أما أن الإله الأعلى يلزم نفسه ويقيد يديه بأن يعلن على
الفور نواياه، فهذا ما يشهد لصالح الاعتراف للآلهة الأقدمين
بسلطة أكبر مما يطالبون بها هم أنفسهم. ورع يقر بضعف موقفه
عندما يرفض أن يعطي البشر الفرصة كاملة ليشرحوا أسبابهم، أو
ليندموا على ما فعلوا. فأنَّى له، دون أن يفقد ماء وجهه، أن
يعلق قراره الذي اتخذه وجاهر به مدويًا أمام الآلهة؟ ولكنه
لن يكلَّ ولن يمل حتى يبلغ هذا الهدف متوسلًا بأشد أساليب
التحايل سفاهة. فبدلًا من أن يسرِ بشكوكه، يلجأ إلى السحر؛
وعندما يعجز عن استدعاء منفذة أعماله الدنيئة صراحةً،
يسقيها حتى السكْر بيرةً حمراء استبدل بها في آخر لحظة دم
البشر. ولنا أن نخمن أن سعادته بما لقيه كانت شبيهة بسعادة
إنكي Enki الذي لعب على
إنليل Enlil لعبته فأتاح
النجاة للجنس البشري: فقد لعب كلاهما في الخفاء من وراء ظهر
آلهة المجلس. والدرس المستخلص واضح: مهما كان الواحد منهم
كبيرًا فإنه لا يستطيع الرجوع عن موقف تقرر
جماعيًّا.
فالآلهة مجتمعين كانوا إذن يستطيعون مخالفة كبيرهم.
وهناك عبارة في كتاب الموتى توحي بأن الآلهة بددوا تراث
أبيهم السياسي المؤسس قبل أن يُتهم البشر بالانشقاق بزمن
طويل. ولعلها توحي بعجز الملك الحاكم حيال فوضى
أنداده.
ولكنه ما كان على الرغم من ذلك ليجرؤ على التصرف ضد رأي
أعضاء المجلس. وما كان هؤلاء الأعضاء يستطيعون أن يجعلوا
رأيهم نافذًا دون موافقة الملك. ولما كان الموقف قد انسدت
سبله سياسيًّا، فقد استُدعي خبراء خارجيون، استُدعي أولًا
بانيبدجيديت Banebdjedet
الذي لم يتمكن من التعبير عن موقف، ثم استُدعي نايت
Neith الذي رجح كفة حورس.
مال الآلهة بالإجماع إلى الانحياز لحورس، ولكنهم في الوقت
نفسه حدتهم الرغبة في ألا يقللوا من احترامهم للشكليات
الرسمية. ولهذا تحالفوا تحالف المنافقين ضد المهرج بابا
Baba عندما استخلص من
اجتماعهم السري النتائج قائلًا للملك جهرًا بأسلوب وقح إنه
أصبح عاريًا («وهذا معبدك أصبح مهجورًا»). فلما رفعت الجلسة
أمضى «الإله العظيم يومه ممددًا راقدًا على ظهره في حجرته؛
فقد أخذ الحزَن بقلبه أشد مأخذ، وكان في عزلة»). كم تبدو
هذه العزلة في السلطة مألوفة! ثم توالت على رع الإهانات بعد
النكد الذي أحدثته به عزلته. فبينما ظاهر بتصميمه على
مشيئته في أن يرجع الآلهة عن رأيهم، قوبل خطابه بفتور («ما
معنى هذه الكلمات التي نطقت بها والتي لا تستحق أن
تُسمع؟»). وحتى إذا انتهت الحكاية بنهاية سعيدة، فإن ضمه
سيت التعيس إلى معيته («سيتخذ مكانه في معيتي وسيكون معي
مثل ابني») بعد انتصار الغريم يُبين على نحو كافٍ أن رع
استسلم لانتصار حورس صاغرًا، ولم يفرح به. وما علينا أن
ندهش لهذا الكرم الغامر؛ فالمثل الأعلى للإجماع السياسي لن
يختفي عند ظهور البشائر الأولى لثقافة الأغلبية، ويظل رئيس
الأغلبية القديمة المغلوب محتفظًا بوضع شرفي انتظارًا لأيام
أفضل (أيام ستأتي مع الرعامسة).
كان مجلس الآلهة المصريين يخيم عليه جو ملبدٌ ثقيلٌ
كالجو الذي يخيم على مجلس البوخروم
Pukhrum الرافديني. فالجو
المعبأ على نحو مبهم بالسِّفاح يوحي بقصة خلافات أسرية
تكتنفها أحداث صاخبة من جانب الوالدين وخلافات صارخة مثيرة.
ويقابل حرية نبرة التعبير مزيد من السرية المداولات: فكانوا
يغسلون غسيلهم الوسخ في محيط الأقارب (نحو تسعة إلى ثلاثين
على الأكثر). ولم تكف القصة عن الانتقاض من جديد (والقصة
التي نتحدث عنها استمرت «ثمانين عامًا»). وتدور القصة حول
ميراث طمع فيه طامع، وتعويضات تقررت للورثة الأقل حظًّا من
الثراء «ضاعف أموال سيت، أعطه … بنتيك. وأقم حورس مقام أبيه
أوزيريس»، كانت تلك هي النصيحة التي قدمها نايت إلى رع.
وأطلقت العواطف لنفسها العنان دون حرص كبير على المنطق،
وراح كل واحد يغني أغنيته. فلما علم أوزيريس بأن مكيدة يجري
تدبيرها، شكا مُرَّ الشكوى من المعاملة التي خصت بها الآلهة
الأحياء ابنه حورس؛ ثم ذكَّرهم ساخرًا بأنهم يدينون
بهناءتهم له، وهو إله الجحيم، وكأنه العم الغني في أمريكا،
أو المهاجر بريسبان
Brisbane بأستراليا («هذا
البلد الذي أنا فيه يغص برسلٍ ذوي وجوه شرسة … وما لي أقضي
حياتي في هذا البلد … بينما أنتم كلكم في الخارج؟»).
والمراسلات بين رع وأوزيريس تشبه الخطابات العائلية، فهي
مليئة باللوم والتلميح، فهذا رع يؤنب أوزيريس («حتى إذا لم
تكن وُلدت، لوجد الشعير والعلَس») فيرد أوزيريس عليه بعنف
(«صحيح، كل ما خلقت كامل حقًّا وصدقًا، حقًّا وصدقًا كل ما
خلقت كامل، يا مخترع جماعة التسعة! لقد تصرفوا على نحو جعل
العدالة تُبتلع في العالم السفلي تحت الأرض»). هذا يحتج
بحسن تدبيره، وذاك يتهم أقاربه المقربين بالظلم
و«الكذب».
ولا يزال
البَلَدان — مصر وبلاد الرافدين — يختلفان في فهمهما
للوليمة كيف تولم، فبينما تضم ولائم «السادة» عشرات الضيوف
الجالسين إلى موائد على شطآن دجلة، يدلف شعب النيل وقنواته
بلا مراسم إلى الضفاف. هناك تباين بين مائدة كوكتيل وبين
وجبة نزهة في الضاحية، مثل التباين بين عشاء في المدينة
سرعان ما يعرف الجمهور العريض أخبار ما تخلله من مناوشات
ومناقشات حادة من قبيل منازلات الشيش وبين غذاء على النجيل
لا تصل صرخات الشجار التي تتخلله إلى الجيران إلا وقد وهنت
أشد الوهن فلم تعد أذن تسمعها. ذلك لأن العائلة في مصر
عالَمٌ مقفل على نفسه، يجيش بتلك المشاجرات الحميمة
واللانهائية التي تقوي المودة، وبتلك المكائد الافتراضية
التي تشغل البال، إنها عالم يتسم بالأخوة وبالكيد في آنٍ
واحد، عالم من العارفين الذين يتفاهمون بما قل ودل.
(١) محاكمة الموتى
العارفون وحدهم هم الذين ينالون الحياة الأبدية. فهم
إذ يعكفون على الكون وآلهته، يعفون من العمل اليومي،
تمامًا كالنخبة السومرية. وتصبح الإدارة حملًا على كاهل
البشر المخلوقين من اللحم، المسخرين للأعمال الشاقة التي
تصفها قصيدة «السخرية من الحرف»، التي يقارن فيها مؤلفها
حاله بحالهم معلنًا فرحته بأن يكون كاتبًا وأن يحكي عن
مصائب الآخرين؛
٦ أو تصبح حملًا تحمله بدائلهم المصنوعة على
هيئتهم من الخشب أو الفخار، نعني الأوشيبتي أشباه
المومياء التي يحيط الموتى بها أنفسهم.
٧ والوقت الذي يكسبه على هذا النحو أولئك الذين
أعفوا في الدنيا أو في الآخرة من أعباء الدار يعاد
استثماره — كما هي الحال في بلاد ما بين النهرين — في
الحياة العامة. إنه يستغل في إدارة شئون العالم. فالكتَّاب،
٨ بطقوسهم ومراسيمهم، يخدمون الآلهة ويراقبون
مصائر البشر. وهم أيضًا محترفو سياسة، اختارهم الرب أو
اختارهم الشعب، إنهم «سيرو»
Serou: الكلمة التي
تترجم تارةً بالملأ أو بالوجهاء، وتارةً بأصحاب المناصب
أو أصحاب الوظائف.
٩ إلا أن الكتَّاب المصريين، خلافًا للكائنات
السماوية الرافدينية، يتمتعون بهذا الامتياز في الدنيا.
والبشر في مصر لا يحملون جميعًا عن الآلهة إصر السخرة، بل
يحمله فقط من بينهم نفر أصدر الآلهة ضدهم أحكامًا قاسية،
وقضوا عليهم بأن يطعموا من هم في حماية الآلهة.
