السياسة في آنٍ واحد هي أشد الأنشطة الاجتماعية سرية
وشفافية: «سرية المداولات» و«علنية المناقشات»، وهما
ضروريتان كلتاهما لحسن عمل المؤسسات. ولكنهما في الوقت نفسه
تثيران نفس السخط لدى الجمهور الواسع الذي يستسلم لأوهام
المؤامرات الخبيثة، والذي ترهقه، على العكس من ذلك،
التطلعات الصارخة في إفراط إلى الأدوار الأولى.
والمصريون، في الشرق القديم، هم أفضل من يمثل الرؤيا
التآمرية للسياسة، بينما ينعم الرافدينيون بمشهد فُرقتهم.
وأسوأ شيء في نظر المصريين هو أن تُفشى أسرارهم. أما في نظر
الرافدينيين فليس هناك شيء يخشونه كخشيتهم أن تنحل عروة
مجالسهم. ويعبر السومريون والأكاديون عن أنفسهم بشراسة توشك
أن تخرِّب فُرْصَتهم في أن يجدوا من ينصت إليهم، بينما يظل
كبار الموظفين المصريين في زمن الفراعنة مقترين في الكلام
حرصًا منهم على الفاعلية.
وعلى الرغم من الاختلافات بين الرافدينيين والمصريين،
فإنهم جميعًا أسهبوا في وصف إجراءات المداولات لديهم. ولقد
ولدت إجراءات المداولات هذه في قاعات المحاكم وفي مجالس
الحرب، ثم تناولها التحسين نحو الكمال في قلب الدوائر
المهنية، دوائر التجار المنفيين في بلاد الرافدين (الذين
كانوا بمثابة الوسطاء مع الخارج)، ودوائر الفنيين المتوفين
في مصر (المتشفعين في الآخرة).
وسواء كان الإجراء القائم على المناقضة من اختراع اتحاد
مهني (اتحاد قضاة، تجار، فنيين) أو كان حدثًا تولد عفويًّا
عن الصراع بين العصبيات (العسكرية، الأسرية، القبلية) فإن
الهدف الذي استهدفته تمثل في تحبيذ تعبير الهيئات التأسيسية
التي يفترض وجودها ذاته أن تكون هناك آراء متباينة. كان على
المعلمين والتلاميذ، الشباب والشيوخ، بل الأحياء والأموات،
رجال الإدارة ورجال الدولة، أن يعبروا في كل الظروف عن
المزاج السياسي الذي أناطته بهم التقاليد. كان المطلوب هو
استخدام كل الوسائل حتى الكاريكاتير — الرسم الساخر — من
أجل ضم المتناقضات ضمًّا، بدلًا من ضمان غلبة أطروحة على
أطروحة أخرى: كان المثل الأعلى عند القدماء هو الوسط العادل
بين الصمت والكلام، بين الظلام والنور. وما الأخذ بفضلٍ من
حكمة (أو: تحفظ، تواضع، تكتم) مع قدرٍ من اندفاع (عنف،
سلطة، إبهار)، أي مزج الخصائص السياسية معًا إلا شأن خيمياء
دقيقة حساسة. ولا ينجح المزيج إلا بقدر نقاء مكوناته. ولهذا
يحلو للنصوص القديمة أن تفصل هذه المكونات أولًا، ثم تضعها
بعضها من البعض الآخر موضع التعارض، قبل أن تضمها في تركيبة
عجيبة.
(٢) قوة الكلمات
أن يعمل الإنسان
على ألا يعرِّض نفسه للقيل والقال، ولا لقضية مغرضة،
يفترض أن تكون له شخصية محنكة، وأن يكون له علم بالبلاغة.
فللكلمات قوة، وقوة الكلمات «أشد وأنكى من كل معركة»،
«ولكن لا بد من أن يكون الإنسان متمكنًا من فن الكلمات
حتى يكون قويًّا»،
٩ «ولأن فصل الخطاب صعب صعوبة لا يبلغها سواه.»
١٠ أما أن الكلام يفوق في تأثيره مجرد القوة،
فهذا أمر لم يعدم المصريون أمثلة ليقنعوا أنفسهم به. فهذا
هو سيزوستريس الثالث «يقهر النوبيين» و«يرد الآسيويين على
أعقابهم» بكلامه فقط، دون أن يضرب بسلاحه ضربة واحدة.
١١ ونال أَخناتون برسالة واحدة منه طاعة والٍ
نفاج من ولاته. وفي العصر المتأخر أوصى بعضهم الناس بأن
يشربوا ماءً يكونون قد رشوا منه الألواح والتماثيل
الجنائزية حتى تتغلغل فيهم القوة السحرية التي بالكلمات
المنقوشة عليها.
١٢ هذا السلاح الذي يتسم بالقوة كل القوة —
اللغة — ليس التعامل به سهلًا ميسورًا. فمن الممكن أن
ينقلب وأن يرتد إلى صاحبه، وكل واحد يعرف أن «الثرثار
يثير القلاقل.»
١٣ ولهذا فخير صيحة يمكن أن تقدم إلى رجل سياسة
هي: «تكلم عندما تكون قد ملكت ناصية فن الكلام» «فما تجرد
من الاندفاع رجل كلامه فظ.»
١٤ وخير الخطباء هو الذي يمكن أن يؤكد شاهد قبره
للزائر الذي يطالعه أن «لا قدرة لأحد على أن يجد موقفًا
رفع فيه صوته»،
١٥ هو الذي يمكن أن يقال عنه إنه ملك ناصية فن
الكلام بفضل ما أوتي من بصيرة.
١٦ وصاحب المنصب الكبير في الدولة «لا يلقي
خطابًا إلا عندما يوقن أن في ذلك خير»، «فيضع الكلمة عن
بصيرة»، ويعرف كيف يغير النبرة «عندما يكون الهدف المقصود
هو الدفاع عن اسم الملك» علنًا أو عندما يكلمه «على انفراد.»
