الباب الثالث
قصص التكوين وقصص الخلق
هل هناك ضرورة
شديدة للسعي إلى اكتشاف أصل تصورات الكون الواردة في العهد
القديم من الكتاب المقدس، أو تصورات الكون الواردة في
الإلياذة والأوديسا، من تحت جذاذات فكرٍ متناثرة لم يعرف
أصحابُها المصريون والرافدينيون كيف يجمعونها في جداريات
ميثولوجية ضخمة، أو لم تنعقد مشيئتهم على جمعها في جداريات
ميثولوجية ضخمة، تختم كل المؤلفات السابقة برسالة سامية؟
كان السومريون والبابليون مثلًا يملكون كل المكونات التي
جاء الكتاب المقدس ثمرة لها، ولكنهم لم يكتبوه. ونصوصهم
المنقولة إلى كتابة مقطعية أو كتابة مسمارية لا تتسم في
نظرنا بصفاء الكتابة الأبجدية.
وعالِم الميثولوجيا إذ يسير على درب كلود ليفي شتراوس
Claude Lévi-Strauss
فيجمع الميثات
mythes
القديمة الأنتيكية، لو سألناه لأجابنا بأن كل صياغة لميثة
تفيد في فهم بنية هذه الميثة.
١ ومهما بعدت هذه الصياغة عن الكمال، بل مهما قل
حظها من التوفيق فإنها تضعنا على مسار اقتفاء أثر العقل
الإنساني. والمنهج البنيوي يلقي الضوء تبادليًّا على نصوص
الشرقيين القدماء ويبرز المبادئ التصنيفية المتوارية، ويبين
الوظائف المشتركة التي تستجيب لها ميثاتهم وميثاتنا. وهنا
نذكر أبحاث
إدموند ليتش
Edmund Leach
عن التوراة، وقراءة باول أتينجر
Paul
Attinger لميثة
Enki إنكي ونينورساج
Ninursag٢ أمثلة جديرة بالإشادة.
٣ وقد اتسمت هذه الأبحاث في الحقيقة بالتميز حتى
إنها تهدد كل بحث على هذا الدرب في المستقبل بالشلل، لأنه
سيجد نفسه محكومًا عليه بأن يكرر ما جاء فيها. نأخذ مثالًا
شجرة نسب
généalogie الملك
سليمان التي تحل مشكلة التناقض الجوهري للشعب اليهودي
باعتباره أمة. فزيجات الملك سليمان — كما ترد في شجرة النسب
هذه — بنساء أجنبيات يُفترض أنهن فاجرات تخرق القاعدة
الدينية الفاضلة التي تأمر بني إسرائيل بالزواج فيما بينهم
فقط. إلا أن هذه الزيجات سمحت هكذا بعقد التحالفات السياسية
الضرورية، حيث إن سليمان ورث الشرعية المزدوجة لرئيس شعب
اختاره الرب، ولملك أمة بين الأمم الأخرى.
أما تتبع البنيات العمومية المشتركة لميثة بسطت
صياغاتها على الشرق القديم وإسرائيل والعالم المسيحي أو
الإسلامي فلا بد من أن يكون له دوافع أخرى غير مجرد تبيين
أطروحات بنيوية. والقصص السابقة وقد امتصتها فيما بعد قصص
التوحيد، فقد مادتها الجوهرية: فقد تغير معناها العميق تحت
تحويرات شكلية ظاهرية، بل إن معناها العميق هذا انقلب من
الضد إلى الضد إذ حبس الرافدينيين والمصريين في أَسر
اكتشافهم للمشكلة السياسية الكبرى (وهي الاستبداد) وأنكر
عليهم اكتشافهم حلها (وهو الديمقراطية). ومن السخرية بمكان
أن الديانات السابقة على التوحيد قدمت هكذا إلى اليهودية
والمسيحية والإسلام الوسائل السردية التي احتاجت إليها لكي
تبطل مفاهيم الحرية والمساواة والإخاء السابقة.
هل نريد توضيحًا قصصيًّا؟ ما القصة (التوراتية)
المشهورة عن يوسف وامرأة فوطيفار إلا صورة من قصة مصرية
واسعة الشعبية (سبقتها) تدور حول العلاقة بين أخوين (هما
باتا
Bata وأنوب
Anoup) وزوجة أكبرهما وهي
كنة الأصغر. الأخ الأصغر رجل فاضل يعمل بود وتعفف في خدمة
الزوجين اللذين يوفران له في المقابل المأوى والطعام. وفي
يوم من أيام البذر في الحقول تفرغ جعبة الأخ الأكبر رب
الأسرة من البذور فيرسل أخاه الأصغر إلى البيت الذي كانت
زوجة الأخ الأكبر فيه تصفف شعرها ليأتي بمدد من البذور،
واستمرت زوجة الأخ تصفف شعرها هادئة البال في الدار بدلًا
من أن تعينه على إنجاز مهمته، ونجح دون مساعدة في أن يحمل
بمفرده جرة بذور ثقيلة. وأحدثت قوته فيها أثرًا أي أثر
فحاولت أن تغريه. فاستشاط غضبًا منها وأشاد بما يحبوه أخوه
به من طيبة، ولكنه وعدها بألا ينقل إليه كلمة عما حدث.
وانتظرت الزوجة وقد أصيبت بالحنق والقلق حتى يعود زوجها من
الحقول قبل غيره. فلما رجع تصنعت حالة الإصابة بصدمة،
واتهمت الأخ الأصغر بأنه غازلها، ثم بأنه ضربها حتى يوقف
عبارات التوبيخ التي وجهتها إليه، وما هي في الحقيقة إلا
عبارات التوبيخ التي سمعتها من فمه. وجنَّ جنون الأخ الأكبر
حيال نكرانٍ للجميل بلغ هذا الحد، واتخذ أهبته ليقتل أخاه
الأصغر في الحظيرة التي كان من المنتظر أن يعود بالبهائم
إليها. وعلم الأخ الأصغر الراعي بما دبر له، فلاذ بالفرار؛
وخف في أثره أخوه الأكبر ولحق به، ولكن معجزة حدثت حمته
منه، إذ بزغت من الأرض بحيرة غصت بالتماسيح الرهيبة، واجتث
الأخ الأصغر عضوه التناسلي وهو يقص على أخيه الأكبر القصة
الحزينة. ووقف الأخ الأكبر على الشاطئ المقابل يشكو وينتحب
قبل أن يعود أدراجه ويقتل زوجته.
٤
سلك يوسف حيال فوطيفار مسلك باتا حيال أنوب. وكل منا
يعرف كيف جعل السيدُ المصري من العبراني المنفِي رجله
الحائز على ثقته نظرًا لقدراته الفائقة على الإدارة، قبل أن
تتهمه زوجته بالتحرش الجنسي. القصتان تتبعان نفس البناء:
بعد عدة تكرارات للحدث الابتدائي يؤدي البطل في أثنائها
وظائفه بهمة مدهشة، ويحقق خوارق مذهلة، ترد إليه حقوقه
ويصبح في النهاية أميرًا ووليًّا للعهد (باتا) أو وزيرًا
(يوسف) يخدم سيدًا أكثر قوة من سيده السابق (أنوب أو فوطيفار).
٥ ولن ندهش لذلك لأن القصة المصرية ترجع إلى
القرن الثاني عشر ق.م. وهو العصر المفترض أن يكون
العبرانيون أقاموا فيه بدلتا النيل. والصياغتان تختلفان على
أية حال في بعض النقاط الجوهرية: باتا يعود إلى البيت بأمر
من أخيه لكي يؤدي عملًا في المزرعة حيث كانت زوجة أنوب
تستروح على عادتها، بينما بقي يوسف بكامل رغبته في البيت
الذي خلا من أهله نتيجة للحفل إلا زوجة فوطيفار التي ادعت
أنها متوعكة على غير المألوف. وباتا، الذي كان يمكنه أن
يفلت من نقمة أنوب لأن الزنا لم يُرتكب، يجتث عضوه التناسلي
بكامل إرادته إثباتًا لحسن نيته (وهو باجتثاثه عضوه
التناسلي يقترب من وضع الخصي المخلص لفرعون وهو فوطيفار)؛
ويوسف الذي لا يستطيع أن يتحاشى غضبةَ سيده؛ لأن الزنا لاح
كأنه ارتكب، يُسجن مرغمًا.
