الباب الثاني
ظهور الفرد
تظن جميع مصادرنا التقليدية عن الشرق القديم — وهي
المصنفات الكلاسيكية الإغريقية الرومانية والمصنفات التي
كتبها منتمون إلى الحركة الإنسانوية الهومانية أو مستشرقون
أو مؤلفون عرب — أن الشرق القديم خالٍ من الأفراد المستقلين
استقلالًا ذاتيًّا sujets
autonomes. هذه الفرضية التي لم توضع قط
موضع الاختبار والتي تفترض وجود عالم خالٍ من الأفراد
الأحرار والمسئولين individus libres et
responsables سمحت على الرغم من ذلك
بالحكم على أنظمتهم بأنها «استبدادية»
despotiques ثم جاء في
وقت جد متأخرٍ اختراع المواطن
citoyen الذي ندين به
للفلاسفة الذين شغلوا بموضوع الفرد
sujet فهناك فرد له وجود
بمقتضى الحقوق، وهناك فرد مفكر عند الهيلِّينيين، وهناك فرد
بمقتضى الواجب أو فرد بمقتضى الأخلاق عند اليهود. وحتى نكف
عن تخيل الشرق القديم مأهولًا فقط بكائنات
êtres اجتماعية طيِّعة
وتابعة، لا بد من أن نثبت أن عالم الشرق القديم هذا كان
أيضًا عالمًا من أفراد يعرفون ويعقلون بل ويحسبون، يعرفون
حقوقهم التي شغلوا بصياغتها عن وعي أخلاقي.
وعلماء المعرفة ينزعون إلى الاعتقاد بأن من سبقوا سقراط
من فلاسفة هم أول من تصوروا العالَم في أذهانهم من حيث هو
أفراد
individus. وقيل إن
الكائن البشري،
١ وقد أُخرج بالفكر من عالم الأشياء الطبيعي،
تحرر آنذاك من نزوات مَلِكٍ أو إله أو مَلِكٍ إله، وكان
هؤلاء حتى ذلك الحين هم وحدهم الذين أدركوا العالم. هذه
الفرضية ترتكن على فكرتين بسيطتين: أولاهما أن الغربيين هم
وحدهم الذين درسوا الطبيعة من أجل متعة معرفتها، وثانيتهما
أن الغربيين سبقوا غيرهم إلى الاهتمام بالثقافات الأخرى.
والفكرتان في الحقيقة فكرة واحدة: نحن الغربيين نقول إننا
اخترعنا الفرد الفاعل
le
sujet بأن منحنا أنفسنا — في منعطف القرن
الخامس — العالم الطبيعي الفيزيقي والعالم الاجتماعي ليكونا
موضوعات
objets
للمعرفة.
ومعنى هذا أن الخروج من القديم العتيق (الأرخائي
archaïsme) يفترض هكذا أن
النشاط الفكري أصبح تفكيرًا مضاعَفًا: فلم يعد البشر يقنعون
في تفكيرهم بملاحظة الطبيعة؛ بل شرعوا يفكرون في أفكارهم
الخاصة. ووصل الحال إلى أن عوالم مختلفة محتملة عرضت لهم،
وأنهم شكوا في حواسهم، واخترعوا البرهان، ثم التجريب من أجل
أن يدحضوا أو يثبتوا أبنيتهم الافتراضية. ولا بد من أن
الشرقيين القدامى اخترعوا هكذا علم المعرفة، علم شروط صحة
معلومة، لكي تكون مؤلفاتهم قابلة لفهمنا وتكون اختراعاتهم
نافعة لنا.
هل فعلوا هذا؟ لو كانوا قد طرحوا علمهم للنقد، واعتمدوا
حكاياتهم الأدبية بتوقيعاتهم من هذا المنطلق وبهذه النية،
وقعَّدوا براهينهم الرياضية، لكان الرد بالإثبات أيسر
٢ إلا أننا لا نبغي لنا أن نقف منهم موقفًا أكثر
تشددًا من موقفنا مع الإغريق. فلا ننسى أن الإغريق الذين
أخذوا على عاتقهم أن يجعلوا بينهم وبين الواقع مسافةً،
كاشفين بذلك عن فكرٍ واعٍ بذاته، اكتشفوا العقل لأسباب
رديئة: فهم لم يكتشفوا العقل عن شغف بالعلم (أي البحث عن
حقيقة الطبيعة المطلقة، تلك الحقيقة التي يؤدي إليها حتمًا
كل استدلال عقلي مطابق للقواعد العمومية العالمية للمنطق)
وإنما اكتشفوا العقل عن ولعٍ بالبلاغة (البحث عن الحقيقة
النسبية للحجة الأكثر إقناعًا، حتى لو كانت حجة مصطنعة،
عارفين أن طريقة صياغة السؤال تُكيِّف الإجابة)؛ لم يكتشفوا
العقل عن تجرد سقراطي، بل عن نفعية اتخذت مسبقًا سمات رومانية
٣ كذلك قلب الإغريق حدود الفضول العلمي: كانوا
يريدون أن يفهموا العالم الاجتماعي قبل العالم الطبيعي
الفيزيقي مدخلين العقل بذلك على نحو أيسر في الثقافة التي
وجدوا أنها الطبيعة اللاعقلانية. وفيما عدا الهندسة، كانت
مفاهيمهم عن العالم متغلغلة تغلغلًا عميقًا في الأساطير الميثولوجية
٤ كما تبين النظرية الأرسطوطاليسية عن الكرات
السماوية المتداخلة وجاذبية الأجسام من وسطها الطبيعي؛
فالأجسام الثقيلة تلحق النواة المعدنية للكوكب بينما تطير
الأشياء الخفيفة نحو الأثير.
٥
وكان أبناء الرافدين هم أيضًا قادرين على التفكير
تفكيرًا مزدوجًا، لأنهم لم يجهلوا الإقناع (كانت الحوارات
التي لم يكفَّ الفلاسفة قط عن الشغف بها من أصل بابلي)
٦ ولم يجهلوا وجود قوانين (قانون التاريخ الذي
يجعل له معنى، والقانون الاجتماعي الذي يكافح اللانظام
«الخاءوس
chaos»)
٧ دون أن يكونوا — شأنهم شأن الإغريق — قادرين
على إثبات قوانين الميكانيكا.
وما وضع حقبة عتيقة «أرخائية»
٨ على طرف نقيض من فترة كلاسيكية إلا إهدار مسبق
لقيمة الشرق القديم في تكوين الثقافة السياسية الغربية. وهو
يعني أن نجعل التاريخ يدور حول محورٍ نريده أن يكون محورًا
زمنيًّا وجغرافيًّا، يمتد من الخروج
٩ إلى الحروب الميدية،
١٠ ومن كنعان إلى أتيكه
Attik١١ مرورًا بكريت وأيونيا
Inia١٢ ولقد أسهب كارل ياسبرس
Karl
Jaspers في الحديث عن «عصر محوري» شرقي
âge axial levantin ظن
بعضهم في البداية أن عالمنا انبثق منه، قبل أن يروا فيه
مرحلة ترتيب منظومي للمعارف الموجودة من قبل ممهدة السبيل
للثروات الفكرية والسياسية الكبيرة في عصر النهضة
١٣ والرأي عند إيريك فوجيلين
Erik
Voegelin أنها كانت كذلك لحظة عملية
مستمرة — لم تبلغ منتهاها — لتمييز المعرفة: في البداية كان
العالم واحدًا، ولم يكن هناك فصل بين الدنيا والآخرة، الحق
والباطل، الخير والشر. وبقصة التكوين
la
Genèse جاهر الشرقيون القدماء بنيتهم
(الذاتية) لاكتشاف الحقيقة (الموضوعية)، ولأن يستنيروا ﺑ
«نورانية»
luminosité
الواقع الفيزيقي مكررين عملية الخلق. تولدت المعرفة من
النفثة الروحية
pneumatique
التي محت الخاءوس: وانفصلت الأرض عن السماء، والبشر عن
الرب. وبدأ الزمان التاريخي بقصة الحدث الأول. وهذا هو
الإحساس بحضورٍ إلهي متموقعٍ وراء الإنسانية يقذف الزمنَ
إلى خارج عالمٍ أصبح عندئذٍ يتموقع بين «قبلٍ» (الإرادة
الإلهية لخلقه) و«بَعدٍ» (نهايته والتوحد مع الرب). وكان
الكون أقل «تكثيفًا». وأيًّا كان رأي فوجيلين — وسنعود إليه
في الباب الثالث — فإن أبناء الرافدين والمصريين أبدوا
وعيًا بالعالم في مثل حدة وعي العبرانيين في صياغتهم الخاصة
للتكوين. لقد أوتوا هم أيضًا حدسَ فصلٍ أليمٍ جعلهم يصلون
إلى وضع أفراد من ذوي المعرفة وأفراد من ذوي التاريخ.
١٤
لم يكن الإغريق أول من اكتشف ما يمكن أن نسميه اليوم
الوعي (وعي الفرد بأنه هو ذاته وشكه في وجود الآخرين). صحيح
أنهم رفضوا التناظر بين السماء والأرض، ولكن دون أن يصلوا
إلى أن يعيدوا خلق عالم اجتماعي متصالح على الأرض
١٥ فالعالَم الاجتماعي الإغريقي تجُوبُه التوترات
بين ماضٍ وحاضر، أصلٍ وصيرورة، توترات تعرِّف بها
التراجيديا على نحو رائع. وكُتَّاب التراجيديا يجعلون
السياسة قابلة لفهم جمهور لم ترضه شروح الفلاسفة لأنها
تبتعد ابتعادًا مفرطًا عن التفسيرات التقليدية للمجتمع
١٦ فحيث استطاع الرافدينيون
١٧ والمصريون أن يدمجوا النظام المدني في تصوراتهم
للعالم، كان العبرانيون والإغريق يصطدمون بعدم التناسب بين
مَلَكاتهم الجديدة ورُؤَاهم القديمة للكون.
١٨
والحدس
intuition يمكنه
أيضًا بالقدر نفسه أن يؤدي إلى الارتيابية
scepticisme الجلية كل
الجلاء، يؤدي إليها بنفس سهولة القياس الفرضي الاستنتاجي
hypothécodéductif وتبين
صنوف المعاناة النفسية التي يصفها الكتَّاب السومريون أو
المصريون بيانًا مستفيضًا قدرتهم على الاستبطان. ويمكننا أن
ندرك الوعي بالذات وما يواكبه من الشعور باللاإيصالية
incommunicabilité في
السير الذاتية لعظماء هذا العالم
١٩ وفي مراسلات أقل الناس شأنًا وهم العمال
والموظفون المستخدمون في مدن الموتى. ورسائلهم تترجم خيبة
الرجاء حيال أنانية أشباههم («أنت لا تستمع لأحد لأن الأنا
لديك متضخمة جدًّا»؛ «لقد كتبت إليك؛ وهذا أمر لا شأن
لزوجتي به»
٢٠؛ «ماذا ألحقت بك من أذى؟ حتى لو كنت حقًّا
ارتكبت ما لا يعد ولا يحصى من السوء، ألا يمكن أن يؤدي عمل
طيب واحد إلى جعلك تنساها؟»).