ومن بين هؤلاء
المشمولين بحماية الآلهة يحتل الكتَّاب مكانًا يحسدهم عيه
الحاسدون، فهم قسم من الصفوة، هم اتحاد الكتَّاب الذي صنع
لنفسه على مر القرون عقائدية ودينًا محكمًا لا يجادل في
إحكامه مجادِل. ولما كانوا وكلاء في خدمة ملك الأحياء رع،
فسيصبحون مرافقين لملك الموتى أوزيريس. ولقد أخلصوا للإله
الأول، وسيكونون متضامنين مع الإله الآخر. ولما كان
لفرعون مقر أرضي وعرش سماوي في آنٍ واحد، فإن العارفين
سيمثلون البشر في العالم الآخر عندما يفارقون الدنيا إلى
الآخرة. ولديهم إخلاصهم للملك، وأمانتهم حيال البشر
يؤهلانهم ليكونوا وسطاء مثاليين. وليس من شك في أنهم من
نسل المخلوقات البشرية الأولى التي انحازت إلى رع ضد
المتآمرين عليه، فهم أنصار رع الذين أطلقوا في المعركة من
أجله بعض السهام فنالوا المرتبة المتميزة للصالحين
المخلصين الذين غفرت لهم خطاياهم.
١٠ وآخرون سيعرفون العذاب على الأرض (الأعمال
الشاقة) أو في الجحيم (عذاب الزبانية) لأنهم لم ينعموا
بالطقوس الجنائزية المناسبة (التحنيط وزخرفه الرمزي) بل
انخرطوا في طقوس جنائزية معكوسة (حيث قيدوا أجسام أعدائهم
وأشعلوا النار فيها) هذا ما نقرأه مرعوبين في النصوص
الجنائزية. وكما نرى في لوحة من لوحات هيرونيموس بوش (يضع
القائمون على الغلايات رءوس المتمردين في غلاياتهم
والأعضاء والقلب في قلاياتهم، ويمسك الجلادون سكاكينهم،
بينما تراقب الربات الأشلاء المقطعة).
١١ ويلقى بعضهم في العالم الآخر ربهم في ساعة
معلومة، في لحظة من الليل فتغشاهم أشعة الشمس، ويتيه
البعض الآخر في ظلمة حالكة محرومين من أشعتها.
١٢
ولما كانت فرصة
إثبات الإخلاص للإله لا تتاح إلا في لحظة الموت، فلم يكن
ثمة بد من إيجاد معيار أكثر بساطة للفصل بين المصطفين
والملعونين. وفي اللحظة التي كان فيها عباد الإله
يَتمايزون، كانوا يفصحون عن علمهم المسبق إذ تخيلوا أن
العالم الذي كان حتى تلك اللحظة غير متمايز، سيتمايز
وسينقسم إلى تصنيفات متضادة: النهار والليل، النجاة
والجحيم، بينما غرماؤهم يغتبطون ربما اعتباطًا ساذجًا
بصعود رع الذي ظنوه قد لاذ بالفرار. والأمثولة صافية
واضحة المضمون: ليس العلم فقط وسيلة مستحبة في الدنيا
لنسيان ما يثيره العالم الآخر من فزع، بل هو أيضًا أداة
لا محيص عنها للنجاة. وليست النجاة مِنَّة، بل هي عِلْمٌ
سيظل الجهلاء والآثمون إلى الأبد موصدين حياله.
والسعداء الذين حلا لرع أن يخاطبهم لَمَحُوه قبل أن
يصعد إلى السماء وسمعوا كلماته تحمل العزاء. وهم منذ ذلك
الحين يحلمون بعالم يجتمع فيه البشر والآلهة معًا من
جديد، عالمٍ سابقٍ على العصيان الأولاني عندما عصا
الثعبان أبوبيس
Apopis،
عالمٍ سابقٍ على القِتلة الأصلية عندما قتل سيت حورس،
عالمٍ سابقٍ على تآمر البشر الأُوَل على خالقهم، عالمٍ
يمكن أن يرى فيه الناظرون «وجه الآلهة كلهم»؛ لأن الآلهة:
«… فيما مضى نزلوا إلى العالم الذي كان حديث عهد بالخلق،
واختلطوا في سهولة ويسر بالشعوب الوليدة، فلما اتخذوا
لأنفسهم أجسامًا من اللحم، خضعوا لشهوات اللحم وضعفه … ثم
انسحب الآلهة بعد حين من الأرض، وبقدر ما كانوا فيما مضى
يحبون أن يظهروا في الدنيا، بقدر ما حرصوا الآن على أن
يتواروا في سر الأبدية الغامض.»
١٣
واختراق هذا السر الغامض فريضة ملحة: اجتياز الباب،
واكتشاف الآخرة، وأخيرًا: المعرفة. المعرفة وحدها هي التي
ستنتصر على الخاءوس، الإرادة وحدها هي التي ستقهر الجمود،
مثل البديع المُبْدِع (الدميورجوس
Dêmiourgos) إذ ينبثق
من المحيط الأولاني.
١٤
«إنه ابني، أيتها الحياة، ابني الذي جعلني واعيًا
والذي أحيا قلبي، بعد أن جمع جوارحي التي كانت جامدة
هامدة … لقد خلقتُ الأشكال بفضل تلك القوة العليا الكامنة
فيَّ … وفي قلبي وُلدت الفعالية، وأمام نظراتي مَثُلَت
خطة الخلق»
١٥
والكائن، منذ أن علم عن نفسه أنه حي، أدرك «الخطط».
وشرع، إذ هو مهندس معماري حقيقي للخلق، ينشئ أرضًا ليرتاح
عليها. فلما تم عمله باستقلال البشر، سيذكر البشر كل
المراحل. ولن يجهلوا مسئوليتهم عن قدوم الليل، وهو العمل
الأخير للبديع المُبْدِع (الدميورجوس)
Dêmiourgos على هذه
الأرض.
«توارى الرب الذي يعرف مخلوقاته. وليس هناك شخص
يستطيع أن يعترض على صاحب القدرة الذي شُغل بكل ما رأته عيناه.»
١٦
سيقوم البشر المسئولون منذ تلك اللحظة بمشروعات هم
أيضًا؛ سيبنون هم أيضًا تلالًا يمكن أن ترتاح فيها
أرواحهم؛ ولن ينسوا هم أيضًا أن العين ستكون في القبر
تلاحق الملعونين، ولن يراها إلا المختارون. ولسوف يتوقون
إلى أن يروا العين جهرةً ماثلةً أمامهم، في حين أنها لا
تظهر إلا في الأحلام، وإلا لفرعون وحده، مثل زوسر الذي
تجلى له البديع الذي أبدع (فيلة) إليفانتينة
Éléphantine («قد
تجلَّى لي قائلًا: … أنا خنوم
Khnoum، خالقك»).
١٧
ومن حول الإله في الآخرة، وعند الفرعون في الدنيا،
يحتشد أتباعهما مرتعدين في خيالية
١٨ تصالح على أمل تَوَحُّد قدسي. الحال في الوقت
الذي كان فيه كل مخلوق لا يزال مؤتلفًا مع الآخرين في حضن
جسم كامل لربٍّ واحدٍ هو بتاح
Ptah، شارك الجميع في
كلمته وتكلموا لغته (جاء الآلهة إلى الوجود على هيئة بتاح
Ptah وكان تاسوعه هو
أسنانه وشفتا فمه التي نطقت باسم كل الأشياء.
١٩ وسواء كان المثل الأعلى السياسي المصري
عضوانية
Organicisme
صوفيةً أو نموذجًا اجتماعيًّا، فهو جسمٌ، أي رابطة، أي
صحبةٌ من أتباع الإله الحي أوزيريس، فقد أُنقذ من المياه،
وبُعث من الأموات.
(٢) مسيرة موظف مات
عندما يصل الميت إليه، يستعيد مسيرته في الدنيا
ويسترجع مزاياه التي أقرها فرعون، وألقاب التشريف التي
نالها مكافأة له على هذه المزايا (لقب «صديق» أو أحسن من
هذا اللقب لقب «الصديق الوحيد»، و«المعروف للملك»). وهو
إذ يفخر بأنه كان متميزًا على هذا النحو في الدنيا، يطلب
أن «ينال حقه» بنفس القدر في الآخرة، وأن يجري استقباله
في مجلس الإماخو
Imakhou،
حيث تستقبله عائلات من الأشباح … برلمان من المومياوات
٢٠ باسم «التقدير العام» الذي حظي به، وباسم
«المكانة الدائمة» التي يحتلها في الذاكرة الاجتماعية.
٢١ ولما لم يقنع بمجرد البقاء مثل كل الرجال
الذين دفنوا بحسب الطقوس، فقد طلب لنفسه خلود الآلهة. فهو
لم يكتفِ ببناء مقبرته المستقبلة إبان حياته، وبأن يكون
له ابن أو بأن يتبنى ابنًا حتى يضمن الشعيرة الجنائزية،
٢٢ بل سعى حتى منحه الملك مدفنًا في قرافته
الخاصة، وأشرف بنفسه على بناء مقبرته (فوهبه بابًا زائفًا
من الحجر الجيري الناعم من إنتاج الورش الملكية) وعلى
خدمة روحه (عن طريق وقف يضمن مؤنة كاهن يوميًّا).
٢٣ وبدلًا من أن يتمنى بعد موته نيل رتبة
إيماخو، أصبح منذ الآن يطمح في وضع العارف.
أما التجربة التي سيكون عليه أن يواجهها عند وفاته
وهي محاكمة الموتى فهو يخشاها أكثر من خشيته محاكمة
الأجيال التالية.