١٧
ونوجز فنقول إن
السياسة هي ساحة الكلمة، وإن الكلمة بحسب استخدامها، تجلب
المجد والفخار أو تسبب الذل والعار. وهذا هو الفرعون خيتي
الثالث
Khéti III
(Akhtoy) في وصيَّته الروحية لابنه
مريكارع
Merikarê يحذره
من سقطات الكلام التي يرتكبها الخطباء الشعبيون. في هذا
المعنى يقول فيليب ديرشان
Philippe
Derchain: «فلما أدرك القوة الرهيبة
للخطاب الأهوج، سعى إلى إرساء مبدأ بلاغة متحضرة يتعلمها
طالبها تعلمه لحرفة في خدمة سلطة نظامية. ولكي يبين في
الوقت نفسه تمكنه من هذا الفن الذي يلهج بالثناء عليه،
دبج هذا النص بعناية خاصة، وختم الفقرة بالكلمة التي
بدأها بها، كلمة ح م و و
hmwu التي تذكِّر
تمامًا بالمنظور الحرَفي الذي ينظر منه إلى البلاغة.»
١٨
على الحكيم أن يكون متحفظًا وأن يقيم بمسلكه الدليل
على تحفظه. حتى في النشيد الذي ألف بمناسبة تتويج
آشوربانيبال
Assurbanipal، في القرن
السابع الآشوري، يوصف الملك الجديد بأنه «رجل حويط»، على
الرغم من أنه اشتهر بسلوكه الأهوج العارم.
١٩ وسواء كانت صفة الحيطة تعبر عن أمنية أم عن
تهكم كاريكاتوري، فقد بالغ البعض في الأخذ بالحيطة
مبالغةً شديدةً أحيانًا، فوجدنا الكبار يحتاطون ويتحاشون
الدخول في أمور يتصورون أنها لا تعنيهم. ومقارنة تعاليم
الرافديني شوروباك
Shuruppak (حول عام
٢٥٠٠ق.م.) والمصري بتاح حوتب
Ptahhotep (حول عام
٢٤٥٠ق.م.) وتعاليم الكاتب أنئي
Anii ١٦٠٠ق.م.) تبين
دلالات هذه الكلمة المفتاحية (الجدول رقم
٦-١).
هذه «الحكمة» باتجاهاتها الثلاثة يمكن أن توحي بوجود
نظام سياسي شمولي، على عكس الأطروحة التي ندافع عنها هنا.
وإذا أخذنا في اعتبارنا تاريخ كتابتها، والسياق الذي
تنخرط فيه، أمكننا أن نفسرها على اعتبار أنها شهادات على
حذر رجال السياسة المحنكين حيال أنفسهم، عن علمٍ منهم
بثمن «الجمل الصغيرة» التي يسر بها الإنسان دون حرص إلى
شخص يمكن أن ينشرها علنًا. ولهذا فالتعبير بخطاب مسهب خير
من إلقاء كلمات لا حرص فيها — والمناقشة خير من التشاحن
ومن الأمر — وهذه نظم ثلاثة من الخطاب نكتشفها في
المفاهيم المصرية للبلاغة.
٢٠ ومرة أخرى يوصف المثل الأعلى بأنه الوسط
العادل بين فعل السلطة («الملك لا يكفيه أن يأمر … بل
يلزم أن يملك ناصية الفن الذي يمكنه من فرض رأيه فرضًا»)
وبين فعل التمرد («ما المنازعة إلا نزعة سيئة ينزعها القلب»).
٢١
وهناك بديل آخر يعرض لرجال السياسة: أن يصبحوا
حسَّابين بغير إحساس ومتشبثين بالحرْفية دون إيمان، أو
اصطناع خط سلوك رب أسرة طيب. إذا صدقنا بتاح حتب فإن
الاتجاه الثاني يمثل نموذج الوزراء المصريين الذين يصغون
دائمًا للآخرين.
«لا يملكن الكبْرُ قلبك نتيجةً لما تعرف … فما بلغ
أحدٌ آخر حدود معرفة أي فن من الفنون … وربما كانت الكلمة
البهيجة مختفية أكثر من الزمردة، وقد يعثر الإنسان عليها
في كلام الخدم الكادحين المنكفئين على البغال …»
٢٢
ونحن نتبين ذلك أيضًا — بعد ألفية أخرى — في
التعليمات التي أصدرها فرعون إلى وزيره الجديد ريخميرع
Rekhmirê.
«لا تصرف صاحب شكوى دون أن تكون قد أصغيت بانتباه إلى
كلامه … وإنما يمكنك أن تصرفه بعد أن تكون قد أفهمته سبب
صرفه … فصاحب الشكوى يفضل أن يُقبل كلامه بقبول حسن على
أن يُقضى في شكواه»
٢٣
وعلى العكس من ذلك: من التدني أن يعير واحدًا من
المرموقين أذنه للمتآمرين أو يثق في الشائعات («لا تنقل
وشاية، بل لا تسمعها … وانقل الحادث الذي رأيته بعينيك،
لا ذلك الذي سمعت عنه»). والإنسان الشريف يفضل أن يظل
مترفعًا عن الدنايا على أن يصبح ذا سلطة («الإنسان لا
يكسب شيئًا عندما يشق طريقه بالذراع»)؛ («لم تتح النذالة
لأحد أن يبلغ بالسفينة أي مرفأ»)؛ «احترس خاصةً من
الحسد». وأخيرًا لا ينبغي لك أبدًا أن تذيع أسرار الآخرين
(«حذارِ من أن تذيع كلامًا ائتُمنتَ عليه»).
٢٤
جدول ٦-١: النصائح السياسية للشرقيين القدماء.
*
أوتناباشتود
Utnapashtude |
بتاح حوتب
Ptahhotep |
أنئي Anii |
(بلاد الرافدين حول ٢٥٠٠) |
(مصر، حوالي ٢٤٠٠) |
(مصر، حول ١٥٥٠) |
لا تكلم مخرفًا، لا تستشر تنبلًا … |
لا تكلم كل من هب ودب … |
لا تفتح قلبك لغريب. احرص على أن تصون
لسانك.
|
احرص على أن تصون لسانك وأن تهذب كلامك. لا تقف
في المجلس.
|
احرص على كلامك عند جيرانك. احكم قلبك، صن
لسانك.
|
قد يكون الكلام الذي ينطق به فمك خطيرًا. |
لا تحشر نفسك في مشاجرة … فسيطلبون منك أن تدلي
بشهادتك … في قضية يكون عليك فيها أن تؤكد أشياء
لا شأن لك بها.
|
إذا كنت رجلًا مرموقًا ذا مقعد في المجلس … فلذ
بالصمت.
|
لا تندس في حشد من الناس. اهرب من كلامهم … حتى
لا تستدعى أمام المحكمة عندما يجري تحقيق.
|
لا تفرط في الكلام على سجيتك، بل انتبه إلى ما
تقول. لا تفصح عن أفكارك الحميمة حتى لو كنت
وحدك. قد تندم على كلام تعجلت فقلته. درِّب نفسك
على أن تكبح كلامك.
|
لا تتكلم إلا بعد أن تكون قد ملكت ناصية فن
الكلام.
|
لا يستهوينك شرب البيرة في حانة البيرة … حتى
لا ينقل أحد الصحاب كلامًا خرج من فمك عندما لم
تكن تعي أنك نطقت به.
|
*
المصدر:
ANET
(Shuruppak)
و
Lalouette, 1984 (Ptahhotep et
Anii).
