(١) المداولات المقدسة
ولما كان الجهد الفكري يعتبر أكثر مكافأة من العمل
اليدوي فربما جاز لنا أن نتصور أن هذا الفرق يكفي وحده
سببًا يثير في نفس العمال اليدويين الرغبة في اللحاق بركب
محترفي السياسة. إلا أن هذا السبب لم يكن حافزهم الوحيد.
فقد كان المشهد الأولاني الذي يتقرر فيه مولد الإنسان،
والحق يقال، أقرب شيء إلى وليمةٍ يدلف المشاركون فيها
عندما تنتهي إلى «قاعة الأقدار» بغية «مناقشة برنامج
العام القادم وتقدير الأقدار للجميع». وكانت هذه الأقدار
المقدرة تسجل على «لوحة الأقدار، بين يدي العاهل».
٦ ولقد وصفت الأطعمة التي كانت تحفل بها
الوليمة بعناية كأنما كانت من المناسك الدينية، ولهذا
فإننا لا نجد حرجًا في أن نفهم أن هذه المظاهر المعبرة عن
البذخ كان من شأنها فيما مضى من الزمان أن تثير طمع
المحرومين منها أشد الإثارة. ولنذكر على سبيل المثال حفل
الاستقبال الذي أقيم للربة إنانَّه
Inanna (المسماة عشتار
Ishtar في الأكادية)
فوق «الجبل المقدس حيث يؤكل الطعام الخاص»، في «قاعة الولائم»،
٧ وتخيله كاتب عاش «في الثلث الأول من الألفية
الثانية ق.م. …»:
٨
«تمتعَت بفطائر بالزبد معجونة
وصبوا من أجلها الماء القراح، متعة القلب!
…
على المائدة المقدسة، المائدة السماوية،
إنكي Enki مع
إنانَّه Inanna جنبًا
إلى جنب
صبوا البيرة، صبوا النبيذ
فامتلأت كئوسهم حتى فاضت
وقارعوا الكئوس منافسين من بالسماء
والأرض.»
ثم حان بعد ذلك وقت الكلمات، تبعتها
القرارات التي جعلها السُّكْرُ البيِّن إجماعيةً.
«في جمعيتهم العمومية
تلاقوا وحدهم سرًّا
واتخذوا أماكنهم إلى الوليمة؛
فازدردوا خبزهم وعبُّوا بيرتهم:
ومن الشراب الحلو المُسْكِر
ملئوا أوانيهم ليرتووا.
فلما ارتشفوا الشراب المُسْكِر
أحسوا أبدانهم لانت وارتخت
دون أدنى هَم أو غم.
وهكذا قدروا قدَر ماردوك
Marduk».
٩
(٢) العمل البرلماني
هذا الإجماع الظاهري يخفي من ورائه مناورات سياسية
مدبرة في ظلمة الخفاء. في النصين اللذين تمثلنا بهما
تستغل إنانَّه
Inanna جو
النشوة في الاستيلاء بالخبث على أدوات السلطة من إنكي،
١٠ وينتزع ماردوك من أنداده توكيلًا عامًّا
شاملًا. وسيكون التصرف الذي ينم عن حنكة سياسية شيئًا
ضروريًّا لا محيص عنه مع اتساع المجلس السماوي. فنجد
الشاب الطموح ماردوك
Marduk، قبل أن يحقق
غاياته الخفية، يحصل من رئيسه، دون أن يبدو عليه أنه
يتآمر عليه، على تكليف بمهمة رئيسية لم يطمح إليها أحد من
الآلهة الأخرى، وإنْ جاء طلبها بإجماع عبروا عنه بالتهليل والهتاف.
١١
ويلعب رئيس المجلس الدور المنظِّم الذي توليه إياه
الأنظمة البرلمانية. والرئيس هو عادةً أقدم الآلهة،
والآلهة تخصه بالاحترام أعظم الاحترام، دون أن تعتبره
سيدًا عليها. نقرأ عن إنليل
Enlil أنه:
«ظل مشلولًا
قديس القديسين وقد تجرد من جلالته!
عندئذٍ أقبلت الآلهة من كل صوب وحدب
من أجل أن تتخذ قرارًا.
وفتح أنو Anu،
رئيسهم، فاه
وأخذ الكلمة
وخاطب الآلهةَ، أولادَه.»
١٢
وتقع الرئاسة أحيانًا على كاهل من يشبه
أن يكون الإله الوزير، مثل نوسكا
Nuska (رئيس المجلس)،
(مهندس) القصر السماوي، وما أشبهه بالوزير المصري إمحوتب
وهو أكثرهم شهرةً.
١٣ وفي أغلب الأحوال يتشكل حول أنو
Anu، الأب الإلهي
للأنوناكي (وما الأنوناكي
Anunnaki إلا أقدم أو
أهم الآلهة، أشبه شيء بالشيوخ) ثالوث يلعب فيه كل واحد
دوره: دور الرئاسة (يتولاه أنو
Anu مَلك السماوات)،
ودور الدفاع عن سياسة الحكومة (يتولاه إنليل
Enlil مَلك الأرض) ودور
عرض الإصلاحات (يتولاه إنكي
Enki مَلك المياه).
وهذه الشخصيات البارزة تمتاز عن عامة الآلهة ولكنها لا
تمتلك وسائل القبض على السلطة في نظام يمكن أن نصفه بأنه
مَلَكية دستورية. فالثلاثة من أصحاب السمو الملكي. أولهم
هو أكثر الملوك طيبةً (شارُّو
sharru)، وثانيهم أعظم
المستشارين (مالِكو
mâliku)، وثالثهم أمير
المخترعين (ناؤكو
naûku).
١٤ والمجلس يعمل أيضًا عمل المحكمة، ويمكن أن
نتبين نمط كل عضو من الأعضاء: فعلى رأس المحكمة رئيس
متسامح يتلمس الظروف المخفِّفة (ذلك هو أنو)، وممثل
الادعاء القاسي العتيد الذي يصطنع من أساليب التأثير ما
يروع المحلَّفين (ذلك هو إنليل)، وثالثهم هو المحامي
البارع الذي يتولى الدفاع ولا تعوزه الحجج أبدًا (ذلك هو
إنكي
Enki). وينهض
الثلاثة بعبء ثقيل. والقرارات الفردية كثيرة، وهي تمس كل
الآلهة حتى أرفعها قدرًا: ونحن نعرف أن الإله إنليل نُفي
بتهمة الاغتصاب، ونذكر في هذا المقام محنة الربة عشتار
Ishtar التي أعيدت إلى
الجحيم الذي رجعت منه لتوِّها بعد أن زارته متنكرة بدافع
الفضول، فعوقبت على فضولها.
١٥
ويعود الكلف بالمحكمة وقاعتها إلى بدايات الزمن،
عندما كان للمنتخَبين في الاقتراع الأولاني وحدهم — وهم
«الأنوناكي
Anunnaki،
القضاة السبعة» —
١٦ صلاحيات قضائية. فلما تمت عملية ضم آلهة جدد
مع تحرير الآلهة العبيد أصبح المحلَّفون ستمائة —
ثلاثمائة أنوناكي (اعتبروا منذ ذلك الحين جهنميين) ومثلهم
إيجيجي
Igigi (سماويين).