٢٤ ولن يعينه الاختفاء في القبر بحال من الأحوال
على ولوج دائرة رفاق أوزيريس الخفية. وسيكون عليه أن
يواجه القضاة الجهنميين (دون أن يراهم لشدة رائحة التعفن والتحلل)،
٢٥ وأن يعاني سناهم الذي يخطف بصره، وأن يكابد
أسئلتهم الحادة الموجعة وأن يفهم كلامهم (بينما يظل وجه
المحلفين وصورتهم في خفاء طوال التحقيق).
٢٦ وسيكون عليه أن يعرف أسماءهم «وأن يقول
لأوزيريس: «أنا أعرفك وأعرف أسماء الاثنين والأربعين
إلهًا الذين معك»، وأن يقول لمساعديه: «أنا أعرفكم وأعرف سيماكم»،
٢٧ وأن يكون مستعدًّا بالإجابات الصحيحة، وأن
يقسم اليمين على أن يقول الحقيقة:
٢٨
«– لن أدعك
تدخل عن طريقي إذا لم تقل لي اسمي … هذا ما سيقوله سجاف
الباب:
– اسمك هو: ميزان العدالة …
– لن أعلن
قدومك إلا إذا قلت لي اسمي … هذا ما سيقوله له بواب قاعة الماعَتيْن
٢٩ هذه.
– اسمك عارف القلوب ومنقب البطون.
– من هو مترجم الأرضيْن؟
– هو تحوت
Thot.
ليس المطلوب منه في أثناء هذا النزال البلاغي مع (سيد
الأسرار الخفية) أن يحل لغزًا كما هي الحال بالنسبة
لأوديبوس (أوديب)، ولا أن ينتزع سرًّا كما هي الحال
بالنسبة إلى جلجاميش، بل أن يجد الكلمات المناسبة، وأن
يرتل العبارات المنغمة المسكوكة،
٣١ وأن يهذب لغته، ويختزلها إلى همس الفم الذي
تعرف به الصلاة،
٣٢ أو أن يختزلها ربما إلى مجرد التنفس الحيوي —
في سكون يليق بما سعى إليه المريد من تأمل «سيد السكون»
الذي ساواه لتوِّه.
ولكي يهيئ المصريون أنفسهم في أفضل الظروف لامتحان
الحقيقة هذا تخيلوا وسيلة (لتحقيق الهدف المرجو) هي: أن
يعيدوا تمثيل دراما أوزيريس على الأرض. وخلافًا للتمثيلية
الأسرارية «الشمسية» التي لم تظهر إلا على جدران المقابر،
كانت التمثيلية الأسرارية الأوزيريسية تصلح للإخراج
المسرحي لتوحي إلى الممثلين والمتفرجين بالحجج التي
يستعدون بها لتبرير مطلبهم. وهناك عبارة مكتوبة على أحد
التوابيت تعدد المدن — عشر مدن — انعقد فيها: «مجلس آلهة
أكد انتصار أوزيريس إبان عرض التمثيليات الأسرارية الليلية.»
٣٣
ومن أجل الإفلات من الهضاب الرملية التي تكتنف وادي
النيل الضحوك استحسن المصريون كل السبل. ولم تكن المساواة
التي يحلم بها كل إنسان في نظرهم مساواة بين البشر، بل
مساواة بعض المتميزين بالآلهة. وتمثل الثمن المطلوب دفعه
من أجل محو القطع الفاصل بين الألوهية والبشرية في قيام
سد فاصل جيد بين مريدي أوزيريس وبين غير العارفين الذين
لم يسبروا بعد أغوار أسرار الدنيا.
٣٤
ولم يكن عجيبًا، على مثل هذه الخلفية الدينية، أن
يؤمن الناس في مصر القديمة بقوة الكلمات والأعداد. وكانت
معرفة الإنسان العادي بالميثات والبلاغة والفلك والحساب
والهندسة تجعل منه رفيقًا لأوزيريس إلى الأبد. وكان على
الإنسان أن يستغل وُجودَه في فك شفرة الكون. كانت القراءة
تعني كشف الحجاب عن المستور؛ والكتابة تعني بث الحياة؛
والبناء يعني قهر الموت. وكان «العادل» عندما يخط سطورًا
على سطحٍ مجردٍ أو على ورقة بردي يمسك بالعالم ويجدد حركة
بتاح Ptah
الخالقة.
«هكذا ظهرت هيمنة القلب واللسان على كل الكائنات،
طبقًا للتعليم الذي يريد للقلب أن يكون هو العنصر المهيمن
في كل جسد، وللسان أن يكون العنصر المهيمن في كل فم …
فالقلب يدرك، واللسان يأمر بكل الأشياء التي يتمناها
Ptah … هكذا أيضًا
خُلقت منابع الطاقة الحيوية، وحُددت خصائص الكائن … طبقًا
للنظام الذي أدركه القلب وأفصح عنه اللسان، النظام الذي
لا يكف عن تشكيل معنى كل شيء.»
٣٥
والكائن البشري لا يكون حيًّا إلا بالوعي (القلب)
«الذي يتيح لكل معرفة أن تظهر» قبل أن يجري التعبير عنها
بالكلام. والملك نفسه يدهش في سذاجة لقوته السحرية التي
يمكنه بفضلها أن يكون كريمًا حيال شعبه.
عندئذٍ قال أوزيريس: «لقد فعلتُ هذا بواسطة الكلمة
التي تخرج من فمي؛ ما أجمل ملكٍ في فمه الكلمة!»
٣٦
وكما أن الآلهة تمنح حياةً وهباتٍ بأن تسمِّي بأسماء
(الرب يعرف كل اسم)،
٣٧ فرعون «يعرف» «أصدقاءه»، إنه هو «الكاتب
الرباني الذي يحيط بفكره كل ما قد خُلق والذي يخلق ما لم
يُخلق بعد»،
٣٨ وهو الذي يمنح أقرباءه الألقاب، ويختار بنفسه
أسماءهم في الحكم. وهكذا فالوظائف والمناصب التي يحصل
عليها البشر تصبح على هذا النحو وبالقدر نفسه خططًا
منسوبة إلى الملك. ولائحة الألقاب والصفات التي يستأثر
بها الملك تتخذ شكل برنامج سياسي حقيقي (وهي «محددة
مسجلة» أي مكتوبة على اعتبار أنها نص قانوني).
٣٩ وحورمحب
Horemheb على سبيل
المثال يبرر صعوده بقوة العضلات إلى العرش مؤكدًا أنه لن
يستخدم على نحو غير مشروع صفاته بأنه القائد العسكري؛
ويعد بإرجاع السلطة الكهنوتية، ويعلن رغبته في احترام
العدالة، مدعيًا أن القَدَرَ قد اختاره. وهو
بالفعل:
«حورس «الثور القوي ذو المقاصد الذكية»؛
هو السطوتان، «الذي يقوم بمعجزات كبار في معبد
الكرنك»؛
حورس الذهبي «الذي يرضى بماعَت
Ma’ât ويُخرج
للوجود البلد المزدوج»؛
ملك مصر العليا ومصر السفلى «عظيمة هي مصائر رع،
صفيُّ رع»؛
ابن رع «صديق آمون، حورمحب، الموهوب حياةً.»
٤٠
ولغة الألقاب على ما تتسم به من جمود،
لا تفتقر إلى التدقيق: فاستخدامها يخضع لنحوٍ يتميز بدقة
تشهد عليها المقارنة بين لائحتين من لوائح الألقاب. أما
يحمل شيشُنق
Chechonq٤١ الذي أسس إحدى الأسر الملكية بقوة السلاح
ألقاب «الثور المظفر» و«المتوج بتاج الشمال والجنوب مثل
حورس بن إيزيس» و«القوي ذو الجسارة … والعظيم بانتصاراته
في كل البلاد»؟
٤٢ فشيشُنق، على عكس حورمحب أبعد ما يكون عن
إخفاء أصوله العسكرية، إنه يذكرها ذكرًا صريحًا؛ وبدلًا
من أن يلح في التماس موافقة الكهنة، يفرض عليهم قانون
الوراثة. وبينما يبرز حورمحب خصاله مطابقةً لأصوله
الوضيعة، يشدد شيشُنق على امتيازاته التي يتمسك بها عن
انتماء قبَلي.
(٣) منتدى الكُتَّاب الخالدين
في عقل المصريين القدماء يتداخل نظام اللغة ونظام
العالم بعضهما في البعض الآخر. فالتمكن من العالم يتطلب
سلفًا التمكن من اللغة. باللغة نعرف الكون. والإحاطة
بأسرار اللغة تعني سلوك السبيل إلى حقائق الكون. والثرثرة
المفرطة تؤدي إلى الفوضى، واختلال توازن الكلمات
والأشياء. وعدم التحفظ على الأسرار في الكلام يعطي
الغرماء قوة، فإذا («مكان الأسرار» قد أصبح في أيدي من لم
يكن يعرفه») وهذه عبارة شكا بها رجل وطنيٌّ احتُلَّت
بلاده.
«غرفة السجلات والوثائق المهيبة سطوا على مكتوباتها …
وقوانين الغرفة الخصوصية استولوا على قوانينها ورموها
خارجها … وكشفوا أسرار إجراءات مجلس الثلاثين … هكذا
كشفوا أسرار البلاد التي لم يكن أحد يعرف حدودها … ونشروا
أسرار ملوك مصر العليا ومصر السفلى.»
٤٣
واغتصاب دار السجلات والوثائق أشد خطرًا على النظام
العام من انتهاك حرمة قبر. إنه يشبه دخول ملكٍ خاص دون
دعوة من المالك، بينما ترتفع من حوله (الأسوار لتستر
الرجل) و(لتحفظ ما في داره سرًّا مصونًا).