وهناك ما هو أكثر من الفروق اللونية
٦ في الشكل، ألا وهو أن الاختلافات بين النصين
تترجم تفاوتات في المعنى. فالنص الذي يرجع إلى الأسرة
التاسعة عشرة يدور حول أشخاص عاديين: اثنين من الفلاحين
الكادحين، وآثمة أذنبت بدافع الملل، وضحية مفرط في الفضيلة،
ومصادفة عادية (الرجوع دون عمد إلى البيت، وقيظ عصر يوم
ممل). أما قصة التوراة فإنها تضع في المشهد شخصيات مسرحية:
السيد الثري العاطل رب عبد فقير نشيط، ومذنبة عن تدبير
مسبق، وهي ضحية لا تُعتبر بريئة كل البراءة. ففوطيفار خصي
يعتمد في كل شئون البيت على يوسف (وهو أجنبي تمامًا)؛ وأنوب
نشيط من الناحية الجنسية وإن قلَّت قوته الجنسية وفحولته عن
أخيه الأصغر؛ وهو الذي يعطي أخاه (الشقيق من نفس الأم ونفس
الأب كما يذكر النص بدقة) كل التعليمات التي تحدد له السلوك
الذي يجب عليه أن يسلكه. ومن السهل أن نستنتج من الاختلاف
بين النص المصري والنص التوراتي أن يوسف أوشك على أن يخضع
للغواية … وهو على أية حال «قد جاهد نفسه جهادًا عنيفًا»،
وربما يكون قد استثار مولاته (ألم تظل في الحقيقة مولاته
٧ بمعنى واحد من معنيَي اللفظة؟)
٨ لأنه كان يعرف عن نفسه أنه «حسن الصورة وحسن
المنظر» (وأنه كان يحب أن يمشط شعره الطويل)، بينما كان
باتا يجهل أنه «كان رجلًا جميل الصورة لا مثيل له في البلد كلها.»
٩ لماذا منح فوطيفار المسن لمنافسٍ إمكانية
الاقتراب من زوجته؟ ما الذي جاء يوسف ليفعله في البيت في
يومٍ كان من الممكن فيه أن يلقاها وحدها؟ أما كان من موقعه
خيرَ من يعرف أنهما سيكونان على راحتهما، «فلم يكن هناك أي
خادم» («لم يكن إنسان من أهل البيت هناك») لأنه هو الذي صرف
بنفسه الخدم؟ ماذا كان يمكن أن تكون «مهمته» في يوم عيد
يكون فيه هناك بلا سيد وبلا مساعد؟ كيف يمكن لرجل قوي ذي
بصيرة قادرٍ على أن يملك نفسه في ظروف أشد خطرًا من ظروف
خلوة مع امرأة أن يترك «ثوبه في يدها» «هرب إلى خارج»
(«فترك ثوبه في يدها وهرب إلى خارج»). هناك إجابة واحدة
ممكنة؛ فالتوراة ترينا يوسف عاشقًا في السر متيمًا بامرأة
شابة موافقة، أهملها زوجها، منتهزًا الفرصة الفريدة، فرصة
أن يجدها وحدها، ليعانقها بعاطفة جياشة، قبل أن يتحقق من
الخطأ الذي يوشك أن يرتكبه، فيخرج مسرعًا من الحجرة (المكان
الوحيد الذي كان يمكنه أن يتعرى فيه).
بعبقرية النص التوراتي تحولت قصة عادية جدًّا إلى
مؤامرة حقيقية. أشخاص القصة المصرية عمال أمناء، على خُلق
بسيط، اضطربت حياتهم بطريق المصادفة، أما شخصيات التوراة
فشخصيات مدهشة أرباب سياسة وتفكير وتدبير أو عقول رشيدة،
يتصدون للمشكلات ويعجلون سقوطهم.
١٠ والقصة إذ تتغير طبيعتها، يتغير مضمونها
الأخلاقي بالقدر نفسه. القارئ في حالة الصياغة المصرية على
بينة من أن الغواية يمكن في أي لحظة أن تشتت شمل البيت الذي
بلغ من السعادة أعلى مبلغ. وعلى كل إنسان ردًّا لبلائها أن
يزرع القيم الأسرية والتقوى والاحترام والعرفان والتضامن
والذوق والصراحة. أما الصياغة التوراتية فتضع الحرية
والمساواة موضع الإخاء.
١١ وأفضل شيء يفعله الإنسان — في عالم قاسٍ لا
يُبعد فيه الحبُّ الإنسان عن السعادة المطمئنة بل يعرقل
الطموح الشخصي — هو أن يقاوم الغواية إذا كان استسلامه
للغواية يعرض فرص نجاحه للخطر. ولهذا يُرجى البطل أن يتبنى
أخلاقيات المسئولية وأن يفضلها على أخلاقيات
الاقتناع.
والثقافة المصرية ثقافة تبادل وليست ثقافة تَمَحْورٍ
حول الأنا. فهي أبعد ما تكون عن أن تفسد الشخصيات النبيلة
(يوسف) بوضعها في مواجهة الشخصيات الشريرة (فوطيفار
وأمثاله) — كما قد توحي بذلك القراءة المتعجلة للنص
التوراتي — الثقافة المصرية ترفع شأن الضعفاء بأن تقدم
إليهم مثال الجديرين بالتقدير (أنوب
Anoup الأخ الأكبر الذي
يكرس حياته من أجل تصحيح الخطأ الذي ارتكبه في حق أخيه
الأصغر باتا Bata وردِّ
شرفه). إن قصة الأخوين لا تدعو القارئ إلى أن يتحرى المهارة
في كل الأحوال، بقدر ما تدعوه إلى أن يظل أمينًا مع نفسه.
وهي تعلِّم أن الفضيلة ليست بالفعل فقط، بل بالنية أيضًا.
وهي تصف الشر: الشر هو شهوة السلطة والتملك. وباتا يرفض أن
يقاسم أخاه حقوق الأخ الشقيق («يعيش في كنفه كأنه ابنه»)
ويقول لزوجة أخيه دفاعًا عن نفسه: «أنتِ عندي في مقام الأم،
وزوجك في مقام الأب؛ هو أخي الأكبر الذي رباني.» أما يوسف
فهو يتردد في النزول عن أحلامه للهيمنة على إخوته، وفي
امتلاك آخر حق ما زال يفلت من قبضته لدى صاحب العمل
الأجنبي. («كل ماله قد دفعه إلى يدي. ليس هو في هذا البيت
أعظم مني. ولم يمسك عني شيئًا غيرك لأنك امرأته»).
«الجريمة الحقيقية
التي تتحدث عنها الصياغتان ليست السفاح وليست الزنا، بل هي
تجاوز درجة سلم الرتب وكسر دائرة التبادل.
١٢ ولكنهما تتحدثان عن هذا التجاوز حديثين
مختلفين. أما الصياغة المصرية فتحرِّمه، وإن كان وروده في
سياق النص على الأرجح ضئيلًا شديد الضآلة (فقد كان الأخ
الأكبر والأخ الأصغر متساويين في العمل حيث إنهما «كانا
كلاهما يشعران بمتعة كبيرة جدًّا وهما ينجزان مهمتهما»
معًا) وأما الصياغة العبرية فتتساهل في تقبل هذا التجاوز،
وإن بلغ وروده في سياق النص درجة قصوى (فيوسف — «الابن
الإضافي»، وهذا هو المعنى الحرفي لاسم يوسف — هو الابن
الحبيب الذي يعتبر نفسه في مقام الابن الأكبر»
١٣ ثم هو بعد ذلك الخادم الأجنبي الذي أساء
استغلال سادته المصريين على نحو صفيق). وليس هذا هو التباين
الوحيد بين الصياغتين: فمع الانتقال من النص المصري إلى
النص العبراني تغير وضع المصريين القدماء. فبينما المصريون
القدماء في النص الأول، النص المصري، يتسمون بالود
والبساطة، إذا هم في النص الثاني، العبراني، مقيتون.
فالاختلاف بين النصين قلبٌ مزدوج للأوضاع لا يظل بغير تأثير
على الصورة التي تكوِّنها عنهم أو على أبنائهم الحاليين
الذين يلوحون لنا قريبين من باتا وأنوب اللذين يمكن أن
يكونا شخصيتين في رواية شعبية لنجيب محفوظ.
والصياغة التوراتية إذ تضفي مزيدًا من القوة والجاذبية
على قصتها تستبعد في طريقها العابر عنصرًا جوهريًّا من
عناصر المفاهيم السياسية المصرية الصادعة بالتضامن. إنها
تخفي تحت ستار الغيب إرادة التوفيق بين المتضادات المؤثرة
على الأحداث في حكاية الأخوين، فاتحة الباب أمام بديل غريب
على الثقافة المصرية: فالشخصية الرئيسية بين أمرين، إما أن
تقلب السيطرة لصالحها الخاص، وإما أن تقلب النظام الذي
تستند إليه هذه السيطرة والذي يجعل وجودها ممكنًا.
هكذا النصوص القديمة تلعب بعدد قليل من الشخصيات
تبدِّلها أو تلبس بعضها ثياب البعض الآخر. ونحن لا نستطيع
أن نقنع بتصوير الآخر على الصورة التي تقدمها إلينا: صورة
السيد الذي يغوي بقوة جبرية ضحيته (التي يخطفها، أو
يغتصبها، أو يفتنها، أو يتزوجها)، صورة المستبد الذي يعتني
بمظهره من كل جانب (يمشط شعره أو يتحلى بثياب فاخرة)، صورة
مسيطر لا بد من التحرر منه لأنه
لا يعرف كيف يسيطر بنفسه
على نفسه. ولعبة الأدوار الميثية لا تُختزل إلى ثنائيات:
طيبين وشريرين، حريصين وجسورين، إلى من يتسمون بالحلم ومن
يتملكهم الغضب. فالعقلية النازعة إلى الثنائيات لدى البشر،
وهي سمة خاصة من أشد سماتهم عمومية، تطرِّز في الشرق طرازها
على ثنائية المواجهة الكونية بين الماء والصحراء. فعبور
البحر الأحمر وراء موسى يعني الانتقال من بلد الموتى إلى
بلد الأحياء؛ وعبور نهر الأردن وراء يشوع هو مبارحة أرض
قفراء إلى الأرض الموعودة.