(٣) آلام السلطة
مثل هذه النصائح تحسم الأمور بناءً على أفكار نوح
السومري، وهو الحكيم شوروباك
Shuruppak، إن لم تكن
بحرفها فعلى الأقل بروحها، وهي أفكار تكاد ألا تكون أقدم
من أفكار بتاح حتب:
«يا بني … إذا حلا لملكٍ أن تكون مِلك
يمينه،
وإذا ائتمنت على أختامه المصونة
افتح كنزه وانفذ إلى داخله
فما من أحد غيرك يستطيع أن يفعل ذلك.
ستجد بداخله ثروة لا تحصى
فلا تطمع في شيء منها
ولا تدع رأسك تدبر جريمة خفية
فسرعان ما يجري فيها تحقيق
وإذا الجريمة التي ارتكبتها في الخفاء ينكشف
أمرها للجميع»
٢٥
ليست النزعة التسفيهية التي اصطنعها
الكاتب السومري شوروباك
Shuruppak نقيصة رانت
على أبناء الرافدين وحدهم، فلم يخل منها نظراؤهم
المصريون. فآراء الكاتب أنيئي الفطينة كل الفطنة، بعد ما
يقرب من عشرة قرون من شوروباك، أقل تلطفًا من آراء بتاح
حتب، فقد كان أنيئي أشد خشونةً من سلفه النبيل بتاح
حتب.
«اختر سؤالًا طيبًا واطرحه، ودع كل سؤال حبيسًا في
بدنك. وإذا جاءت الإجابة شرسة، فربما ارتفعت العصا؛ أما
إذا تلطفت في الكلام، فسيحبونك دائمًا. لا ترد على رئيس
لك إذا تملكه الغضب، وانزل على أمره، كلمه برقة حتى إذا
عبر عن نفسه بتعبير سليط: ذلك هو الدواء الذي سيخفف ما
يجيش في قلبه.»
٢٦
الموظف الذي يبالغ في الاحترام والتوقير سيفيد من
خضوعه هذا فائدة تتمثل في الهدايا، وسيفيد من تقواه فائدة
تتخذ شكل التقدير العام؛ لأنه سيحرص أشد الحرص على أن
يراه الآخرون وهو يرفع إلى الرب آيات الحمد والشكر.
٢٧ ثم إنه لا يسعى إلى التشاجر مع جاره، بل يمنع
نفسه من الإتيان بأي فعل انتقامي («لا تتسرع في الهجوم
على عدوك، دع أمره للرب»، هذا ما قاله أنيئي؛ «دع العداوة
للعدو، والحبُّ تُنمِّيه قوةُ إنسان»، هذا ما قاله بتاح
حتب
Ptahhotep).
٢٨ الموظف الكبير في الدولة يحسب حساب العدوانية
في الحياة السياسية، وهو ما يصل به إلى حد الدفاع عن
مفهوم شديد الكونفوشيوسية عن سلم الطبقات لأن المدينة
الطيبة هي:
«المدينة التي تسود فيها الحقيقة
والتي تقوم فيها الاستقامة والعدالة
والتي يكرم الأخ الأكبر فيها أخاه الأصغر ويعامله
معاملة إنسانية
والتي تطاع فيها كلمة القدماء وتُتَناقل في
خشية
والتي فيها يخشى الابن أمه عن تواضع، وتدوم سلطة القدماء»
٢٩
المدينة المقصودة مدينة رجال ناضجين،
لهم خبرة ثمينة، وما هي بمدينة يحكمها الشيوخ وما هي
بمدينة القولُ الفصلُ فيها للأجداد الواهنين. والمنازلة
الأدبية بين شجرة الأثْل والنخلة — نموذج قديم لأمثولتنا
التي تدور حول منازلة بين شجرة البلوط والبوص — تكسبها
النخلة الجليلة لأنها ثمارها تمنح الرجال الحيوية، بينما
خشب غريمتها الذي يسهل تشغيله لا تصنع منه إلا جمادات لا
حياة فيها.
٣٠
وفي مدينة يحكمها التربويون يحدث يقينًا أن يواجه
التربويون الصعوبات العمومية العالمية، صعوبات في نقل
خبرتهم إلى الشباب. فالشباب في واقع الأمر لا يسمعون
النصائح التي يغدقها عليهم المجربون، ويجدون في القيام هم
أنفس بالتجارب ما يغريهم. فإذا قدم الأب توصياته الواقعية
عارضه الابن مقدمًا ما يرى أنه من البصيرة بمكان:
الأب
:
«اسمع نصيحة مَن فتح له إنليلباندا
٣١ أذنيه
النصيحة الحكيمة التي يقولها مَن وهبه
العقل.
فمِن فمِه تخرج أحكام الأيام الخوالي
…»
الابن
:
«أما رأي الناصح، يا أبي،
فقد أوليتُه الاهتمام كله: وإليك أريد أن
أوجه رأيًا آخر.
… وكلماتي هذه لم يقلها أحد من قبل …
يا أبي، شيِّد أنت بيتًا … وفكرْ:
ما الفائدة التي جنيتها منه؟ وطابق
بيتك
املأه بالغلال: ويوم يحين قَدَرُك
المقدور
سيقيِّمونها بتسعة قرابين، ولكن الموت هو
الذي جاء!»