٤٤ ولم يكن الواحد يعتبر مذنبًا حقًّا ما دام
يستطيع أن يعلن أمام محكمة الموتى أنه (لم يعرف ما لا
ينبغي أن يُعرف). وأنه يقبل بأن (يدوم حفظ الأشياء
الشديدة السرية، حتى لا يستطيع أي كائن من كان أن يرى أو
يشاهد أو يعرف جسم أوزيريس).
٤٥ فإذا عجز الإنسان عن النطق بهذا الإعلان عن
براءته (لقد أُعطيت الفم لكي أستطيع أن أتكلم أمام الآلهة)،
٤٦ لم يكن السبب في ذلك أنه لم ينبَّه إلى
المخاطر المحدقة: كان الزوار الذين يفتقرون إلى الرقة
تراقبهم عين الميت، مرسومة على التابوت، أو على تمثال
يعكس ببراعة الشعاع الصادر من طاقة في قلب مقصورة مظلمة.
٤٧ كان في مقدورهم أن يقرءوا تحذيرات حادة من
قبيل: ليعلم كل من يدخل قبري، سكني، وهو يتكلم، أن رفع
الصوت جريمة، وأن سنواته ستنقص؛ وأنه لن ينال مدفنًا، وأن
زوجته لن تلد له وريثًا.
٤٨
وهناك حراس يقظون مرعبون ينتمون إلى «الفصيل الجهنمي»
من الجن يردُّون إذا نوديت أسماء حلوة من قبيل «المعذِّب»
و«ناهب القلوب» و«التصفية الفورية» إلخ يمكن أن يظهروا
بغتةً في كهوف القبور التي ما كان أحد يصل إليها إلا من
خلال متاهات حقيقية. وكان البيوت ذاتها محاطة بأسوار
عالية كأسوار قصور الأمراء السعوديين في الرياض. وكان على
الزوار في ذلك الزمان أن يداهنوا البوابين اللينين
ويرشوهم لكي يعبروا عتبة المقابر، كما يفعل في أيامنا هذه
بعض السائحين الذين لا ينخرطون في مجموعات سياحية. كان
هناك على ساحة العمل العام وزراء من ذوي الحسب والنسب
وبوابون متواضعون يصونون أسرار الدولة بنفس
الإخلاص.
كان كل واحد من الأشخاص العاديين أو الموظفين، من
الأحياء أو الأموات، من البشر أو الآلهة، يبذل جهده على
هذا النحو للحفاظ على خصوصياته الحميمة، وأسرار عائلته،
أو حزبه، مستندًا إلى مفهوم ارتيابي عن الحياة (لا تثق في
أخيك، لا تعرف أصدقاء، لا تصطنع لك أصفياء، فكل هذا لا
خير فيه).
٤٩ كان مثل هذا الشعور بالعزلة يغذِّي شكًّا
ميتافيزيقيًّا لم يكن الملك نفسه بريئًا منه. فكان صعوده
السماوي يقوم على جهد جهيد: فحسب ما نجد في نصوص الأهرام،
وهي تعبير عتيق سحيق عن المعتقدات المصرية حيال الآخرة،
لم يكن الملك ينال مكانه بين النجوم إلا بعد أن يبذل
جهدًا جهيدًا يفوق طاقة البشر. والصلف البلاغي لا يستر
إلا على نحو سيئ خوف فرعون في اللحظة التي كانت حياته
فيها تنقلب.
«الملك يصعد إلى السماء ليكون بين الآلهة الذين
يقيمون هناك … وهو لا يزال يسمع كلمات البشر … والآلهة
تقول له: «تعال … اقترب»». «سيمد رع إليك يده بما هو حامي
السماء؛ تعال بجوار عرشه … لتحيا هذه الحياة الحلوة التي
يحياها سيد الأفق … تعال أيها الملك، فلا ينقصك شيء …
حامية القلقين تأتي … لا شيء ينقصك … قف أمام أبواب
السماء، ورُد البشر ردًّا.»
٥٠
خمسة آلاف سنة تفصلنا عن هذا الإيمان الأولاني، ولقد
كان آنذاك مهتزًّا مثل إيماننا في أيامنا هذه: هكذا
الإنسان يصعب عليه أن يتخلى عن الوجود، حتى عندما يكون
موعودًا بالفردوس. وليس هناك شك في أن خوفه من العزلة
الثلجية في الكون يفوق خوفه من عزلته الاجتماعية على
الأرض. وهو يقدم ضد إلحاح الآلهة الظاهري، وخوفه من أن «يضايقهم»،
٥١ الرؤيا الحزينة لمملكة الموتى الشائعة في
التراث الأنتيكي الإغريقي الروماني. وما العمل لو لم تكن
الحياة الأبدية شيئًا آخر غير ذلك الجولان بلا نهاية الذي
شكا منه أخيلُّوس إلى يوليسيس مر الشكوى؟
٥٢ ولو لم تكن المتح الموعودة في النصوص الدينية
إلا متعًا محدودة بزمن؟
لا ريب في «أن هؤلاء الذين بنوا صروحًا من الجرانيت
وشيدوا … أهرامات بلغت الكمال أصبحوا آلهة؛ ولكن هذه
موائد قرابينهم الآن خاوية مثل موائد قرابين المهجورين
الذين ماتوا على الشاطئ، دون خَلَف؛ أخذ التيار منهم
نصيبه، وأخذت حرارة الشمس نصيبها؛ لم يعد يكلمهم إلا سمك الشط.»
٥٣
كأننا نقرأ الحكاية المرعبة التي حكاها أمير رافديني
بعد زيارته لجهنم، «مملكة التراب»، إلا أن الملوك الذين
لقيهم في هذا المكان الحزين «تجردوا من تيجانهم» وتبرموا
دون «مبالغة من العناء والبهجة جميعًا.»
٥٤ ربما كان المتمتعون بالحياة في وادي النيل
يقبلون، فيما يخصهم، أن يكون الملوك والنبلاء قد حفظوا في
هذه الصحراء بعض المزايا الطفيفة، ولكن ماذا عن
الآخرين؟
«أولئك الذين كانوا فيما مضى آلهة يرقدون في
أهراماتهم وكذلك الموتى الذين نالوا التعظيم والتبجيل.
أما الذين بنوا مقابر فلم يعد لمقابرهم وجود، فإلام صار
أمرهم؟ … ما من أحد يعود من المكان الذي يوجدون فيه
ليحدِّثنا أخبارهم».
ولقد كان للمصريين أيضًا مارقوهم. ولم يكن من الممكن
أن يؤدي الانتشار الحر لمثل هذه الآراء المارقة إلا إلى
تثبيت صفوة السياسيين على اقتناعهم — وهو اقتناع دنيوي
تمامًا — بأن خلاصهم في الدنيا والآخرة لا يتحقق لهم إلا
بقدرتهم على فرض الاحترام. وكانت الوصفة المصرية لتحقيق
الخلود تتلخص في تكويم السلطة وترسيم الأرض (لوحة حجرية
للقرية الجنائزية، نجمة القبة السماوية). والعمل السياسي
في الدنيا يَعِدُ بنيل النعيم في الأخرة، إن لم يكن
بديلًا عنه. والتمتع بالحياة أفضل من الابتهاج بالموت،
على الرغم مما اعتاد المصريون ترديده من ادعاء. ومنهم من
قلت مقاومتهم للإغراء الذي تعرض له آدم وفاوست أو دوريان
جراي لأنهم لم يكونوا يعتبرون هذا الإغراء شيطانيًّا، بل
يعتبرونه سحريًّا بكل بساطة. كان ما تطمح إليه النُّخَب
يتلخص في معرفة أسرار الآلهة، وفي إخفائها على الآخرين مع
العمل على تهويم ظل قدرة غيبية غامضة
٥٥ تسمح بالوصول إلى «تلك الرتبة التي تتيح
للإنسان أن يعمل ما يحب، وألا يعمل ما يكره.»
٥٦ والملك هنا، كما هي الحال في بلاد الرافدين،
ليس إلا الأول بين أنداده، وأجلُّ أتباع الطائفة الصادعة
بالسلطة، وأسطون العواطف الملتهبة التي يمكنها من فرط
لهيبها أن تحرق كل من لا يعرف كيف يقاومها أو يريد أن
يطلقها لغايات أخرى غير خدمة النظام الحاكم. إنه رئيس
جماعة من أعضاء سواسية اختار الإجابة الصحيحة التي تحل
لغز الآلهة المحيِّر: «من أراد الحياة سيعيش، ومن أراد
الموت سيموت.»
ولم يكن دخول الدائرة الداخلية على الرغم من ذلك بلا
خطر: كما هي الحال في البلاد الإسلامية وفي البلاد
العربية التي يهيمن عليها حزب البعث اليوم، لم يكن من
الممكن الخروج إلا بالموت (فالميت عندما يتم قبوله في
المجلس السماوي «لن يتحدث عما رأى، ولن يعيد ما سمع من أسرار»).
٥٧ ولو فعل ذلك فسينتهي به كشفه الأسرار إلى
الوشايات الخبيثة، والتشنيع، والفرية أو إلى
الندم.
«يا فؤادي الذي جئتني من أمي … أنت شاهد، فلا تقف
ضدي؛ لا تتصدَّ لي عند محاكمتي، لا تكن عليَّ في المحكمة،
لا تناصبني العداء في حضرة صاحب الميزان … لا تجعل اسمي
مقيتًا عند أعضاء هيئة المحكمة … أنا سيد الذين قد
يتصرفون ضدي واللاتي قد يتصرفن ضدي في الآخرة؛ وسأهيمن
كذلك على ما يمكن أن سيصدر ضدي من أمر على الأرض.»