٢١ ولم يكونوا قط يخافون من أن يلوموا من هم أشد
منهم قوة على ضيق فكر محزن؛ فهذا رجل اسمه ميريوتيف
Meryotef يوجه كلامًا إلى
الأمير
Ramsès-Maatptah
رمسيس — ماعتبتاح: «لم أتلق رسالة منك. فما جدوى أن أرسل
إليك الكثير من الخطابات إذا لم تكن أجبت حتى على واحد منها؟»
٢٢ وقد تصطبغ الفرحة بالصداقة المتبادلة ذاتها
أحيانًا بصبغة ساخرة، على نحو ما جاء في رسالة كتبت في زمن
الأسرة الثانية عشرة (حول عام ١٨٠٠ق.م.) علينا أن نقرأها
على المستوى الثاني («يا للأسف أن تكون وصلت على خيرٍ،
سليمًا معافى! … هكذا ترى أننا سنقضي معًا وقتًا عصيبًا»).
٢٣
إننا في كثير من الأحيان نعرف، من رسالة أو من توسل، عن
وجود شعور شخصي أكثر مما نعرفه من كتاب فلسفة. وتنطبق هذه
الملحوظة كذلك على الأدب الشبقي. ووجود هذا الأدب يعطينا
الحق في أن نقرر أن كلَّ إنسان شخصٌ متفرد، وليس دورًا
اجتماعيًّا، عندما يكشف مضمون هذا الأدب عن نساءٍ يعبرن
بحرية عن رغباتهن، ولهن الحرية في ألا يكون للرجال أن
يغرروا بهن، وعن بنات يتعلمن كيف يصبحن نساءً بالغات. وهناك
قصيدة سومرية
٢٤ ألفت في منعطف الألفية الثانية تحكي حكاية بنت
صغيرة اغتصبت لأنها لم تأخذ حذرها من المَلِك بما فيه
الكفاية، ونال الملك عقابه:
«في مجرى الماء الصافي، لا تستحمي، أيتها الصبية
…
ولا تتنزهي على ضفاف جدول الأمير، يا نينليل
Ninlil!
السيد صاحب النظرة البراقة …
يمكن أن يلقي عليك ناظريه …
ولكن نينليل نزلت واستحمت في مجرى الماء الصافي
…
صاحب السمو الجليل الأمير إنليل
Enlil، تسلل خفية إلى
خميلة السمار
غشا نينليل وضاجعها.
ولمست يدُه ما طالما اشتهاه المشتهي …
وذات يوم كان إنليل يجوب أرض كيور …
Kiur
فأمر الآلهة الكبار بالقبض عليه …
وسط أرض كيور
Kiur.
وقالوا له «يا إنليل
Enlil يا أيها
المغتصب، ابرح المدينة!»
٢٥
والحكاية عادية، الحكم القاسي الذي وقع
على المغتصب هو مفاجأة إلهية. ونينليل
Ninlil هي «الصغيرة ذات
القبعة الحمراء» قبل أن يحين زمانها، اجتذبها الجدول والخطر
المحيط به، معبرة عن رغبتها في أن تصبح زوجة وأُمًّا،
ومحتجة في ذلك ببراءتها:
«أريد أن أضاجعك!» هذا ما صارحها به إنليل.
ولكنها أبت.
قالت: «عضوي […]
ولا أستطيع أن أوسعه!
[…] ولا أقدر على الوصال.
إذا عرفت أمي، فستعاقبني؛
وإذا عرف أبي، فسينبذني؛
الإله (إنليل =
Enlil) باغتها وتمكن
منها. فلما أحبته حلا له أن يعود ليغتصبها من جديد متخفيًا
في أشكال مختلفة، خارقًا هكذا نظام ملأ رفاقه الآلهة وإن
تظاهر بأنه يحترمه. والنص خليط من الحكاية ومن النشيد
الديني يعظ جمهوره ويبين له شرعية الزواج واحترام الطفولة،
وامتيازات الملك، وهو يعيد تأكيد القاعدة بكشفه عن
الاستثناء، كذلك يبين الرغبة المتساوية لدى الرجل والمرأة
في جدارة مشتركة حيال الحب. إننا بعيدون كل البعد عن معابد
اللذة، بعيدون عن المصوِّر جان أُوجيست دومينيك آنجر
Jean Auguste Dominique Ingres
[1780–1867] ولوحته «الحمَّام التركي»
Le bain turc عام ١٨٦٣م،
حيث تبدو غانيات خليعات مستهترات وكأنهن نذرن لمجون الحريم،
كذلك نحن بعيدون عن خيالات ماكس فيبر
Max
Weber الذي أغرق زهده البروتستنتي في
طقوس بدوية عربيدة
orgies
bédouines،
٢٧ بعيدون عن الرحلة المعنونة
Voyage pittoresque de Constantinople et
des rives du Bosphore تلك الرحلة التي
ألفها ترويتل
Treuttel
وفورتس
Würtz عن رسوم للسيد
ميلِّينج
Melling والتي
نشرت في باريس في عام ١٨١٩م، وفيها يقال لنا عن سراي بيشيك
تاش
Beschik-Tasch «المقر
العادي للسيد العظيم في فصل الصيف» ما يلي.
(لِمنظرِ قصرٍ شرقي جاذبيةٌ قوية تشد الفضول. استبدادية
صارمة تحفظ تَوَحُّدية في العادات وفي الفنون وفي ترف
إمبراطوريات آسيا حتى إن قصر عاهل عثماني يمكن أن يصور في
مخيلتنا مساكن … أردشير …
٢٨ ونحن إذ يقودنا هذا الميْلُ الذي يجرنا نحو كل
ما تغشاه أستار السر الغامض، نتحرق شوقًا إلى أن ننفذ داخل
هذه الأسوار الرهيبة حيث وضعت الملذات تحت حراسة
الرعب).
هل يستحق سر نينليل كل هذه الشراهة؟ أستار المقصورة
الشفافة تحيط بهالة أكثر مما تستر عناقًا متيمًا ونديًّا
مثل أنشودة حب بابلية تاريخها أربعة آلاف سنة، تقول الحبيبة
للحبيب:
«نبضات قلبكَ لحن بهيج …
ملامستكَ حلوة ناعمة …
وسريري بالبخور معطر …
مد يدَك اليسرى وضع يدك على […]
داعب […]
وكانت قصائد الحب المصرية أكثر عفة،
ولكنها لم تكن أقل صفاءً. كان الرجال والنساء في وادي النيل
تصيبهم صاعقة الحب «فلا يعودون يعرفون في أي مكان من الدنيا
هم» وكانوا منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد يعبرون عما
بهم بعبارة جميلة:
«آهٍ، فريدةٌ هي، أختي، لا ندَّ لها،
أجملُ الجميلات … بشرتها وضَّاحةٌ
ونظرة عينيها فتَّانةٌ
وكلام شفتيها حلوٌ …
وجيدها دقيق طويل، ونهداها براقان
وشعرها من لازورد أصيل
وذراعاها أجمل من التبر
وأصابع راحتيها تحاكي براعم اللوتس.»
والحبيبة ترد على هذا التصريح بأسلوب
يمكن أن يكون أسلوب بنت من زماننا اليوم تتمنع وتأبى أن
تخضع للغواية:
قلبي يرتعد من الوجد
عندما أفكر في حبي إياك
لم يعد قلبي يسمح لي بأن أسلك مسلك العقلاء
إنه يرتجف في مكانه …
لن أكحل عيني بعد اليوم بخضاب تجميل
ولن أتعطر بعد اليوم بطيب
قلبي يقول لي: «لا تقفي، تقدَّمي»
هل هناك حاجة إلى أن نضيف أن «العمومية
العالمية» Univeralité لهذه
العبارات لا يمكن بحال من الأحوال أن تستخدم دفاعًا لصالح
«الخصوصية» Spécifité
المدَّعاة غير المفهومة التي يخصون بها العادات الأنتيكية
الإغريقية الرومانية، وهي في واقع الأمر لا تختلف في لا
اسميتها anonymes ولا في
فجاجتها المكشوفة عن عاداتنا؟
فإذا كنا نشك في الحساسية العاطفية الشخصية التي عبر
عنها الشرقيون القدامى في نصوصهم، فلا يرجع شكنا إلى عدم
وجود آثار دالة على العاطفة أو البهجة الخصوصيتين. وإنما
يرجع ارتيابنا بالأحرى إلى الدور المناط بالمكتوب في
حضارتهم وفي حضارتنا. فنحن بفكرنا نرى أن الكاتب الحقيقي
يلتزم بمسئوليته بأن يؤكد آراءه الخاصة. وبأن يوقِّع أعماله
بإمضائه. وأعماله هذه وقد تحلَّت بإمضائه تنتقل إلى الأجيال
التالية مؤكدة تمايزها عن أعمال أخرى معاصرة، دون أن يعني
هذا التمايز بالضرورة أنها تعارضها. والكاتب إذ يكتب
للأجيال القادمة أيضًا لا يكتفي بأن ينقل إليها دون ذكر
اسمه شاهدًا متواضعًا على عصره، بل هو ينشئ عملًا حقيقيًّا،
مطولًا وعميقًا، يحدث في القراء المستقبليين أثرًا أي أثر.
قليلة هي النصوص الشرقية التي تطابق هذه المواصفات
المحدِّدة لأن كُتَّابها يمحون أنفسهم خلف حكاياتهم ولا
يمهرونها بتوقيعاتهم، بل إن أسفار العهد القديم ذاتها
كتبتها أيدٍ عديدة دون توقيعات.
إلا أن التوقيعات في بلاد الرافدين ليست نادرة. ويغلب
عليها أن تكون متوارية في الفقرة الأخيرة من قصيدة، ويكتشف
الإنسان التوقيع عندما يقرأ من أعلى إلى أسفل، جامعًا
الحروف الأولى من أبيات القصيدة، حرفًا حرفًا من مطلع كل
بيت، وقد يكتشفه أحيانًا من أسفل إلى أعلى، جامعًا الحروف
الأخيرة من الأبيات، حرفًا حرفًا
٣١ ومن الأعمال ما هو منسوب [منحول] إلى كتاب مشاهير
٣٢ ومن الكتَّاب من يذكرون أسماءهم وأصولهم في
مقلوب بيت من الشعر. وأعظم الكُتَّاب والشعراء حظًّا من
الإلهام لا يكتفون، على الرغم من تحفظهم، بكتابة سير ملوكهم
(سيرًا وعظية تستخلص منها دروس للمستقبل،
٣٣) بل يؤلفون أعمالًا تعتبر تفاسير حقيقية
للتاريخ. وإحدى قصائدهم — ملحمة جلجاميش
Gilgamesh — هي في
الحقيقة تاريخ تأسيس أُوروك
Uruk٣٤ مدينة تحيط بها أسوار هائلة ظلت بعد إنشائها
بقرون تثير فضولًا وتأملًا في حال البشر
٣٥ وقصيدة إيرَّا
Erra التي أنشئت حول عام
٨٥٠ق.م. قرضها رجلٌ اسمه كابتي — إيلاني — ماردوك
Kabti-iláni-Marduk بن
دابيبو
Dabibu والتي تحكي
عن سقوط بابل، تفسر هذا السقوط مُرَجِّحَة أنه حدث نتيجة
تآكلٍ عادي نخر في السلطة، لا نتيجة غلطة سياسية كبرى.
ويتيح الدهاء للشاعر أن يتحاشى التفسيرات المألوفة، رابطًا
هذه أو تلك الكارثة بخطيئة الغرور — وهي حجج لا تتفق مع
صورة بابل المقدسة، التي يفترض أن تكون باعتبارها مكانًا
مقدسًا في مأمن من اللعنة الإلهية،
٣٦ وتلك طريقة في التفكير والتدليل تليق بهوميروس
أو موسى. أما المؤرخون المصريون فإنهم يعرفون أن «الذاكرة
تبدأ بكتاباتهم»، وهذا ما يعبر عنه بأسلوب لطيف نصٌّ يرجع
يقينًا إلى وقت متأخر، ولكنه حلقة في تراث أدبي طويل.
