمثل
حجة مثالية يتحجج بها الحكام للتدخل.
١٠١
وتبدو الاختلافات بين بلاد الرافدين ومصر في هذا
الشأن ضئيلة. فنحن نجد في مصر أيضًا حكام الأقاليم، ونجد
عُمَدًا معينين، ومجالس محلية منحت صلاحيات ضرائبية
وقضائية، كما نجد مبعوثين وزاريين لمراقبة النشاط في هذا
العالم الجميل كله. فعلى المستوى المحلي أنشئ في زمان
الدولة القديمة منصب حاكم الإقليم ومنح السلطة الإدارية
والسلطة القضائية محليًّا بتفويض من الوزير
١٠٢ الذي يظهر الحاكم — وهو ممثله المحلي — له من
الولاء ما يناسب عدم توقعه الحصول على المنصب.
١٠٣ حتى الأراضي المنعزلة عن وادي النيل، مثل
الواحات، كانت مرتبطة بالإدارة المركزية وموضوعة تحت
مسئولية حاكم مدني «حيكا»
heka يشرف كذلك على
تدبير شئون المعابد المحلية.
١٠٤ في زمان الدولة الوسطى يبدو الحكام والعمد أو
المأمورون أكثر استقلالًا ذاتيًّا. كانوا ينحدرون غالبًا
من عائلات محلية يختار الملوك من بين ظهرانيها من «يعرفون
القوانين» ليساعدوهم، وكان بعضهم يبتنون قصورًا فيها
تماثيل لهم تتربع على العرش.
١٠٥ وتحاشيًا لقيام الأشخاص المرموقين في
الأقاليم بتكوين مركز قوة كان الفراعنة يلزمون أكثرهم
حركة وإثارة بالإقامة في العاصمة، وكانوا يرفضون تعيين
ورثتهم خلفاءً لهم في المنصب، فلم يكونوا يشغلون على نحو
منظومي الدرجات الثلاث لإدارة الأراضي.
١٠٦ في زمان الدولة الحديثة كان الوزير هو الذي
يختار من بين الأعيان المحليين عمدة «حاتي»
haty، وكان العمدة
المختار يصبح مسئولًا عن منطقة فيها عدد من رؤساء
التجمعات الريفية «حيكاو حاوَّات»
hekaw
hawwat معترف بهم أطرافًا لهم وزنهم في
الحوار. وهناك شواهد تثبت وجود بنية الدرجات الهرمية وردت
في النصوص البروتوكولية تشير إلى مواطنين عاديين بجانبهم،
كما تتمثل في كتابة العلامة الدالة على «تجمع» حيث يتخيل
الإنسان الحقول المربعة للبلدات الريفية والقرى والأخصاص
التي تخضع لها.
١٠٧ وكانت المنازعات المتصلة بالمِلْكية ونقلها
يجري حسمها في الدرجة الأولى من التقاضي من خلال لجان
محلية. أما سجل الشهر العقاري وما يقابل في نظمنا الحديثة
«خطة إشغال الأرض»، اللذان يستند إليهما أصحاب الشكاوى؛
فالقطع فيهما من شأن الوزير.
وكان لطيبة في مصر، شأنها شأن بابل في بلاد الرافدين،
لائحة خاصة: فالأقاليم الجنوبية تعتبر في مصر وفي بلاد
الرافدين بمثابة المهد الثقافي والديني للدول الشرقية.
وربما لا ينعم حكام المناطق الجنوبية بمقام أسمى من
الحكام الآخرين، ولكنهم يرتبطون على نحو أكبر بأرضهم
الأصيلة. فنجدهم منذ الأسرة الخامسة (حول عام ٢٤٠٠ق.م.)
يفضلون بعد مماتهم أن يدفنوا فيها على أن يتخذوا لهم
قبورًا في سقارة. وجاء رد الفعل عندما ألغى ملكٌ، جاء من
بَعد، هو أوناس
Ounas،
المهام الخاصة بمصر العليا وعهد بتدبيرها إلى مكتب خاص
تابع للدولة. وسلك خلفاؤه طريق إدارة منفصلة عن المركزية،
لا طريق إدارة لامركزية، ولم يترددوا إلا في توصيف وظيفة
وزير الجنوب: رتبته (هل هو رئيس وزراء مكرر أم وزير
منتدب؟)، مقره (هل هو إدفو؟ أبيدوس؟ طيبة؟ إلخ)،
التزاماته (جامع ضرائب أم متصرف في الزمام؟ ممارس
لصلاحيات دنيوية فقط أم دنيوية ودينية معًا؟)
١٠٨
ولا بد من انتظار قيام الدولة الحديثة وسلطة الكهنة
المتنامية لكي تتحرر إدارة الجنوب، ثم تهيمن على الدولة.