٥٨
ألا يخون
الماثلَ أمام المحكمة ضميرُه في لحظة مواجهة القضاة، وأن
يتلو بصوت ثابت ومفعم بالاحترام خطاب استقباله («تحية
إليكم يا سادة الأبدية بهيئاتكم المستورة، يا من لا يعلم
أحد مكان إقامتكم») كل هذا كان من شأنه أن يتيح له أن
يتطهر من خطيئة البشر الأصلية («أبناء جب
Geb — إله الأرض — هم
الذين يسقطونك»)
٥٩ وأن «ينخرط في اتحاد الآلهة وأن يتخذ سيماء
رئيس المجلس الإلهي.»
٦٠ وأن «يدخل مقر أوزيريس ويرى الأسرار التي
به»، «وأن يقَدَّم في حضرة آلهة التاسوع ويُعامل على أنه
واحد منهم»، و«أن يلحق بمجلس الأروقة الإلهي … المكون من
المسعدين». وكان هذا المجلس يتكون من سبعة آلهة يعيَّنون
بأسمائهم، متمايزين عن التسعة السابقين — التاسوع —،
يعاونهم الآخرون جميعًا، لأن «مجلس كل رب وكل ربة»
٦١ كان أوسع كثيرًا، فكان من السعة بحيث يستطيع
أعضاؤه أن يستقبلوا بينهم العادل الجديد، الذي يوشك أن
يتوه وسط إغفال الأسماء. وكان العادل الجديد يحلم بمقام
أرفع، وقد انتصر على واحد وعشرين حاجبًا، واثنين وأربعين
من الجن الجهنميين، وعلى عدد غير محدد من السيكيميو
sekemyou، وهم من قبيل
شيوخ الكتبة الهرمين، الذين قل قدرهم عنه قلة ظاهرة.
٦٢ ولكنه لم يفقد الأمل في أن يصبح ذات يوم
عضوًا في مجلس الآلهة المحدود (هل المقصود هو مجلس التسعة
— التاسوع — الذي يجتمع في «غرفة المستشارية»
٦٣ أو مجلس الرواق الواحد والعشرين؟) وربما كان
مجلس الواحد والعشرين متمايزًا عن المجلس العام لأن الميت
«قد أُعلن عادلًا أمام التاسوع وأمام المجلس.»
٦٤
وأوزيريس ليس عضوًا في التاسوع الذي يرأسه رع، بل هو
«رئيس مجلس» الموتى. فهل نحن أمام برلمان من مجلسين؟ ليس
هناك ما يؤكد هذا الرأي: والفكر المصري يحرص على التماثل
بل يفرط فيه، فهو يقسم التاسوع إلى نصفين متماثلين كلُّ
نصف يعُدُّ أربعة يحفان برع
Rê٦٥ من يمين ويسار، وهو يقسم السماء إلى نصفين،
نصف علوي ونصف سفلي، أحدهما وجه العالم، والآخر ظهر العالم،
٦٦ يجتمعان معًا في الصور التمثيلية الدنيوية
للكون («يا أيتها الآلهة المقيمة في أبيدوس، ها هو ذا
المجلس يجتمع كاملًا»؛
٦٧ الآلهة حاضرون كلهم «في المحكمة الكبيرة التي
في أبوصير
Busiris» عبارة
مرادفة لمجلس الآلهة «الذي يتقرر فيه كل شيء بالنسبة للميت»).
٦٨ صحيح أن هناك «مجلسًا إلهيًّا للمقاطعات
الإدارية» من قبيل مجلس الشيوخ الذي توفد إليه المقاطعات
الإدارية ممثلين عنها؛ ولكن نظرًا إلى ما قد تحدد بشأنهم
من أنهم «يبحرون على متن سفينة رع»
٦٩ فهم لا «يمثلون» سوى حجيجًا يؤدون كل يوم
رحلة عبر العالم. وما الحياة، في الدنيا وفي الآخرة، إلا
رحلة نهرية في نهر تكتنفه الأبواب؛ والأبواب هي ساعات
نهار أو ليل من المحتم اجتيازها حتى يبقى نظام الكون في
الوقت الذي يزيد فيها اضطراب المريد جسدًا وروحًا.
فالامتحانات تتوالى عليه بلا انقطاع، وعليه في كل ساعة أن
يسلك مسلكًا منمطًا وأن يردد الإجابات الصحيحة، وأن يَقنع
بها؛ فالعبارات المفاجئة المثيرة ممنوعة.
وبعض ترجمات النصوص القديمة سحيقة تذكر أن هناك
«وجهاء» و«عمومًا» الوجهاء من مجمع الشمال، والعامة من
مجمع الجنوب، دون أن يحصلوا، نتيجةً لذلك، على الالتحاق.
٧٠ وليس هناك ما يمنع من أن نرى في ذلك احتمال
قيام ديمقراطية أصلية، فقد كان أوزيريس يسمى من قبل «سيد
الاقتراع الملكي بالتصفيق» في مدينته الطيبة أبو صير التي
كان «ملكًا» عليها بإرادة إلهية: اختارته الآلهة ثم كان
من الضروري أن يعتمده الوجهاء المحليون …
٧١ والرأي عندنا — هو أكثر من مجرد احتمال — أن
المشاركة الشعبية قد قلت على مر القرون على مثال ما حدث
في بلاد الرافدين. كذلك نرى رأيًا هو أكثر من مجرد احتمال
يتلخص في أن الخط القاطع الفاصل بين الشمال والجنوب، بين
المواطنين والأرستقراطيين، لم يكن سوى ميثة تأسيسية
للمملكة المصرية، هي إعادة تكوين مثالية لتاريخٍ لا
نعلمه.
كان المجلس السماوي واحدًا منفردًا لأنه كان مشكلًا
على نموذج بلاط كبير بالمعنى الثلاثي للفظة
cour: المعنى المعماري
والمعنى الملَكي والمعنى القانوني. وكان أعضاء البلاط
البارعون واسعو الحيلة، وقد توزعوا في الأركان الأربعة،
يخفون عن الجمهور علاقاتهم الغيبية أو حججهم الحاسمة التي
يتوسلون بها لنيل الخلود. كان على كل واحد أن يدافع عن
قضيته بثبات أمام كل مجموعة من المستشارين وأن يجد ولاءه
وأن يعلن في مرافعته أنه بريء ومخلص وأن يقنعهم بأن ما
عمله في الدنيا من أعمال حميدة خالصة من كل شبهة لا يمكن
إلا أن تشهد في الآخرة على النوايا الخالصة.
«لن أُرَدَّ ولن أُبْعَدَ، وسيعود الشباب إلى كياني
عندما أرى كمالَكَ مثل كل المصطفين، فقد كنت في الدنيا
واحدًا من مبجليك.»
٧٢
(٥) جماعة العارفين
والتعريف الكهنوتي هو النمط الدنيوي لدخول زمرة
العارفين. ويمكن أن يتم هذا الدخول الذي يُتوِّجه «تقديم»
الكاهن بين يدي الإله — أو الوزير مع مَعية فرعون — دفعة
واحدة، إذا كان العارف «قد اجتاز في اليوم نفسه كل المسار
التعريف إلى قدس الأقداس وهو الناوس
Naos»
٧٨ أو على مراحل. والكاهن العادي في نهاية
تكوينه، في الخامسة والعشرين من عمره تقريبًا، وهو الكاهن
الخالص واسمه في اللغة المصرية (وع ب
w’b) يصبح «أبًا
ربانيًّا» (كاهنًا «عارفًا» أو «نبيًّا») مقبولًا وراء
الحرم في «تاسوع الأحياء» (مقابل مجلس الآلهة)، «بعد أن
صعد من خلال دروب السماء الصعبة.»
٧٩ ويكون في هذه اللحظة قد ترك لتوِّه العالم
الدنيوي إلى العالم القدسي، كما يغادر عند موته عالم
الموظفين الأموات إلى عالم الآلهة الأحياء. لقد طفا من
النهر في نور غامر، متمايزًا هكذا عن الكائنات المائية
التي تغوص في أعماق المياه والظلمات، محاكيًا انبثاق الرب
الخالق إذ غادر المحيط الأولاني السحيق غير المتمايز إلى
عالم النور والحقيقة والعدل، مقلدًا بالحركة دون الصوت
تنصيب الملك أو الوزير الأعظم المكلفيْن بفرض احترام ماعت
ma’ât.
٨٠
والاستعارة المائية ليست ظاهرة طبيعية مألوفة إلى
الدرجة التي قد يتصورها البعض بالنسبة إلى شعب يعيش على
شاطئ النيل وقنواته. وأكبر الظن أنها جاءت في أصلها من
اتحادات صيادي السمك وسجلهم اللغوي المتصل بالأسماك.
٨١ ولكي يدخل الصبي المتدرج الذي يتعلم صيد
الأسماك اتحادًا من اتحادات صيادي السمك يكون عليه أن
يجتاز امتحانًا حِرفيًّا يجيب فيه بإجابات دقيقة عن أسئلة
يوجهها إليه زميل حِرفي أقدم منه. عليه أن يعرف كل أجزاء
الشبكة، وأن يعرف كذلك المعنى الرمزي لكل جزء منها، وكان
هذا الامتحان يمثل شرطًا أوليًّا لضم صياد جديد ووضعه على
درجة زميل. كذلك كان التبحر في المعرفة بالإضافة إلى كونه
علامة على الموهبة، يكتسي معنًى صوفيًّا؛ لأن الصيادين
يستعيدون في حركاتهم اليومية حركات الكون. ولهذا كان
الممتحِن حريصًا على أن يتبين في الممتحَن ضمانات الإخلاص
وعلامات الكفاءة. وكان على الطالب المتقدِّم لهذا
الامتحان أن يبين هويته («من هو، وعم يتكلم؟») ثم كان بعد
ذلك يلقي خطبة تشبه أشد الشبه خطبة «إعلان البراءة»
الشهيرة التي يلقيها الميت بين يدي أوزيريس، مؤكدًا فيها
أنه يحترم أباه، وأنه أتى متواضعًا لكي يصحو نَفَسُه
ويرتد جسمه إلى الحياة. وفي أثناء شعيرة العبور كان
الطالب يحاكي بالفعل حوارًا مع الموت الذي انتصر عليه
بفضل تَمَكُّنه من فنه. والأرجح أن كل الاتحادات الحرَفية
— ابتداءً من البحارة، وممارسي حرف الترسانات البحرية —
جرى تنظيمها تدريجيًّا تبعًا لهذه الإجراءات الشعبية.