١٧ وهنا خيم النسيان على الأصول الدنيا لأصحاب
المقاعد الخلفية
backbenchers (كما
يسمون في مجلس العموم البريطاني النواب الذين تنتخبهم
القاعدة). وفي هذه الأثناء أدت ألوان من النجاح الفردي
الجميلة إلى تقوية المجلس، فهذا نجاح نينورتا
Ninurta ونجاح ماردوك،
وهما فارسان شابَّان مغواران جسوران قبِلهما الكبار
تقديرًا لانتصاراتهما) سيكون لك مكانك المسوَّم في كل مقدساتنا؛
١٨ ونجاح سود
Sud التي أصبحت نينليل
Ninlil بعد زواجها (هذه
نبيلة بلا فخار أصبح لها اسم عظيم؛)
١٩ أو نجاح عشتار
Ishtar التي طالبت
بقدَرٍ مجيد ووُفِّقَت في طلبها أي توفيق حتى إنها حصلت
على عدة وزارات:
«إنانَّه المقدسة، المرأة الشابة،
التي لم يكن لها من قبل منصب قط،
… راحت تشكو، وتزرف الدموع السخان، وترغي
وتزبد
لماذا عوملتُ، أنا المرأة، معاملة مختلفة،
ولكي يكون اجتماع الآلهة قانونيًّا، كان من الضروري أن
يحمل إليهم رُسُلٌ دعوة صريحة العبارة إلى جلسة عادية (من
أجل برمجة الأقدار) أو جلسة غير عادية (حسب ضرورات أحداث
الساعة: تهديدات الحرب أو القلاقل المدنية). وجاء في
قصيدة الخلْق السومرية أن الجلسة لا تنعقد إلا بسبعة على
الأقل، وأن الجلسات كانت تطول وتطول
٢١ مرة بعد مرة. والحقيقة أن الخلافات بين
الآلهة كانت كثيرة الحدوث، بل كانت ضرورة لاتخاذ القرار:
ولا بد من أن تكون المناقشات تناقضية حتى لا تصبح عديمة القيمة.
٢٢ كان كل واحد يطلب الكلمة من الرئيس ثم ينهض
عندما يأتي دوره ليوجه الحديث بحريةٍ دونها كل حرية في
العالم إلى أنداده. (نهض إنليل: وفتحت المناقشة؛ نهضت
نينتو
Nintu وشكت أمام
الجميع). والخطباء المفوهون يفتنون جمهورهم ويخلبون لبه.
وفصاحتهم تلقي التقدير كل التقدير حتى إن جمهورهم يهب
واقفًا وهو يصفق لهم.
٢٣ وهكذا سبق تراث المنازلة الأدبية السومري ثم
السامي المنازلات الشعرية في العالم العربي. فإذا أسَرَت
المؤثرات البلاغية المجلس، وتملكته في النهاية حجةٌ
نهائية، كان البعض فيما بعد يأسفون خارج الجلسة على ما
جرى:
«ولكني أنا، في مجلس الآلهة،
كيف كان يمكنني
أن أتخذ معهم مثل هذا القرار النهائي؟
لقد جعل إنليل بخطبته … البارعة …
بين خطبة إنليل
Enlil، رئيس الوزراء
آنذاك، وقد اغتاظ من التشكيك الخبيث الذي دسه موظفوه،
وبين خطبة إنكي Enki
(اسمه إيا Ea بالأكادي)
الذي يمكن اعتباره معارضه «اليساري»، ما كنا، نحن البشر،
حتى من ينتمون منا إلى «اليمين»، لنتردد بحال من
الأحوال:
رئيس الحكومة:
«عندما سمع إنليل لغطهم
توجه بالحديث إلى الآلهة الكبار:
«لقد اشتد لغط الناس فزاد عن الحد:
فما عدت أستطيع في هذا الصخب أن أنام!
ألا فلتأمروا بأن يصيبهم الوباء» …»
رئيس المعارضة:
فلما فتح إيا Ea
فمه
وجه الكلام إلى الآلهة، إخوته:
«ما بالنا نُجرِّمهم؟
لقد كان عملهم شاقًّا، وكدحهم بلا نهاية!
وكل يوم
كان دعاؤهم شيئًا رهيبًا!»
٢٥
وها هم أصحاب الأصوات العالية في
المجلس يتصرفون كما اعتاد أصحاب الأصوات العالية في
أيامنا هذه أن يتصرفوا: إنهم يعبرون عن تواطؤهم (أما أنا
فلم أكف عن الغمز تنبيهًا لك! ولكنك تصنعت أنك لا تفهم
غمزي: وبقيت تحدق في الأرض!)؛ وهم يتثاءبون من السأم أو
يفتعلون الاستهزاء (فلما سئم من البقاء في ركنه بينما
اجتماع مجلس الآلهة على أشده، تملكه الضحك).
٢٦ والواقع أن المناقشات العامة كانت في أغلب
الأحيان تنتقص من احترام كرامة رجل الدولة. فلما انقض
الآلهة في نَهَمٍ عارم على المائدة الأولى التي أعدها أول
الناجين من الطوفان، صاحت الربة نينتو
Nintu ساخرة:
«من أين يأتينا أنو
Anu،
رئيسنا،
وإنليل Enlil؟
لقد شارك إذن في الوليمة،
وهو الذي قرر الطوفان عن غير تدبر
وقضى على البشر بهذه المذبحة الرهيبة
بينما أنتم أيضًا قد أخذتم معه
مثل هذا القرار النهائي؟»
٢٧
وكانت المعارضة مسموحًا بها طالما ظلت
لفظية. يشهد على ذلك مثلًا أن المستشارين السياسيين نالوا
من التقدير على آرائهم المنشقة أكثر مما نالوه على التملق
(«لا بد من أن نكلمك يا إيرَّا
Erra الجسور حتى لو
آلمك كلامنا» هكذا خاطب رفاق المصادفة مَلِكَ جهنم.
٢٨ كذلك لم يكن سادتهم يلوكون ألفاظهم بل
يجاهرون بالمعارضة («إنني أعترض على إبادة البشر»)
٢٩ هكذا صاح إيا
Ea شبيه بروميثيوس).
وهم يأسفون لاستبعاد حلول أقل صرامة (بدلًا من الطوفان
كان الأفضل تقرير وباء يصيب البشر هنا وهناك!)
٣٠ ووصل إلى حد رفض الإحساس بالالتزام بمناقشة
جرت (نعم، لقد فعلت هذا ضد إرادتكم جميعًا!)
٣١ أو إلى حد التصريح علنًا بالرفض دون خوف من
أن يؤدي هذا إلى بدء سلسلة تقاليد هروب طويلة (لا! أنا لم
أكشف السر الذي أقسم عليه كبار الآلهة: كل ما في الأمر
أنني أتحت لحكيمٍ عظيمٍ أن يرى حلمًا، وهكذا عرف هذا السر!).
٣٢
وقد يحدث أن يلعب أحد الآلهة دور الحكم بين الأطروحات
المتضادة: فيبدل الديماجوجية بفلسفة رشيدة يجري التعبير
عنها بأحكام قائمة على أسس منطقية سعيًا منه إلى تبرير
شهرة يحققها باعتباره «المحافظ على مجلس الآلهة» أو
«المدعم لما بين الآلهة من رباط متبادل».
٣٣ هكذا اقترح الرئيس اللجوء إلى الوساطة في
مواجهة الآلهة الكادحين الذين حاصروا المجلس السماوي
مطالبين بأن يدخلوه هم أيضًا:
«عندئذٍ فتح أنو
Anu فمه
وخاطب إنليل
Enlil
الجسور:
للتحري عن السبب الذي من أجله قام الإيجيجو
Igigu٣٤
بمحاصرة بابك،
مُر نوسكا Nuska
بالخروج إليهم:
كلفه بهذه المهمة
يؤديها بين أولادك!»
ولم ينجح الوسيط في مهمته تلك. وحزن
الذي كلفه بها حزنًا شديدًا (وانهمرت الدموع من عينيه!)
فلم يفلح في الحد من صلف المضربين:
«مولاي، لقد أرسلتني …
فذهبتُ …
وكررت كلماتك كلمة كلمة!