١٤ والتنويعات على هذه المواجهة الثنائية
الأولانية — وهي على درجة كبيرة من الجمال — نجدها لدى
الكنعانيين كما نجدها لدى العبرانيين. وهي تنويعات ترسم
جغرافيةً رمزية، لا جغرافية واقعية، لأنها ترسم الحدود
السائلة لعالم يريد البشر أن ينتموا إليه بدلًا من أن
يعاقَبوا على أخطائهم بالتيه في مناطق مقفرة كئيبة، رمضاء
دائمًا، حارقة في بعض الأحيان.
١٥
وحكايات الأصول les
origins — وهي حكايات مألوفة للشرقيين
القدماء — لا تفسِّر إلا جزئيًّا ألوان التمثيل السياسي
للرافدينيين والمصريين. ولما كانوا يترجمون غالبية أنماطهم
السياسية إلى لغة الميثة، فلم يتم التعبير عن كافة مفاهيمهم
الخاصة بالنظام الاجتماعي، وعن مؤسساتهم وعن إجراءاتهم
الأصلية بنص توراتي لأن واقعيته الأسلوبية غريبة
عليهم.
والاعتماد على النصوص الشائعة أكثر الشيوع (وعلى
مفسريها) يعني ارتكاب خطأ تحليل مزدوج. أولًا عن طريق إحداث
قَطْع فاصل بين الميثات التأسيسية لدى قدماء الشرقيين وبين
ميثاتنا (الغربية)، قطع فاصل يفيدنا فائدة جمة حيث لا يكون
علينا أن تحكم بقدر أقل من التفضل على الأنماط السياسية
التي لا تعجبنا (التضامنية، المحسوبية). ثانيًا عن طريق رد
كل الاعتراضات إلى الاعتراض الأكثر ظهورًا للعيان ألا وهو
التمييز بين الذين يطيعون وبين الذين يأمرون، بين الرجال
وبين مَلِكَهم (فملكهم هو منبع الزمن، ومنبع النور، ومنبع
الحياة، ومنبع الهوية)، وهذا اختزال غير مشروع للتنوع
اللانهائي للمجتمعات المركبة يجعلها مركَّبًا مركزًا من
السلطات شمولي الجوهر. وتنغلق حلقة تكويننا الذهني عند نقل
كل الصفات المَلَكية إلى رب أديان التوحيد مضافًا إليها
القدرة على الغفران؛ فالبشر الذين لم يعودوا يعتمدون إلا
على ربٍّ واحد مَلِك يصبحون أكثر حرية وتساوً منهم عندما
كانوا يعتمدون على ملك الآلهة!
هل يمكن أن يكون النموذج أكثر اكتمالًا مما نظن، وأنه
ليس مسودة تمهيدية للتوراة بل هو نص كامل له قيمة كامنة في
ذاته؟ ألم يقم التوحيد الديمقراطي عندما حل محل الشمولية
الحلولية بإنجاز البرنامج الذي كان جرثومة ناشئة في رحم
الميثة؟
(١) هل هي رؤيا لم تكتمل؟
لا تشبه حكاية الأخوين فقط قصة يوسف، بل نجد فيها
مكونات عديدة من سفر التكوين وسفر الخروج. وما فتنة الزنا
إلا الحلقة الأولى من مسلسل قصصي مختلط يلتقي فيه الإنسان
بشخصيات ومواقف يعرفها من خلال نصوص أخرى، ولكن في ترتيب
زمني آخر.
ثم تأتي بعد ذلك حلقة المطاردة في الصحراء، إذ يطارد
الأخ الأكبر أخاه الأصغر، والأخ الأكبر يرفض أن ينصت إلى
أخيه الأصغر. وتشبه هذه المطاردة على نحو عجيب مطاردة
فرعون لموسى (ولا ننسى أن فرعون كان أخا موسى بالتبني
وأنه كان يسبقه في الترتيب الذي تضعه المراسم)، وتنتهي
المطاردتان بنهايتين متشابهتين: في قصة الأخوين نجد بحيرة
لا سبيل إلى اجتيازها تنقذ على نحو إعجازي باتا من أنوب
(«وبسط رع مساحة كبيرة من ماءٍ فصلته عن أخيه الأكبر،
ماءٍ مليء بالتماسيح؛ وكان الأخوان على جانبين، هذا من
ناحية، وذاك من الناحية الأخرى»). أما في قصة موسى فقد
«انتقل عمود السحاب» و«دخل بين عسكر المصريين وعسكر
إسرائيل». وكان على هؤلاء وأولئك أن ينتظروا مطلع النهار
حتى يعرفوا حكم الرب (تقول القصة المصرية: «ابقَ هنا في
هذا المكان حتى تبْيَضَّ الأرض»؛ وأما القصة التوراتية
فتقول: «فلم يقترب هذا إلى ذاك كل الليل»).
١٦ ولاذ الناجيان في القصتين بأماكن منعزلة (لجأ
باتا إلى وادي الصنوبر ولجأ موسى إلى «برية شور» ثم جبل
سيناء) حيث لقيا الرب (التاسوعة
١٧ المصرية في حالة باتا، ويهوى في حالة موسى).
١٨
وشخصية موسى نفسه بزغت من أدب طواه النسيان، أدب
يتمحور حول نموذج البطل الذي يجسده، والذي انتشرت صوره من
وادي النيل إلى الرافدين، هل هو ذلك الذي أبحر مع تيار
الماء في سفطٍ من البَرْدي، أم هل هو سارجون
Sargon الأكادي الذي
حملته أمه سرًّا وعهدت به إلى نهر الفرات (وضعتني في سفط
من الحلفاء طلته بالزفت وطرحتني على صفحة النهر الذي لم
يغمرني بمائه؛ وحملني النهر إلى أكي
Akki القنواتي الذي
اتخذني ابنًا له ورباني).
١٩ وماذا عن السفينة التي تجري فوق الأمواج؟ هل
هي سفينة نوح، أم سفينة أتراحاسيس
Atrahasis (نموذجها
السومري) التي ستولد منها الإنسانية الجديدة، أم قارب
إيزيس التي راحت في الخفاء تجمع أشلاء أخيها أوزيريس لكي
يولد الشهيد من جديد؟ وهذه التيمة ثابتة بالشواهد لدى
الإغريق: هناك داناي
Danaé٢٠ وابنها بيرسيوس
Perseus غير الشرعي من
زيوس في صندوق تقاذفته الأمواج الهائجة. فلما نجيا بمعجزة
نزلا «جزيرة صخرية كان فقرها وتفاهتها مضرب الأمثال في
التراث الإغريقي الكلاسيكي». وعثر عليهما صياد رقيق الحال
في شبكته فآواهما بعد أن اكتشف قرابة بينه وبينهما.
٢١ والأبطال الذين ذكرناهم يشتركون في سمتين:
فهم يولدون أو ينقذون سرًّا، وهم لا يغرقون.
٢٢
(٢) من الخاص إلى العام
كل هذه المتشابهات تصيب الإنسان بالدوار. وإذا كان
أصلها يظل مجهولًا — إذا استثنينا نسبة هذا الأصل إلى
تيمة التوأمة
gémellité
التي تظهر من حولها سمات قرابة محيِّرة بين ثقافات نائية
من قبيل الثقافات الهندمريكية والشرقية والكلاسيكية —
٢٣ فمن غير البديهي ألا تكون هناك علاقة على
الأقل بين القصص الشرقية بعضها بالبعض الآخر.
٢٤ وتخيل العلاقات الممكنة بين المكونات ذات
الأصل السومري والعبراني الشبيهة بقطع الفسيفساء يسهِّله
استخدام الصياغة التحويلية من قبيل تحويل أتراحاسيس
Atrahasis إلى نوح،
وسرد قصة تكاد تكون مطابقة عن الطوفان في أسطورة جلجاميش
وفي سفر التكوين.
٢٥
وجاء عرض الاقتباسات التي كشفت عنها قراءة طولية حتى
الآن مختلطًا بغير نظام. وعلى الرغم من أنها تتسم
بالإثارة فإنها لا تكفي لإثبات تطابق البنيات الذهنية
لقصص التكوين المصرية والرافدينية والتوراتية، وهي أبعد
عن أن تكفي لإثبات أن البنية الأخيرة — البنية التوراتية
— هي العقلانية الوحيدة بين البنيات الثلاث. من الممكن أن
نبين أن التوراة لا تضيف أية إضافة منطقية إلى القصص
السابقة، وأن القصص الثلاث لها نفس البناء، وأنها تسير
على نفس التتابع وتنتهي إلى نفس النهاية.