ونشأ تخصصها في تدبير شئون الطقوس الدينية في عصر سيطرت
فيه تشابكية
١٠٩ الحكومية وعالمية التبادلات على كبار موظفي
العاصمة (ممفيس ثم تل العمارنة «بي رمسيس»، أو تانيس،
وكلها في الشمال) الذين اضطروا إلى النزول لكهنة الكرنك
عن وظائفهم الروحية. ولم يكن كهنة الكرنك من قبل إلا
خدمًا مخلصين ومتواضعين للمعبد الذي أسسه أمنمحات الأول
Aménemhat في الدولة
الوسطى. ولقد احتاجوا إلى أربعة قرون لكي يسيطروا على
موارد أوقاف الطقوس الجنوبية — وهي عملية اكتملت في عصر
تحتمس الثالث — وكانت تمهيدًا ضروريًّا لغزو الوسط بعد
خمسة قرون على يد خادم من خدم آمون هو حريحور
Herihor مؤسس الأسرة
الحادية والعشرين. والنجاح المصري — إذا ما قورن بالفشل
الرافديني الذي مُنيَ به كهنة بعل
Bêl أو نابو
Nabu أو ماردوك
Marduk — قد يمكن شرحه
بتفردية «إدارية» دائمة حظي بها الجنوب في مصر، بينما لم
تنعم بابل قط على نحو دائم إلا بتفردية طقوسية
particularisme
cultuel. لم ينتصر كاهن آمون الأكبر على
منافسه المدني بناءً على هالة دينية بل بناءً على قاعدة
معلومات لوجستية في مثل صلابة قاعدة المعلومات اللوجستية
التي أتيحت للوزير الأكبر. والمحاولات المتكررة التي قام
بها هذا المنافس المدني بقصد تقليص الدور السياسي لكاهن
آمون الأكبر، حيث عيَّن كهنة غامضين للقيام بوظائف ما
كانوا يأملون في ممارستها في إطار مسارهم الإداري، هذه
المحاولات المتكررة لم تمنعهم من أن يضبطوا سلوكهم على
إيقاع سلوك أصحاب الفضل المباشر عليهم فأمروا بحفر نقوش
بأسماء هؤلاء لا باسم فرعون، وحصَّلوا مباشرةً ضرائب خصصت
للطقوس بدلًا من تلقيها من الوزير، ومارسوا المحسوبية مع
الأقارب في عصر كان الاختيار بناءً على الجدارة قد فرض
نفسه في الإدارة باعتباره مثلًا أعلى يجب السعي إليه.
١١٠
وهناك كذلك شواهد توثِّق اغتصاب امتيازات ملكية في
بلاد الرافدين. في المستعمرات الأناضولية حيث كانت أسماء
الموظفين المحليين — اﻟ «ليمون»
lîmun — تُطلق على
السَّنة الجارية، وكانت هذه ميزة يجري منحها بالقرعة من
بين أعضاء العائلات الكبيرة التي نُفيت من الوطن. فأن
يطلق اسم فرد على سنة تقويمية دون موافقة الأعيان أهل
الحل والعقد الوطنيين، ودون موافقة الملك الآشوري (الذي
لم تعد تقدم إليه الهدايا الصغيرة التي جرى بها العرف)،
فتلك بلا جدال علامة على التحرر. ونجد في سوسيان
Susiane — وكانت كذلك
تحت النفوذ الرافديني — حكامًا محليين وعمدًا يمنحون
أنفسهم وظائف ملكية فيسمون أنفسهم حراسًا للعدالة، وآباء
النهضة الاقتصادية و«رعاةً لشعب سوس
Suse.»
١١١ ولكي يمنحوا دعاواهم طابعًا إعلاميًّا نجدهم
يقيمون ألواحًا حجرية تسجلها (يبلغ ما نعرفه من عددها ما
لا يقل عن خمسة وتسعين أقيم بعضها في الأسواق) ويجعلون
شهود العقود يحلفون باسمهم.