وطبقًا لهذه الوثيقة فإن «أساطين الكتابة»، «ملوك بيت
الكتب»، «صُنَّاع المعرفة، قادة التعليم بكل أنواعه»،
«يثبِّتون المعاملات في العالم»
٣٧ وهناك وثيقة أخرى قد تثبت أن مؤلفها كان
«يستخدم حوليات قديمة ترجع إلى العديد من القرون ليؤلف قصة
يستخلص منها عبرةً أخلاقيةً تستهدف من سيقرؤها.» ويعتقد
المترجم أن هذا المؤلف «يبشر بتيتوس ليفيو
Titus Livius٣٨ أو بلوتارخوس
Ploutarkhos»
٣٩ لأن عمله «عمل تاريخي أصيل يحكي فيه شخص ما
أحداثًا من الماضي يعرفها من مصادره، إذ يصطنع لنفسه
الوسائل الأدبية في زمانه ليعلِّم معاصريه.»
٤٠
وتاريخ العبرانيين
والهيلِّينيين السياسي يبين كذلك (ولكن في وقت متأخر) كم
يكون النقد والمقارنة خطيرين على السلطات القائمة عندما
يصبحان نشاطين فكريين روتينيين يمكن أن يمارسهما كل إنسان
بشرط أن يحترم قواعدهما. وما من نظام استبدادي استطاع أن
يقاوم طويلًا رفض كل سلطة خارجية للفرد المتكلم، ولاختبار
فرعيْ بديل واحد، ولمرحلتيْ تناوب أصبح من الممكن التفكير
فيه. هل يكون العمل التقويضي أقل فاعلية عندما يتواضع أولئك
الذين يبحثون عن الحقيقة ويكتفون بالتلميح إلى اكتشافاتهم
الأصلية كلما خشوا من مخالفة التقاليد ومن قطع صلتهم بجماعتهم؟
٤١ والاحتجاج باللاإسمية (إغفال الاسم) يخفي في
الواقع خط دفاع آخر لدى حَمَلَةِ التراث الأنتيكي
الكلاسيكي. وبعبارات فوجلين
Voegelin لم يتفكك
تَكَاثُف العالَم
compacité
إلا بعد مولدِ فَرْدٍ أخرج نفسه من النظام الاجتماعي كما
خرجت القبائل اليهودية من النظام الكوني
l’ordre cosmique. ولا
يكفي أن يفكر الشخص في نفسه على أنه مختلف، فلا بد من أن
يتحمل تبعات موقفه هذا الذي اتخذه. وبينما بلغ الإغريق هذا
المبلغ في المجال المدني، وبلغه المسيحيون في مجال
المسئولية الأخلاقية، اجتهد الرافدينيون والمصريون في أن
يهوِّنوا من إضافاتهم الشخصية، وأن يسجلوا ابتكاراتهم في
سجل الاستمرارية.
وكانت أعرافهم الجمالية
conventions
esthétiques على سبيل المثال تشهد على
مفاهيم اجتماعية متجمدة، برضاء الفنان أحيانًا. والصور
الوجهية
portraits — صور
وجوه الأشخاص — إذا ما قورنت بالروائع الإغريقية يمكن أن
تعتبر لا شخصية
٤٢ وسواء كانت تشكيلية أو أدبية فالأرجح أنها تعبر
عن رؤية للعالم مختلفة عن رؤيتنا. ويبدو أن المصورين
والنحاتين كبحوا جماح موهبتهم لكي يحترموا المعايير التي
جرت بها التقاليد ويدمجوا الشخصيات المتفردة في عالَم
الميثة
mythe٤٣ ولم يطلقوا العنان لفنهم إلا في مناسبات
استثنائية. ثم إنهم بالغوا في تشويه الواقع وكأنهم أخذوا
بمعايير جديدة — من قبيل تلك التي عرفها عصر العمارنة (في
عهد أخناتون)، وتمثلت في إبراز سمات الشخصيات الممثلة
إبرازًا يصل إلى حد تشويهها — وكأنما كان الوعي بامتهان
أسلوب مقدس على نحو دنيوي يدفعهم إلى تأكيد تجاوزاتهم
بإضفاء شكل كاريكاتوري على الأفراد في أعمالهم
الفنية.
ولكننا مع ذلك نتبين دون مشقة الأشخاص الكبيرة التي
حفظت لنا المتاحف رءوسها وأقنعتها أو تماثيلها النصفية.
فمِن تحت النمط الملكي الواحد الموحد تتمايز الوجوه بعضها
عن البعض الآخر. ومن المؤكد أن مؤثرات الموضة يمكنها أن
تفسر هذا التمايز: فكل جيل من النحاتين يمكن أن يكون له
أسلوبه الخاص، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى يمكن أن تكون
الصور الوجهية التي يزيد ما بها من حيوية عن الطبيعة صورًا
مثالية التمثيل مكونة على سبيل الاقتباس من أجمل سمات رجال
ونساء حقيقيين. فهذا الفرعون من الأسرة الرابعة يختلف في
أعيننا عن ملكٍ من الأسرة السادسة بنفس القدر الذي يتيح به
المظهر العام لأحد الساسة الفرنسيين وطابع صورته
الفوتوغرافية ترجيح إلحاقه دون خطأ بالجمهورية الثالثة على
إلحاقه بالجمهورية الخامسة. وثمة عامل آخر يلعب على الرغم
من ذلك دورًا لا يجوز إغفاله، ألا وهو التقمصية
le mimétisme. فالتقمصية
التي تظهر شواهدها على أقارب رجل دولة ما لا تترجمها فقط في
طريقتهم في الحديث، وإنما هي تحوِّر مشيتهم وطريقتهم في
التعبير. وإذا كانت صور ساستنا الآن منمطة، فأقرب الظن أن
صور نظرائهم من أبناء العصور الأنتيكية القديمة كانت منمطة
هي الأخرى كذلك.
يشهد على ذلك رأسان بديعان من الجرانيت الوردي محفوظان
في بروكلين Brooklyn، الأول
رأس واحد من حاشية الملك، يشبه الرأس الثاني — رأس خوفو
Khéops — شبهًا كبيرًا:
نفس الوجه المدور، نفس شكل الأنف، والعينين والفم، فقد
مثَّل النحَّاتُ الموظفَ على مثال صورة سيده. ولكنْ هناك
شيء طفيف لا يكاد الإنسان يدركه يضفي على فرعون وحده هالة
الرئيس: ألا وهو أن تعبيره يبدو «مباشرًا على نحو شرس»،
وعضلات رقبته مشدودة، ونظرته العمياء تتسم بحدةٍ تكاد ألا
تُحتمل. لا شيء يسمح بنسبة هذه الصورة الوجهية يقينًا لباني
الهرم الأكبر، لا شيء سوى هاتين العينين الصغيرتين، وهاتين
الوجنتين البضتين وهاتين الشفتين الغليظتين، تلك السمات
التي نجدها على تمثال صغير من العاج عليه الخرطوشة الملكية.
وبالمقارنة: نجد في التمثالين الجرانيتيين أن وجه الموظف
النبيل المجهول يبدو منطفئًا على الرغم من التشابه المقصود
أو اللاشعوري. وهناك صورة وجهية ثالثة، جانبية
profil، نحت سطحي بارز،
لكاتب اسمه إيتويش Itwesh
من الأسرة التالية، ليس بين هذه الصورة الوجهية والصورتين
السابقتين أي سمة مشتركة: فأنف إيتويش كبير ومدور، وشفتاه
رقيقتان وذقنه منسحب إلى الوراء، وتلك سمات فارقة تميزه بين
ألف.
ومن الممكن أن تصبح الواقعية عُرفًا جماليًّا
Convention esthétique.
وهكذا فإن تلك الصورة الوجهية لملك من الأسرة الثانية عشرة
هو سيزوستريس الثالث
Sésostris
III لا تشبه مطلقًا الصور الوجهية
السابقة: فلسبب نجهله لم تعد المثالية التي فُرضت على تمثيل
الأب سيزوستريس الثاني هي القاعدة الملزمة عند تمثيل الابن
بجفنيه العريضين، وتجعيدتيه الواضحتين في وسط خديه، وفمه
المعبر عن إرادة
٤٤ أما في حالة مونتوإمحعت
Montouemhat الذي خدم
ثلاثة أنظمة في العصر المتأخر فإن الاستقلال الذي أتيح له
في هذه الفترات المضطربة سمح له بأن يجعل النحاتين يمثلونه
ملتفًّا بالمئزر الفرعوني، ولكن بسماته الخاصة. فتماثيله
العديدة «بأسلوبها الذي يميل ميلًا خفيفًا إلى المثالية لا
يعوزها استهداف التشابه»
٤٥ أما الملكة حتشبسوت
Hatchepsout فإنها قوَّت
نزوع نحاتي الأسرة الثامنة عشرة إلى أن يظلوا أشد أمانة
حيال الأشخاص التي ينقلون سماتها، عن حرص منها بلا شك على
حفظ أنوثتها تحت المسوح الفرعونية.
وهكذا خلفت لنا الشخصيات البارزة صورًا وجهية لها
عَبَرَت القرون الطوال. وهي عندما تُجرد من حلياتها
(تسريحات، شعر مستعار، لحى إضافية) تصور أفرادًا لهم من
سمات البشرية مثل ما لرءوس نفرتيتي الشهيرة. وشخصيات العالم
الأدبي أو الدوائر السياسية عندما تجرَّد من عناصر الضغوط
الشكلية القديمة تبدو قريبة منا إلى حد عجيب. قريبة منا مثل
الشخصيات غير المسمَّاة التي نقل الفنانون في أعمالهم
أحيانًا سماتها. لننظر مثلًا إلى هذه الصورة من الأسرة
الثامنة عشرة المحفوظة في متحف بيروت «عمل نحات عاشه بحسه
وفكره ابتداءً من داخل الشكل، وانطلاقًا من بنية العظم نحو
اللحم الذي يغشاها تمامًا ويوائم متطلبات التوتر الداخلي.»
يمكن أن نقرأ فيها «زمنًا باطنيًّا لا هو من راحة نائيةٍ،
ولا هو من فعل أو قرار، ولا من تهجدات روحية، وإنما هو من
أحلام يقظة حزينة ومعاناة متغلغلة خفية» استسلم لها رجل
«تنخفض وصيلات فمه على نحو لا يكاد الإنسان يلمحه»، «ويحيط
ظل تجاعيده الناشئة بفمه وذقنه»
٤٦ لم نعد نشك إلا قليلًا فيما ندركه من القدرة
على المبادرة أو في التصميم والعزم لدى الأشخاص المصورة
التي ألهمت نحاتي هذه التماثيل، ولذلك فنحن لا نعود نلقي
بها إلى جوف عالَم عتيق سحيق ناعم، على اعتبار أنه وجه بلا
تعبير، جوف العالَم الغامض الهرمسي المستغلق لمجتمع مجرد من
الأفراد المبدعين، نظن أن البشر فيه لم يبحثوا فيه عن
القوانين الفيزيقية والحقوقية أو الأخلاقية.
(١) هل هي فكرة عتيقة؟
يعرف كل إنسان منذ كلود ليفي شتراوس
Claude Lévi-Strauss أن
طرق المعرفة متعددة. والاختلاف بين الثقافات لا يأتي من
التعارض بين الظمأ إلى المعرفة غير المغرضة وبين الحاجة
القوية لمعرفة النبات والحيوان والسماء من أجل البقاء.