كانت المشكلة المطروحة على الشرقيين القدامى هي أن
يفسروا كيف أن البشر خلقوا على الصورة الإلهية مع بقائهم
فانين ينتهون إلى الموت. وهذا اللغز لا يعرف إلا حلًّا من
اثنين:
إلى دائرة الحل الأول تنتمي مَيثَة أدابا
Adapa الرافيدينية وقصة
غواية حواء (البشر دائمًا يخطئون في الأطعمة التي ينبغي
قبولها أو رفضها).
٢٦ وإلى دائرة الحل الثاني الأكثر ذهنية تنتمي
القصص القديمة الأنتيكية عن الخلق، وهي تظهر استبداد
الآلهة والانجراحية البشرية على أنهما من قبيل الضرورات
المنطقية حتى يقوم توازن بين الخلق والفساد وحتى تمنع
الكوارث الطبيعية حدوث الكوارث السياسية (فالطوفان يخلق
نوعًا بشريًّا جديدًا بريئًا من الخطايا، بينما تؤدي
الدسائس في النهاية إلى ظهور نوع خطَّاءٍ أو شيطانيٍّ من
البشر). وحيرة الأرباب تحدثنا عن السياسة: الرب (يهوى
Yahvé أو إنليل
Enlil أو رع) يخلق
البشرية (أو يستقبل الشعب العبراني على أرضه كما فعل
فرعون) ثم يغير رأيه حيال القوة التي حازها العدد الكبير
(فالبشر ضعاف ما تفرقوا، فإذا اتحدوا أمكنهم أن يرفضوا
القانون). والمَلِك السماوي السومري إنليل يمنع البشر
بالجفاف من أن يتزايدوا على الرغم من أنه يحتاج إلى
عبادتهم؛ والملك الأرضي فرعون يمنع العبرانيين من أن
يتناسلوا آمرًا بقتل المواليد الذكور الأُوَل على الرغم
من حاجته إلى عملهم. والرب (في التوراة) يطرد آدم وحواء
من الفردوس لأنهما سيتناسلان، بينما يشجعهما على التنامي
والتكاثر.
والميثات الإغريقية عن الأصول الأولى لها هي أيضًا
مراميها السياسية. وما تتسم به من قِدَم أرخائي أدبي
تُوازنه رؤيا تبريرية للتاريخ تظهر لأعيننا أشد سفورًا من
رؤيا الكتَّاب الشرقيين. قصص الخلق الإغريقية تذكر
أحداثًا غامضة عن قتل الوالدين أو أحدهما، وأحداث إخصاء
مثيرة، وأشجار أنساب متشابكة معقدة، أشياء كان الأقرب إلى
التوقع أن يجدها الإنسان في بلاد الرافدين أو مصر. كذلك
تنوه بأجيال بدائية و«قليلة الحيلة في الحياة» سبقت
طوفانًا، عمر الكوكب بعده بشرٌ أنجبهم زوجان أوليَّان
(يختلفان حسب المصادر) نافسوا سلالات من غرائب الخيال
(بشر، آلهة، حيوانات، أشياء معدنية، مياه نهرية تتضاجع في
هرج عليم) كل هذا يحكيه بكل جرأة مؤلفون اشتهروا بأنهم
أهل للثقة.
إلا أن التيمة المهيمنة في هذه القصص المضطربة
المختلطة يمكن على الرغم من ذلك تتبعها ابتداءً من
الصياغة التي تناولها بها هيسيودوس
Hêsiodos: كان من
الضروري بغية التفريق بين الدائم والعابر، الأخيار
والأشرار، الكرام واللئام (بعبارة أخرى التفريق بين
الأهالي والأجانب، بين الأصيل والمُغتَصَب) تكرار
المحاولة مرات عديدة. فبعد أن قتل كرونوس
Kronos أباه أورانوس
Ouranos — السماء —
تمرد أبناء كرونوس بقيادة زيوس على أبيهم وقتلوه. وألقى
بهم أعمامهم التيتان
٢٧ من فوق جبل الأوليمبوس — الأوليمب ولحقوا
بفيلق العمالقة
٢٨ (الشياطين والوحوش الأخرى الخارقة للطبيعة في
الهاوية أو الدنيا السفلة). ثم يأتي بعد ذلك الأوتوختون
٢٩ أي البشر الذين ولدتهم الأرض بدورهم ولكن دون
إخصاب من السماء، خرج كل واحد من الأوتوختون من ركن من
أركان إغريقية التي يبرر بظهوره منها سبقها على كل ما
عداها. وتكاتف الأجداد آنذاك في بناء المدن، سعيًا إلى
العدل، ولم يفعلوا ذلك إلا بعد أن أخذوا على عاتقهم تخليص
الأرض من الثعابين التي كانت الأرض تنجبهم تعبيرًا عن
خيبة رجائها.
والميثات التأسيسية الإغريقية قصص تغلب فيها
العجائبية على الشاعرية، أعدت موظفة لأهداف أسرية رمى
إليها الكُتَّاب الذين دونوها، فما هي نماذج على منطقٍ
ولا أمثلةَ على معاصَرةٍ.
٣٠ إنها تصف عالمًا أرضيًّا أكثر منه كونيًّا،
يتكون، كما هي الحال لدى الشعوب الأنديزية
andins،
٣١ من مياه تحت الأرض تنساب في أنهار حقيقية
تنحدر إلى كهوف وتنبثق من شقوق مباغتة،
٣٢ عالم لا ندهش عندما نسمع أن البشر نجموا هنا
من أسنان قطعها الآلهة عندما انتصروا في معركة تيتانية أو
نجموا من حصى ألقي من فوق أكتاف الناجين من الطوفان.
والبشر في هذا العالم قُدُّوا من حجر وعظم أكثر من أن
يكونوا قُدُّوا من طين ولحم. فالإغريق، من هذه الناحية،
يقفون بجانب الإنكا بينما يقف الشرقيون القدامى بجانب
التوراة.
على هذه الخلفية لخطة كونية (الخلق على مراحل وفي
تحسس، ثم محاولات فاشلة للتخريب، ثم إنسانية جديدة) يكشف
لنا تناولُ قصص الخلق الشرقية بفحص أكثر عناية عن وجود
اختيارات أكثر تماسكًا. ومن وجهة نظر سياسية لا يمكن أن
نتجاهل التشابه بين قصص التكوين الرافدينية وبين قصص
التكوين التوراتية. ونجد في واقع الأمر أن الآلهة
السومرية يبدو عليها أنها مسئولة عن أفعالها حيال البشر:
وهي تمنح مخلوقاتها خلود الروح تعويضًا لهم عن ممات
الجسد؛ وهي تخلق في وقت واحد عددًا من الأزواج
٣٣ تتركهم أحرارًا في أن يتكاثروا — ولهذا فإن
تحديد مدة حياتهم والفتك بهم أمران ضروريان إحصائيًّا،
بدلًا من أن يكونا مفروضين تعسفيًّا.
٣٤
وهكذا يمكن تفسير ضياع الفردوس دون اللجوء إلى فكرة
الخطيئة الأصلية: لقد خلق الآلهة الإنسان لكي يعمل، وإلا
لكانت استغنت عنه. وإذا كان ثمة خطأ، فالآلهة الخالقة هي
التي ارتكبته، لأنها لم تعمل من فورها حسابًا لأن
مخلوقاتها تموت بطبيعتها، ثم لأنها سارعت في عجلة مفرطة
إلى قطع دابرها، ولأنها نبهت واحدًا من أكثر المخلوقات
حكمةً إلى أن الأمطار توشك أن تهطل حتى يصنع سفينة وينقذ
الأنواع الحية. على هذا النحو يكون مسلك الآلهة الخالقة
أقربَ إلى فهم مخنا البشري من مسلك الرب الواحد الذي ينبذ
مخلوقاته في نفس اللحظة التي تبلغ فيها الملائكية (ها
هوذا الإنسان يصبح مثل واحد منا لفهم السعد والنحس). ومن
ناحية المخلوقات هذا هو جلجاميش الشغوف باختراق الحجاب
إلى سر الحياة، والمستسلم للموت، أكثر عقلانية من آدم
وحواء كما صورتهما التوراة عاجزين بحسب التوراة عن أن
يفهما أن عليهما أن يذوقا أولًا ثمرة شجرة الحياة ثم يحكم
عليهما بالموت.