والكلمة الدالة على دار الصناعة «الترسانة» (كلمة: أُوخر
oukher) انتهى أمرها
إلى أن أصبحت تعني دون تحديد دار الصناعة البحرية ودار
الصناعة الحرفية (النجارين والنحاتين). كذلك الكلمة التي
تدل على طاقم السفينة (كلمة: حيم
hem) تدل كذلك على
النجارين، ومن هذه الكلمة اشتقت الكلمة الدالة على
الاتحاد الحرفي (كلمة: حيموت
hemout).
٨٢ وهكذا فقد اكتفت متون الأهرامات
الأرستقراطية، ثم الصيغ المرسومة على التوابيت، ولفائف
البردي وأشرطة الموميات بتكرار مراحل وعبارات شعيرة
التعريف التي كانت في الماضي مخصصة لبناة السفن وصناع
أدوات صيد السمك وحدهم. وهكذا يمكن على الأرجح تفسير
تفضيل المصريين للصور البحرية في الأناشيد الدينية
والوثائق الإدارية. وستظل لوائح الألقاب سواء منها
العسكرية أو المدنية تحتفظ لوقت طويل بآثار هذا التصوير
النمطي البحري الذي ربما كان نارمر هو أول من أوحى به
(حَرْبة صيد السمك الواردة في كتابة اسمه). ويحظى
بالتكريم في الدولة الوسطى
٨٣ من لقبه «مسئول الصيادين بالحربة» والذي
يكتنف الغموض مهامه. أما في الدولة الحديثة فهناك تمييز
وتحديد دقيق للرتب والقيادات البحرية: الأنفار، البحارة،
المجدفون، العتالون، كتبة السفن، وكانت هناك أطقم كاملة
وضعت تحت مسئولية رؤساء مختلفين.
٨٤ وكان للمصريين كلفٌ برسم العديد من نماذج
السفن، حتى إن رسومها المعروفة منذ ما قبل التاريخ فاقت
بعددها وتنوعها الحدود فلم يعد من الممكن أن نستخلص منها
تصنيفًا مقنِعًا. إلا أن رسوم السفن هذه ظلت، على الرغم
من كثرتها المفرطة، وتنوعها المفرط أيضًا، تملك علينا
فكرنا بإلحاح أي إلحاح فنظن أنها تنزع بذلك نزوعًا خصوصًا
إلى ترجمة الحياة السياسية والمعتقدات الدينية إلى لغة
الحِرَف المتصلة بالماء العذب.
٨٥
وأغلب الظن أن تعريف الكهان الجدد نبع هو أيضًا من
تعريف الزملاء الصيادين الجدد لأن الكلمات المستخدمة في
الحالتين هي نفسها. والأرجح أن يكون تطابق الحرفتين قد
جرى بسهولة نظرًا لأنهما نهجتا نهجًا واحدًا في تصوير
الدنيا على مثال الآخرة، حيث إن التوغل في الأسرار
الحرفية كان أيضًا توغلًا في أسرار الطبيعة وفهمًا لها،
وكانت للمعارف الدينية تأثيراتها العملية على إنجاز
المهام العادية بنجاح. فلم يكن عالَم الموتى إذَن نقيض
عالم الأحياء، بل كان موازيًا له. وهكذا كان العارفون،
«المستنيرون» — نتيجة كشف المعارف التي كان من المفترض أن
تظل مستورة محجوبة عن عامة الناس — يعيشون في عالَم
النور، هذا العالم الذي لم يكن السَّمَكُ ينفصل عنه إلا
بمرآة صفحة الماء، تلك الشاشة النورانية التي لم تكن
الكائنات المائية الشريرة تستطيع اختراقها؛ لأن شِبَاك
إيزيس كانت لا تكف عن ردها إلى أعماق البهيمية والجهالة السحيقة.
٨٦
كان المهندسون والبناءون هم أيضًا يحولون الجهل إلى
معرفة، واللامرئي إلى مرئي، وظلمة سراديب مدخل المقبرة
المتلوية كالمصارين إلى صفحة زخرفية ناعمة لامعة صقيلة.
ولقد كانت تعبئة عمال قليلي الكفاءة ليبنوا على مشارف
الصحراء مدافن تُنوِّع فنيًّا الأشكال الهندسية الأصلية
(المُعَيَّنات، المتاهات، الأهرامات) تفرض على رؤساء
العمال أن يؤلفوا بين هؤلاء العمال بدقة بغية تجاوز قصور
كفاءاتهم الحرفية الفردية. كانت هناك وظلت حتى الدولة
الوسطى، منظومة ذكية، قائمة على تشغيل العمال في جماعات
متناوبة (يطلق عليها بالإغريقية اسم
phyles، أي زمرة أو
عشيرة أو طائفة
clans،
طائفة من العمال أو من الكهنة)، وأتاحت هذه المنظومة لكل
جماعة حمل نصيبها من العبء العام، بل وسمحت في كل عصر
جديد ببناء مجمَّع جنائزي أكثر روعة من الذي سبقه، ومن
تشغيله وصيانته، بدلًا من توسيع وتجميل المجمعات
الجنائزية القائمة وهو النهج الذي ستنتهجه الدولة الحديثة
في الأقصر والكرنك. وهكذا ظل المشروع يتناسب مع المقومات
البشرية المتاحة في كل عصر. وهذا الرأي الذي نراه يناقض
رأيًا متناقلًا يقول إن عمال منف هم وحدهم الذين صُرفوا
عن عملهم المعهود من أجل العمل في بناء الأهرامات. فهؤلاء
العمال لم يعملوا تحت ضغط أو إكراه مثل العبيد ولا عن هوس
ديني مثل المتعصبين، وإنما تصرفوا بروح الفريق المتوقعة
من الجماعات المتلاحمة، المعتزة بكرامتها، الملتزمة
بمواعيد دقيقة في ساحة عمل كالترسانة وطبقًا لكراسة توزع
الأعباء وترتب لكل جماعة نصيبًا من أرباح المشروع، رمزيةً
كانت (النجاح المعماري، احترام المواعيد) أو مادية (الأجر
اليومي للعمال، التكليف العام بإقامة منشآت جنائزية لصالح
أصحابها). ولقد جاء الاكتشاف الحديث لقرية الحرفيين
ومعسكر العمال في الجيزة فنقض نهائيًّا الفرضيات
«الاستبدادية» المرتبطة بولع خوفو بالضخامة. صحيح أن خوفو
فصل الحرفيين والعمال عن مدينة الهرم بسور بلغ ارتفاع
بوابته الرئيسية سبعة أمتار. ولكن سكان هذه القرية الذين
لم يزد عددهم على ١٥٠٠٠ (ثلثهم من الحرفيين، وثلثاهم من
العمال) قد جمعوا معًا في «جماعة عمل
communauté de travail»
حقيقية (= بير — شنع
per
shnc). كانت لهم معامل بيرة خاصة بهم،
وكانت لهم مخابزهم وكانت لهم قرافتهم التي يدفنون بها
موتاهم، ومعهم أدوات شعائرية منها أحيانًا ما هو مثير
خلاب، إما في مقابر ذوات قباب، وإما تحت أهرامات من الطوب
كانت لها شعبيتها الكبيرة في ذلك العصر حتى إن الملوك
وأقاربهم استلهموها وبنوا على نسقها أهراماتهم من الحجر.
٨٧
وكانت كل كتلة حجرية مستخدمة في موقع عمل إبان الدولة
القديمة تُعَلَّم في طريقها من محاجر الحجر الجيري إلى
البناء الذي ستستقر فيه باسم واحدة من الجماعات المتناوبة
الخمس، ثم العشر، هي الجماعة التي تحمل مسئوليتها. وكانت
كل جماعة تنقسم إلى فرقتين، وكانت كل فرقة منهما تنقسم
إلى فُرَيْقَات لا يقل عددها عن اثنتين وعشرين، كما تبين
الأسماء التي تم جمعها من هرم خوفو الأكبر، كل فُريْقَة
تتفنن في استخدام حرف من الحروف المكونة للاسم الملكي.
٨٨ وكان التحديد الدقيق للمهام المطلوبة يسمح
لكل مجموعة بألا تُعبأ للعمل إلا لجزء من الوقت (في سنة
مقسمة إلى عشرة شهور عمل، كان كل فريق من فريقي كل جماعة
من الخمس جماعات يعمل من كل شهرين شهرًا واحدًا) وتظل
مشاركة في النتيجة الكلية. وهكذا كُلف بالجدارين الشمالي
والجنوبي لإحدى الغرف الجنائزية فريقان متمايزان، على
الرغم من أن المقبرة تقع في النصف الشمالي أو النصف
الجنوبي من الصرح، وكان أحد الفريقين ينهض وحده بعبء
إنجازه بالكامل. وكان اختيار مناهج العمل التي يتبعها كل
فريق متروكًا على ما يبدو لأولئك الذين يبثون الحياة فيه
مع الحرص على ألا يدفع فريق عمل فرقًا أخرى تتعدى عليه
وتتجاوزه، وأن يرسِم كل فريق بالحبر الأحمر علامته
المميزة على كل حجر منسوب إليه (وبخاصة إذا كان الربط بين
جدارين متلاصقين قد قام به فريقان يعملان متزامنين).