والبشر لا يعارض بعضهم بعضًا فيما يتصل بالمضمون — فتنظيم
العالم نشاط عمومي شغف به «البدائيون» أكثر منا — أما
فيما يتصل بالشكل، شكل معرفتهم — فالهنود الحرم لهم فكر
ملموس أقرب إلى عمل الهواية اليدوي، بينما نحن نفضل
التجريد الأكثر تواؤمًا مع العلم. بقي أن نتبين هل
التبرير الذي ذكرناه ينطبق على الشرقيين انطباقه على
الهندومريكيين.
ولا جدال في أن الرافدينيين والمصريين كان لهم نشاط
ترتيبي تصنيفي مشهود لا يعرف الكلل والملل. أما
الرافدينيون فقد وضعوا قوائم طويلة لتاريخ العصور أو
للتاريخ الطبيعي رتبت طبقًا لمبادئ تصنيف دقيق معقد. وهم
لم يخترعوا فقط المعجمات الأولى للغات من السومرية إلى
الأكادية التي حرصوا فيها على بيان النطق والنبرات، بل
وضعوا كذلك أول كتب نحو معروفة متضمنة التحليلات اللغوية
لمورفولوجيا الألفاظ
٤٧ وكانوا يحفظون وثائقهم في صنوف من المكتبات
أشهرها مكتبة آشوربانيبال
Assurbanipal التي عثر
فيها على عدد كبير جدًّا من النصوص الجارية مرتبة طبقًا
لمبادئ تشهد عليها مكتبة إيبلا
Ebla٤٨ (بأقسامها ورفوفها وقاعات المشورة والحفظ
المؤقتة أو الدائمة)
٤٩ ومكتبة ماري
Mari٥٠ (بتبويبها الزمني)
٥١ أو مكتبة حاتوزا
Hattousa (بكاتالوجات
ألواحها وأحجارها ذات النمط الخاص وحجمها الصغير غير
المعهود والتي ينبغي اعتبارها بمثابة «إتيكيتات»)
٥٢ كل هذه الابتكارات تذكرنا بإتقان التدبير في
مملكة أوجاريت
Ugarit٥٣ الكنعانية التي كانت تميز في التصنيف بين
ملفات الإدارة المركزية ومحفوظات الإدارات الإقليمية
٥٤ وقام السومريون والأكاديون بإحصاء الشعوب
المجاورة وعاداتهم — المتمد وكانت يقينًا متصلبة بعض
الشيء بحسب متطلبات الاستعراض — لتمييزهم عن «الشعب» ن
بالمعنى الحرفي،
٥٥ وهو الشعب الذي يأتلف من أهل المدن جنوبًا
وشمالًا. ولقد عرفوا كيف يظهرون حسًّا رفيعًا جدًّا
بوحدتهم الثقافية الخاصة على الرغم من البلايا السياسية
العاتية. وهكذا عبروا عن «إرادة تحقيق نظام» في العالم،
لا عن ضرورة بيروقراطية أو تربوية يمكن أن يدعي البعض
أنها أرغمتهم على وضع فهارس قابلة للتخزين والنسخ.
٥٦
(٢) الاستدلال العقلي المجرد
كان البابليون على نحو خاص يحبون لوحات الأرقام حبهم
لقوائم الأسماء: وهناك ألواح اكتُشفت في بلاد الرافدين
تبين «نمط تفكير يستخدم التصنيف باعتباره أداة للعمل على
مستوى المفاهيم
conceptuel»
٥٧ وتستند هذه الألواح إلى نظريات رياضية ولا
يمكن أن يكون اكتشافها قد جاء وليد المحاولة والخطأ. ونجد
أحد هذه الألواح يمثل بوضوح تطبيقًا واعيًا — وإن لم يكن
صريحًا — لنظرية فيثاغورت
٥٨ ويصدق هذا الكلام أيضًا على المصريين الذين
كانت قوائمهم، علاوة على ذلك، بحسب تقديم واضعيها الصريح
لها، وسيلة للتعلم وللتقدم عقليًّا،
٥٩ وقد أصبحت بعض هذه القوائم ألواحًا تبين
التكرار على نحو قريب من الإحصاء وقد جرى توفيقها لتوائم
أرقام الموارد القومية.
وعلى الرغم من عرض العمليات الرياضية بطريقة
لوغاريتمية «بتسلسل نوعي لمراحل الحل دون شرح عام»، فإن
العمليات الرياضية تفترض «تسلسلات منطقية (قد لا تكون
مقصودة عن وعي، ولكنها من قبيل التسلسلات التي يعتمدها
متخصص عصري في الجبر عندما يبدأ عملية حسابية قبل صياغة
كل التفصيلات).»
٦٠ اكتشف الرافدينيون نوعًا من الجبر يسمح لهم
بأن يضيفوا سطوحًا إلى أطوال، ولكنهم تعثروا في الأعداد
العكسية؛ واكتشف المصريون نوعًا من الهندسة (وجعلوا ط وهي
النسبة التقريبية أو العلاقة التناسبية بين نصف القطر
ومحيط الدائرة «البي
π»
تساوي ٣٫١٦ بدلًا من ٣٫٤١٤) ولكنهم تعثروا في الكسور (فلم
يعرفوا اﻟ ٣ / ٤ الذي كتبوه ١ / ٢ + ١ / ٤). إلا أن
المشكلات التي طرحتها الحياة العملية (الحسابات الفلكية،
والحسابات الضرائبية، والحسابات المعمارية)
٦١ اضطرتهم جميعًا إلى التقدم على مدارج
التجريد، والكف عن التعامل بالممارسة والشطارة مع الأعداد
كما قد يتصرف المشاركون في لعبة بالتليفزيون تطالبهم
بحساب المجموع الكلي لأرقام تسحب بالقرعة (مثلًا ١٧ × ١٢
= (١٧ × ١٠) + (١٧ × ٢) = ٢٠٤)
٦٢ وانتهى المصريون أنفسهم إلى أن وجدوا قاعدة
استخراج كسر الكسر (إذا قالوا لك «احسب ثلثي الخُمس؟»،
فعليك أن تحسب مرتين ثم ست مرات … وهكذا ترى ما ينبغي
عمله مع كل كسر). والشارح على حق في أن يضيف: «هذا النص
الصغير فريد بين كل المسائل الرياضية التي نعرفها. إلا
أنه مثل نصوص كثيرة أخرى يبدأ بما يريد عمله: حساب ٣ / ٢
ثلثي كسر. يلي ذلك كما هو مألوف في هذه النصوص المثل
الخاص الذي تجري دراسته. أما ما يلي ذلك فليس مألوفًا …
إذ يكلف الطالب بأن يضرب مقام الكسر الأول في ٢، ثم يضربه
مستقلًّا بعد ذلك في ٦ … نقول بلغة اليوم × ٣ / ٢
N = 1(2N) + 1(6N) وهذه
قاعدة عامة.»
٦٣
ولنا أن نتفق مع الشارح على أن المسارات التي تؤدي
إلى العلم تختلف باختلاف الثقافات، وأن الرياضيات ليست
تجريدية بحتة (كم يفترض المفترضون اليوم) وليست ممارسية
بحتة (كما كانت في زمان التراث الأنتيكي على ما يدَّعون).
لم تكن الأمور التي شغل بها علماء الرافدين أو العلماء
المصريون مجردة ولا محسوسة، بل كانت من نوع الأمور التي
تشغلنا نحن اليوم: كان المطلوب دائمًا أن يتسلح الإنسان
عقليًّا ليحل مشكلات جديدة بالاستعانة بالقواعد الموجودة،
أو ليقوم بتعديلها إذا لم تبلغ الغاية. وبالنظر إلى الهدف
المنشود فإن قضايا العرض تعتبر على الأحرى قليل
الأهمية.
ونحن، إذ نأخذ كل الجوانب في الاعتبار، نرى أن
المعارضة التي يقيمها ليفي شتراوس بين علم المحسوس وعلم
المجرد معارضة خادعة؛ لأن صنوف التقدم التي حققها القدماء
(الإغريق والشرقيون على حد سواء) أبعدتهم في البداية عن
التجريد الأصيل (دين مؤسس على العناصر الأربعة، رمزية الجبر
٦٤ الشكلية)، لكي تقودهم فيما بعد إلى واقعية
محسوسة (عبادة آلهة على شكل البشر، واقعية الهندسة
المرئية). هاتان المرحلتان ستنتظران نشوء وارتقاء
الفيزياء الرياضية الحالية لكي يتم التوفيق بينهما؛
فالغربيون إذن لم يخترعوا علمًا مجردًا قاطعين علاقتهم
«بعلمٍ للمحسوس» نُسب خطأً إلى الشرقيين
٦٥ أما الشرقيون فقد خلطوا هم أيضًا المحسوس
والمجرد على شكل ملحوظات بلا ترتيب وبلا مفاهيم، ملحوظات
تربطها بعضها بالبعض الآخر عقلانيًّا منظومةٌ مركبة مؤسسة
على مبادئ التدرج الطبقي والتناسق والتصادف، إلخ
٦٦ وميرسيا إيلياد
Mircea
Eliade نفسه وهو ينسب إلى الشرقيين
فكرًا «ممارسيًّا منطقيًّا»
empirico-logique٦٧ يقر بأن لهم شكلًا من التجريد يختلف عن
التجريد عندنا (نحن الغربيين).
(٣) التحليل الممارسي للسببية
يمكننا أن نشك في أن الشرقيين وقفوا عند هذا الحد.
فأنَّى للزاعمين أن يزعموا بالفعل أن الشرقيين جهلوا
الحتمية الطبيعية عندما اعتنوا عناية كبيرة بتصنيف مؤلفات
أساسية — من نوع الكتب التي يسمونها «أسس» — تأتلف من
أبواب وفقرات مسترجعين على طول الصفحة مئات من الوقائع
استخرجوا منها بعد ذلك توقعات؟
٦٨ كيف يمكن أن نصدق في الاتجاه العكسي أنهم لم
يُرِيدُوا قط أن ينسلخوا عن العالم الطبيعي، وأنهم بقوا
غارقين مغمورين في عالم الميثولوجيا الشعري، وأنهم
كوَّنوا دائمًا مع الكون جسدًا واحدًا على مدى تاريخهم
الطويل كل الطول؟ إن تشبيه صناعة التعدين بعملية توليد —
الحداد يخرج المعدن إلى الحياة فهو ينتزعه من بطن الأرض
قبل أن يعطيه شكلًا واسمًا —
٦٩ لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى اعتبار القدماء
أكثر جهلًا بالسببية
causalité مما كانوا
(والسببية أكثر عمومية من الحتمية
déterminisme لأنها
تقيم علاقات بين إشارات أكثر مما تقيم علاقات بين أرقام
فهي تجمع التفاح والكمثرى.
٧٠ والتشابه بين العملية اليدوية والعملية
الرمزية يسمح بتجميعها بحسب مبدأ توافقات لا يزال قائمًا
لدى الهندومريكيين أو السيبيريين في مستهل القرن. وهو
يسمح بوضع شيء من الفهم في عالَم من الصعب فهمه، ولكنه لا
يتضمن أن البابليين نسبوا إليهما نفس القضية (الولادة)
لأنهم في حالة استقامة هذا الافتراض لم يكونوا ليتخلفوا
عن العمل على إنتاج الذهب بتخصيبه كما يخصب النبات، أي
تخصيب خام المعدن (على طريقة الضمات التيتانية الهائلة
التي كانت الطبيعة ثمرتها طبقًا لأقدم الأساطير
الرافدينية المعروفة).