٣٢
نجد هذه المعارضة التي جرت بين الأب
والابن مسجلة بالمحفوظات الملكية في ماري
Mari، فهذا هو الوالي
الآشوري، الحكيم شمشي أداد
Shamshi-Adad يتملكه
خوف دائم من أن يكون ابنه الذي أُجلس على عرش المدينة
التي تم فتحها لا يزال مفرط الصغر والطيش؟ فلا طاقة له
على حس سياسي (ألم يقل له في تهكم ودود «ستظل صغيرًا، ما
زلت أمرد لم تنبت لحيتك بعد»؟)
٣٣ الشباب تنقصهم الخبرة نقصًا شديدًا، فلا
يزنون الأشياء وزنًا صحيحًا، وهم غافلون غفلة مفرطة فلا
يتنبئون بالأزمات السياسية قبل وقوعها. وسواء كانوا
هيابين أو انتقاميين، وسواء كانوا يظاهرون بسلطة رخيصة أو
بطيش واهٍ لا أساس له، فهم أقرب ما يكونون من البدو الذين
يصادفونهم في بداية حياتهم المهنية في مواقعهم الأولى.
وإذا هم من فرط ملاحظتهم إياهم، والمرور بهم، ومنازلتهم،
ينتهي بهم الأمر إلى أن أصبحوا يشبهونهم.
فأن يكون الإنسان مهذبًا، متمدينًا، مالكًا عواطفه،
كل ذلك ثمرة تربية تقرب المواطنين بعضهم من البعض الآخر
وتباعد بينهم وبين الهمج المتبربرين. كان أهل الرافدين
يرونهم على النحو التالي: «الشعب الذي لا يكبح جماحه،
البلد الذي لا يُعَد شَعْبُه ولا يُحصَى … ملكة الفهم
عنده إنسانية، ولكن شكله شكل الكلاب، والألفاظ التي
يتلعثم بها ألفاظ الكلاب»
وهكذا فالقدرة على التعبير المتمايز هي الشرط الأول
للوصول إلى المواطنة. والانقلاب إلى اللغة المختلطة
المضطربة يؤذن بغروب الحضارة. ولكن الكاتب لا حيلة له إلا
أن يصف ضخامة الكارثة:
«لقد حمل أوتو
٣٤ معه الفصاحة من المدينة وولَّى …
وانسحب المجلس من المدينة.
وما غادرت السفينة المرفأ، حتى استحال الرشد إلى جنون»
٣٥
عندما يلوذ الشيوخ بالصمت تطفئ المدينة
ما لديها من نار. وفي الوقت الذي ينسى فيه المواطنون
الفصاحة، يفقدون رباطة الجأش والحس النقدي. وتصبح
المداولات التناقضية مستحيلة:
«تحولت غرفة المداولات إلى بيت حجزوا عليه
وأصبح مقر المجلس مهجورًا» (بلاد
الرافدين)
«لقد اجتاحوا الغرفة الكبيرة الخاصة»
(مصر)
لم يعد هناك شيء يتعلق به الإنسان إلا
أن يأمل في يوم فيه.
«يعقد الشيوخ مجالسهم ويسدون النصح والمشورة إلى
البلد» (بلاد الرافدين).
«لا يُطرد الرجل ذو العلم عندما يتوسل بكلماته إلى
رع» (مصر).
٣٦
كانت لدى شعراء العصر أسبابهم الوجيهة ليخافوا من سوء
المنقلب. فهناك مدن من زمان التراث الشرقي العتيق هُجرت
وغطت مكانها رمالٌ صامتةٌ لا تحدِّث أخبارها. ذلك هو
عالَم سومر السياسي الهائج المائج الذي استحال فيه فرعون
إلى حالة التحجر التي استحالت إليها سدوم وعامورة.
(٥) المواطنون في المجالس
ليست المسألة المطروحة هي أن نعرف هل كانت هناك مجالس
أم لا، فقد كانت موجودة ما في ذلك شك، بل أن نعرف تحديدًا
صلاحياتها وعددها. والمشكلة معقدة إلى حد ما نتيجة
الاستخدام المحلي لكلمة بوخرو(م) التي تدل أصلًا على مجلس الآلهة.
٤٦ وكان الرافدينيون يستخدمون نفس الكلمة في
الدلالة على التجمع الذي يشارك فيه الشعب كله في مناسبة
ما، وفي الدلالة على مجلس المداولات، ويؤدي هذا إلى سهولة
الخلط بين تجمع عام وبين جلسة تعقد خلف أبواب مغلقة. أضف
إلى ذلك أن المجلس لم يكن في بعض الأحيان إلا مجلسًا
قاصرًا على وجهاء علا الشيب رءوسهم، والنصوص تسميه بصفة
عامة بوخرو
pukhru الشيوخ
أو الشيَّب
shîbûtu.
٤٧ فإذا انتقلنا إلى مصر وجدنا كلمة جاجات
djadjat لا تقل عن كلمة
بوخرو
pukhru في اختلاط
الدلالة. فهي تدل على اجتماع هيئة القيادة كما تدل على
مجلس إقليمي.
٤٨ وفي الأناضول تنطبق كلمة بانكوس
pankus على سلك
الأرستقراطيين المسلحين كما تنطبق على مجموع المواطنين.
وكثيرًا ما كان الآشوريون أنفسهم يستخدمون كلمة بوخروم
pukhrum في الدلالة على «جيش.»
٤٩ ومن هنا فهناك استحالة في أن نعتمد على السجل
اللغوي المعروف وحده في إثبات وجود مجالس مواطنين. فالحقل
الدلالي لكلمة مجلس واسع جدًّا (وكذلك الدائرة الواقعية
المرتبطة به). وينطبق هذا بصفة خاصة على وادي النيل: لنعد
لحظة إلى كلمة جاجات
djadjat. هذه الكلمة
سُكَّت من جذر يعبر عن فكرة «التوجيه»، وتنطبق كذلك على
«اللجان» التي تعيَّن لتنجز مسألة أو لتوضحها (بناءً على
«مهمة»
wapwat). هذا
التحديد المدقق بفرق اﻟ جاجات
djadjat عن القِنبت
qenbet، وهو ديوان ليس
لأعضائه صلاحيات محددة. ونجد في القرى المصرية هذا
التمييز كما نجد التوسع التدريجي الذي يفترضه التمييز،
بدايةً من المشاركة وصولًا إلى القرارات العامة. في دير المدينة
٥٠ على سبيل المثال يقوم «الرؤساء» الأربعة —
رؤساء عمال المقبرة — (وهم رئيسا فريقين من العمال
والكاتب ورئيس الرسامين) مجتمعين في شكل هيئة بتمثيل
جماعتهم لدى سلطات طيبة (القِنبت آت
qenbet aat أي الديوان
الكبير لدى الوزير المحلي). وكان يحدث أحيانًا أن يحيطوا
أنفسهم بنفر من «مواطنين» آخرين بحسب الموضوعات التي
تناقش في ديوانهم الخاص.