١١٢ وعلى العكس من ذلك نجد في سوريا وفلسطين تحت
السيطرة المصرية، أن الأمراء المحليين والحكام الأجانب،
سواء كانوا على رأس مدينة أو إقليم، يسمون أنفسهم ببساطة
عُمَدًا «حاتي خازانو»
haty
khazanu وهي تَسْمِيَة مركَّبة من
كلمتين، كلمة مصرية وكلمة أكادية.
١١٣ وهكذا فإن الطموحات الشخصية اختلف نصيبها من
الحظ. واعتمد نجاحها على الصدفة وعلى الأعراف المحلية
وعلى التنظيم العام للبيروقراطية. وبين ليونة المأمور في
دائرته الإدارية وعجرفة النبيل في إقطاعيته السياسية نجد
كل الفرضيات قابلة للفهم. وأسوأ الاحتمالات بالنسبة إلى
الدولة — ولا نقول بالنسبة إلى الديمقراطية بالضرورة — هو
أن «يخرق حاكم محلي حكمًا ملكيًّا.»
١١٤
والريبة المتبادلة بين الحُكام وبين النخبة الإدارية
المفروض فيها أنها تخدم الحكام تتعاظم أحيانًا وتبلغ الحد
الذي لا يكون أمام هؤلاء وأولئك من سبيل إلا العمل
الوقائي وبخاصة في السر ضد منافسين يعتبرون خطيرين خطورة
مفرطة. وهكذا نجد زيمري ليم
Zimri-Lim، ملك ماري
Mari، يطلب من أحد
المحافظين العاملين تحت إمرته أن يمحو أحد المزعجين من
الوجود بأن ينصب له فخًّا، ولكن المحافظ المرتاب يرفض
ويدَّعي أنه لم يجد لا «الحفرة» التي تضيعه ولا «اللحظة
المناسبة لتضييعه.»
١١٥ وهذا هو حامُّورابي، ملك بابل، يقضي على
معارضيه دون فضيحة بأن يضربهم بالسيف ليلًا …
١١٦ أما بي عنخ
Pi-ankh، كاهن الكرنك
الأعظم، فيأمر بأن تُلقى في الماء ليلًا وسط سكون مطبق
جثَّة شخص عرف أكثر مما ينبغي له أن يعرف أسرارًا عن
أنشطته وكان لهذا يمكن أن يلحق ضررًا بمستقبله، ولكنه
يترك ثلاث رسائل تنضوي على إدانة عرفنا منها اليوم ما حدث.
١١٧ ولم تكن هذه الممارسة جديدةً: فمنذ الأسرة
الثانية عشرة — التي كانت تُمتدح لحكمة ملوكها — يبدو
حقًّا «أن جثة متمرد أُلقي بها في الماء.»
١١٨
ومن الطبيعي أن يستخدم المتآمرون نفس الأسلحة. وإذا
كانت النصوص التي دونها كُتَّاب الوقائع آنذاك
١١٩ تفضحهم، فهذا يكشف لنا أن أكثر الملوك دهاءً
كان من الممكن أن يعانوا من العزلة على الرغم مما أتيح
لهم من الرحابة والسعة والكرم. وإذا كانوا يجدون بفضل
أعمالهم «العادلة» الحماية من الخروج الشعبي على الشرعية،
فلم يكن في مقدورهم أن ينتظروا من موظفيهم التعبير عن
الامتنان الذي تطالب به سيادة كريمة من مَسُودين لا
يردُّهم عن التآمر راد. هكذا يعود شبح أمنمحات الأول
Aménemhat، ملك من
الدولة الوسطى، ليشهد على أنه قتل في فراشه وهو نائم.
وعلى الرغم من ذلك كان في حياته «يعمل على أن يصل من لا
يملك شيئًا إلى نفس ما يصل إليه من يملك سواءً بسواء».