لقد أتاحت ترابطات وتربيطات الأفكار تكوين لوحة ضخمة
عن تصنيف الأشياء والكلمات والكائنات، وكان ذلك العمل أول
جهد جرى في سبيل خلق «مجال مفاهيم اعتُبر واحدًا موحدًا …
منذ بداية الألفية الثانية»
٧١ وكان في المقابل الخطوة الأولى نحو تكوين
معارف متخصصة: وأدى الحصر الدقيق للحيوان والنبات وخام
المعادن إلى اختراع علم الحيوان وعلم النبات وعلم طبقات
الأرض. ولقد ورثنا شيئًا من هذا وهو ما تشهد عليه أسماء
النباتات عندنا
٧٢ (شيكوريا كمون، كروكوس، إلخ)
٧٣ هذا التقرير يمكن أن يكفي لإسعاد من يأخذ
بالنزعة البنيوية، وليس من شأنه أن يجعلنا نعتقد أن علم
التعدين هو علم التوليد، وأن علم الفلك يُختزل إلى علم
التنجيم وأن علم الطب متضمنٌ كله في التنبؤ. الأفضل أن
نقلب الاستدلال
raisonnement على أساس
فرضية تقول بأن الشرقيين القدماء كانت لديهم علوم كيمياء
وطب وفلك حقيقية أصيلة، وأن آثار هذه العلوم يمكن أن
نجدها إذا ما بذلنا قليلًا من الجهد.
لم تستند كيمياء الرافدين مثلًا لا على الأساطير ولا
على السحر، ولم تتعلق بالدين ولم تبتهل إلى قوى فوق
طبيعية، بل كانت كيمياء موضوعية وتجريبية. ولم تكن
الاكتشافات التي توصلت إليها وليدة مصادفة، بل إنها
اعتمدت على تركيم ملحوظات انصبت على حرارة الانصهار وخواص
السبائك ونظام تتابع العمليات. وجرى التوصل إلى أسبقيات
في استخدامات المركبات الكيميائية قياسًا على النتائج
المرجوة وثمن المكونات والعمل اللازم لتحسين الخامات
المتاحة في الطبيعة (شغل الذهب مع معادن أخرى، جمع الصودا
بحرق نباتات بمعزل عن الأكسجين). ومستحضرات التجميل
ووصفات الأدوية للصيدليات (بل وصفات الأطعمة!) نجدها على
شكل مثيلاتها عندنا، على هيئة خطوات من التعليمات المركبة
تبين بدقة الآلات والأعمال اليدوية وأوقات الركن الضرورية
للحصول على المنتج. كل هذا حقيقي منذ القرن السادس عشر
قبل الميلاد، بل ربما قبله: أما وجد الباحثون في تيبي
جاورا Tepe Gawra جهازًا
للتقطير يرجع إلى القرن الخامس والثلاثين قبل
الميلاد.
ليس من شك في أنه كانت هناك سوق للمنتجات التي تم
إنتاجها منذ النصف الثاني من الألفية الثالثة قبل
الميلاد: ونقصر كلامنا على المطبخ فنذكر طاسات القلي التي
يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف سنة، وهي تشبه مثيلاتها عندنا
قبل اختراع تيفلون
Téflon
الأواني المعروفة باسمه.
٧٤
وكان لأبناء الرافدين في مجال العلاج لوحات تقابلية
عليها الأعراض والظروف (الملائمة والوخيمة) والأدوية، وهي
لوحات كانت تسمح للممارس إرجاع الأعراض التي لم يصادفها
من قبل قط إلى أمراض معروفة
٧٥ وكان الفحص الذي يجري من أجل التشخيص فحصًا
دقيقًا وعلميًّا سواءً بسواء. وكان الممارسون وكذلك
المرضى يبدون حرصًا شديدًا حيال الأدوية الموصوفة، وكانت
هذه الأدوية الموصوفة تحتاج إلى التحقق من سلامتها على يد
القائمين بالتشخيصات الذين كانوا يجربون أدوية جديدة
بمهارة بهدف مراقبة كل العوامل المؤثرة
٧٦ وهذه روح منهجية نجدها عند العرافين. في
القصيدة الشهيرة «جريمة سَرجون»
crime de
sargon يصيح إسارحادون
Esarhaddon قائلًا:
«دعوني أحقق … في جريمة سَرجون، أبي؛ لقد جمعتُ كل علامات
التطير … ووزعتُها في مجموعات متعددة حتى لا تتقارب ولا
تتحادث.»
وفي مجال الفلك هناك إجماع على أن الشرقيين القدماء
هم الذين اخترعوا التقويم. ولما كانوا قد وضعوا التقويم
لأسباب دينية، فقد هبط إنجازهم التقني فيه إلى المرتبة
الثانية. وأيًّا كان الأمر فالمصريون هم يقينًا أول من
جعل السنة الشمسية ٣٦٥ يومًا
٧٧ وتكشف الطريقة التي توصلوا بها إلى هذه
النتيجة عن منهجهم: فعلى مر العصور كانت السنة يتتابع
مسارها إيقاعيًّا بحسب تصريف النيل، ومراحل القمر، وحركة
نجمٍ ما قبل أن تعتمد على مشوار الشمس. وأدرك المصريون
منذ الألفية الرابعة أن الحركة الظاهرية لنجم الشِّعرى
اليمانية
Sirius وهو
الجرم السماوي الأنور — بعد الشمس والقمر — كانت تظهره
بانتظام في مستهل الفيضان بعد غيبة مدتها ٧٠ يومًا. وأصبح
الاستناد إلى هذا النجم الذي عرفوه باسم سوتيس
Sothis وسيلة مريحة
للتنبؤ بالفيضان أفضل من الاستناد إلى القمر الذي لم يكن
تقويمه إلا فيما ندر يوفق بين الموسم المناخي وبين الموسم
الرسمي للفيضان. وبغية المواءمة بين حركة النجم وبين حركة
القمر كان من الضروري إضافة شهر — ثلاثين يومًا — كل ثلاث
سنوات إلى اﻟ ٣٥٤ يومًا التي تمثل دورة الأرض بالقياس إلى
الشِّعرى اليمانية. وتمثلت المرحلة الأخيرة في إبدال
الشِّعرى اليمانية بالشمس، وحلت أيام مقحمة محل المراوحة
بين شهور عدة أيامها ٢٩ يومًا وشهور عدة أيامها ٣٠ يومًا،
والمراوحة بين سنوات عدة شهورها ١٢ شهرًا وسنوات عدة
شهورها ١٣ شهرًا. وكانت هناك حسابات دقيقة تمكن من
التحويل من منظومة إلى منظومة أخرى: وثبت أن التقويمين
يتطابقان عند نهاية دورة عدته ٢٥ سنة شمسية و٣٠٩ أشهر
قمريَّة، وهو ما سمح بالإبقاء على التقويم القمري لأسباب
دينية بجانب التقويم المدني الذي انتصر في كل مجالات
الحياة الأخرى
٧٨ وتبيِّن غلبةُ التقويم المدني بوضوح أن
الاحتياجات غير الدينية كان لها الأسبقية على المقررات
الدينية منذ وقت جد مبكر في تاريخ وادي النيل. هذه الغلبة
تدحض الحجة الكاذبة التي تدعي أن علم الفلك المصري لم يكن
علميًّا لأنه جعل السنة تبدأ بزواج الشمس والنجم سوتيس
Sothis. فهذا العلم،
الذي مكَّن من تصفيف أعمدة الكرنك على أساس الانقلاب الصيفي
٧٩ أو إلى حساب مشارق ومغارب القمر والشمس في
بابل بغض النظر عن طول النهار وطول الشهر،
٨٠ لا يجوز اعتباره أقل قربًا من علمنا لأن
دوافعه العميقة مختلفة. فضبط النشاط الإنساني على دورة
كوكب المُشْتَرِي
Jupiter
(الذي فضلوه على الشِّعرى اليمانية في بلاد الرافدين؛ لأن
هذا الكوكب الطلسمي في رأي البابليين يتبع عن قرب أوثق
مسار الشمس على فلك البروج) يحدد إيقاعات الحياة غير
الدينية حتى لو كان ذلك لأسباب قدسية.
٨١
أسماء الشهور وحدها هي التي حُفظت إلى اليوم عبر
اللغات السامية تقطيع الزمن تحت تأثير ديني؛ لأن كلًّا
منها كان يتسمى باسم احتفال كان يقام في ذلك الوقت من العام
٨٢ وكانت الفصول وحدها هي التي تعبر عن تأثير
كوني لأنها كانت مرتبطة بأحوال طبيعية: كان المصريون
يعرفون ثلاثة فصول (الفيضان والانحسار والغيْض، تقابل
دورة الحياة: المولد والنمو والموت) وكان السومريون
يعرفون فصلين (الصيف والشتاء وهو ما يطابق الجو القاسي في
بلاد ما بين النهرين الذي لا يعرف فصولًا بينية)
٨٣ ولا بد من أن ننتظر إلى أن يأتي البابليون
بتقسيم السماء إلى اثني عشر برجًا، مفصلة إلى
رباعيات.
أما التقسيم إلى ساعات فقد كان في وقت جد مبكر شبيهًا
بتقسيمنا. وقصص الأحداث التاريخية مثل معركة ميجيدو
Megiddo في القرن
الرابع عشر قبل الميلاد تذكر ساعة نشوب الأعمال العدائية
حسبها خبير بالاستعانة بساعة مائية محمولة. وشيئًا فشيئًا
أصبحت قراءة الساعة أيسر وأقرب إلى الأمور الدنيوية:
فعندما لم يكن لدى المصريين سوى ساعات مائية معقدة
ومزعجة، قصروا استخدامها على كَتَبة منقطعين لصعوبات
الحساب. ولكن هذه الخطوة كانت تعني تقدمًا بالقياس إلى
فترات أقدم كانت ساعات النهار وساعات الليل فيها تحسب
منفصلة بعضها عن البعض الآخر، ساعات النهار بالاستعانة
بمزولة، وساعات الليل بساعة نجومية (تعمل بألعاب ظلال
ومواقع ظاهرة للنجوم من منظور خيالي كاهنين يقفان
متواجهين على شرفة معبد).
٨٤
(٤) هل هو عالم مسحور؟
أساء الشرقيون
القدامى الفصل بين علم التنجيم وعلم الفلك، بين علم
الكيمياء
chimie وعلم
الخيمياء
alchimie، أي
فصل العلم عن العلوم البعدية
parasciences، ولكنهم
على الرغم من ذلك أتاحوا لفلسفةٍ أن تولد. والرأي عند
ميرسيا إيلياد
Mircea
Eliade أن التوتر الفكري لعصر النهضة
يستمد أصوله من «التراكيب الذهنية الأولى لتاريخ بلاد
الرافدين». فالخيميائي في الواقع يعتقد أن في مقدوره أن
يبلغ بالطبيعة الكمال —
parfaire بفضل تقنيات
وشعائر نماء … والإنسان عندما يبلغ بالطبيعة الكمال، يهدف
إلى أن يحقق لنفسه الكمال. هذا هو معنى «السحر» أيًّا كان
magie، معناه: بلوغ
الكمال والاستقلال الذاتي عن طريق استخدام «مثال»
exemple الكون و«قواه»
forces٨٥ ومن السهل علينا اليوم أن نجادل في غياب الخط
الفاصل بين الفيزياء والميتافيزيقا، وغياب التمييز بين
التجربة العلمية ولعب الحاوي، غياب الاستقلال الذاتي
للفلسفة المتضمنة في الدين، غياب الحق المتغلغل في
الأخلاق. ويبدو أن «السحر» مسئول عن إجهاض العقل أكثر من
مرة. هذا التفسير يسمح لنا بأن ننسى كم ينقصنا من ثقافة
علمية، وبأن نخفي على أنفسنا أننا نتعلق بالخزعبلات وأننا
مشحونون بالعلوم البعدية. وكل عصر وكل فئة اجتماعية تعرف
كيف تبدو متسامحة حيال المعارف غير العلمية
٨٦ وأهل العلم الذين لا يشق لهم غبار يتشبثون
بأمل التوفيق بين فيزياء النجوم والميتافيزيقا، بين هذا
العالم هنا والعالم الآخر.