٥١ وهناك كلمات أخرى تنافس كلمتَي جاجات
djadjat وقِنبت
qenbet،
٥٢ وبخاصة مجلس الكبراء
zah-serou يجتمعون في
ساحة خاصة (هوت سيرو النظير الأرضي للمكان المقدس الذي
كان تاسوع الآلهة يتشاور فيه) وكان الملك يشارك فيه.
٥٣
ولما كان مؤرخو المؤسسات الشرقية لا يستندون مطلقًا
على الميثولوجيا فإنهم بصفة عامة لا يقبلون بوجود جماعات
ذات إدارة ذاتية إلا من منظور الشهادات الكلاسيكية عن
فينيقيا. ولكن الملاحظة الأكثر تدقيقًا تثير على الرغم من
ذلك استفهامات عن الواقع التاريخي للاجتماعات الكنعانية
التي نذكر أنها أحدث بكثير (القرن الخامس — القرن الرابع)
على الأقل أحدث بكثير من حيث شكل «المجالس العامة للمواطنين.»
٥٤ ولما كانت هذه المجالس مفتوحة أمام كل رجال
المدينة الأحرار، وربما أمام النساء كذلك
٥٥ فإنها بلا شك تمثل نموذج التجمع السياسي
العادي في الشرق القديم.
٥٦ ولم يكن العبيد يدخلون في تشكيل هذه المجالس،
ولم يكن هذا الأمر يختلف في شيء عما سيحدث في بلاد
الإغريق. أما الاختلاف عن الإغريق فيتمثل في أن العبيد
إذا تحرروا لم يكن هناك تمييز بينهم وبين المواطنين
الآخرين، وكان لهم أن يطمحوا إلى الوظائف العليا، شأنهم
في ذلك شأن المهاجرين الذين استقروا بين ظهرانيهم.
٥٧ وليس هناك ما يوحي بأن الأجانب المقيمين
كانوا يكونون طائفة قائمة بذاتها من الشعب: فقد كان
الأجانب عندما يتخذون مقرًّا دائمًا يعتبرون جزءًا من
«المدينة» وليست هناك دلائل على أنهم كانوا مستبعدين من
الاقتراع. ولا يبدو أن أي وظيفة كانت مغلقة في وجوههم،
وإن لم نكن نجد منهم في مناصب قمة الدولة إلا القليل. كما
كان المرتزقة الذين يتفوقون في ميدان القتال يحصلون على
امتيازات تشبه أكبر الشبه ميزات الحصول على الجنسية، يشهد
على ذلك أن رمسيس الثاني فتح «طريق المدن» إلى محاربيه
راكبي العجلات الحربية الذين يحتمل أن يكونوا أجانب.
٥٨
والنصوص المصرية والرافدينية تجهل ضروب التفرقة
السياسية الإغريقية. نجد النصوص المصرية تثبت التعارض بين
الوجهاء الذين علا قدرهم تحت السلاح (وهم السيرو
serou) أو «الرجال
الأحرار في قلب المدينة» (وهم الريخيت
rekhyt) — من ناحية،
وبين «شباب المبتدئين أبناء العشرين ربيعًا الذين ما يزال
الزغب على جلودهم» وغيرهم من «السكان الذين يعرفون
استخدام الأسلحة — من الناحية الأخرى. هاتان المجموعتان
تبرزان متمايزتين عن سواد الناس» («الشباب والسواد في
الطرقات … سيتاح للشباب ساعة من السعادة بجانب سواد
الشعب، عندما يلهجون بالثناء عليك وبالتصفيق لك»).
٥٩ أما الوثائق الرافدينية فتقسم شعب المدينة
العادي إلى «شيوخ يقدمون نصائحهم»، و«نساء مسنات يوزعن
رأيهن»، «شباب صناديد يتنافسون في ممارسة الأسلحة»،
و«أطفال صغار يلهون في لطف ورقَّة.»
٦٠ وهذا التقسيم يغلب عليه التعارض بين الأعمار،
وبين الحرب والسلام، وبين المجال العام (الرجالي) والمجال
الخاص (النسائي) على تمييز الأصول الاجتماعية والقومية.
نرى ذلك حتى في مصر حيث يدل التقسيم إلى «طبقات» في
الواقع على تقسيم إلى أجيال.
٦١
هذا السلم الهرمي يشهد على رؤية للعالم يسيطر فيها
تتابع الدول: كل دولة تنتقل ذات يوم من الشباب إلى
الشيخوخة، من اللعب إلى المعركة، من الأسرة إلى المجتمع،
بل من مدينة إلى مدينة أخرى. حتى الغنى والفقر يرونهما
عابرين: يتكرر الحديث عن العبودية المؤقتة من أجل تسديد
دين، وعما يتبعها من الفشل والولولة، من أجل التذكير بأن
الثروة عابرة. وينبني على هذا أن الشيء الوحيد الذي له
وزن سياسيًّا هو فطنة («كياسة»!) أولئك الذين يعرفون
نسبية مركزهم، الذين «عاشوا»، الذين أتموا دورة أطوار
نموهم المتتابعة، أي «الشيوخ». وعلى العكس من الشيوخ نجد
النساء يرفعن أصواتهن طنانة رنانة ويدلين في كل لحظة
برأيهن، والصبية ليس لديهم رأي خاص، والشباب لا يراودهم
سوى شيء واحد هو الحرب.
ولهذا فجمعُ الشعبِ كله على رأي واحد تزيُّد لا داعي
له، ما دام الشيوخ قد وصلوا مسبقًا إلى اتفاق على موقف.
لم يكن هناك لا في بلاد الرافدين ولا في الأناضول — بين
مجلسهم الحكيم الذي ينعقد اعتياديًّا ويأخذ بالسرية، وبين
التجمع الذي ينعقد لمناسبة ويلم به كل من يقدِّرون أن لهم
الحق في أن يقولوا كلمتهم — مكان لانعقاد مجلس شعبي يتكون
من العامة أو من المحاربين. والمؤلفون الذين قالوا بوجود
منظومة من مجلسين غالوا فأسقطوا على العصر الشرقي القديم
تصورًا قوامه ما يعرفونه عن العصر الأنتيكي الكلاسيكي.