وهذه هي إجابتهم التي ردوا بها عليَّ:
«نحن جميعًا … بكامل عددنا
وعندما أراد الوزير الأول أن يبيد
البشر الذين كان قد قَبِلَ خلْقهم في هذه الأثناء، فإن
أولئك الذين كانوا قد اقترحوا عليه خلقهم لم يتقاعسوا عن
لومه على مجافاته المنطق؛ فالبشر قد خُلقوا من أجل أن
يخفقوا عن الآلهة المضربين أعباء السخرة، ولهذا فمن
السفاهة القضاء عليهم. وخير من ذلك الإبقاء على قوتهم
العاملة دون تمكينهم من أن يجدوا المقومات المادية التي
تكفي ليتمردوا بدورهم. وهذا هو الإله إيا
Ea والربة مامِّي
Mammi «ومع ذلك فقد
سمعت أنا شخصيًّا صيحة البشر طلبًا للنجدة»
٣٦ يقومان متضافرين باسم مخلوقاتهما بالضغط على
أندادهما اتقاءً للأسوأ. ولسوف يصلان إلى حل وسط: فينجو
الرجال والنساء ولكنهم سيصبحون فانين، وسيصابون أحيانًا
بالعجز والعقم، وفي أحيان كثيرة بالمرض والجوع. ويسير
النقاش هكذا قُدُمًا على نحو مناسب تمامًا حيث ينسى كل
واحد اعتداده بذاته — وهو اعتداد كان الآلهة الرافديون
كَلِفون به — ويقدم هؤلاء وأولئك تنازلات بغية الوصول إلى
اتفاق. واستعداد أعضاء المجلس للحل الوسط هو بالضبط ما
يميزهم عن السواد الذي بلغ بهم العوز مبلغًا مفرطًا يحول
بينهم وبين أن يتيحوا لأنفسهم ترف التفاوض.
واحترام
القواعد الإجرائية الصارمة تفسره ضرورة إنهاء المداولات
بإرضاء جزئي لكل من شارك فيها بخطاب بليغ. والمشارك بحكم
انضمامه إلى القضية العامة التي أسهم في صناعتها انضمامًا
يشهد عليه وقوفه طالبًا الكلمة، يجد نتيجة لهذا مزيدًا من
الأسباب التي تغريه بالاعتراف بذلك علنًا بأن يثني ركبتيه راكعًا،
٣٧ وكانت تلك الحركة علامة ظاهرة على الاقتراع
بالموافقة مثل التصويت المعروف في أيامنا هذه بالذهاب إلى
المنصة. وحركة الركوع تضاف إلى الحركتين الأخريين اللتين
تمثلان إمكانيتين متاحتين لعضو المجلس للتعبير عن موقفه:
الوقوف للتدخل في المناقشة أو الجلوس
٣٨ وهي علامة سلبية على المشاركة أغلب الظن أنها
كانت أصلًا قاصرةً على الوليمة التي تسبق المداولات
المقدسة.
(٣) ممارسة الحكم
تعكس الإجراءات البرلمانية صورة النظام الداخلي
«للدولة السماوية» القائم على: تقسيم العمل بين رئيس (أو
قاضٍ أعلى) نُصِّبَ فوق السواد، وبين وزير أول (أو رئيس
نيابة) شديد الالتزام في المناقشة، وبين المعارضين
المناقضين له (وهم محامون أو محلَّفون كذلك). ومن حولهم
عديد من المستشارين يعملون بهمة ونشاط (من حسن حظ الملك
أن يكون له مستشارون، ومن سوء حظه ألا يكون له مستشارون …
ومن نحس الملك أن يكون له مستشارون يتخلى عنهم)،
٣٩ ومسجِّلون يسجلون القرارات ومحضرون يعملون
بدقة على نقل الرسائل، و«مديرون» — والمدير يناظر عندنا
الآن رئيس المكتب أو الديوان — يحملون عن رؤسائهم المشاغل
اليومية. أما الملك فيقدمونه لنا على هيئة الأب الإلهي،
عزيزًا، قليل الحظ من البلاغة، يكلف وكيله المفوض بإجراء
المناقشات «هو ذلك الذي ينفذ توجيهات أنو
Anu».
٤٠ وعلى الوكيل المفوض أن يقوم بمعركة ليفرض
نفسه، ليقنع أنداده بشرعيته بخطاب تنصيب حقيقي يلقيه.
وهذا هو خطاب إنكي
Enki
الذي يبدو أنه كان يساند إنليل
Enlil وقد ضاعت
شعبيته:
«أبي، ملك السماء والأرض
نصبني في الصف الأول من العالم!
أخي الأكبر، ملك البلاد كلها،
جمع في يدي كل السلطات …
فأنا سيد البلاد الأكبر
والى العالم
أنا التدبير والبراعة العليا،
مع «أن» An،
جنبًا إلى جنب، وعلى منصته
أنا من يقيم العدل
من أجل تقدير المقادير أنا من يجوب الأرض
مع نِدِّي إنليل
Enlil
هو الذي عهد بهذا التكليف إليَّ!»
ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن
الخطاب قوبل باستحسان، حيث إن:
«الأنونا Anunna،
وقد وقفت أمامه،
توسلت إليه ودعته قائلة:
«أيها السيد، يا من تقوم على الصنائع والفنون
كلها،
يا خبيرًا بالقرارات، ويا جديرًا بتصفيق
كثير،
المجد لك يا إنكي
Enki!»
٤١
وليس القول بأن برلمان الآلهة هو أصل
حكومة البشر، افتراضًا جزافيًّا بلا سند. فالميثات
الرافدينية الأولى إذ تخترع سلطةً للمناقشة والمداولة
والقضاء، تفترض استشرافًا ظهور سلطة تنفيذية ستنتهي
النصوص المتأخرة إلى إنشائها لمصلحة الإنسانية. ولا بد من
أن تحمل شخصية عظيمة إلى البشر خيرات النظام السياسي حتى
يلهجوا بالثناء عليه ثناءً مباشرًا بهذه الكلمات: «أنت يا
من تدبر أمر النظم والقرارات» (حيث إنك رئيس السلطة
التنفيذية)، «أنت يا من أسكنت الناس في بيوتهم» (حيث إنك
رئيس السلك الإداري)، «أنت يا من تجعلهم يتركون الأسلحة
في ديارهم» (حيث إنك احتكرت القهر الجسدي
المشروع).
وتناط برئيس الحكومة صلاحيات تتحدد بمزيد من الدقةِ.
أولًا: الاقتصاد والمالية: فهو يمسك حسابات البلد، وهو
يدبر احتياجات الآلهة والبشر، وهو الذي يحدد «السجل
العقاري». هو الذي «يجعل الرخاء ينساب من القصر كما ينساب
الزيت»، إنه «معلم الوفرة»، و«وكيل الآلهة كافة»، و«خازن
الأكوام الهائلة في الصوامع»، وهو الذي «أنشأ في خارج
البلاد وكالات التجارة». هو الذي يقوم بجولات لا تنقطع في
ربوع الريف، ويكثر من الرحلات إلى الإقليم على متن سفينته
الرسمية مقدمًا عن طيب خاطر وعود العون والمساعدة (واقترب
إنكي Enki الجليل من
البلاد لكي يعم الرخاء كل صوب وحدب على أثر زيارة الأمير
العظيم). فلما تهيأ للرحيل هرعت الآلهة إلى المعدية
واصطفت صفًّا لوداعه. وعندما عاد من حيث أتى استقبلته
الآلهة بالتهنئة على نجاحه في مهمته.
ولكي يمارس الحكم اتخذ حكومة تشكلت على النحو التالي:
٤٢
- الدفاع: إينانَّا
Inanna «الذي
يجهز للمعارك والحروب ويعلنها».
- العدل والداخلية: أوتو Utu
«القاضي الذي يصدر الأحكام قائمًا مقام الآلهة»،
و«المأمور على العالم»، و«الذي يستعرض قوته في
كبرياء».
- الميزانية: نيسابا
Nisaba أمين
البلاد، «ماسك حسابات أرزاق الآلهة»، «الذي يحدد
حدود البلاد الفاصلة، ويرسم علامات
الحدود».
- المخاطر الكبرى: إيشكور
Ishkur
«الممتطي صهوة العواصف»، «الذي يوصد السماء»،
«مفتش الكون».
- التوريدات والأشغال: موشدامَّا
Mushdamma
(بنَّاء إنليل الكبير).
- الصناعة: كوللا Kulla
(صاحب «قالب القرميد المتين»؛ «الذي يصفف بمهارة
القرميد الخارج من القوالب»).