(٥) السحر … الدين … العلم
والسحر، إذ يتعارض مع العلم، يتعارض كذلك مع الدين.
ونحن مطمئنون إلى أننا لن نخلط الأنبيقات التي استخدمها
الخيمائيون ومعامل الأبحاث الحالية؛ وأسهل من ذلك اختزال
المعتقدات الدينية إلى سحر، والوحي إلى تخمين. وهكذا نجد
السحر عند ملتقى كل نزعات العتيق الأرخائي. نجده في
الصياغات القانونية كما نجده في الابتهالات، في العمليات
التقنية وفي أعمال الشعوذة، في البلاغة وفي الشعر على
السواء. وإن أربعة أبيات صبيانية وطقوسية تهدد القارئ سيئ
النية بعقاب تنزله به قوى غامضة تكفي لشل تفكير شامل
كثيرًا ما يكون عميقًا ورفيع المتطلبات من الناحية
الروحية.
وتمثل مصر أرضًا مثالية لمثل هذه الاختزالات، ويبدو
أن من السهولة بمكان القول بتناقض بين المعتقدات المحترمة
أسمى احترام والخاص بما بعد الحياة وبين الخزعبلات
المرتبطة بالآلام في الدنيا. إلا أن روبير ريتنر
Robert Ritner يرى أن:
«هذا الموقف التحقيري تجاه السحر يعكس مفهومًا غربيًّا
خالصًا موروثًا عن العالم الإغريقي الروماني، ولا يطابق
في شيء اللفظة المصرية الأكثر قربًا من السحر وهي لفظة
«هيكا»
heka التي تدل على
قوة إلهية لا شأن لها بالأخلاق يستخدمها البشر والآلهة
للحفاظ على النظام المخلوق واستنزال التدخل الإلهي في
الأمور الأرضية والسماوية وأمور عالم سفلي تحت الأرض. ليس
من الممكن إقامة تناقض بين الدين والسحر باستخدام ألفاظ
مصرية، فإذا كانت لفظة هيكا قد اعتبرت من قبيل التقريب
الفج إلى مدلول لفظة
magie السحر، فليست
هناك كلمة مصرية تقابل الكلمة الفرنسية
religion «دين».
٨٧
وهكذا فإن استخدام دمى أو تماثيل صغيرة تمثل حورس
طفلًا راكبًا على تمساحين — الجد القديم للقديس جورج
٨٨ قاهر التنين — يعود إلى الأسرة الثامنة عشرة
على الرغم من أن الموضة انتشرت بعدها، وبخاصة في العصر
الإغريقي الروماني. المريض سيشفى من مرضه، وسيقهر المرض
مثل الإله الذي ينتصر على الزواحف التي تهاجمه: الثعابين،
والعقارب، والشياطين، والوحوش البحرية، إلخ.
والمقاربة تفرض نفسها إلى الشامان —
le chamane أي الكاهن
الحاوي — الهندمريكي الذي يصاحب الولادة المتعسرة بتهدئة
الأم في المخاض. والأم التي تقتنع من خلال أغنية المولِّد
بأن نضال الجنين في الرحم من أجل الولادة هو من قبيل نضال
الأرواح ضد الشياطين في العالم — وقد جعل كلود ليفي
شتراوس من هذا النضال مثالًا على «الفعالية الرمزية» —
٨٩ هذه الأم تقبل ألمها على اعتبار أنه اضطراب
كوني. إن نجاح تدخل الكاهن الحاوي الشاماني الهندمريكي،
مثله مثل موجة انتشار الدمى المصرية الصغيرة، يرتكز
بالفعل على عملية ذهنية عمومية هي: تنظيم العالم بفضل
اكتشاف معنى جماعي للاضطرابات الشخصية التي يعاني منها
المرضى. ولهذا فنجاح الشامان وموجة الدمى لم يكونا بحاجة
إلى ألاعيب خداعية. فالكاهن الحاوي عندما يشم دخان
الكاكاو لا يقوى حدة قدرته على التكهن، بل هو يقوي نفسه
ويدعم شجاعته؛ والمصريون عندما يشربون الماء الذي غمست
فيه الدمية الصغيرة لا يكتسبون الخواص الدوائية المفترضة
في دمية رخيصة بقدر ما يبلعون معرفة أسباب مرضهم. ويذكر
روبير ريتنر
Robert
Ritner أن «المعرفة» و«البلع» تعبر
عنهما في لغتهما كلمة واحدة، بينما هناك كلمة أخرى تعبر
في وقت واحد عن «التذوق» و«التجربة». فتحسس التماثيل
المصرية أو لحسها، وتسمية آلام الناس في بنما، كل هذا
يجعل تصدع نظام الأشياء قابلًا للفهم وبالتالي قابلًا
للاحتمال.
ومن المؤكد أن الإنسان يستطيع دائمًا أن يرى في توازي
الأفعال والكلمات تطبيقًا «لقانون التوافق السحري»، كما
يدَّعي ميرسيا إيلياد. وطبقًا لهذا القانون فإن كل شيء
يحدث في منطقة من الكون (السماء مثلًا) سيتكرر حدوثه في
منطقة ثانية من الكون (الأرض مثلًا) نظرًا لأن كلَّ أجزاء
الكون، وكلَّ أعضاء الإنسان في داخل العالم الصغير
٩٠ الذي يحتويها، متضامنةٌ بعضها مع البعض الآخر
٩١ ولكن هذا القانون المزعوم ليس فيه من السحر
إلا الاستخدام اللغوي المريح لكلمة سحري، إذا كان المقصود
نشاطًا يسعى عامدًا إلى إحداث تأثيرات تنصب على الكل عن
طريق عمل يتناول الجزء، أو هو الاعتقاد في الفعالية
المباشرة للأفكار (ما يخالج فكر الإنسان من خشية أو أمل
يوشك أن يتحقق منذ أن يفكر فيه الإنسان أو يتمناه، وهذه
نزعة ذهنية توصف عادةً بأنها تخيل إمكان بث الروح
الإنسانية فيما يخلو منها
animiste).
أما «المتوافقات»
correspodances التي
كان الشرقيون القدماء يظنون أنهم لاحظوها فإنها استشرفت
عندنا ما نسميه «المتناظرات البنيوية»
homologies
structurales بين تعبيرات مختلفة عن
الثقافة (لغة، قرابة، ميثة، فن وعمارة) أو بين مواضع
مختلفة من المواجهة الاجتماعية («الحقول»
٩٢ الاقتصادية والسياسية والدينية والعلمية …
إلخ) تحولت إلى قطع في آلية هائلة كآلية الساعة
٩٣ وما زلنا إلى اليوم، عندما ننسى تمسكنا
بالصرامة العلمية التي تقوم منا مقام عقيدة المهنة، نخشى
دائمًا أن نستنزل ما يخطر ببالنا من سوء: هطول المطر
عندما يكون الجو صافيًا، حدوث المرض عندما يكون الإنسان
في كامل صحته، موت إنسان عزيز في زهرة العمر، إلخ. وهذا
يعني أن الترابط الظاهري بين الرموز لم يكن يمنع المصريين
ولا أبناء الرافدين من أن يُقْدِموا على إجراء تجارب
تقنية أو أن يعكفوا على ملاحظات طبيعية، على الأقل إذا
رأوا فيها فائدة رمزية
٩٤ كانت معتقداتهم تمنعهم بلا شك من أن يروا
حقائق واقعة أصبحت مألوفة لدينا، فهي لم تُؤثِّم تفكيرهم
في تلك التي أدركوها. وإذا لم يكن كَلَفُهم بالكمال،
واحتياجهم إلى ترابطية المدركات قد أوصلاهم مباشرةً فيما
نرجح إلى العلم كما نفهمه، فإنهما على الأقل فتحا لهما
أبواب تفكير فلسفي وأخلاقي مستقل بذاته يتناول أسباب
النظام والاضطراب، أي القانون من حيث هو وسيلة لإنماء
الخير العام.
(٦) الأخلاقيات – المفاهيم الأخلاقية – الشريعة
تجر المعتقدات
الكونية وراءها بالفعل حاجة إلى الانسجام بين الدنيا
والآخرة، وهي حاجةٌ تترجَم إلى البحث عن قانون اجتماعي
يطابق القانون الكوني. ولما كان العالَم المشهود —
الفيزيقي — هو الإطار المرجعي للعالم الاجتماعي، فقد بات
من الضروري أن يعرف الناس هذا العالَم المشهود — الفيزيقي
— كي يعلموا كيف يسلكون السلوك «العادل الصحيح»
juste في العالَم
الاجتماعي، بالمعنى المزدوج لكلمة
justice حيث إن «الخير»
ينجم عن «الحق»: ولهذا فإن العدالة
justice الإنسانية
ترتهن بصحة
justesse
الآراء عن الطبيعية.
٩٥
وهكذا تَعْرِض لنا الشريعة الإغريقية الرومانية
العتيقة — الأنتيكية — على هيئة منظومة من النصوص العملية
والدنيوية تؤلف بينها عبارات مسكوكة كونية ومقدسة. ونظرًا
لغياب صياغة مبادئ عامة من أصل إنساني لا من أصل رباني،
ومبادئ عامة تؤسس المقاربة بين الحالات المتجاورة، فإن
شريعة الشرقيين القدماء حُكم عليها بأنها غير مألوفة إلى
حد كبير. وجرى العرف على اعتبارها بمثابة بناء تشريعي
بغير إلهام فلسفي متكامل، فهي مجموعة من التدابير المفيدة
الموجهة للملوك كي يتقوا ضروب التطرف الشعبية التي من
شأنها إضعاف الرباط الاجتماعي.
أما أن يكون
الأمر أمر شريعة حقيقية، فهذا ما لا يجادل فيه مجادل (كما
تشهد على ذلك بوضوح نُسَخُ مدونةِ حامُّورابي التي يمكننا
أن نراها في بعض الجامعات التي تزدهر فيها الدراسات
الحقوقية)، ولكنها شريعة مختلفة عن شريعتنا، شريعة
بدائية، عباراتها من قبيل «إذا فعل رجلٌ … ﻓ …» وأحكامه
(الإعدام، الاستعباد) يبدو أنها سبقت صياغاتنا الأكثر
تدقيقًا وتعقيدًا. إلا أن هناك نصين على الأقل يتعارضان
مع هذا الرأي الشائع، هما: مُدَوَّنَة إشنونَّا
Eshnunna في بلاد
الرافدين ومرسوم حورمحب
Horemheb في
مصر.