ولكننا نجد في الدرس الفاحص لحججهم ثروة من المعلومات.
يقول صمويل نوا كرامر Samuel Noah
Kramer.
«حول عام ٣٠٠٠ق.م. اجتمع أول برلمان نعرفه … في جلسة
علنية مشهودة. كان يتكون مثل برلماناتنا الحديثة من
مجلسين، مجلس شيوخ أو مجلس كبار، ومجلس دونه يتكون من كل
المواطنين القادرين على حمل السلاح».
٦٢
ما «الوقائع» الواردة في الكتابة المسمارية؟ ورد فيها
أن جلجاميش Gilgamesh،
ملك أوروك Uruk، وقد طولب
بأن ينصاع في أسرع وقت للملك أكا
Akka، ملك كيش
Kish، شاور شعبه، وهذه
هي الترجمة التي أوردها صمويل نوا كرامر للجذاذة
المشهورة:
«عرض السيد جلجاميش على شيوخ المدينة
القضية، وطلب المشورة …
مرة ثانية قام جلجاميش …
بعرض القضية على محاربي مدينته
ويستنتج أشد المتحمسين أن «الشيوخ …
فضلوا الخضوع بغية الحصول على السلام»، وأن «النواب»
فكروا أولًا وقبل كل شيء آخر في الاستقلال. ولما كان
جلجاميش قد امتدح اتخاذ موقف صلب لا يلين، فقد أعلنت
الحرب. ولم تطل الحرب: فقد تبع انتهاء مهلة الإنذار حصار
قصير أحاط بمدينة أوروك، ولم يكن في مقدور ملكها إلا أن
يذعن للتفاوض لأنه لم يتهيأ بوسائل تمكنه من المقاومة
الطويلة. والشارح العصري للنص يجد فيه الدليل على غياب
الإجماع: كان المفروض أن يحصل جلجاميش على موافقة
المجلسين حتى يستطيع أن يحاسب غريمه حسابًا
عسيرًا.
والتفسير الجريء لهذه الفقرة يستند إلى ترجمة كلمة «محارب.»
٦٤ والكلمة السومرية جوروس
gurus (بالأكادية
زيكارو
zikaru) لا تنطبق
فقط على الرجال الذين يحملون السلاح، كما ظن كرامر
Kramer، مستندًا إلى
بيت آخر من القصيدة الملحمية نفسها «من هو أشهر
المحاربين؟» — مانُّوما ساروح إينا زيكَّاري
mannuma saruh ina
zik-ka-ri — كانت تلك صيحة أطلقها
جلجاميش في وجه الرجال المجتمعين؛ ولسنا نرى بالضبط لماذا
لا تدل كلمة زيكارو
zikaru هنا على
«الرجال»، وهو معناها الأول.
٦٥ فمعناها ليس فقط مرتبطًا بالانخراط في
مجموعات مستنفرة — لأعمال السخرة أو للمعركة — كما ظن
ياكوبسن في وقت مضى قبل أن يفصِّل حكمه تفصيلًا.
٦٦
ونذكر هنا حالة موازية كاشفة هي الكلمة المصرية نيجيس
nedjes التي تترجم
عادةً إلى «مواطن»، وحقلها الدلالي يغطي أيضًا مفاهيم
«الرجل من عامة الناس» و«المحارب» و«الشاب في عنفوان
العمر» وكذلك «المرأة المواطنة.»
٦٧ وتستخدم الكلمة أحيانًا استخدامًا فيه شيء من
التهوين، وتستخدم في أحيان أخرى على نحو دارج، وربما وصف
صاحب منصب محلي رفيع نفسه بهذه الكلمة على سبيل التفاخر.
٦٨ وهناك من يحبون أن ينتسبوا إلى سواد الشعب،
فما كان المواطنون على مستوى القاعدة مجردين من
الامتيازات الضرائبية. وأيًّا كان مستوى حياة «المواطن
الحر» فقد كان في الواقع «معفى» من الضرائب، ولم يكن عليه
من التزام إلا الإسهام العسكري.
٦٩ ومن الممكن أن يكون أصغر سنًّا من أن يستطيع
أن يقدم إسهامًا بدلًا من الإسهام العيني، أو أن يكون من
شريحة المواطنين الذين «يعفون» من تأدية أي إسهام بدلًا
من تأدية الخدمة العسكرية بناءً على لائحة ملكية («لقد
أعفيتكم من الضرائب … وقضيت بأن تقروا في بيوتكم وفي
مدائنكم دون أن تؤدوا خدمة الجندي»، هذه عبارة يذكر بها
رمسيس الثاني — وكان شابًّا — رجاله الذين لامهم على
التخلي عنه في قادش عندما واجه الحيثيين).
٧٠ ومن الممكن أن يكون رجلًا عاديًّا من غير
الموظفين حظي بحماية من تعسف موظفي الدولة معه في ممارسة
نشاطه المهني.
٧١ والخلاصة أن النيدجيسو
nedjessou لم يكونوا
فقراء ولا شخصيات بارزة «وار»
war، ولا رسميين «سيرو»
serou ولا نبلاء
«باعات»
pa’at ولم يكن
النيدجي
nedje «بحاجة إلى
وسطاء أو رؤساء ليعبر عن رأيه … ولم يكن ملزمًا بخدمة
الملك أو سيد آخر ليكسب قوته، لأنه يملك ميراثه الخاص
الشخصي … بل إنه فعَّال في القتال»، وهذا ما يشهد على أنه
كان يعتز بأنه — على عكس الهوبليت
hoplites المحاربين
الإغريق — يقاتل من أجل بلده. وهو أخيرًا مرتبط ارتباطًا
وثيقًا ﺑ «مدينة» يحميها الملك.
٧٢ ولهذا فمن المحتمل أن يكون عضوًا في جاجات
djadjat أو في قِنبيت
qenbet محلي. كذلك في
بلاد الرافدين كان مواطنو العديد من المدن ينعمون بوضع
استثنائي هو
الكيديسنوتو
kidisnutu
(وهو وضع ناجم عن حماية إلهية يشهد عليها نُصب حدودي —
كيدينو
Kidinnu — يقام
على مدخل المدينة) ولهؤلاء حصانات يضمنها مرسوم.