وكانت هذه العلامات السرية تُغَطَّى عند الفراغ من العمل،
فتلاشت بمرور الوقت في المباني التي لم تتم، ولم يعثر
الباحثون على آثارها إلا بجهد جهيد.
٨٩
وترجع أصول الكلمة المصرية الدالة على هذه الجماعات
والعلامة الشخصية لكل جماعة — كما هي الحال بالنسبة إلى
اتحاد الصيادين — إلى ما قبل الأسرات. تشهد على ذلك
الهيروغليفات المستخدمة لكتابة الكلمة التي يترجمها
المترجمون إلى
phyle
بالإغريقية [وترجمناها إلى «جماعة» بالعربية] (وهي العقلة
— حبل لعَقل الحيوانات وتقييدها — والحظيرة) وأسماء كل
واحدة منها وفيها رموز طوطمية أولانية لم تختف تمامًا
(أسد له رأس صقر، ثعبان الكوبرا، عقرب، قرد من نوع
القردوح) إشارات إلى طريقة تجنيد العمال على أساس طقوس تعريف.
٩٠ كان هؤلاء أكثر من جماعات من العمال، كانوا
قبائل يواجه بعضها بعضًا على ساحات العمل. تقوم بينهم
منافسة تحرص فيها كل جماعة عصبية على إخفاء أسرارها أشد
الإخفاء: فإفشاء الأسرار الحرَفية كان يعني النيل من
التقسيمات العشائرية ومن التضامن ومن خلود المشروع
المشترك، ويعني في الوقت نفسه النيل من نظام الكون الذي
يرمز إليه البناء عند تمامه. ولهذا كان على كل قائم
بالبناء أن يؤكد حرصه على إخفاء الأسرار حتى تظل ذكراه
محط التشريف والتكريم، على مثال اليمين الذي يحلفه كبار
الموظفين.
«أنا لم أتسلل إلى مكان عمل الأب الإلهي، ولم أجرؤ
على أن أمس بفمي القربان الإلهي … ولم أفش أسرار أمور تخص
القصر الملكي. ولقد كانت اللحظة التي شهدت إدخالي في هذه
الوظيفة الممتازة، وظيفة المأمور والوزير، هي اللحظة التي
أدى فيها جانبي الملحوظ إلى دفع مركزي عاليًا في سلم
الدرجات الصاعد»
٩١
وبعد أن يسلم المهندسون المعماريون المعابد إلى
الكهنة، كان الكاهن الأكبر — الذي يختم بالشمع باب المصلى
المقدس — يقوم كل يوم بإغلاق المعابد. وكان مديرو المنشآت
العامة والقضاة الرئيسيون الذين يفوضون في استخدام الختم
الملكي يبصمون بالختم الملكي وثائق الدولة السرية. وكانت
كل هذه الشخصيات تؤدي اليمين، ويجري تعيينها، وتَنصيبها
على نحو يتسم باليقظة الشديدة، فقد كانت تستقي من هذا كله
حصانة حقيقية، على نحو ما تضمنته العبارة التي يذكِّر بها
خيتي الثالث Khéti III
ابنه ميريكارع
Mérikarê.
«لا تفتك برجلٍ … كنت تترنم معه بكتب الماضي؛ فمن
يستطيع قراءة كتاب سيبو
sipou، تسير قدماه
بحرية في الأماكن المقدسة.»
٩٢
وكان فرعون في الواقع «يقدم» الكاتب إلى أنداده، على
النحو الذي تم به من قبل — كما تذكر الأسطورة — قبول حورس
لدخول دائرة خالاته وعماته وأخواله وأعمامه الربانيين.
٩٣ كانت مرآة النهر والكسوة الزخرفية الجيرية
التي تلقي عليها الشمس أشعة قُمعية حتى ذلك الحين تفصلان
العالم الهوائي المنير عن العالم المائي أو تحت الأرضي
المعتم، وستحل محلها منذ الآن غلالة كغلالة الحريم فاصلةً
بين المدينة وبين العالم المأهول.
حينئذٍ اتخذ الوزير اسم «صاحب الستار»، والستار قماش
ثقيل يحركه صاحب الستار بالمعنى المجازي لكي «يقدم» حسب
الدور المدافعين الذين شُهد لهم بأنهم جديرون بجلسة،
مَثَل المدافع هنا كمثل صياد السمك الأريب الذي يأخذ من
سلة صيده الأسماك الكبيرة، ويلقي إلى الماء الأسماك
الصغيرة. والرجل صاحب الشبكة، والرجل صاحب الستار،
وسيطان، أحدهما وسيط بين المكان المائي والمكان السماوي،
والآخر وسيط بين المكان العام والمكان الخاص. وهما يرمزان
بطريقتهما إلى العبور من الدنيوي إلى المقدس الذي يبينه
على نحو برَّاق ذلك الرجل الذي يرتدي ثوبًا من الصوف
الخشن الداكن. ولهما صفات من امتيازات الكهنة، تمنحه
امتيازًا مشروعًا.
ومحترفو الدين ومحترفو السياسة لا يزيدهم احترافهم
هذا إلا تضامنًا، بعضهم مع البعض الآخر. وهم يتناقلون، من
المعلم إلى التلميذ، قواعد «مؤسستهم المعمارية»، وأسرارهم
الخاصة بالبناء والمعمار والعمارة، ومعارفهم الطبية،
والرياضية، وكتابتهم «الألغازية»، أو بكل بساطة، كتابتهم
السرية التي أخفيت على جدران الممرات الجنائزية الجانبية
التي لم يكن الزوار مهما بلغ بهم الفضول يفهمونها إلا فهم
الدرجة الابتدائية لأن العلامات النادرة الغريبة الغامضة
المعكوسة، أو حتى المشفرة، كانت تحمي أسرار العارفين.
٩٤
«أولئك الذين في سفينة رع هم الذين ينقلون عبادات رع
إلى من هم في السماء العالية … وأنا أعرفهم بالكتابات
المقدسة الهيروغليفيات. لقد تم تعريفك بأربع عبارات سرية.
لا تنطقها على نحوٍ لا يتيح لأي من غير العارفين سماعها وفهمها.»
٩٥
وأعضاء طاقم الرب الذين تم اختيارهم بالفرز الدقيق،
إذ يركبون معه السفينة للرحلة الأرضية والسماوية، ويصدون
الثعبان البحري الشرير، هم نماذج لمسيرة وظيفية ناجحة،
حتى إن عمال الجبانات الملكية يقسمون هم أيضًا إلى
فريقين، فريق ليسار السفينة، وفريق ليمينها، تحت سلطة قبطان.
٩٦
(٦) صعود الهرم الاجتماعي
ليس هناك شيء أبعد عن القدسية في تطلعات الملاحين
المجدِّفين الذين يريدون أن يخرجوا من رتبتهم: فدخول جسم
الموظفين، أو سلك الموظفين، ثم صعود درجات السلم من
داخله، كل هذا يمثل تكرار حركة الإله الخالق إذ وعى ذاته
في الزرقة العظيمة بالأعماق المائية حيث ينجرف ببطء قبل
أن يطفو في رخة هائلة، أو يمثل تكرار حركة فرعون الأول
صاعدًا إلى السماء، مستندًا على درجات هرمه، منعزلًا عند
كل درجة عن سابقتها، تاركًا على نحو متزايد عند كل خطوة
أولئك الذين لم يستطيعوا الصعود معه.
والانخراط في مسار وظيفي صاعد هو السبيل الأكيد إلى
بلوغ الفردوس. فمن يتميز في الدنيا يُعِدُّ نفسه للحياة
الأبدية؛ ومن ينمق سقفًا بالهيروغليفيات العليمة
الألغازية لكي يذكِّر التابعين بِكَلَفِهِ بالخدمة
العامة، يعبر عن تقابلٍ بين القيم والفضائل السياسية من
ناحية وبين الاعتقادات الصوفية والدينية من الناحية الأخرى.
٩٧ وأعلى الناس جدارة مَن يصل إلى هذه المرتبة،
أيًّا كانت أصوله الاجتماعية، مثل حوري
Hori الذي لم يكن ابن
نبي، فلم يمنعه ذلك من أن يشق لنفسه طريقًا بين الكهنة
العارفين، وساعده على ذلك معرفته بالسراي وطقوسها.
أنا «داخلٌ طاهر» … اقْبَلْ وثيقتي حتى أستطيع العبور
إلى هناك … أنا من طيبة. فيها ولدتُ، فما أنا بِدَخيل!
٩٨
كانت شعبنة الحياة الأبدية —
٩٩ فتح الحياة الأبدية أمام الشعب — باختصار
علامة على مقرطة الحياة كلها، فتح الحياة أمام الشعب،
والسلوك بها مسلك الديمقراطية. لم يعد أصحاب المناصب
الرفيعة في نظام الحكم الفرعوني، وهم يحوزون تدريجيًّا
الامتيازات الملكية، يقنعون بالبقاء أحياءً بعد الموت،
بأن يضمنوا لأجسادهم الطقوس الجنائزية المناسبة، بل
أصبحوا يطالبون هم أيضًا بالخلود الذي كان فيما مضى
قاصرًا على الملك. لم يعودوا يتلاشون وراء فرعون، بل
أصبحوا يوقعون سيرهم الذاتية (كتابات منقوشة على الحجر،
لوحات واجهية حجرية، خربشة) وأبدلوا أخلاقيات البراءة،
بأخلاقيات المسئولية، وتحاشي الخطيئة بالسعي إلى الفضيلة.