والآلهة الرافدينية لا تصطنع صوريًّا جماعة من نفس
الجوهر مع مخلوقاتها، وهي لا تغوي مخلوقاتها واضعة مبادئ
المعرفة والحياة الأبدية الإلهية تحت ناظريها، ومانعة
إيَّاها في الوقت نفسه من أن تتعلمها، ولا تعتبر من الخطأ
أن يتعاشر الرجال والنساء. وما كانت (الرءوس السوداء)
الرافدينية إذ تكاثرت بأقصى ما استطاعت من سرعة إلا
مدافعة ببساطة عن مصالحها. والإنسانية تريد أن تعرف
المستقبل مثل الإله، أو أن تبني صرحًا يبلغ السماء، أو أن
تتكاثر بلا نهاية. والبشر أولو عزم وهمة، ولا يمكن وضع
حدود لطموحاتهم بفرض برنامج ثابت بالصلف عليهم.
والمخلوقات فُطرت على عصيان خالقيها، وعلى خالقيها أن
يتكيفوا مع هذا الوضع.
أما من وجهة النظر الروحية فقصص التكوين المصرية هي
الأقرب إلى سفر التكوين في التوراة. ونحن نعرف عددًا من
قصص التكوين المصرية، يتسم أصلها المشترك، الذي يمكن
تتبعه وتحديده في تكرار الفقرة الكبرى، على نحو خاص
بصلاحية سينمائية بديعة.
(يقول أتوم
Atoumì
«كنت وحيدًا في النوئو
Nouou (المحيط الأولاني)
٣٥ و… كنت أطفو، هامدًا هُمودًا مطلقًا … وخلقت
نفسي بنفسي؛ وركَّبت نفسي كما تمنيت، حسب رغبتي.»)
٣٦
فالخلق هكذا
ينتج عن الفصل بين الماء الإلهي وكتلة أولانية بيضاوية
جَنِينية، تحوي في آنٍ واحد المبدأ الخلاق وكل مكونات
المادة والكينونة. والوعي يظهر بفضل الاستبطان ثم بفضل
اللغة (أتوم
Atoumì بدأ
يتكلم في الصمت). في تلك اللحظة تحققت الخطة الإلهية:
فانفصلت الأرض والجو بعضهما عن البعض الآخر، وانبثق
النور، وانحسرت المياه، وانتقلت الطاقة الحيوية، برد فعل
متسلسل، أولًا إلى الآلهة، ثم إلى البشر، الذين كانت
أرواحهم متضمنة سلفًا في حضن المونادة الأولانية.
٣٧ والسماء
٣٨ (فراغ بلا نجوم، تخترقها الشمس وكذلك الأجرام
السماوية التي ربما تقيم فيها «اللانهائيات»، أرواح إلهية
لا يحصيها العد) يحيط بها الموج المردود. وهذا هو السماء
— وقد انفصل عن الخاءوس
chaos٣٩ الذي يتكون منه باقي الكون — يندس منذ ذلك
الحين بين الأرض اليابسة والقبة السماوية التي يتصف
العالم من ورائها بأنه لا يمكن معرفته، وقد اشتهر بأنه
بلا حدود، وأنه معتم عتمة سرمدية رتيبة، وأنه ساكن بلا
حراك. فالكون محيط معتم خاءوسي تطفو في وسطه كرة الجو
الأرضي، كرتنا الحية
biosphère.
٤٠
لماذا حدث الخلق؟ حدث الخلق لسببين متكاملين، الأول باطني،
٤١ والآخر متعالٍ.
٤٢ لأن العالم كان موجودًا بالقوة بكل مكوناته
في المحيط الأولاني، ولأن الرب هو السبب النهائي لكل شيء،
والرب لا يصل إليه البشر، بل لا تصل إليه الآلهة الثمانية
الأخرى التي تجسم عناصر العالم (الهواء، الماء، السماء،
الخاءوس، النار، النور، الظلمات). الرب، في شكل استشرافي
رائع للثالوث المقدس، هو في آنٍ واحد «الخفي» (آمون، أصل
السر وأبو الخلق)، والظاهر المنير (رع، قرص الشمس)
والمادة (بتاح
Ptah هو
الكلمة الخالقة، ولكنه في الوقت نفسه هو الكينونة التي
لَحْمُها البشر).
٤٣ والإنسانية موجودة بالضرورة لأن جيناتها
متضمنة في الجينوم الإلهي.
والكون المصري — على عكس الرأي الذي قال به إيريك
فوجيلين Erik Voegelin —
عالم وليس عالمًا مدموجًا. هو كون تطوري وليس كونًا
دوريًّا كما تعرضه التوراة بحسب قراءة رفائيل درائي
Raphaël Draï. هو كون
آخذ في التوسع وهو مطابق لمقصد إلهي.
(٣) من الباطني إلى المتعالي
يمكن تلخيص أطروحة فوجلين على النحو التالي: في خبرة
المصريين عن العالم يمثل المجتمع جزءًا من النظام الطبيعي
لأن الجوهر الكوني الذي صنع منه الآلهة والكائنات الحية
والمادة كان واحدًا. ولم يكن النظام الرمزي منفصلًا عن
النظام الواقعي، بل كانا مشاركين جميعًا في الجوهر. ولم
يكن الكون متمايزًا لأن البشر لم يكونوا قد تفكروا في
النظام الإلهي على أنه متمايز، فوق العالم (متعالٍ)
transcendant، وليس
آتيًا من العالم (باطني)
immanent. والأطروحة
قوية، ومصاغة في لغة رائعة، لا تعبأ بالتحولات الفكرية
التي تشهد عليها قصص التكوين المصرية. وهي تجهل بصفة خاصة
القصة التي أشرنا إليها من قبل عن الإله رع وتحطيمه
البشر، حيث تعب من عمله، وسئم من حربه المستمرة ضد
مخلوقاته الشرسة (على الأقل المخلوقات التي نجت من
المذبحة) فسلط على السهام المجنونة — التي وجهتها هذه
المخلوقات نحوه — جبروتَ الأشعة الفتاكة، وهجر الأرض،
وهجر الأرض والبشر الذين أسرفوا في نكران الجميل إسرافًا
حال دون صعودهم نحو القبة السماوية على ظهر الربة نوت
Nout المجاملة، (بقرة
السماء). كل هذا حدث مع غفرانه لمن أساءوا إليه، وحضِّه
المؤمنين به على ألا يقاتلوا المتمردين (أبناء
الضعف).
(كانت الأرض آنذاك في الظلمات؛ فلما أسفر الضياء عند
الفجر، كان بشرٌ قد خرجوا يحملون القسيَّ والعصيَّ، فقال
الإله ذو الجلالة: «الشر وراءكم، يا أيها السفاكون، كفوا
عن سفك الدماء …» ثم قال لنوت
Nout: «أبعديني عنهم،
ارفعيني عاليًا … حتى يروني على الرغم من بعدي في الأعالي.»)
٤٤
وحجة فوجيلين
Voegelin، إذا اختزلت
في فحصه الفقرة السابقة الخاصة بالأصباح
٤٥ الأولى في العالم، وجدناها تعتمد على مقدمة
استدلالية
prémisse. جاء
في التوراة: «في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت
الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على
وجه المياه.» ومعنى هذا أن الروح الإلهية كانت قد صعدت
فوق المحيط الأولاني.
ومع ذلك فالخالق في تصور المصري القديم يستقدم
العالَم إلى وعيه عن طريق حركة هوائية: فأول شهيق لأتوم
يتضمن مبدأ النظام والحياة الجديدة، والحقيقة والعدل
(ماعَت) ma’ât يبثه بدوره
في الفراغ بين السماء والأرض بزفرة قوية على هيئة العطس.
ويقول بعد ذلك: «أنا الخالد، أنا رع الذي خرجت من النوءو
Nouou أنا رب النور».
ونحن نعرف النص التوراتي: «وقال الله ليكن نور فكان نور …
وفصل الله بين النور والظلمة.» ولا يقف التشابه عند هذا
الحد لأن التوراة تقول: «فعمل الله الجَلَدَ وفصل المياه
التي تحت الجَلَدِ والمياه التي فوق الجَلَدِ.» وأخيرًا
قرر: «لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر
اليابسة.» وهذه الآيات منقولة عن نص من إسنا في جنوب صعيد
مصر ينسب الخلق إلى الربة نايت
Neith.
«أبو الآباء وأم الأمهات، الكائن الإلهي الذي بدأ
يكون في البداية وكان موجودًا في قلب النوءو
Nouou، نجمت من ذاتها،
عندما كانت الأرض لا تزال في الظلمات، ولم يكن نبات نما …
هي نوَّرت نظرة عينيها فكان النور. عندئذٍ قالت: «ليصبح
هذا المكان الذي أنا فيه تربة من أجلي في قلب النوءو حتى
أستطيع أن أقيم فيها» … طارت مثل الجعران صاعدة فوق هذا التل.»
٤٦
تظهر القرابة بين النصين في قرينة أساسية. فالإشارة
في سفر التكوين إلى «المياه التي تحت» و«المياه التي فوق»
ليس لها من مرجع إلا الفكرة المصرية القائلة إن السماء
ذات طبيعة سائلة. وهي تحيلنا إلى التمييز المركب بين
النوءو
Nouou (الغمر
abysses) والحوحو
Houhou (الإغراق)،
المحيط النجومي الذي يكتنف الأرض من حيث هي كوكب كروي بعد
أن انحسر عنها وأخذت المياه تترقرق حول الأرض التي أصبحت
قارة مسطحة بعد بروزها. وهي تذكر كذلك بمعارضة بين سماء
فوقانية تحدد نصف الكرة النهاري، نصف الكرة الذي يخص
الأحياء (أَخ ت
akht)
وبين سماء تحتانية تتاخم نصف الكرة الليلي الذي يخص
الموتى (دوءوات
douât).