- الزراعة: إنكيمدو
Enkimdu (رئيس
المصارف والترع والسدود الترابية). ويحيط به
أربعة وزراء دولة: أشنان
Ashnan (زراعة
الحبوب)، دوموزي
Dummuzi
(المراعي) شاكان
Shakan (تربية
الحيوان في المروج والجبال)، نانَّا
Nanna (صيد
البر وصيد البحر).
- النقل والري: إنليبولو
Enlibulu (مفتش
المجاري المائية).
- البحر: نانشه
Nansrhe (مأمور
البحر الفسيح كله، مسئول عن منتجات
البحر).
- الأسرة والأمومة: نينتو Nintu
(قابلة العالم).
- الثقافة: نينموج
Ninmug (حاصل
على المقص الذهبي والمطرقة الفضية)، (فنان الخشب
والمعادن).
- الشعائر: نينيسينَّا
Ninisinna (عبد
«أن» An).
ونسجل على الفور وجود «منطقة محجوزة» هي: الشئون
الخارجية. والوزير الأول هو الذي يمارس صلاحياتها
مباشرةً، ويأخذ بالدبلوماسية في تعامله مع الآلهة
المشاكسين، ويقيم الحدود بين العالم المتحضر (الذي تطبق
فيه القواعد الإلهية) والعالم الخام الذي يحيط به (الرمل،
البحر، الحجر).
٤٣ ومنح حقيبة الدفاع هو في حد ذاته عمل ينطوي
على الجد والاجتهاد. وهناك على الأقل ميثتان تشهدان على
أن إنكي
Enki أعطاها
صاغرًا للربة المشاكسة إنانَّا
Inanna، التي كان وصفها
بأنها «ابنته». وتبين صورة هذه الربة بالفعل أنه من الصعب
استبعادها من الحكومة، فأن تكون هذه المرأة الشابة
المندفعة إلى الحرب معه، أفضل من أن تكون عليه. ونفور
السومريين من خوض غمار الحرب لا يمكن ترميزه برمز أفضل من
الصورة التي تمثلوها عليها، صورة أمازونة
٤٤ مستفِزَّة ومخيبة للآمال.
ومن شأن الحرب بالفعل أن تضعف البشرية بالقدْر الذي
يحول بينها وبين الثورة. وليس هناك بديلٌ للحرب يمكنه أن
يخلخل صفوف البشر، وكأنها صيد البر الذي يُستحب لأنه يضمن
التوازنات الطبيعية. ولكن البشر أقاموا على خشية من الحرب
لم يقلل منها هذا التصور؛ لأن أولي الألباب من الكائنات
كانوا يسعون إلى هدف يتمثل في الوصول إلى حالة من الرخاء
ملائمة لتحقيق السعادة.
٤٥
وفي نص آخر نجد الوزير الأول وقد تمثلوه على هيئة
الإله الذي اغتصب السر السماوي بأن نقل إلى البشر المعارف
التي يحتاجون إليها لكي يبقوا أحياءً. فهو (خالق الشريعة
الصحيحة، اللجام الذي أوقف الأشرار، مستهلًّا بذلك النظام الصحيح).
٤٦ وهو يعرف كيف يروض انفعالاته ليحولها إلى
طاقة خلاقة، فقد وصفوه بأنه (يتوتر ولكنه يعود إلى صوابه،
ويستشيط غضبًا ولكنه يملك نفسه، وهو يأخذ نفسه بالحلم
ويقبض على زمام نفسه).
٤٧ وهو، مثله كمثل بروميثيوس
Promêtheus الإغريقي
وجاجوار
Jaguar
الهندومريكي، القائم على الفنون والصنائع. ويختلف عنهما
في أنه لم يكن بحاجة إلى أن يسرق الفنون والصنائع من
أنداده معرضًا نفسه لمعاناة رهيبة: فمحاسن السلوك في بلاد
الرافدين لم يسرقها البشر من الآلهة، بل نالوها بقرار
منها.
ورئيس الدولة
مستبدٌّ شرقيٌّ، لا يزيد في ذلك عن تابعه الوزير الأول،
ولكنه يتسم بجاذبية أكبر من تلك التي يتسم بها عامله.
و«التاج» الذي قُدم إلى الملك عند اعتلائه العرش ليس في
الحقيقة سوى عمامة تنبثق منها «سلطة» توحي بالرهبة. وتاج
الآلهة يشع نورًا وحرًّا،
٤٨ أما تاج الملوك فمن شأنه من الناحية المثالية
أن يزيغ البصر، وأن يدفع الدم إلى الخدود وأن يبلل الأيدي
بالعرق، لا أن يُثلج محدِّثي الملوك بنظرة لا يستطيعون
الفكاك منها. وهكذا نرى أن «السلطات» أكثر من مجرد
صلاحيات دستورية. وكلمة مي
me السومرية توحي بوجود
أسرار تحاط في عناية بالحفظ والصون، كما توحي بوجود
«ملَكات» يمكن استخدامها خيرًا أو شرًّا. هناك سبع
«ملَكات» جعلت إنانَّا من نفسها حارسة عليها، وحفظتها
لصيقة بنهدها، فأصبحت هكذا قادرة على أن تنطق بكلمات
مَلِك حقيقي.
٤٩ واﻟ «مي»
me
تسمح بالتكليف بوظائف، وبالهيمنة على جدول أعمال، وبتقييم
إجراء إداري. وهي تفترض وجود حنكة شخصية، وحس سياسي، وحدس
بالظروف المواتية التي تنتهي إليها بالحسم كل الصلاحيات
الحكومية. وهي ترتبط بأشياء مادية مثل «الصولجان المجيد
وعصا القيادة والبردة الشريفة»
٥٠ أكثر مما ترتبط «بعرش» وما كان العرش آنذاك
إلا كرسيًّا عاديًّا بلا ظهر وبلا مساند. والصور التي
تمثل الملوك الذين وُجدوا تاريخيًّا تظهرهم بالفعل، على
الأقل إلى العصر الآشوري المحدث، بلا أُبَّهة، غالبًا
حفاة، بعيدين كل البعد عن الصورة المنمطة «للملك الجالس
على كرسي وثير باذخ.»
٥١
واﻟ «مي»
me على
الأرض سلطات من أجل البشر وفوق البشر سواءً بسواء. ومن
الممكن لمن يأخذ وقته ويحترم الدورات الطبيعية، أن يستخدم
اﻟ «مي»
me باعتبارها
«قواعد» أو «مبادئ»
٥٢ من أجل أن يعطي كل واحد مكانه في هذا العالم،
وأن «يبني قراميد المدن، كل مدينة في مكانها المقدس»،
٥٣ وأن يسمي الكائنات والأشياء بأسمائها، بكل
التؤدة التي تليق بالحكماء. والملوك الطيبون، مثلهم كمثل
الشعوب الطيبة، قدماء قدم العالم. وهم على الرغم من قدمهم
العتيد، ذوو بأس شديد، حتى إن صفاءهم يغيظ شباب
الأبطال.
(٥) التمتع بالسلطة
إبان انتفاضة شعبية هبَّت نتيجة السخط أخرج السكرتير
العام عندما انتصف الليل هذا الوزير الأول نفسه في آخر
لحظة من سباته بينما كان يغط في نوم عميق، بليدًا لا يحس
بصيحات الثوار تحت نوافذ قصره:
«كان الوقت ليلًا، منتصف الليل،
عندما أحيط بالقصر في غفلة من الإله!
ولكن كالكال
Kalkal شعر بما
يجري، فأمر بإغلاق …
ثم أيقظ كالكال
Kalkal نوسكا
Nuska
بينما تناهى إلى السمع صخب الإيجيجو
Igigu
وأيقظ نوسكا
Nuska سيده
بأن انتزعه من الفراش انتزاعًا …
يا إنليل، قصرك محاصر!
والمعركة امتدت حتى بلغت بابك! …
وجهك قد اخضرَّ يا سيدي!
إنهم أولادك أنت، فماذا تخشى؟»
٥٩
هكذا أُخذت يقظة الإله من مكمن ضعفها
وكان أخذها وحشيًّا بالغ الوحشة، حتى إنه تقطعت به السبل.