ومُدَوَّنَة
إشنونَّا هي أقدم مجموعة نصوص قانونية معروفة، وهي تسبق
مدونة حامُّورابي بعدة سنوات، ولها ميزة خاصة تتمثل في
أنها تضم وثائق أكثر قِدَمًا وسبقًا، وهو ما نفترضه
استنادًا إلى استخدامها أساليب مختلفة
٩٦ ويمكن القول بأن صياغتها المقتضبة، وافتقارها
إلى الإحاطة الوافية، واهتمامها بالحالات الاستثنائية،
أبعد ما تكون عن الشهادة على قِدم الشريعة السحيق، بل قد
تشهد على معرفةٍ بسياق التقاضي الذي كان واسع الانتشار
بين الأهالي. وأقرب الظن أن هذه المعرفة جعلت من غير
المفيد التعبير الصريح السافر عن الجرائم والجنح العادية،
مكتفية ببيان الحالات القصوى تاركة للقاضي مهمة النطق
بأحكام على ما دونها من الحالات الوسطى
٩٧ والاقتضاب في التعبير الناجم عن ذلك وصل إلى
حد جد بعيد، وكأنما كان الكلف بالاقتضاب ضربًا من ضروب
التأنق البلاغي («إذا افتقر رجل وباع بيته، فيوم يبيعه
المشتري، يكون لمالكه الأول أن يشتريه مرة أخرى»)
٩٨ والاستخدام المتزامن لصيغة الشرط
shumma awilum (إذا …
رجلٌ) ولصيغة موصول اعتبرت أكثر تجريدًا ومنظوميًّا هي
awilum sha (مَنْ …)
يبين أننا لا ندين للرومان بإبدال الأولى بالثانية حيث إن
الصيغتين كانتا مستخدمتين معًا في الشرق القديم. وعلى
العكس من كل نزعة تطورية كامنة في مجال التقاضي، تفترض
الصيغة الشرطية وجود سلطة عامة («في كل الحالات التي يحدث
فيها …»)، بينما تستجيب صيغة الموصول للعدالة الخاصة («من
يجد العبد س الهارب سينال مكافأة»)
٩٩ ودراسة العقوبات — هي الأخرى — تكشف عن
مفاجآت كثيرة. فلم تكن الجزاءات المتمثلة في العقوبات هي
أول ما خطر ببال هؤلاء القانونيين المبتدئين، فقد ثبت —
على عكس الأطروحة الكلاسيكية التي بثها إميل دوركهايم —
أن التعويضات المالية التي فصَّلتها مدونة إيشنونَّا أقدم
بكثير من أمثلة العقوبة من جنس الجريمة [العين بالعين،
إلخ] التي وجدت في مدونة حامُّورابي. فثمن الدم — الدية —
كان في مدونة إشنونَّا منذ وقت مبكر موضوع مبادلة رشيدة
على الرغم من أنه كان في بعض الأحيان يرتهن بتقدير القاضي.
١٠٠
وهكذا جعلتْ خبرانية الرافدينيين القَبَليةُ العدالة
أكثر إنسانية من العدالة لدى من خلفوهم، على نحو ما تبين
المعاملة التي عاملوا بها المرأة الزانية وعشيقها. في
مدونة إشنونَّا: على الزوج الشرعي (كما تنص التوراة) أن
يسوى في المعاملة بين المذنبيْن، وفي هذا تحسين للأحكام
الأقدم التي كانت تجعل الزوج حرًّا في أن يعفو عن زوجته
(ولم تكن هذه الأحكام الأقدم تمنع الدسائس التي يدبرها
الزوجان ضد عشيق ثالث). وخلافًا لما جاء في التوراة حيث
نجد سفر اللاويين وسفر التثنية لا ينظمان العفو، فإن
مدونة إشنونَّا تسمح لمواطنيها بالتسامح مع الزوجة (بشرط
أن يفيد من أغواها بنفس القدر من التسامح). والمشرِّع
الرافديني يعرف بالفعل مفهوم مسئولية الزوج الأخلاقية
حيال زوجته (أو مسئولية السيد نحو من تحت إمرته) وهي
مسئولية من شأنها أن تخفف من جسامة الخطأ المرتكب حياله
١٠١ إنه يعترف بوجود ظروف مخففة. من هذا القبيل
حالة امرأة حرة تبنت بطريقة غير شرعية ابن جارية، التقطته
هي أو نبذته أمه، «فمالك» الابن يعتبر نفسه قد أضير،
ولهذا فهو يسترد الابن، ولكن الأم المتبنية التي أنقذته
بالتقاطها إياه لا تدان بسبب هذه «السرقة».
١٠٢
في النص المصري المعروف باسم «مرسوم حورمحب»، وهي
مجموعة من الأحكام التي نشرت في عهد خلف توت عنخ آمون،
نجد طائفة من النقاط، التي تبدو في ظاهرها ثانوية، تمثل
موضوع تشريع دقيق. وتفسير هذا الوضع الغريب هو نفس تفسير
الوضع الغريب السابق: فهذه النقاط الثانوية قضايا «لم تحل
قط على ما يبدو حلًّا صريحًا» ولهذا كان من الضروري أن
تندرج في إطار قانوني موجود من قبل فوردت لتكمل تشريعًا
أحكمت صياغته من قبل على نحوٍ كافٍ.» ومن هذه القضايا ما
يتسم بسمة عامة حيث إنها تنطبق دون تمييز على جميع
المواطنين، ومنها قضايا قائمة بذاتها لا حاجة بها إلى
الاستناد إلى أحكام سابقة. وسواء تناولت حالات خاصة أو
أقامت قواعد عمومية، فقد نسجت كلها على منوال واحد: تبدأ
ببيان الإثم («أمَّا أي موظف يُعرف عنه أنه ارتكب هذه
الفعلة، إلخ» §١٦؛ «وثمة خسَّة أخرى علمنا بها في البلد،
إلخ» §٢٨)، ويتبع بيانَ الإثم تحريمُه («اعلموا أن تلك
الفعلة دناءة! فلا تعودُنَّ إلى مثلها أبدًا!» §٢٦).
وكانت صياغة المادة تفتح أمام كل أحدٍ طريق التصدي
للإدارة في تاريخ نشر النص تلافيًا لكل أثر رجعي للقانون.
وليست المدونة، على العكس من رأي شائع، مجموعة أحكام
صدرت، حيث إن الملك حذر فيها الموظفين الظالمين أو
الفاسدين من أنه سيكون عليهم من الآن فصاعدًا أن يقدموا
عن أعمالهم حسابًا إلى الأهالي (§٣١ «لقد أمرت أنا صاحب
الجلالة بألا يُسمح بهذا السلوك بعد اليوم»).
١٠٣ وكان التنبؤ بحالات افتراضية ممكنة يصل إلى
أبعد من ذلك، حيث ألغيت بعض القواعد الإدارية حتى لا تتيح
فرصة للممارسات الظالمة («لقد أمرت أنا صاحب الجلالة
بالقضاء عليهم جميعًا حتى لا تسنح بعد الآن فرصة للغش …»
§٣٦). ويؤدي الفحص الواعي للنص إلى التعرف على أن
«القانون كان يقينًا موجودًا في مصر مصدرًا للحقوق،
مستقلًّا عن التشريع والعرف.»
١٠٤ وكان هذا القانون، علاوة على ذلك، مكتوبًا
على لفائف من البردي أو الجلد، محفوظًا في المحفوظات
الملكية، شاهدًا على مشيئة المشرِّع. وكانت المراسيم
الملكية توضع في محفوظات مختومة في حضرة الملك، وكانت
الأصول ترتب على هيئة لفائف
١٠٥ وكانت نسخ من هذه اللفائف، منها الكاملة
ومنها ما دون ذلك، تحفر على لوحات حجرية دون أن تكون لها
«قيمة النص الرسمي». وكان النص القانوني (حاب
hap وهذا هو اسم هذه
اللفائف) يميز هكذا عن المراسيم (ودج
wadj) وعن تشريع القضاة
الذين كانوا يرجعون إليه في كل مناسبة. ولقد انتهى أمرنا،
نتيجة ضياع النصوص القانونية الأكثر هشاشة،
١٠٦ إلى أننا لا نعرف مضمونها إلا جزئيًّا عن
طريق صياغاتها الموجزة أو المقتضبة، وفي هذا ما يغرينا
بالشك في وجود قوانين حقيقية
١٠٧ ومن الممكن مع ذلك أن تكون «الوقائع الرسمية»
تضمنت من المصطلحات القانونية أكثر مما تضمنته شروحها
الأوسع انتشارًا. كذلك من الممكن أن يكون المصريون أعطوا
معانيَ قانونية لكلمات دارجة، وهو ما قد يفسر النقص
الظاهري في المفردات المتخصصة التي يعيب الحقوقيون
الغربيون على هذه النصوص خلوها منها.
١٠٨
ولقد تركز اهتمام المشرع أولًا، سواء في مصر أو في
بلاد الرافدين، على تعريف الأفراد الخاضعين للقانون
وتعريف وضعهم بدقة، بغية تفادي أي خطأ في تطبيق القانون.
ومدونة إشنونَّا مثلًا تقف طويلًا عند تعريف الزوجة
الشرعية: فالمرأة المنفصلة عن زوجها لا يمكن أن ترتكب
الزنا بمعناه القانوني حيث إن زوجها وقد انفصلت عنه لم
يعد يتمتع بحقوقه الاستئثارية عليها
١٠٩ ومرسوم حورمحب يميز بعناية بين الموظفين
و«العاديين». وفي كلا النصين، النص الرافديني والنص
المصري، يحظى أرباب حقوق الملكية باهتمام خاص. وهذه حقيقة
تنطبق أيضًا على غالبية الوثائق المعروفة. في مصر وردت
القاعدة العامة الخاصة بهذه الحقوق كتابةً منذ القرن
الثاني عشر: «من يبني مبنًى يعتبر مالكًا له طالما لم يكن
هناك اعتراض.» والساكن الذي ليست له صفة المالك يحق له
عندما يرحل أن يخلع إضافاته وزخارفه التي أضافها للبيت
الذي يزمع تركه في حالة خسارته قضية ضد مالك المبنى. وقد
استمر هذا التراث القضائي قائمًا إلى العصر البطلمي، حيث
رعاه طاقم من الخبراء وحفظته كتب ومجموعات من النصوص
والشروح التي تعتبر مصادر القانون الوضعي
١١٠ واتخذت احتياطات كثيرة للحيلولة دون قيام
الخاضعين للقانون بالمساس بالنظام الاجتماعي، وهي
احتياطات لا تتفق مع الصورة التي نرسمها عادةً للحرية عند
الشرقيين القدامى. فهل صحيح ما نظنه من أننا نختلف عنهم
في هذه النقطة اختلافًا بينًا؟ إننا مثلهم نقبل بأن الكون
منظَّم، ولكننا ننكر أن قدَرَ كل كائن حي منظَّم أيضًا
على النحو نفسه. والشخص في الغرب يحمل مسئولية خلقية
تترجم إلى معنى التأثيم ومفهوم الخطيئة أو الخطأ. هذا
المفهوم يبدو غائبًا على العقليات في بلاد الرافدين أو في
مصر، وهو ما يسمح للشكاكين بأن ينكروا وجود أفراد في هذا
الربوع: فبدون المسئولية الخلقية لا وجود لاستقلال شخصي
ذاتي.
وهناك ترجمة جديدة لنص بابلي شهير — كان البعض يرون
فيه نموذجًا لقصة أيوب، «الإنسان وربه»، هذه الترجمة
الجديدة تعيد للنص تماسكه الأخلاقي الذي كان مترجموه
الأوائل قد محوه ظنًّا منهم أن الموضوع هو شكوى من آلام
لا يستحقها، آلامٍ أنزلها به تعسفًا ربٌّ لا يلين ولا
تُعرف مشيئته. ونحن اليوم نعرف من الترجمة الجديدة أن
الرجل المسكين يعترف بخطاياه ويشكر خالقه إذ ابتلاه حتى
يُكَفِّر عنها. إنه إذ يبكي وينوح شاكيًا من نحسه الذي
تعدد القصة ضروبه، ومن العمل الذي يضنيه، ومن الحِمْل
الثقيل الذي ينوء تحته، ومن الحميات التي تنحل بدنه، لا
يفهم مما يجري عليه شيئًا (الأبيات من ١٣–١٥: «رباه، إنني
لا أعرف أي خطيئة تلك التي ارتكبتها. … أتراني ذقت ثمرة
محرَّمة؟»). ولكنه يقر بأنه نعم بالرأفة الربانية
(البيتان ٢٦–٢٧: «لست أنسى — يا رب — كل ما حبوتني به من
خير، ولست أنسى ما تلفظت به في حقك من تجديف، أنت الذي
بينت لي الشر»)، وما زال بالرب حتى رد إليه «عطوفًا»
المكان الذي يستحق، مؤكدًا أن الخاطئ يعرف أين يجد الخير
(الأبيات ٥٠–٦٣):
«إذا لم يكن قد قدر لك أن ترى النور
فكيف كان يمكنك أن تكابد البلاء الأليم حتى
نهايته؟ …
لقد حملت إصرك الثقيل إلى النهاية …
أنت يا مَنْ، في مستقبل الأيام، لن تنسى
ربك
خالقك، ولن تنسى كم كنت من المفضلين.