٤٧
تتفق الصيغتان في عدة نقاط. فنية الخروج للوجود تظهر
على هيئة إحاطة لحظية بالعالم بنظرة واحدة «نوَّرت نظرة
عينيها وكان النور». ولقد شرح إيريك فوجيلين نفسه هذا
الموضوع في كتاب نهائي يقول فيه إنه «في أثناء الخبرة
المركبة» (التي ينسبها إلى مؤلفي التوراة ثم إلى الإغريق)
أصبح الواقع
la réalité
(منيرًا لحقيقته
sa
vérité). هكذا لا يعبر الوعي عن ذاته
من خلال نية الفاعل فحسب، بل من خلال نورانية
luminosité الشيء
أيضًا. النفخة الروح
soufflé الإلهية
(الفاعل، وهي أيضًا الروح
esprit، بالعبرية
rouach وبالعربية روح
rouh) عندما تنير
العالم الخاءوسي العقيم المعتم (الشيء) تعطيه شكله؛ ذلك
العالم الذي كان يقاومها «على الأقل بسلبيته».
٤٨ أما أن تكون النفخة (الروح) من خارج المحيط
الأولاني أو من داخله، فهذه مسألة ثانوية، وبخاصة لأن
صياغة متأخرة عن الخلق تتضمن أن الرب بتاح
Ptah وهو المعرفة
والكلمة يسبق الرب أتوم
Atoum وهو الصانع
«عندئذٍ أتت إلى الوجود صورة أتوم في قلب بتاح وعلى لسان بتاح.»
٤٩ ولن يمكننا بناءً على هذا السبب وحده أن نصف
الصياغة المصرية فلسفيًّا بأنها باطنية والصياغة
التوراتية بأنها متعالية. فالتعالي الوارد في الميثات عند
الشرقيين القدماء لم تغمطه التوراة التي كانت حتى ذلك
الحين أقوى مصدر مخترع. من الناحية العلمية هناك فرضية
كون من الغاز مكون من عناصر مشتقة وفي حالة تمدد بعد
انفجار أولاني، كونٍ يتحقق آليًّا على مر الزمن، فرضية
تقترحها كذلك الصياغة المصرية، وهي بالقدر نفسه أقرب إلى
التجربة الداخلية للكائن (القدوم إلى العالم خارج السائل
الرحمي بوعي بالواقع الخارجي اتخذ من قبل سمة حادة).
٥٠ ومن الممكن أن تتولد عن هذه الملاحظة حجج
تنتهي إلى القول بتغلغل أكبر في الطبيعة، وتنتهي بالتالي،
بحسب تعبير فوجيلين، إلى القول ﺑ (مدمجية
compacité) مصرية أكبر،
خلاصتها: أن مؤلفي التوراة يمكن أن يكونوا قطعوا صلتهم
بالتجربة الطبيعية بغية إبراز قيمة تجربة اجتماعية
بعينها، وابتعدوا عامدين عن حقيقة الشيء المفعول به
ليؤكدوا على نحو أفضل حقيقةَ الفاعل وحقَّه في مناقضة
الحقيقة المتاحة على نحو طبيعي (ﻓ «الحقيقة» هي المكون
الأول في ماعَت
ma’ât،
وهي القيمة العليا عند قدماء المصريين) الحقيقة التي
اعتبرت فوق كل جدال، وتوسلوا إلى ذلك معارضتها بتمييزٍ
اجتماعي بين الحقيقة والكذب (ومنه نشأت «العدالة» وهي
المكون الثاني لماعَت
ma’ât).
٥١
وثمة تباين آخر بين نص القصص التوراتية ونص القصص
المصرية يلفت انظر، وهو خبرة الزمن. هل اختلفت خبرة الزمن
ومروره وحدوده اختلافًا فعليًّا بين النصين النص التوراتي
والنص المصري؟ نجد في النصين أن الخالق أولٌ لا يسبقه شيء
(لأنه هو «بدأ يكونُ في البدء»). ولكن كيف نعرِّف البدء؟
هل نعرِّفه بأنه حدث لحظي (لقاء بين روح وواقع بالقوة
réalité virtuelle)؟ أم
نعرِّفه بأنه الولود في زمنية
chronologie تضم
الأحداث التالية؟ والرأي عند فوجيلين أن سرد الحدث هو
وحده الذي يخلق القصة؛ لأن السرد يضع الحدث في موضع على
محور زمني ينطلق مما بعد البداية ذاهبًا إلى ما بعد
النهاية من خلال حاضر القصَّاص. والتوراة تتضمن في آنٍ
واحد ما بعد البداية (الروح أصبحت خارج الماء) وما بعد
النهاية (مستقبلٌ مِلْكٌ للرب)، بينما قصص التكوين
المصرية تفهم المستقبل على أنه «ما سيأتي» طبقًا لنموذج
نماءٍ تكويني لكود أصلي. القصَّاص في التوراة يعرف أنه في
الوسط، أو بمعنى أدق يعرف أنه في ذلك الوسط بين بداية
القصة ونهايتها الذي يتصوره بحسب تفسيره الخاص، حيث إن كل
كاتب، في كل عصر وفي كل مجتمع، يمكن أن يكون له تفسيره
الخاص. وهو يعرف أن قصته الخاصة التي تُعرض على أنها قصة
العالم تنطلق من وسط التتابع الزمني لا من أوله.
والقصَّاص في بحثه عن الحقيقة (على الأقل حقيقته) يفترض
سبق الوجود الإلهي، سبقًا يجعل للزمن معنى،
٥٢ وعلى الرغم من قوة هذا الاستنتاج فإنه لا
يتضمن اختلافًا حاسمًا بين القصة المصرية والقصة
التوراتية؛ لأن المقصد الإلهي في كل منهما يمثل محرك
التاريخ.
وسعيًا منه إلى دعم حجج كتابه بمجلداته الأربعة
بتفسير نهائي، أضفى إيريك بوجيلين على الصيغة المصرية
البعد الروحاني الذي ظن من قبل أنها تفتقر إليه. والرأي
عنده أن الصيغة العبرانية لا تعدم أن تخفي في طياتها
تعاليم فيها قدر أكبر من السياسة، وهو ما يمكن أن نسأل عن
مدى أصالته.
(٤) كونٌ شمولي؟
يرى فوجيلين أن تمييز نظام «مدمج»
compact يتم بواسطة
القصة (كما فعل العبرانيون) أو بواسطة الفلسفة (كما اختار
الإغريق). والعبرانيون والإغريق يبحثون عن الحقيقة، أو عن
الحقيقة كما يتصورونها؛ فالبحث عن الحقيقة ليس مسألة
مذهب. والحقيقة لا تستنبط من بضع بديهيات غير ملموسة،
وإلا لبقي العالم مدمجًا
compact. لا بد من أن
تكون الحقيقة «مشاركة»، لا بد من أن تنبثق من الخبرة
السياسية لأولئك الذين يسعون إليها.
٥٣ وفي التضاد بين من هو بشري وما هو إلهي يبدو
أن الإنسانية اختارت النظام السياسي على نحو مفتعل وأن
الرب لم يفرضه فرضًا — على عكس ما يظن فوجيلين أنه قرأه
في اللاهوتات الشرقية.
(٤-١) من النظام الكوني إلى النظام السياسي
ولاهوت ممفيس القائل بالكلمة الخالقة، وهو يعبِّر
عن شكل من التمييز الوليد لدى المفكرين المصريين، لا
يبشر بإنجيل يوحنا لأن العالم الذي يخلقه بتاح
Ptah لن يكون قائمًا
على المساواة بل على لدرجات: فهو عالَمٌ عَمَره إلهٌ
كبيرٌ بآلهةٍ صغار، عالَمٌ يتحلق حول شعب النيل (شعبًا
مختارًا؟) وتقسيماته الإقليمية (عن بتاح قيل: «عظيمة هي
قوته، أعظم من كل الأرباب … هو الذي ولد الأرباب. وهو
الذي أقام المدن. وهو الذي أسس الأقاليم»)،
٥٤ عالَمٌ يدبره مظهرٌ أرضي للألوهية، هو
فرعون، يدور حول بلدٍ قاهر، هو مصر «مرآة الكون»
(العالم مصغرًا)،
٥٥ وعاصمته ممفيس، مدينة الرب الأعلى. والرأي
عند فوجيلين
E.
Voegelin أن لاهوت ممفيس ينطبع بطابع
عقائدية تصويبية
idéologie de
restauration وُلدت مع الدولة الوسطى
بعد أحداث الفترة الوسيطية، وهذه العقائدية عبارة عن
مذهبٍ يؤكِّد هيمنة العاصمة الجديدة (ممفيس) على
العاصمة القديمة (هليوبوليس) والعاصمة القادمة (طيبة).