ولسوف يشكو مرة أخرى، عندما يتقدم به العمر تقدمًا
مفرطًا، بعد مرور ألف ومائتي عام، من جلبة البشر، أولئك
الذين خُلقوا لكي يحلوا محل الآلهة الثانوية، ظنًّا أن
البشر أكثر منهم طاعةً. في صدى قصة التكوين السومرية أقام
النص البابلي «أن»
An
مقام إنليل
Enlil، وهذا
هو «أن»
An يتكدر صفوه
وسكينته نتيجة صخب الأولاد في أثناء لعبهم (لا أرتاح
نهارًا، ولا أنام ليلًا). ولن يلبث الأولاد أن يشكوا
أيضًا بعبارات مماثلة من الصخب المفرط الذي يحدثه أصغرهم
وهو ماردوك
Marduk «لم
نعد ننام»،
٦٠ وتنبَّه إيلينا كاسان
Éléna
Cassin بحق إلى أن المقصود هنا هو
العلم الكامل المحيط لدى الآلهة الكبار.
٦١ فإذا كفوا عن اليقظة، قضي عليهم بالصمت
المطبق: «عندئذٍ ينتشر السكون كأنه جوهر سائل يسيل من
منبعه، ويغمر كل شيء. وإذا العالم يصبح أخرس مرة أخرى.
وفي نفس الوقت الذي يكف فيه كل ضجيج، ينطفئ بريق
namurrtu المعبد. فعالم
السكون هو كذلك عالم الظلمة»،
٦٢ أي عالم العمى. إنه عالم الهُويَّات السحيقة
abysses، الكون الذي
أبصر به جلجاميش (الذي رأى أشياء سرية، واكتشف مواضع
خفية، «… مما قبل الطوفان» غاصت منذ الطامة)،
٦٣ عالم الموت (الذي عرف جلجاميش
Gilgamesh هو نفسه في
رحلته أنه حتمي). وبين الصفاء المشروع الذي يرتاح فيه
محارب بعد معركة كسبها، وبين عته الملِك الهرِم النعسان
في نهاية حكمه، فروق لونية طفيفة.
التألق ميزة خصيصة يمتاز بها الصبا. والحَمِيَّة تأتي
مع البلوغ. وقد يحدث أن ينوه بعضهم بالتجربة عندما تميل
حياته إلى ليلها حتى يبرر العجز. هكذا يصبح ماردوك
Marduk، بطل قصة
التكوين البابلية، في ميثة إيرَّا البابلية طاغية أصابه
الوهن:
إيرَّا Erra:
«لماذا تاجك الإمبراطوري
تلوث سطحه بالأدران؟»
ماردوك Marduk:
«اعلم أنني فيما مضى، لأنني غادرت مقري
في أعقاب غضبة غضبتها
تسببت في الطوفان!
ما كدت أبرح مقري
حتى انفصم رباط العالم.
فلما رجعتُ رأيتُ كم كان من الصعب
وخلاصة القول إن الرب الذي كان يرهب
الأعداء والذي أحدث من الكوارث الكونية ما أحدث، أصبح
حذرًا، بل هيَّابًا. وها هو ذا في جو الدعة الشرقية بقصره
يؤثر التسامح والرضا بما لا قدرة له على قهره دون مخاطرات
مفرطة تنال من سكينته. صورة عجيبة لسلطان من النمط
العثماني يلاين القوى التي خَلَقَها هو نفسه!
٦٥ أو لعله في حالة تأهب وحذر وسط خوف دائم من
نشوب مؤامرة في القصر. لم يعد الملك يسافر في رحلة خوفًا
من أن يخلع عن العرش، ولم يعد يخوض معارك خوفًا من أن
يُهزَم. هكذا توقف «عن السيطرة على البلاد». وهذه هي
الوحدة السياسية تتفتت، ومن المؤكد أنها كانت قد تفككت
دون أن يعلم الملك عنها شيئًا. ويقع عبء على الصبي
المتدرج الذي يشق طريقه ليصبح ديكتاتورًا أن يكاشفه
بالأمر:
«ملك الآلهة ترك مقره
فما الذي يمكن أن يبقى متينًا في العالم؟
وما دام قد خلع تاجه الإمبراطوري
فإن رعايا الملوك والأمراء حتمًا
وما دام نظام الكون أصبح منجرحًا عرضة
للإصابة فقد أوشكت الحروب أن تندلع. وسيُنَصِّبُون واحدًا
من الدهماء مكان الأمير، وسيجوس «القتلة خلال الديار»
وسيحاول الخونة إحداث انقلاب، وهذه هي حكايته المليئة
بالعظة:
«تسللتَ متسربلًا بأسلحتك فدخلت أنت … بابل
٦٧
وتكلمتَ هناك بكلام المحرِّض؛
وإذا بالبابليين …
يتحلَّقون حولك متمردين
على حاكمهم، مدبرِ شئون مقدساتهم،
ويسترسلون في التلفظ بإهانات غليظة
شنعاء!»
والحاكم المذكور اندفع متهورًا إلى
دائرة الاستفزاز والقهر الجهنمية (فأرسل جنده وكأنه يتصدى
لعدو يريد أن يفتك به، ودفع على هذا النحو بقائد الجيش
إلى شر مستطير).
والملك حامل
اللقب عندما يُنذرونه بأن يتصرف بحزم لكي يجنب البلاد
مصائب رهيبة إلى هذا الحد ينتهي دائمًا إلى قبول التفويض
في سلطاته، وأغلب الظن أنه الوحيد الذي يتصور أن هذا
التفويض سيكون مؤقتًا. هكذا وضع أنو
Anu مصيره بين يدي
نينورتا في وقت الأزمة الحادة. ومن بعده وضع ماردوك
Marduk مصيره بين يدي
إيرَّا Erra:
أما ملك الآلهة فسآمره بالآتي:
«الزم دارك!
وستنفَّذُ التعليمات التي أصدرتَها
هكذا يندفع الشاب الطموح على أحر من
الجمر، فيجرب كل شيء من أجل كل شيء. وتختلف ألوان نجاحه
باختلاف العصر الذي يعيش فيه القصَّاص إذ ينوه بالاستبداد
الوارد في الميثة التي لا يمل من نسخها والتغنِّي بها
كالمزامير. وكأننا بالوصفات الأصيلة المناهضة للطغيان
tyrannie قد أخذت تفقد
فاعليتها شيئًا فشيئًا. وهذه هي صورة الطاغية
tyran تتطور فجأة على
مثال المستبد المتدهور. فيخلف المستبدَ العتيق المستبد
السفاح الفظ الذي يضيع سلطة مطلقة كان يمكنه التشبث بها
بإطالة يده، مستبدٌّ أكثر كلاسيكية، يقدمونه أولًا على
أنه مستبد ذو عقل متنور، ثم يصورونه بعد ذلك على هيئة رجل
تجرد من وخزات الضمير التي تسببت فيما مضى في سقوط من
سبقوه. وتحول نمط المناهض للاستبداد
antidespotique من نوع
نينورتا
Ninurta المتئد،
بل الذليل، تحولًا تدريجيًّا إلى نمط من نوع ماردوك
Marduk المنتخب
بالبيعة، ثم إلى نمط من نوع إيرَّا
Erra المجنون المخرِّب.
ولقد استطاع العاهل الشرعي أن يقاوم الأول على الرغم من
الخدمات العظيمة التي قدمها إليه هذا الرجل الذي جاء به
القدر. وإذا كان قد تظاهر بأنه يقبل شروط الثاني بغية كسب
ولائه، فإنه لم يستطع أن يتصدى للثاني بمقاومة حقيقية
(انظر الجدول رقم
٤-١، ص١٣٦ «من الأصل
الفرنسي»).
هكذا تنبئنا الميثات بأن السعي إلى السلطة ليس هو ما
يتنافى مع الشرعية، إنما إرادة التمتع بالسلطة هي التي
تتنافى مع الشرعية. ويبدو أن الكتبة الرافدينيين أسفوا
على تحول السلطة تدريجيًّا إلى غاية في حد ذاتها.