٧٣ ونحن نتفهم ما ظنه نفر من العلماء الكبار
الذين تخصصوا في دراسة المجتمعات الشرقية التي يبدو أن
بنياتها تلتقي على هذه النقطة، فاستخلصوا أن هناك مساواة
دستورية بين «الشيوخ» و«الشباب». أما أن يستخلصوا من ذلك
وجود مجلسين منفصلين، مجلس «الشيوخ» ومجلس «النواب» فهو
استخلاص أضعف أساسًا من الاستخلاص الأول. أما التحجج
بقصيدة الخلق البابلية التي ورد بها تباين بين البوخرو
pukhru وهو مجلس الآلهة
وبين الكارو
karru وهو
مجلس الكارو، فهو تحجج لا يقل تعسفًا، فلم يكن الكارو
شيئًا آخر سوى مجلس عائلي قام على هيئة اتحادات التجار
الذين يربطهم بعضهم بالبعض الآخر رباط قرابة (أعني تجار
الكاروم
karum وهو المرفأ
أو المركز التجاري).
٧٤
ومنذ أن فتح باب المناقشة في هذا الموضوع، ازداد
الانصراف عن تصور قيام مجلس ثنائي. وربما لم يكن الحديث
عن مجلس ثنائي في بلاد الرافدين يزيد على كونه صورة من
صور البلاغة: أغلب الظن أن مؤلف أسطورة جلجاميش أراد أن
يحترم التراث الأدبي الذي كان يقيم دائمًا رباطًا بين
«الشيوخ» وبين «المدينة»، فاخترع «مدينة» قاصرة على
الرجال في سن النضال. ولعله تزيَّد فحاول أن يبرر ضربة
جلجاميش التي لا سبيل إلى تفسيرها والتي تمثلت في القيام
بعمل غير مشروع ضد إرادة أعيانه، في الوقت الذي كانت
الأسرة الحاكمة فيه في عصر كتابة هذا النص قد اغتصبت عرش
كيش
Kish وسعت إلى جعل
الناس ينسون فعلتهم النكراء هذه. ومن هنا فإن الابتداع
الخيالي القائل بوجود مجلس شورى أعطى موافقته لجلجاميش،
وهو المؤسس المفترض للأسرة المالكة التي يرجع نسبها إليه،
أمر ضروري من الناحية السياسية.
٧٥ وهناك وثائق سابقة جاء بها أن إنسيوكيشدانا
Ensukeshdanna، ملك
أراتَّا
Aratta لم يحصل
على موافقة الشيوخ على حصار مدينة أوروك
Uruk. ولما كان قد أرجع
فشله في المعركة إلى لامبالاة الربة إنانَّا
Inanna، فقد حاول أن
يرسل إليها رسولًا ليعود بنبوءة طيبة، فلم يقبل أي جندي
من جنوده القيام بهذه المهمة، إلا البطل لوجالباندا
Lugalbanda، الذي حُبيَ
بقدرات سحرية جعلت إخوته ورفاقه المكذِّبين يضطهدونه. هذه
الحكاية التي هي خليط من المصادر الميثية والمصادر
البطولية، تبين أن تيمة رفض الشيوخ الموافقة وتيمة
الجدارة التي أتاحت للشاب وحده الصعود الاجتماعي، كانتا
موجودتين في الأدب السومري قبل جلجاميش بوقت طويل.
٧٦ وفي نصوص أحدث، مثل التوراة (التوراة،
الملوك١، الإصحاح ١٢)، نجد الشيوخ — زينيقيم
zeneqîm — ينصحون
رحبعام بأن يقبل طلب يربعام بينما يدفعه الشباب (الأحداث)
— جيلاديم
jelâdim — إلى
أن «يقف موقف صلابة لا تلين.»
٧٧ فالتيمة كانت موجودة في الزمن الشرقي
الأنتيكي العتيق وجودًا لا مراء فيه يجعل من الصعب أن
ننسب إلى القطعة التي اختارها كرامر الدقة التاريخية التي
يضفيها عليها.
ويمكن أن نخطو إلى أبعد من ذلك، فنلاحظ أن خطاب
جلجاميش يتجه دون تمييز إلى «الشيوخ» وإلى الآخرين.
والملك هنا أبعد ما يكون عن أن يضع فئتين إحداهما ضد
الأخرى، بل هو يدغدغ شرف أولئك الذي دعاهم إليه مذكرًا
إياهم بأن اللهجة الشعبية تقسم الرجال إلى فئتين:
«هؤلاء الذين يقفون أو أولئك الذين يجلسون
هؤلاء الذين يمتطون متون الخيول مع ابن الملك
أو أولئك الذين يضربون الحمير بالسياط.
من هم هؤلاء الذين ستكون لديهم الشجاعة لخوض غمار
الحرب؟
أنتم لن تخضعوا لبيت كيش،
ونحن لن نُضرَب بأسلحته.»
٧٨
لو كان الأمر أمر «فئتين» من قبيل
الاتحادات المهنية، فما كان من الممكن أن يكون هناك
تعارضٌ بين الرجال المسلحين (صنوف من الفرسان … يسيرون
على أقدامهم أو يركبون الحمير، فلم يدخل الحصان بلاد
الرافدين إلا بعد ذلك بحين!)
٧٩ وبين خيَّالة افتراضيين يستحثون ركائبهم،
وإنما يكون هذا التعارض بين الرجال المسلحين وبين التجار.
كان التجار في ذلك العصر يسيِّرون قوافل من الحمير (كانوا
يحثونها بضربها بالسياط من حين لآخر). وفي هذه الحالة إذا
اتبعنا نظام النص يكون المناضلون أرستقراطيين يجتمعون
وقوفًا في الغرفة العليا، بينما تتكون غرفة التجار
والأعيان السفلى من كبراء «جالسين» (أي «شيوخ»).
٨٠ فإذا علمنا أن كرامة الشباب المحاربين
المسمون مارياني
maryani
كانت مريبة في كل المنطقة بين النيل ودجلة، بدا لنا هذا
التفسير بعيدًا عن الاحتمال، كان هذا الاسم — مارياني
maryani — الذي يترجم
إلى «حوذيين» يستخدم تهكميًّا للدلالة على «رجال مسلحين
من طبقة عالية»
٨١ كما يستخدم تهكميًّا للدلالة على مرتزقة
هندوروبيين قادمين من الأناضول ومن أرمينيا وباكتريان
(شمال أفغانستان الحالية).