وفي هذه الفرضية نجد أن النص الذي كتب في عصر آخر
متضمنًا تنويهًا بالثالوث المشار إليه سلفًا (ثالوث
آمون ورع وبتاح) لا يمكن إلا أن يكون صيغة مجازية
موضوعها التحالف الثلاثي بين العواصم الكهنوتية المصرية
الثلاث (ممفيس، وهليوبوليس، وطيبة).
٥٦
وهكذا نجد أن «اللاهوتات» المختلفة تعكس الصراعات
التاريخية. ولقد أتاحت الخبرات السياسية الشخصية
لمؤلفيها على الأرجح إمكانية ابتكارها. ولا ينكر إيريك
فوجيلين أنها تشهد على تمييز في داخل كون الأصول
المدموج، ولكنه يظن أن هذا التمييز تحدده قوة العقائدية
الفرعونية الموحِّدة للشمال والجنوب، والآخذة
بالمركزية، والمتشبثة بالهيمنة، والتي كانت دائمًا تأخذ
بالتصويب بعد فترات القلاقل السياسية. ومع ذلك فقد جرت
العملية على شكل لولبي بدفعات لمقرطة النظام الكوني
أوشكت على أن تغير طبيعته وتجعله نظامًا يتسم حقًّا
بالتمايز. وهناك أثران خلفتهما دفعات الذروة تستحقان
الانتباه، هما:
يرجع النص الأول إلى منعطف الألفية الثانية، ويؤكد
أن الرب «خلق كل إنسان على صورة شبيهِه.» فالناس هكذا
متساوون أمامه لأنهم متساوون أمام الموت (على قلوبهم أن
تكف عن نسيان الغرب)، متساوون من بلد إلى آخر (لأنهم
يتنسمون الرياح الأربع نفسها)، متساوون من طبقة
اجتماعية إلى طبقة أخرى (للفقير حقوق العظيم)، متساوون
من خُلُق إلى خلق آخر (يمكنهم جميعًا أن يفعلوا الشر
وأن يتمردوا على خالقهم).
٥٧
أما النص الثاني فيعتبره بوجيلين خطوة كبيرة نحو
نزعة توحيد
monothéisme
تقوم على المساواة. هي نزعة توحيد لأن أتون «هو الرب
الواحد الذي لا يوجد بجانبه إله آخر إطلاقًا.» وهي
قائمة على المساواة لأن المؤمنين يمكنهم جميعًا «أن
يشاركوا في دورة الجوهر الإلهي» (كل عين تراك أمامها)،
(الأسماك في النهر تقفز نحو وجهك، وأشعتك تبلغ أعمق
أعماق البحر.) صحيح أن هناك من الأبيات غير هذه ما يعبر
عن رؤية «رجعية إلى حد كبير» (والكلمة لفوجيلين)
للعلاقة بين البشر والرب، وهي علاقة لا يمكن أن تتحقق
«إلا بشيء واحد هو الخضوع لفرعون»
٥٨ (أنت في قلبي وليس هناك آخر يعرفك). ويصل
التوتر بين تشخيص
personnalisation
الدِّين وبين تصويب نظام نبوئي
prophétique إلى أقصى
مدى، لأن المصريين ليسوا وحدهم المعنيين بهذا الأمر.
فالأجانب، ربما لأول مرة في تاريخ مصر، أحرارٌ في
ممارسة الشعائر، وذلك تقدم جدير بالاعتبار في عالم
انطبع بطابع علاقة خاصة بين كل شعب من الشعوب وإلهه
الخاص به.
«أنت أنشأت الأرض برغبتك — عندما كنت وحيدًا —
وكذلك (أنشأت) البشر جميعًا … وكلَّ ما يمشي على رجليه
فوق الأرض، وكلَّ ما يصعد طائرًا بجناحيه، وبلاد سوريا
وبلاد كوش Koush ومصر …
ألسنة الناس مختلفة … ألوانهم مختلفة، لأنك ميَّزت
الأجانب.»
«أنت خلقت النيل في العالم تحت الأرضي في الماوراء
وأنت تأتي به كما ترغب لكي تعيِّش أهل مصر … وأَبعَد
البلاد الأجنبية أنت أيضًا تعيِّشها، فأنت تمنحها نيلًا
يتنزل فوقهم من السماء.»
٥٩
فالبشر، أيًّا كانت أعراقهم وألسنتهم وعاداتهم
ينالون نفس الاهتمام ونفس الرحمة. تحررت مصر في القرن
الرابع عشر قبل الميلاد مع إخناتون من رؤيا ثنائية
للدنيا تقيم تعارضًا بين الشمال والجنوب، المنبع
والمصب، الوادي والصحاري أو الجبال المحيطة بالوادي.
وإذا فرضنا أن الرؤيا الثنائية المتمثلة في مصر العليا
ومصر السفلى كانت في وقت ما انعكاسًا لمفهوم عتيق
أرخائي متمحور حول الأصول العرقية للمكان، فقد تم
تجاوزها على هذا النحو منذ الدولة الحديثة.
(٥) من العشائرية إلى اليوسفية
في أثناء هذه الفترة، استنادًا إلى سِفر الخروج، وقعت
الأحداث التأسيسية التي يوردها تاريخ الشعب اليهودي.
وكانت قصة التوراة هدف العديد من التفسيرات، من بينها
تفسير يستحق اهتمامًا جادًّا. ونعني به: الخروج من مصر
La sortie d’Égypte
لرافائيل درائي
Raphaël
Draï، وهذه الدراسة جرى بها قلم عالم
متخصص في السياسة. يتبين رافائيل درائي ثلاثة أحوال
متتالية للعلاقات بين المصريين والعبرانيين، ويضع في موضع
التعارض (١) فرعون الاستقبال (٢) فرعون الملاحقة (٣)
فرعون الخروج، ويجسد الفرعونان الأخيران المنظومة المصرية
في حالتها الاسترجاعية
état
régressif وهو ما يفترض بكل الصدق وجود
حالة سابقة أقل ذاتية في الحكم وأقل نقوصية
autistique.
٦٠ وعلى الرغم من أن رفائيل درائي لم يقصد كتابة
تاريخ هذه الفصول الأليمة، بل قصد فقط أن يفسر المعنى كما
مثل أمام أعين مؤلفي التوراة، فإن كتابه يسمح باستعادة
صورة الشكل السياسي الذي نسبه قصاصو سفر الخروج بالتوراة
إلى الدولة الحديثة في مصر آنذاك. ولقد فرض هذا الشكل
السياسي نفسه على قراءة التوراة وأصبح مألوفًا لديهم حتى
أصبح من الممكن اليوم بحسن نية الخلط بين بناء فكري يتعمد
التمحور العرقي
ethnocentrique وبين
الواقع التاريخي لعصر مضطرب.
مصر في النص التوراتي مكان مقفل يُعتبر فيه المصريون
والنازحون بمثابة أشياء سلبية يملكها الملِكُ المؤلَّه.
هؤلاء الناس بما هم أشياء سلبية ليس لهم تاريخ؛ لأن الزمن
يلوح لهم دوريًّا طبقًا للتوالي الأبدي، توالي الفصول
والفيضان، وتتابع الليل والنهار تتابعًا لا خطأ فيه. وفي
هذا السياق لا يستطيع أحد أن يضع خطة لمستقبل، فذلك شيء
يخشاه الناس لأن أي مستقبل يختلف عن الحاضر يعني قطع دورة
الشمس ودورة النهر، في حين أن المستقبل كله متضمن في ماضي
الخَلق. والذاكرة في هذه الحالة متضمنة، والسبب في ذلك في
رأي رافائيل درائي: «أن الفرعون الذي شرع في القتل العرقي
للعبرانيين ينخرط في سلك أولئك الذين يلغون الماضي،
ماضيهم وماضي مصر … وهذا الفرعون، شأنه شأن غالبية
الفراعنة الحكام الكونيين على مصر النازعة نزعة الحكم
المطلق، يحدد بداية تاريخ ميلاد البلد بيوم اعتلائه
العرش. وفي ذلك إلغاء منه لكل ما سبق. وهو يأمر بآثار
سابقيه أن تدقها المعاول وتمحوها، كما ستدق المعاول آثار
سقطاته وهزائمه وتمحوها. وذلك وأدٌ للذاكرة.»
٦١
ومع ذلك لم يجهل المصريون الماضي. ومفاهيمهم
الأنسابية
généalogiques
عن التاريخ يمكن قراءتها على لوحات النذور التي كان أقارب
الموتى بدافع التقوى يأمرون بها أن تُنحت، كما يمكن
قراءتها على التنويهات المرجعية التي نوه فيها الملوك
بأسلافهم القدامى العظام.