وروح الملك تنصح ابنه سيزوستريس بأن يحذر الضيف «الذي
يأكل طعام القصر» لأنه هو الذي سيكيل له «اللوم». وروح
الملك تشكو عن بصيرة: «هذا الذي لبس ما كسوتُه به من
أرَقِّ وأنْعَمِ ما أُوتِيتُ من كتان كان يرمقني بنفس
النظرة التي رمقني بها من لم أعطه منه.» ثم تأتي هذه
الوصايا وهي يقينًا أشدها مرارة: «إذا نمت، فليكن قلبك هو
الذي يحرسك، فما للإنسان من صديق يوم البلاء»
١٢٠ وعشية معركة قادش صب رمسيس الثاني على ضباطه
لومًا اغترفه من الشريان نفسه عندما تركوه وحده يواجه
الحيثيين.
«ما أجبن قلوبكم، يا من تركبون عرباتي الحربية! لا
جدوى حقًّا من الثقة فيكم؛ ما من رجل بينكم لم أبسط إليه
يد إنعامي في بلادي … لقد جعلتكم بقرار مني رؤساء …
وأعفيتكم من الضرائب.»
١٢١
واللوم على نكران النعمة الموجه إلى رجال غير جديرين
بثقة الملك، هو أكثر من تعبير أسلوبي، وأكثر من عبارة
أدبية متواترة في الوثائق القديمة، إنه يشهد على أن الحلف
السياسي كان هشًّا، وأنه ارتكز على معتقدات قبل أن تحققه
الأفعال وتعتمده اعتماد الخاتم على الوثيقة. والهيئات
الإدارية التي أنشأها الملوك والوزراء وأنفقوا عليها،
كانت في البداية مخلصة لهم، طالما «ضمن الملك معاش الذين
يتبعونه» و«أنفق على ما ينضم إلى سبيله.»
١٢٢ وكانت هيئات الموظفين، مع الخلافات التي لا
مفر منها على الإجراءات الواجب اتخاذها، تنفلت تدريجيًّا
عن أولئك الذين فكروا في تكوينها، وتنشئ لنفسها هوية
عندما تتمايز بعضها عن البعض الآخر بتعليمها وبالمسار
الوظيفي لأعضائها. وكان الكتبة السومريون ينخرطون في نفس
المدارس ويتعلمون فيها لغة ميتة، فيتمايزون هكذا عن
الأهالي الساميين الذين يتكلمون الأكادية. وهم قد تعلموا
تأليف الأناشيد الملكية وممارسة أعمال المحاسبة القومية،
فإذا بهم ينتهون إلى تأليف أناشيد يمدحون بها أنفسهم
ويعكفون بممارستهم المحاسبة على مصالحهم الخاصة، بدلًا من
أن يدعموا عزة الملوك الذين كانت الإصلاحات التي أدخلوها
السبب في ترقيتهم عن طريق التعليم.
١٢٣ كذلك العرافون الآشوريون قد «عُرِّفوا» أسرار
العرافة على يد من سبقوهم وظلوا مخلصين لهم عندما قربهم
الملك إليه على أساس من جدارتهم لا على أساس أصلهم الاجتماعي،
١٢٤ وحتى عندما كان التنافس بينهم يشتد في فترة
البطالة الفكرية.
١٢٥ وأفاد الموظفون المصريون هم أيضًا من تمكنهم
من التقنيات السرية (الكتابة، والمحاسبة، والسحر) ومن
الدراسة في نفس المدارس في أن يشكلوا أنفسهم على شكل
هيئة. ولم يتقاعسوا عن معاقبة السلطة بتوجيههم النقد
علنًا وصراحةً إلى الوزراء،
١٢٦ وبالشكوى على نحو متحفظ من غطرسة الفراعنة أو
على العكس من ضعف شخصيتهم في الفترات المضطربة، وكانوا
يفعلون ذلك تنبيهًا لخلفائهم مما يمكن أن يلحق بهم إذا لم
يحسنوا معاملتهم.
١٢٧
فلما زادوا تخصصًا زيادة مطردة بمرور الوقت أصبحوا لا
غنى عنهم لحسن عمل الإدارات التي استثمرت طاقاتها في
الاقتصاد. ولم تؤد الإصلاحات الكبيرة التي أدخلتها الدولة
(وبخاصة التي تناولت الكتابة والتقويم والموازين
والمكاييل والمقاييس والتقنيات المحاسبية والتي يرجع
الفضل فيها على سبيل المثال إلى السومري شولجي
Shulgi١٢٨ إلى قطع التزامهم القديم في مجال الإنتاج
الزراعي والحِرَفي، ولكنها على أية حال جعلتهم خبراء في
التنسيق أكثر منهم منتجين. وأصبحوا مسئولين عن التموين
وعن الأسواق، أي عن منع المنازعات أو تسويتها، تلك
المنازعات الحتمية التي تتيحها مثل هذه التجمعات المختلطة
الدورية. واكتسبوا حنكة لا تُبارى في كل الأمور المتصلة
بالصحة وحسن السلوك والنظام العام والتدبير ومشروعية
التحويلات ونسب التغيير والتبديل والقيام على أماكن البيع
وعلى طرق الدخول والإخلاء وطوابير الانتظار، ولا ننسى
تحصيل الضرائب على المبادلات وإعداد الإحصائيات.