سأفتح لك ملاذًا تلم به
فأهبك الحياة الأبدية.
أما أنت، فمبارك ذلك الذي يتغير دون تجديف
أطعم الجائع، وقدِّم الماء للظمآن.
أما الذي يقدِّر بالاقتراع الأقدار …
فليحملق في طعامك وهو في نحول …»
وينتهي دعاء كالبانوم
Kalbânum بوعد منه أن
يتبع منذ تلك اللحظة «الطريق المستقيم» بألا ينكر جميلًا،
وبألا يحسد أحدًا؛ فالحقودون محكوم عليهم بعذاب أليم
١١١ دونه عذاب تانتالوس
Tantalos.
١١٢
والملاحظ أن صاحب الدعاء وربه يتواصلان بغير وسيط،
مثل طرفي عقد يحترمان التزامهما، وبخاصة عندما نعلم أن
هذا العداء كتب على الأرجح في الألفية الثانية، بل ربما
قبلها. وفي نص بابلي آخر — «العدل الإلهي» — يتجه الإنسان
المبتلى بالشكوى إلى صديق له، فيؤنبه الصديق ويحاول أن
يطرد عنه الأفكار «المشئومة» التي ساورته. وأسبابه بليته
في حقيقة الأمر أقرب إلى الفهم وأيسر من سابقتها: فهو قد
ولد لأبوين تقدم بهما العمر فوجد نفسه في سن صغيرة يتيمًا
بلا موارد، يبدو في ظاهر الأمر أن أخاه الأكبر هجره.
والشاكي لا يماري في أصل نحسه إلا مراءً ظاهرًا، ولكنه
يشعر بأن الآلهة تخلت عنه، بدلًا من أن تظله بحماها. وكان
فوق كل هذا العناء فقيرًا، بالرغم من تقواه، فقيرًا،
ينكره الجميع، بينما «محدث الثراء» الذي لا يعبأ بالدِّين
ناجح في حياته. والصديق الذي يحاوره مواسيًا له يدعوه بلا
جدوى إلى أن يقيم على الصبر، وإن وافقه على أن العادلين
لا يحققون ثراء على ظهر البسيطة:
«إذا أخذنا الإنسانية في مجموعها …
[وسألنا]: حبيب مَن الغنيُّ المتخم؟
إن من يعبد ربه يؤتى مَلَكًا حافظًا
والمتواضع الذي يخشى ربه يكدس الثروة …
الكافر اللئيم الذي واتاه بعض الحظ
يلاحقه سلاح فتاك …
ومن يحتمل نير ربه لن يعدم الطعام أبدًا وإنْ غثَّ.»
١١٣
هذا النص الذي يرجع إلى الألفية
الثانية نص كاشف جدًّا. وهو ليس صياغة بابلية للتيمة
الإنجيلية «الأوائل أصبحوا الأواخر» فحسب، ولكنه يمثل
محاول مبكرة للرهان الباسكالي
١١٤ والشاكي قلق شكاك:
«… في الحقيقة، أنت لا تقنعني …
لقد خبرت المجتمع، فلم أجد إلا براهين على عكس ما
تقول،
الرب لا يتدخل في طريق الشيطان.
ما الذي أفدته من ركوعي لإلهي؟
إن عليَّ أن أركع لمن هو دوني عندما
ألقاه.
وهذا أنذل أنذال الإنسانية — الثري الباذخ —
يعاملني باحتقار»
ويحثه محاوره، الأمين على سره، على أن
يجمع شتات نفسه وأن يعود سيرته الأولى حكيمًا ذكيًّا
بدلًا من أن يظهر بمظهر الضحالة الفكرية كالرجال
الجهلاء:
«لقد ولَّى عنك عقلك …
وما فقدته في عام، ستناله في لحظة …
وأنت في غمرة قلقك تجدِّف على الرب.
والفكرة الإلهية، مثل مركز الكون السماوي،
قصية.
معرفتها صعبة؛ السواد يجهلونها …
في استطاعة الإنسان أن يلاحظ ما هي إرادة
الرب»
ولكن العامة لا يعرفونها.
ربما بدت سبل الرب موصدة لا يمكن
ولوجها، ولكن الحكيم يظل قادرًا على أن يسلك طريق النجاة.
وعلى الرغم من الشك الذي يرتبط بالعالم الآخر، فإن موقف
الشك هذا هو الموقف المعقول الوحيد.
هذه الوثيقة الفريدة إذ تؤكد وعيًا بالذات وشكًّا على
طريقة ديكارت وسخرية لاذعة على طريقة باسكال، تلحق
بالوثيقة السابقة في نقدها للطمع والجشع والحسد. إن هذه
الوثيقة، دون أن تدعو المرء صراحةً، مثل «الإنسان وربه»،
إلى أن يدير خده الأيسر، تعلمه أن ينأى بنفسه عن نقد
ألوان النجاح التي ينالها الآخرون مهما بدت ظالمة لا حق
لهم فيها. هنا تعبير واضح عن المفاهيم الأخلاقية للإيثار
أو «حب القريب». وليس الرافدينيون هم وحدهم الذين اكتشفوا
هذه الماهيم: ففي الوقت نفسه تكونت في وادي النيل مفاهيمُ
عن المسئولية الأخلاقية والاجتماعية قريبة جدًّا من
مفاهيم الرافدينيين.
كان المصريون يسعون إلى الحفاظ على نظام العالم،
مقيمين على تضامنهم بعضهم مع البعض الآخر. ولم يكن
الإيثار عندهم عقيمًا، بل كان يحفز على المعاملة بالمثل.
كانوا إذ يدعمون القريب يسعون إلى دعم الكون أكثر مما
يسعون إلى إرضاء الخالق. وعلى الرغم من ذلك فإن التحول
الديمقراطي للديانة المصرية أدَّى شيئًا فشيئًا إلى قيام
علاقة مباشرة بين كل فرد مع إله يكافئ على أعمال الخير.
وأصبح الفرد محاسِبًا يحسب حساب أعماله تجاه الإله، ولم
يعد يحسب حسابها حيال الآخرين. وعندما اصطنع الفرد لنفسه
إشارات الانتخاب الإلهي — التي كانت من قبل خالصة للملوك
— تولي على هذا النحو المسئولية التي كان فرعون يجسمها
وحده، مسئولية الحفاظ على النظام العادل الحق الذي هو
نظام ماعَت
Mat.
١١٥
فهل يجب علينا أن نقف عند هذا الحد؟ لقد وقع الطمع
الذي شجبه البابليون موقع التنديد منذ الدولة القديمة.
فحول عام ٢٤٠٠ق.م. كان الوزير بتاح حوتب يحض على حسن
السلوك بالكلمات التالية.
«اجتنب بخاصة فعلةَ الحسد؛ فالحسد داء أليم، عضال،
يفرق بين الأصحاب كافة، ويهين الآباء والأمهات، ويحيل
حلاوة الصداقة إلى مذاق حمضي لاذع … ويفرق بين الزوجين،
إنه «حزمة» صنعت من كل خبيث، وكيس يحوي كل مقيت.»
١١٦
في أواخر الألفية الثالثة يندد النص المعنون «شكوى
ابن الواحة» الفلاح الفصيح
١١٧ بالأنانية والشح («لا عيد لمن تتملكه
الشراهة»). والنص المعنون «سخرية الحِرَفِ» ينسج على هذه
التيمة («إذا أنت أكلت ثلاثة أرغفة وشربت كوزين من البيرة
دون أن يمتلئ بطنك، فاحكم نفسك. وإذا استمر آخر في ملء
جوفه … فحاذر من الاقتراب من المائدة.») والنص في الوقت
نفسه يستشرف بالقدر نفسه تسامحًا مسيحيًّا كاملًا («لا
تمس بالأذى رجلًا شريرًا»)
١١٨ والشَّرِهُ في الحقيقة إنسان بعيد عن السلوك
الاجتماعي، يقطع دائرة العطاء والعطاء المقابل، بل إنه
كذلك يحطم نفسه كما يقول يان أسمان: «إننا أمام سيكولوجية
الشراهة. فالشَّرِهُ لا يقدر على الاحتفال والعطاء، ولهذا
فإنه يفسد قلبه وروحه اﻟ «كا». إن الشرَه مخرِّب، لا يخرب
فقط العلاقات الخارجية والاجتماعية، بل يخرب الشخصية الباطنية.»
١١٩
والشَّرِهُ أيضًا آثم عن تكبر، مثل آدم، وآثم عن حقد
مثل قابيل. والشَّراهةُ ظالمة لأنها تحرم الناس من نصيبهم
العادل في الموارد. وتعتبر «جريمة» «يعاقِب» عليها «الإله
الحيُّ». ويقرر يان أسمان
Jan
Assmann: «لم تعد تلك هي الأخلاق
المصرية، بل أصبحت الأخلاق العمومية العالمية والأبدية.»
أما أن هذه الأخلاق لم تخط خطوات تالية «أبعد» كما فعلت
شريعة موسى مطالبة بأن يحب الإنسان قريبه حبه لنفسه، فذلك
ما لا يمنعها من أن تعتبر «إعلاءً متساميًا للقانون
الأخلاقي الأساسي الذي هو النهي عن الأنانية أو الأمر بالإيثار.»
١٢٠ لقد قنع المصريون باختيار الشق الأول من
البديلين — النهي عن الأنانية — صانعين أخلاقًا صارمة
مبنية على النية أيضًا، لا على العمل وحده. فالناس يذنبون
نتيجة ترك ما ينبغي فعله فيظلون سلبيين، لا «ينصتون» إلى
الآخرين، ويكونون «عميانًا» لا يرون حاجاتهم.
«الذي يسمع هو الذي ينصت إلى ما يقال، أما الذي يحب
أن يسمع، فهو الذي يعمل من بَعد ما قد قيل ومن قبل.»
١٢١
وإذا كنا نحن نجد هذه التعاليم الأخلاقية مألوفة
لدينا، فتلك دلالة على ما بين ديانات الشرق القديم التي
تستمد منها هذه التعاليم الأخلاقية جذورها وبين أديان
التوحيد الكبرى من قرابة أوثق مما نظن. ونلاحظ مثل هذه
الملاحظة أيضًا عندما نعكف على درس حكايات الأصول الأولى.
لم يخترع الرافدينيون والمصريون في الحقيقة الأفراد
العارفين فقط، بل إنهم في سعيهم إلى تنظيم العالم، لم
يكتفوا بملاحظة ظهور الأفراد المسئولين، بل أسهموا كذلك
في إبداع ميثاتنا التأسيسية mythes
fondateurs التي أتاحت بنياتها الفكرية
تكوين منظومة مفاهيم أخلاقية عمومية بل منظومة أخلاق
واحدة للعمل العام.