نجد في أسطورة جلجاميش
Gilgamesh معالجة رائعة
لتيمة القوة المفرطة ومساوئها. فالبطل الذي صبغوه متأخرًا
في العصر الآشوري بالصبغة الميثية هو «من قبيل الإنسان
الفوقاني
surhomme
السوبرمان، وما له من القوة والبطش لا يمكِّنه من أن يمنع
نفسه من الاستبداد بعالمه كله.» حتى إن الآلهة، وقد هزتها
آلام رعاياه قررت أن تخلق قرينًا له على قدره، هو إنكيدو
Enkidu، لينزع عنه
شعوره بالتفوق المطلق، وليكون وسيلة لصرف الفيض الزائد من قوته.
٦٩ ويصح أن نذكر عابرين في هذا المقام تكرار
تيمة الحيوية المفرطة الميتية، التي يبدو أنها تصيب
الطغاة على نحو خاص، سواء كانت إينانَّا
Inanna العارمة الجامحة
(التي قصقصت ريش عشاقها)، أو نينورتا
Ninurta الفظ (البليد
بلادة السلحفاة) أو ماردوك
Marduk كثير النزوات
(كان طفلًا مدللًا دفع إخوته الكبار إلى التمرد) أو
إيرَّا
Erra المتوحش
(السفاح الذي لا يشبع من الدم أبدًا).
ولقد وُهب جلجاميش
Gilgamesh «نفْسًا لا
تكل ولا تمل»، وكانت لديه طاقة جنسية عارمة، (لا يترك
بنتًا بالغة لأمها، ولو كان أبوها صنديدًا مغوارًا، ولو
كانت مخطوبة). فنازل قرينه عندما سعى لمنعه من ممارسة حق
المضاجعة الأولى (فسدَّ إنكيدو بقدميه باب بيت الزوجية).
٧٠ وهكذا اندرج اسم جلجاميش في قائمة طويلة
مفعمة بالعبرة تمثل مفهومًا أخلاقيًّا بسيطًا هو أن:
الاستبداد طارئ وليس متحضرًا. فالبطل، بدلًا من أن يتصرف
تصرفًا متحضرًا، يسلك سلوك (ثور متعجرف) واضعًا نفسه على
مستوى البدوي المتوحش الذي يستقبله غوغاء مدينته استقبال المحرِّر.
٧١
جدول ٤-١: صورة الطاغية في الميثات الرافدينية.
*
التاريخ (ق.م.) |
الأشخاص |
المؤامرة |
٢٣٥٠-٢٠٠٠ |
إينانَّا وإنكي |
بعد أن نزل إنكي عن سلطاته لإنانَّا في لحظة
نشوة حاول إنكي أن يستردها، ثم كف عن المحاولة
عندما تبين أن إينانَّا تحسن استخدامها.
|
٢٠٠٠-١٦٥٠ |
نينورتا ونيسابا |
بعد أن حصل نينورتا من الآلهة على سلطاتهم وغلب
العدو، أسكره النصر فلم يحترم الربة التي أنجبته
وهي الربة الأم نيسابا
Nisaba؛ ثم ندم
وجعلها شريكة له في النصر وردَّ إليها
سلطاتها.
|
حول سنة ٢٠٠٠؟ |
نينورتا وإنكي |
أهان إنكي نينورتا بأن جعل سلحفاة تفتك به لأنه
بالغ في التفاخر بنجاحه.
|
١١٥٦-١٠٢٥ |
ماردوك وإنليل |
منح إنليل ماردوك سلطات كاملة؛ فلما انتصر
ماردوك جلس بجواره ونشر العدل.
|
حول سنة ٨٠٠؟ |
إيرَّا وماردوك |
خضع ماردوك لحجج إيرَّا وكلفه بمهمة إعادة
نفوذه. فلما قبض إيرَّا على زمام السلطات خرَّب
المدن المتهمة بالفتور حيال عاهلها الشرعي الذي
خاب رجاؤه خيبة شديدة.
|
*
المصدر:
Bottéro, Kramer,
1989, p. 230 (Inanna), 339 (Ninurta), 418
(Ninurta bis), 602
(Marduk).
السلطة المطلقة عقار مخدر، مثلها مثل الخمر الذي يصبه
الطغاة أو الدم الذي يسفحونه. عندما تصالح السيدان
القرينان جلجاميش
Gilgamesh وإنكيدو
Enkidu بعد أن انتصرا
على الوحش حارس غابة الأَرز (هي بلا شك: حرمون
Hermon أو الشيخ في
جنوب لبنان) شجع بعضهم بعضًا على أن يخرقا قواعد النضال
الملكي وأن يقتلا بلا مبرر العدو المغلوب:
«هيا يا حومبابا
Humbaba، يا حارس
غابة الأَرز،
أجهز عليه، اذبحه،
افتك به …
قبل أن ينقم منا
إنليل الأول …
وتشهد قصة الخلق البابلية شهادة مدهشة
على مثل هذه المعتقدات التي أبقاها من أبقاها في مقابل
عمر مستمر من الكتابة المعادة. ومع ماردوك، وهو شخصية
أدبية معاصرة ﻟ «نَبوخُذُنُصُر
٧٣ الأول»
Nabuchodonosor
I التاريخي، تتغير ألوان ضعف الطاغية
المتمسك بالظلام إلى حنكة المستبد المستنير. وبطل الآلهة
المخلصين هذا الذي يتحلى بشجاعة فائقة يغامر بها مغامرة
يعرض فيه نفسه لخطر النكوص إلى حالة الوجود الخام التي
سبقت التكوين، يغلب المتمردين من الآلهة والشياطين، ثم
يستعبدهم محررًا في المقابل الآلهة المستعبدة. وانتقلت
السخرة منذ ذلك الحين من الآلهة المستعبدة إلى البشر
الذين خلقهم ماردوك لتوِّه لهذا الغرض. وحقق بنضاله
الكوني ضد الخاءوس نظام العالم. ولما كان قد قتل أمه
وإخوته المتمردين لكي يخلق الكون فقد تبع البطل، الذي
بويع بالتهليل، أباه على مقاعد الحكومة في قلب المجلس
السماوي.
ومن السهل مقارنة ماردوك بطغاة بيلوبونيسوس
Peloponnêsos٧٤ وأتيكه
Attikê وصقلية أو آسيا
الصغرى. وقد اعتادوا، أسوة بديونوسيوس
Dionusios السيراقوزي
(٤٣٠–٣٦٧ق.م.)، أن يحرروا العبيد بعد أن ينفوا أسيادهم،
وأن يحيطوا أنفسهم بمرتزقة مخلصين وأن ينسوا تدريجيًّا
زهد حياتهم العسكرية من أجل زخرف الحياة العامة.
٧٥ حرر ماردوك البابلي مثلهم الآلهة الكادحين.
وماردوك يختلف عن إنليل — الشخصية الرئيسية في ميثة الخلق
السومرية — في أنه يفعل هذا عن طيب خاطر دون كلام طنان
رنان لا خير فيه، ودون تغيير للمعسكر على هوى المعارك،
وهي أمور ألفتها المدن الإغريقية كما ألفتها المدن
الرافدينية. وهناك اختلافات أخرى بين الصيغتين
الرافدينيتين نسجلها في هذا المقام. أولًا: أن المحاجاة
التي ملكت على الآلهة المضربين أنفسهم (وهي محاجاة عادية
في نظام حكم ديمقراطي) أصبحت بعد ألف عام تعتبر تمردًا
أثيمًا: بل إن زعيم أصحاب المطالب حل محله قائد مشاكس.