٦٢ ولم تكن هذه المفاهيم مختلطة بحكايات التأسيس
الميثي ذات الفائدة الناجعة في تبرير الخلافة على العرش
الملكي. وكانت فكرة «القِدَمِ»
antiquité معروفة
عندهم، وكانوا يقدرون الأشياء القديمة التي مرت عليها بضع
مئات من السنين لقيمتها الجمالية.
٦٣
وترتكن فرضية اللازمنية
intemporalité المصرية
على دراسة سيكولوجية أكثر من اعتمادها على دراسة في إطار
علم الاجتماع. وكما يبين رافائيل درائي
Raphaël Draï في مجلد
جديد على نحو أكثر وضوحًا، خصصه لما أسماه «الإيصال
التنبُّؤي»، فهدف الدراسة عنده إذن هو الحالة الذهنية
état mental للمسئولين
في الدولة المصرية، ويرى أن هؤلاء المسئولين — في فترة جد
متقدمة من تاريخ بلادهم — لم تعد تحدوهم الرغبة في تغيير
أساسيات نظام الحكم القائم. وخلافًا ليوسف أو موسى لم يكن
فرعون ليقدر على الخروج من ذاته، وعلى مبارحة الحاضر، على
العكس من الجسورين الحقيقيين الذين يعرفون كيف يتخلون عن
الغزوات وعن الهيمنة (على نحو ما سيفعل الحجاج القدامى من
عشيرة إبراهيم أو المنفيين العبرانيين في
المستقبل).
وفرعون لا يتصور أن يأخذ الناس بتفسيرات أخرى للماضي
غير تفسيراته ولا أن يتخذوا مفاتح أخرى للمستقبل غير
مفاتحه. وعندما حادثه موسى وهارون، وقد أتيا يطلبان منه
أن يدع العبرانيين يخرجون من مصر، تفكه على ما اعتبره من
قبيل المبالغات المضحكة (قوس الرب نار، وذراعاه لهيب،
وسيفه شعلة، وسُحُبه تمثل درعه، والبرق سلاحه)، هكذا
تكلما عامدين إلى استخدام الرمزية المصرية، حتى بلغا
اللحظة التي نسبا فيها الخلق إلى يهوى. عندئذٍ رد عليهما
قائلًا: «لقد تكلمتما بالخطأ منذ البداية: أنا ملك الكون.
ولدت نفسي بنفسي، وخلقت النيل.» ففرعون لم يسمع شيئًا،
ولم يفهم شيئًا. ولما كان عاجزًا عن أن يخرج، ولو للحظة
واحدة، من دوره الذي خلطه بشخصه، فقد تصدى للإعلان عن إله
آخر بأسلوب الإطناب الطنان الرنان الفرعوني، ودائرة
المعتقدات والتعاليم التي تجعله منغلقًا على الفكر القائم
على السببية.
٦٤
والمجادلة بين موسى وفرعون، كما استعاد صياغتها
اجتهادًا مفسرو التوراة اليهود، يمكن أن تكون اغترفت من
مفاهيم متعارضة عن المكان والزمان، والهيمنة
والسلطة.
«لقد تبين أن العنف لا سبيل إلى اجتنابه لأن التعارض
قام بين منطقتين logiques
اجتماعيين متصلبين لا يلينان، ورؤيتين لا توفيق بينهما عن
حكومة البشر … وديناميتيْن متضادتين في تصور التدخل
الإلهي في التاريخ. إحداهما فرعونية منغلقة بلاغية أحادية
الخطاب … والثانية عبرانية (من كلمة عبرى التي تعني
العبور والتغيير).»
والحكم المطلق الفرعوني، كما يفسره رافائيل درائي ليس
علامة على ازدهار الفكر الديني المصري حيث إن حجج فرعون
المذكور في سفر الخروج (تبينه رجعيًّا بالقياس إلى لاهوت
مصر ذاته). وكان من الممكن دفع هذا التفسير إلى أبعد من
ذلك، إلى حيث يشدد على أن هذا التطرف نجم عن اللقاء
بالمصادفة بين عقائدية بنيت بهدف استبعاد الثقافات
السياسية المحلية أو الشعبية التي لم يقض عليها توحيد مصر
على مدى ألفية من السنين أو يزيد وبين منهاج حكومة لم يكن
البادئ به إلا يوسف ولا أحد غيره.
ونحن نذكر بالفعل أن يوسف حل مصر لأن إخوته قرروا
التخلص منه، وكان قد تجاسر فكشف لهم عن حلمه الذي رأى فيه
أنه، وهو أصغرهم، سيكون سيدهم. حَلَمَ يوسف بالعظمة،
وتحقق حُلْمُه. فلما أصبح وزيرًا انتقم من إخوته الكبار،
فاتهمهم بالتجسس عندما أتوا إلى عاصمة فرعون ليشتروا
الحَب، وزج بهم في السجن. ونصب لهم فخًّا حتى يعترفوا
بجرمهم القديم. وبهذا خرق يوسف قوانين الدم. فلما تصالح
مع إخوته، لم يجد حرجًا في أن يبيع لهم الطعام، وكان يعرف
بفضل مواهبه التنبؤية، التي مكنته من أن يصعد إلى هذه
الرتبة الرفيعة، أن الطعام سيشح وأنه سيقتطعه من قوت
المصريين الذين استضافوه وأكرموه. وهكذا خرق قوانين
الضيافة، احترامًا لإرادة الرب التي تعلو على قوانين
البشر، وبخاصة رغبةً منه في لقاء أبيه يعقوب، أو بعبارة
أخرى رغبةً منه في تأكيد هويته وتميزه عن المصريين
العاجزين عن التنبؤ. والتوراة تكثِّف في يوسف عدة أحوال
سياسية ممكنة. فهي تجعل منه الوسيط بين صحراء المجاعة
وواحة الوفرة، بين العشيرة والمملكة، بين القانون
القَبَلي والقانون الديني.
ولقد أظهر يوسف في فصول أخرى من سيرته همة فائقة
للمألوف أفاد منها فرعون التنكيل، فكانت شرًّا على
الشعبين المصري والعبراني. وتتميز هذه اليوسفية
joséphisme، كما يذكر
رفائيل درائي، (على المستوى التقني بالتخطيط حيث كان يوسف
هو الذي أدخل التخطيط على نحوٍ فعال. ويتطلب التخطيط
القدرة على التنبؤ، التنبؤ بمعنى المستقبل.
٦٥ ومن شأن التخطيط أن ينال من الحرية ومن
المسئولية، وهو لا يتكيف إلا على نحو سيئ مع المساواة
والمعاملة بالمثل وهما من الفضائل البدوية، وهما أيضًا من
الفضائل المصرية. ولقد سلك يوسف عندما قام بالتخطيط مسلك
الماكر ما في ذلك مراء أو مناقضة. فلم يعدم أن مَهَّدَ
السبيل لنتيجتين نكراوين تولدتا عن موهبته في التخطيط
والابتكار: استعباد شعبه فيما بعد من ناحية ونزع ملكية
الشعب المصري من ناحية ثانية. أما جلب بدو رُحَّل متمسكين
أشرس التمسك بتقاليدهم البدوية إلى بلد كان التوطين فيه
هو القاعدة، فكان أمرًا لا يتوقع له أن يؤدي إلى اندماج.
وأما استغلال الظروف المناخية السيئة التي أجاد التنبؤ
بها لما أوتي من موهبة الوسيط الروحي لتخزين المؤن
والبذور وبيعها بسعر الذهب عندما يحيق الجفاف والقحط، ثم
القيام، عندما تطول المجاعة طولًا كأنه الأبد، بشراء
أراضي الفلاحين المديونين الذين لم يعد لديهم ما يقدمونه
إلا الأرض التي يملكونها، فكان يعني نزع ملكيتهم لصالح
الملِك. وخلاصة القول إن فراعنة الدولة الحديثة استمدوا
قوتهم من هذا المهاجر اليهودي، وكانت قوة كاملة شاملة
تهيمن على البشر، وملكية كاملة شاملة للأرض.
وكان موسى وهارون قد افترضا أن الخالق الذي قال إنه
يدرك العالم إدراكًا شاملًا، لا يمكن إلا أن يكون
شموليًّا. وتبين قصة يوسف أن الفكر الذي يحيط بالكون
إحاطة شاملة لم يصبح حكمًا شاملًا للكون عن طريق جهد محلي
قوامه التفكير الروحاني، وإنما تحقق هذا بعمل سياسي كان
الوزير العبراني أول الآخذين به. وهكذا فإن الشمولية ليست
من صميم تاريخ المصريين الوطني، وإنما جاءتهم الشمولية من
لقائهم مع الأجنبي، مع الآخر. وأسفار التوراة الخمسة تضفي
في المقابل على الغريم السمات التي تتيح له التمايز بناءً
عليها عندما يرشد الشعب الموحِّد إلى طريق الحرية. وهذه
الحرية لن تترسخ إلا في التحرر من عبودية سابقة، وهذا درس
استقاه الكُتَّاب الرافدينيون من قبل من تاريخهم عندما
حددوا معالم النظام السياسي المثالي عن طريق وصف النظام
السياسي لآلهتهم.