حتى الأسرة الخامسة كان فرعون هو وحده الذي يتفاخر
بالأعمال العسكرية؛ ثم أصبحت التقارير الحربية في الأسرة
السادسة تفسح مكانًا لضباطه.
١٠٠ أخذت الفردية تترسخ ببطء وسذاجة (على الرغم
مما لا بد منه من إنكار واستنكار: «أقول هذا صادقًا، ولا
أقوله نفَّاجًا»)
١٠١ بين الرجال الذين كانوا يعتقدون أنهم لا بديل
لهم («جلالتي ترسلك لتؤدي هذه المهمة، لأنني أعرف أنك
وحدك دون سواك الذي يستطيع القيام بها»)
وأغلب الظن أننا نخطئ إذا سخرنا من الوهم الأبدي. فكل
إنسان — بدافع من ضرورة كونية تدفعه إلى ترسيخ استقلاليته
وتقليد الخالق (وكذلك تقليد فرعون ممثله على الأرض) —
يستهويه مشروع صعود اجتماعي مذهل، ابتداءً من الالتحاق
بسلك التمكن المعنوي الذي يضمنها التمكن من الكتابة. كان
الكُتَّاب ينعمون باستقلال كافٍ يسمح لهم بأن يتوقوا إلى
مصير عظيم. ولم يكونوا يعرفون لهم سيدًا غير ملكهم، كما
تزهو بذلك «السخرية من الحرف اليدوية» («أرأيت! ليست هناك
حرفة لا يكون للإنسان فيها رئيس إلا حرفة الكاتب»).
١٠٢ كان فن الكُتَّاب يميزهم عن بقية الشعب. حتى
لو أكد أحدهم أنه «متواضع المولد» كان يطالب في اعتزاز
«ألا يقول قائل عنه إنه كان فلاحًا». ونجد كاتبًا آخر
يتحدث بروح يمكن أن توصف اليوم بالروح البورجوازية،
فيقارن نفسه بأبيه مبينًا أنه بزَّه («لقد أصدروا مرسومًا
ملكيًّا ليقوم مدير الأشغال الملكية هو والعمال ببناء
مصطبة أكبر من تلك التي كان أبي في حياته يستطيع بناءها.»
١٠٣
كانت ألوان النجاح في المجتمع السياسي تعوض فعلًا
ضروب الظلم في المجتمع المدني. أمَا كانت الأعمال الكبيرة
تتيح للمواهب أن تنمو فيتضاعف عدد المعلمين سادة العمل من
خارج دائرة العائلات الكبيرة؟ وأمَا كان فرعون بين الحين
والحين يبدي امتنانه لمن انحدروا من أصول وضيعة ويسميهم
«رفاقه»؟ وربما كان هؤلاء قد بدءوا مسيرتهم الوظيفية
الصاعدة بالعمل بنائين ثم أصبحوا خيرة عمال اتحادهم
الحرفي، وربما انضموا إلى اتحاد الحجارين، على مثال مهندس
معماري من سقارة ذكر بداياته المتواضعة، وانصهر في جمهرة
العاملين قبل أن يتأمر عليهم باعتباره «رئيس البنائين
الملكي»، في الوقت الذي لم يكن يحلم فيه بأن يصبح وزيرًا
يومًا ما.
١٠٤ قام سنجيميب
Sendjémib مهندس
المباني الملكية، «ناظر الأشغال» بتطهير القنوات، وترميم
المعابد، وإعداد ميزانيات المقابر وما إليها من أضرحة،
وأنشأ قصورًا
١٠٥ لمولاه الملك إيزيزي
Izezi الذي منحه
مكافأته الكبرى وهي أن يدفن.
«لم يحدث من قبل في حضرة الملك أن صُنع شيء من هذا
القبيل من أجل رجلٍ أيًّا كان، و(إنما نلت ما نلته) لأنني
كنت أحظى بالتقدير، ولأنني كنت منجزًا، ولأنني كنت
محبوبًا من لدن إيزيزي أكثر من أي رجل آخر في وضعي.»
١٠٦
هل من الممكن أن يبتدع أحدٌ أفضل من هذا تبريرًا
ذاتيًّا للحصول على ترقية إلى الجدارة؟ من بين الكم
الكبير من النصوص المشحونة ببلاغة البلاط الملكي الثقيلة
يتميز هذا النص بالتركيز والصلابة: وهذا رجل أخذ رتبته
غلابًا، فانضم إلى هيئة خبراء تناطح الحواجز الاجتماعية،
محتقرًا عجز الأثرياء، هذا هو الموظف الكبير الذي يدعى
«قار»
Qar، الذي ظل حتى
حان حينه يسخر من سلفه رئيس منطقة إدفو في زمن الأسرة
السادسة («ليس هذا ما وجدته من إنجاز الرئيس الذي تولى
هذه المنطقة قبلي»،
١٠٧ كتب قار هذه الكلمات بعد أن عدَّد منجزاته
هو).
هكذا يثبت الخبير، المحترف، بأعماله أنه امرؤ يمكن
الاعتماد عليه. عندئذ توكل إليه بعض السلطات، ويصبح
محاسِبًا يحاسب آخرين على أعمالهم، باسم الملك الذي يحمل
خاتمه.
«أمضيت وجودي كله، وعمري الذي عشته أعمل بجد في
الإدارة، في وظيفة لها خاتمها، ظللت أمارسها حتى حان
حيني. لم أنم قط إذا كان خاتمي بعيدًا عني، منذ عينت
موظفًا. ولم يحدث قط أن تعرضت لتفتيش، ولم يزج بي في
السجن قط.»
١٠٨
هذه هي صورة رجل شريف يتولى عملًا عامًّا، حريص على
سمعته إلى الدرجة التي بددت شجاعة المتآمرين ضده، وكان من
الممكن أن تؤدي اتهاماتهم إلى تفتيش إداري: هذه السيرة
الذاتية تبين أن حياة مهنية محترفة عادية يمكن أن تكون
حياة فاضلة، وهي تسير طبقًا لخطة تدرج وظيفي صاعد، وتمر
بمراحل كبيرة نعرفها استنادًا إلى شواهد دنيوية أو مقدسة
على النسق التالي: «عندما منحوني رتبة تابع الملك، أسندوا
إليَّ وظيفة صديق … وإذا بكل صديق في المدينة قد وضع تحت
سلطتي … ثم ولوني وظيفة الصديق الأوحد … تحت إمرة جلالة
الملك بيبي الأول
Pépi I.
فلما منحوني وظيفة الصديق الأوحد، أدخلوني الساحة الملكية.»
١٠٩
وخيرٌ لمن يسعى لبلوغ قمة مسيرة وظيفية صاعدة أن يعرف
عن خبرة المواقع التابعة وأن يمارس العمل فيها، فقبل أن
يطاع الموظف يجب أن يكون قد خضع للتوجيه.
«أمضيت أربع سنوات طفلًا صغيرًا، ثم قضيت اثنتي عشرة
سنة مراهقًا أعمل رئيسًا للحظيرة الملكية لترويض الخيول …
ثم كنت بعد ذلك كاهنًا خالصًا على مدى اثنتي عشرة سنة.
وأصبحت بعد ذلك كاهنًا خادمًا ثالثًا لآمون طوال خمس عشرة
سنة. ثم أصبحت كاهنًا خادمًا ثانيًا على مدى اثنتي عشرة
سنة. عندئذٍ امتدحني الملك لأنه عرف شمائلي، فعينني
كاهنًا كبيرًا لآمون طوال خمسة وعشرين سنة.»
١١٠
وعلى القمة نجد الوظيفة التي يطمع فيها الطامعون أكثر
مما عداها، وظيفة «صاحب الأسرار»، ويسمونها بعبارة لطيفة
«المخصص لأسرار كل قضية سرية»، وهي أشد الوظائف
حساسية.
«جاءت عندئذٍ قضية للحكم، في الحريم، ضد آنتس
Antes الزوجة الملكية
الكبيرة، قضية شديدة السرية: وأدخلني صاحب الجلالة لأسمع
الأقوال، أنا وحدي. لم يكن هناك قاضٍ، ولا وزير، ولا موظف
كبير، باستثنائي أنا وحدي.»
١١١
وقبل أن يحاسب الموظفُ الآخرين، عليه أن يحاسب نفسه.
كان على الابن أن يصبر في ظل أبيه، وأن يتعلم في صحبته —
متأخرًا بعض الوقت عنه — مهامه المتتالية، وأن يتبع خطاه
حتى عندما يسافر إلى مهام بعيدة. وكان الأب في المقابل
يحمي وريثه، ويوصي به فرعون والإله، حريصًا على أن يحفظ
في المستقبل ما تم تحصيله بجهد جهيد من إنجازات تطلبت
الهمة والجدارة.
١١٢
ولما كان نقل الوظائف من الأب للابن أمرًا غير مؤكد
فإن تَرَسُّخ سلطة الأشراف صحِبَه عكسُه ألا وهو ترسخ
سلطة العصاميين «الواصلين» الذين كانوا يدينون بمسيرتهم
الوظيفية الصاعدة لجهودهم هم أكثر مما كانوا يدينون بها
لتعطف ملكهم، وفي مواجهة تهديدات محتملة تتمثل في محاولات
فرعون لاستعادة مناصبهم إلى قبضة فرعونية، كما تتمثل في
منافسة الأسر التي استقرت منذ وقت طويل، ها هم أولاء
ينظمون أنفسهم في منتديات لن يترددوا عن تحويلها إلى
مؤامرات عندما يرون ذلك ضروريًّا.