وليست بنا على العكس حاجة إطلاقًا إلى أن نتخيل
«استبدادية مائية» لكي نشرح دستور «البيروقراطيات
السماوية»؛ فالري يكون مضمونًا على نحو أفضل بكثير إذا
ترك أمره لأولئك الذين يفلحون الأرض، فهم وحدهم الذين
اكتسبوا مهارة تنفيذ المنظومة يومًا بعد يوم (أو بدلًا من
ذلك: حفر قنوات وصيانة المعدات الضرورية، وهذه مهام
تتولاها الدولة بصفة عامة) وهم وحدهم الذين لديهم دافع
للقيام بأشد المهام عسرًا وأقلها عائدًا (مثل تطهير
المجاري). والموظفون الذين يهتمون يقينًا بمنظومات الري
عندما تمتد على مساحات تزيد على عشرة آلاف هكتار، يحركهم
تصريف منتجات الزراعة المروية أكثر مما يحركهم الري في حد
ذاته. وعندما ننظر إليهم كيف أدخلوا شبكة توزيع الأملاك
وإعادة توزيع الجرايات، نكتشف أن البيروقراطية لا تكون
فعالة أبدًا إلا عندما يكون على أولئك الذين يخدمونها أن
يحققوا توازنًا رشيدًا بين التكاليف الناجمة عن إدخال
المنتجات في المخازن أو إخراجها منها، من ناحية، وبين نقل
هذه المنتجات بين مواقع الإنتاج ومواقع الاستهلاك في
اللحظة الأكثر ملاءمة، من ناحية أخرى. ويمكن ارتكاز على
هذا المنظور الجديد أن يرسم الإنسان حدودًا بين الهيئة
وبين الأراضي وأن يفسر على نحو أفضل المنافسات التي تسبب
التعارض بينهما. وكل «استبداد شرقي» يصنع بالفعل الفرضية
اللاواقعية عن إدارة موحَّدة ومتحدة، بينما يدين
البيروقراطيون بوجودهم ذاته لاحتياجات التنسيق بين
الأنشطة وبين الأماكن المختلفة، كما يدينون به للتدبير
المستقل لكل واحد منها، نظرًا لأنها كلها تُولِّد
تقنياتها الخاصة، ونظمها المحاسبية وتأملاتها الاقتصادية
أو توقعاتها السياسية.
١٢٩
والحقيقة أن الأنظمة السياسية في الشرق القديم قامت،
بغية إنشاء دول حديثة، على نحو متفاوت الجودة، بإحلال
الهيئات المؤسسة دستوريًّا والاتحادات البيروقراطية محل
العشائر القبَلية أو الأسرية. وسعيًا منها إلى ترشيد
الإنتاج استعانت بموظفين بدلًا من أن تستعين برجال تعلموا
المهنة فاتحةً هكذا طريقًا أمام المتعلمين من أصل متواضع
كانوا يتعجلون العثور على وظيفة مضمونة في الإدارة بدلًا
من الاستثمار في مشروعات تجارية محفوفة بالمجازفة. فلما
أراد القابضون على زمام السلطة أن يخططوا كل شيء، غير
تاركين لأي من النخب أو الشعب هامش العمل الضروري لحسن
عمل الاقتصاد والمجتمع، كنسهم التاريخ بمكنسته. وعلى
العكس من هؤلاء، نجد الملوك الأكثر حصافة الذين سعوا
بنعومة ورقة إلى تسوية الاختلافات الاجتماعية أو
الجغرافية ودوائر النشاط الحرفي على نهج موحد، لم يمركزوا
سلطتهم بل قاموا على العكس بإذابة تمركزها.