ثانيًا: لم يعد الصراع الأصلي صراع طبقات، بل مواجهة بين
أجيال. وتحول التعارض بين منتجين ومستهلكين إلى صراع بين
سلالة الماء العذب وسلالة ماء البحر. وخلاصة القول إن
ميثة ماردوك صبغت المعطيات — التي كانت موجودة حاضرة في
النص السابق — بصبغة تلطيفية وساميَّة. وهي كذلك تجمع في
إله واحد الصفات المتعارضة التي اتصف بها إنليل
Enlil وإنكي
Enki والتي كانت حتى
ذلك الحين ترمز على التوالي إلى سوء استغلال السلطة وحسن
استخدامها، وأصبح من الممكن على هذا النحو الثناء على
حكمة هذا الإله الواحد مع الرضا بتجاوزاته.
(٦) احترام الشكليات الرسمية
هل كان المستبد الشاب بحكم شبابه أكثر حرية في حركاته
من إنليل
Enlil الهرِم؟
لا. على الإطلاق. لقد بقي مجلس الآلهة المكان الذي لا
محيص عنه لاتخاذ القرار. في جلسة عقدها مجلس الآلهة انتهى
الآلهة الموالون من ناحية والآلهة المتمردون من الناحية
الأخرى منفصلين إلى قرار واحد وهو أن الحرب لا سبيل إلى
تحاشيها. وعلى العكس من ذلك، إذا جاء الاختيار الجماعي
للقائد المخْلص مطابقًا للتقاليد،
٧٦ فقد ظل اختيار القائد المتمرد تقديريًّا. كما
نجد الربة الأم (وماء البحر) تجمع أمرها يقينًا على
المواجهة، تحت ضغط أبنائها (ما دمتم أنتم أنفسكم قد
قررتموها جميعًا،
٧٧ ولكنها تختار وحدها بمفردها من بينهم بطلَها
(وهو: قينجو
Qingu الذي
كان الحمل به سفاحًا، بينما كان أصل ماردوك
Marduk طاهرًا مطهرًا
فقد كان الحفيد الشرعي لوالد الآلهة). ثم إن ماردوك كان
يولي احترام القوانين اهتمامًا أمينًا لا يعرف التهاون.
أمَا كانت هناك سوابق نكراء ينبغي تحاشي ذكراها؟ نذكر
واحدًا من أسلاف ماردوك الميثيين هو نينورتا وقف موقفًا
قليل اللياقة أمام الشيوخ الأجلاء آنذاك حتى إنهم طالبوه
بأن يبذل جهدًا في التواصل:
«لا تجمِّد من فرط الفزع فريق … كبار
الآلهة!
لا ترعب أباك رعبًا يصل إلى عقر داره …
لا تُلقِ الفزع بين الأنونا
Anunna
المجتمعين في غرفة المجلس!»
٧٨
عَبَرت هذه الوصية التي وُجهت إلى
نينورتا
Ninurta القرون
الطوال: ولهذا حرص ماردوك على أن يسلك سلوكًا أكثر تلطفًا
من سلوك نينورتا، على الرغم من أن إرضاءه كان أقل سهولة.
فقد طلب لنفسه سلطة الآلهة قائمًا مقامها «في موقِعها
ورتبتها»، لا أن يكون له مجرد مكان بينهم. وعرف ماردوك —
على عكس ما فعله نينورتا الذي تسربل بسربال النزال
(فليستقبل أبي في معبده عدَّتي الحربية!) — كيف يظل
متحضرًا (أليس هو الذي أعاد دمج كل الآلهة الهاربين في
بهو احتفالهم؟) وإنما فعل هذا من أجل أن يحسن إقناع أعضاء
مجلس الآلهة بأن يوكلوا إليه سلطاتهم بحسب الإجراءات
الرسمية الدستورية. ولقد دعاهم خصوصًا لكي يناقشوا هذا
الأمر، وسبقت مناقشتهم وليمة، ورأس أنو
Anu٧٩ الجلسة من أولها إلى آخرها، ومنح الآلهة
الضابط الشاب رسميًّا سلطات استثنائية:
ماردوك: «من أجل أن أنقذكم
اعقدوا اجتماعًا
وأعلنوا منحي قدَرًا متعاليًا! …
وقرروا بكلمةٍ منكم أن أقوم مقامكم
فأقدر أنا الأقدار:
وألا يتغير شيء
مما سأفعله
وأن كل أمر يخرج من بين شفتيَّ
يظل قائمًا نافذًا، لا رادَّ له ولا دحض!»
الآلهة: «يا ماردوك، أنت وحدك ستكون لك
الهيمنة
بين كبار الآلهة! …
سيكون من سلطتك
أن ترفع وأن تخفض!
ستكون كلمتك هي الغالبة
عندما تجلس في المجلس.»
وكان أعضاء البرلمان، وقد تنبهوا إلى
المجازفة التي يواجهونها عندما يفقدون البرلمان من أجل
إنقاذ الحكومة، قد فرضوا على البطل اختبارًا يرمي إلى
التحقق من كفاءاته. وعمدوا إلى الاحتفاظ بصلاحياتهم كاملة
في فترة الاختبار. وسرعان ما رأوها عين اليقين. فقد
تحققوا من كفاءة ماردوك على أن يتخذ وحده القرارات
الكبرى. وأقر له الآلهة بذلك، إذ سلموه (الصولجان والعرش
والعصا الملكية)، بل سلموه كذلك القوة الضاربة (السلاح
الفريد الذي يطرح الأعداء أرضًا):
«عندئذٍ سجد له
كل الإيجيجي
Igigi٨٠ المجتمعين
وقبَّل قدميه
كل من كان هناك من الأنوناكي
Annunaki
واتفقت جمعيتهم بالإجماع
على السجود له ولمس الأرض بجباههم.»
٨١
كيف بنا لا نفكر في الأرستقراطيين
الإغريق، كيف كانوا، عندما تهددهم انتفاضة شعبية، يعرضون
السلطة على قائد تجريدة أو على قاضٍ ظلوا يبعدونه عن
الأحداث، أو على أمير ظلموه ثم أسفوا على ظلمهم إيَّاه
مُر الأسف؟
٨٢ المقارنة تفرض نفسها وبخاصة لأن المستبدين
الهيلِّينيين كانوا هم أيضًا يبدءون باحترام الشكليات
الرسمية. ولم يقوموا بتحرير العبيد تقديرًا وبتشجيع
التمجيد الشخصي لذواتهم
le culte de la
personnalité إلا بعد أن تترسخ سلطاتهم.
٨٣ وهذا مجال ظل ماردوك فيه فريدًا لا نظير له،
فقد ابتنى لنفسه معبدًا منيفًا (بابل) كان يحلو له أن
يسمع فيه الإشادة بألقابه المجيدة العديدة:
«عندما أنعم الآلهة العظام
على ماردوك بخمسين اسمًا
خصُّوه بشخصية فذة خارقة للمألوف!
فليحفظ هذه الأسماء الحافظون
وليعرضها الشيوخ على الملأ!
وليتأملها كذلك
الحكيم والعالِم جميعًا!
وليرجِّعها الأب مرارًا وتكرارًا
حتى يغرسها في أبنائه غرسًا»
٨٤
هل المقصود هو تعبير الفقراء عن
امتنانهم لرئيس يتملق الشعب
populiste؟ هذا أمر لا
شك فيه، ولكن علينا أن نذهب إلى أبعد من مجرد تحصيل
الحاصل. لقد انتهت الأزمة التي دفعت بماردوك إلى صدر
المشهد بدمج الآلهة الصغار، الإيجيجي
Igigi، في الجماعة
السياسية، قال ماردوك بشيء من الديماجوجية موجهًا الحديث
إلى الآلهة الصغار إنه يريد «أن يحسِّن وضعهم، حتى ينالوا
تشريفًا مطابقًا لتشريف الآخرين، وإن انقسم الآلهة إلى
مجموعتين منفصلتين»
٨٥ وأغراهم هذا القول فقرروا أن يعملوا كادحين
بإرادتهم (والآن يا مولانا وقد قررت تحريرنا نتساءل ما
العمل الطيب الذي نقدمه لك في مقابل ذلك؟ حسنًا،
لَنَبْنينَّ لك المعبد الذي نطقت أنت باسمه).
٨٦ لقد سلكوا نفس مسلك العبيد الإغريق بعد أن
يحررهم هذا أو ذاك المستبد ويزوِّجهم بزوجات سادتهم الذين
جردوا من ممتلكاتهم. كانوا تعبيرًا عن اعترافهم بالجميل
يبنون للمستبد في غمرة حماسهم مبانيَ عامة (وأشهر مثل على
ذلك معبد الربة أثينة
Athena فوق الأكروبوليس
Akropolis المنسوب إلى
بيسيستراتوس
Peisistratos). كان خيرة
هؤلاء العبيد يهبون أنفسهم مخلصين لشخص الحاكم المستبد
ويدافعون بأجسادهم عنه، حالِّين على ما يبدو محل العصابة
— التي كانت تثير الرعب في بلاط أنو
Anu — عصابة شباب
الأرستقراطيين المشاكسين المتعطلين الذين كانوا يحسدون
ماردوك منذ كان طفلًا. وربما كان هذا الفصل من الأحداث هو
الذي يرجع إليه التمييز بين الجسورين والعتاة في ميثة
متأخرة في استخدامها الصفات التي وصف بها الإله إيرَّا
Erra:
«أنا في السماء الثور — وعلى الأرض الأسد
أنا في البلاد الملك — وبين الآلهة الجامح
أنا بين الإيجيجي (الآلهة الصغار الكادحين)
المقدام
وبين الأنوناكي (كبار الآلهة) أنا المستبد.»
٨٧
وتنقلب الأمور منقلب العدل، فهؤلاء هم
الإيجيجي Igigi السوقيون
يكال لهم من المديح أكثر مما يكال للأنوناكي
Annunaki النبلاء. فقد
كانوا إبان الأزمة أكثر صراحة في إخلاصهم، بينما كان
المتمردون جميعًا أرستقراطيين. وجمع السوقيون أمرهم على
أن يكونوا «شجعانًا» دون أن تلزمهم بذلك لائحة شرف
اعتراها شيء من الشيخوخة. ولكنهم كانوا في المقابل يمنون
أنفسهم بأن ينالوا كل شيء من وراء هذا الالتزام، إذا ما
تصورنا أنهم كانوا الوحيدين من بين الآلهة الذين ظلوا
يعيشون في ظروف وضعهم البدائي:
«لم يكن الماء المنعش آنذاك
يخرج من الأرض بعد …
لذلك كان على آلهة البلاد، وقد فرضت عليهم
السخرة،
أن يحملوا المعول والمقطف
فلم يكن هناك لضمان الإنتاج
عمالٌ آخرون لُكَلَّفوا بالعمل:
ولم يكن هناك آنذاك بين الإيجيجي
Igigi
من ابنتي لنفسه هياكل:
فما كانوا إلا رعايا مليكهم»
٨٨
ونحن نفهم أن هذه الآلهة بعد أن كدحت
على هذا النحو «ألفين وخمسمائة عام بل يزيد»، انتهى بهم
الأمر إلى «التململ والشكوى» و«الاتهام» قبل اختراع
الإضراب وتحطيم أدوات العمل التي كانوا يعملون بها
(أحرقوا أدواتهم ورموا في النار فئوسهم).
عندئذٍ ذهبوا للقاء رئيسهم، الذي لم يكن بريئًا من
اتخاذ ملامح المحارب القديم نينورتا: وأقرب الظن أن صورة
نينورتا هذا أصبح النموذج الذي نقل عنه كتَّاب ميثة
ماردوك المتأخرون. ثم سار المضربون مسيراتهم تحت أسوار
القصر ليشكوا من معدلات الكدح الجهنمية، بل لقد وصلت
إلينا هتافاتهم (العمل الشاق قتلنا! … ارفعوا عنا إصر
السخرة!). ولقد عوقب المحرض، ولكنهم حصلوا على ما أرضاهم،
ممهدين الساحة لنظرائهم في قصة الخلق البابلية المحدثة.
٨٩
وهناك تيمتان تتخللان الأناشيد الرافدينية: تيمة
الاستغلال (قوة السادة المفرطة) وتيمة اغتصاب السلطة
(طموح العبيد المفرط). ولما لم يكن الاستغلال يبرر اغتصاب
السلطة، فقد كان الحل المنطقي للمشكلة أن يقوم رجل قوي،
ولكنه عادل، بالاستيلاء على السلطة. وإلا فإن المقهور
الذي سيحرر نفسه بنفسه من الاستبداد، يصبح غاصبًا، مثل
أساكوا Asakku «هذا الجلف
الأَشِر» الذي أصبح «ملك الحجارة» و«قاتل الجبل»:
«بتدبير منه، وبلا هوادة،
أقام لنفسه عرشًا،
بل ادعى أنه سيحسم أمور البلاد
وخلافًا لأولئك الرؤساء الجذابين
والشموليين الذين تتخذهم العصابات المرتدة إلى الحياة
البدوية رؤساءَ لهم، نجد أن ماردوك لم يكن هامشيًّا، بل
كان عضوًا في مجلس الآلهة. وبفضله وباسم القانون أصاب
الدورُ الآلهةَ الذين كانوا أصلًا مظلومين محرومين
فأصبحوا هم أيضًا مواطنين. وبعبارة أخرى: دخل الشعب بقوة
في الجماعة السياسية الموسعة التي أضعفتها السلطة التي
قامت بتوسيعها.
وقصيدة الخلق البابلية التي سبقت العصر الذهبي
للفلسفة الإغريقية بستة قرون تجعل الاستبداد يولد من حاجة
إلى المساواة. قبل الإسلام بألفي سنة استحدث الكُتَّاب
البابليون شيئًا من قبيل نظرية «الضرورية» الإسلامية: على
العاهل الشرعي أن يدعم كل شيء، إلا الظلم (والكفر)، من
أجل الحفاظ على وحدة شعبه. وكل حكومة ظالمة هي حكومة غير
شرعية: والمستبد المحسن خير من رئيس ديمقراطي بما يقول من
كلام، ظالمٍ بما يأتي من أفعال.
ومن أسف أن الملك والوزير الأول لا يكفيهما الاستماع
إلى ممثليهما ليعرفا منهما أحوال الناس، بل عليهما أن
يكوِّنا بنفسيهما صورة عن الأوضاع في البلد، على نحو ما
فعل هارون الرشيد، كما يقولون، الذي كان يتخفى في ثياب
متواضعة ويجوس خلال شوارع بغداد. وإننا لنجد في نص سومري
أن الربة إنانَّا Inanna
هي صاحبة الفكرة الجريئة التي تعرضت للنقد، فكرة القيام
بأول قياس للرأي يعرفه تاريخنا:
«السيدة صاحبة السلطات العظام
الجديرة بأن تتخذ مقعدًا على المنصة …
إنانَّا شاغلة إيانَّا
Eanna
اللطيفة،
هذه المرأة الشابة أرادت ذات يوم أن تنزل إلى
الدنيا! …
حتى تفرق الأشرار عن الصالحين
وتقيس ما يعتمل بالقلوب في البلاد …
ما أكثر ما جادل في هذا الرأي المجادلون!
وما أكثر ما قصه عنه القصاصون!»
٩١
ولكن الديمقراطية السماوية لم تخل من
عيوب. فأكثر المناقشات التناقضية حرية يمكن أن توحي إلى
الإنسان بأن أصحابها محترفون يمارسون حرفتهم بأمانة.
وأفضل القواعد الإجرائية يمكن أن تعطي الخطباء الفرصة
لغواية من يستمعون إليهم وأن تتيح للمتعنترين الفرصة لكي
يهيمنوا على أندادهم. ونقائض المساواة والمنافسات — التي
يؤدي التردد المفرط حيالها إلى ترك الميدان مفتوحًا —
يمكن أحيانًا أن تعد للديماجوجيين كرسي الحكم. والميثة،
على صورة التاريخ الواقعي لبلاد الرافدين، تنبهنا بأناقة
شديدة إلى أن الاستبداد المقيت يأتي من الإفراط في
الديمقراطية وفي نزعة المساواة.