٨٢ ويبدو لي أن الأقرب إلى المعقول أن نرى في
هذه الإشارة معارضة بين أمزجة الشخصيات. فكل رجل يمر
بحالات مزاجية نفسية مترددًا بين الوهن والحمية. ولقد
حاول جلجاميش أن يقلب مزاجهم وأوشك أن ينجح في محاولته؛
ولكن الأسفَ مَلَكَ نفوسهم عندما حوصرت المدينة، فعاد
مؤشر الميزان إلى وسط القلب، من يمينه أمزجة سياسية، ومن
شماله أمزجة سياسية عكسها، مما اضطر الملك إلى التفاوض
بغية التوصل إلى حل وسط. وإذا كنا مصممين تصميمًا مطلقًا
على تقسيم العقول إلى مجموعتين، مجموعة الأكثر خبرة
ومجموعة الجسورين، فإننا نجد أنها جميعها ظلت على الرغم
من ذلك متحدة من أجل مناقشة قضية استثنائية، بناءً على
طلب الملك.
٨٣
وهناك شواهد أخرى تتضافر معًا لتستعيد صورة الحوار
بين الشيوخ والشباب. ويذهب أحدها إلى أن شابًّا خاطب من
هم أكبر منه سنًّا على النحو التالي:
«أمثل رجال لا يقاتلون
سنأكل الخبز وكأننا نساء،
فهل نحن خائفون؟ هل ترتعد فرائصنا
كأننا نجهل الحرب؟
ألا إن الزحف إلى المعركة هو في نظر الرجال يوم
العيد الحق»
كما يذهب إلى أن أحد الشيوخ رد عليه
قائلًا:
«لقد أردتَ المعركة وضيعت منها أكثر من …
لا تدع التيار يجرفك …
إلى معركة أكثر ضخامة من تلك بكثير»
٨٤
ولنفترض على الرغم من كل ذلك أن
المعارضة لم تكن بين توجهات مزاجية بل كانت معارضة حقيقية
بين أشخاص، بين «الشيوخ»، الذين كانوا آنذاك أكثر أهمية،
وبين «الشباب». في مملكة إيمار
Emar التابعة للحيثيين،
كان للشيوخ الحرية في بيع أراضيهم التي لم يكن إلا جزء
منها ملكية عامة، ويتيح لنا هذا أن نخمن وجود رأسمال عقاري.
٨٥ ويطلق على الشيوخ في اللغة الآشورية القديمة
«الكبراء»، بناءً على السن، بلا شك، ولكن أحيانًا بناءً
على الثروة. ويبدو أن المحك الثاني — الثروة — يرتبط
بالأول — السن — (فكلما تقدم الرجل في السن زاد مقامه
الشرعي متحدثًا بلسان شيعته، وزادت فُرَصُه في أن يكون
ثريًّا، ولهذا كان الأفضل ترجمة كلمة «كبير» ﺑ «معتبر»،
بالمعنى المزدوج للاعتبار الذي هو القدر والمال. في هذه
الحالة ستكون فرضية وجود مجلسين قائمة على التفاوت بين
سلطة «الشيوخ» وسلطة «الشباب»، وستكون دعوة الشباب خاضعة
لسماحة الشيوخ. والمقارنة بين المؤسسات النيابية في مدينة
أوروك — مدينة جلجاميش السومرية في الألفية الثالثة —
وبين المؤسسات النيابية في آشور، والمؤسسات النيابية في
المستعمرات التجارية في الألفية الثانية تدعو المختصِّين
إلى إعادة النظر في فرضية المجلسين من منظور مختلف. لنقرأ
على سبيل المثال الخلاصة التي خلص إليها موجينس تروله
لارسين
Mogens Trolle
Larsen.
«كانت إدارة مستعمرات (الآشوريين في قابودوقي
cappadoce)
٨٦ ترتكن على منظومة المجلسين، وكانت العلاقات
بين «الغرفتين»
٨٧ تطابق تطابقًا كبيرًا ما هو قائم في منظومات
شبيهة، على سبيل المثال تلك التي قامت في المدن — الدول
الإغريقية … ويذكِّرنا هذا … ﺑ أثينا … حيث كان (مجلس)
البولي
boulé يعكف على كل
الموضوعات قبل أن تناقش أمام (مجلس) الإكليزيا
ekklesia فكان من
الضروري إعداد ما يشبه القرار المبدئي
probouleuma حتى تتم
دعوة المجلس للانعقاد كذلك. ومن الممكن أن نجد منظومة
شبيهة تمامًا … في أسبرطة حيث كان مجلس الشيوخ الجيروزيا
gerousia له وحده الحق
في رفع مسائل إلى المجلس لاتخاذ قرارات»
٨٨
وحيثيات الحجج هنا مغرية؛ ولكنها على الرغم من كل شيء
تبدو قليلة التطابق مع العمل الحقيقي للبرلمانات ذوات
الغرفتين، فهي تلتزم بالاشتغال بالنصوص نفسها. ولكنها لا
تمنع من أن يكون هناك تفسير أكثر بساطة، هو وجود لجنة «في
قلب» المجلس تتكون من شخصيات تعتبر أرفع مكانةً وأكثر
تمثيلًا من الآخرين، ولكنها قد تدعو لجلسة عمومية أحيانًا
إذا لم تتمكن من اتخاذ القرار وحدها. والوثائق السومرية
من الألفية الثانية تذكر اجتماعات لمناسبات يعقدها قضاة
المدينة ومواطنوها في ساحة المعبد أو على باب نينورتا
Ninurta.
٨٩ وينصب الحديث في النصوص الآشورية بقابودوقي
على «لجان» وعلى «مجلس عمومي
plénière للمستعمرة»
(
karum kanesh saher).
٩٠
والجهد الذي
بذله لارسن ومن لف لفه للتدليل على تطابق برلماني جهدٌ
محمود يهدف إلى إثبات أن المجالس الرافدينية تشبه المجالس
الإغريقية (أو الأمريكية). وهو عمل جدير بالاهتمام ولكنه
غير مناسب لمقتضى الحال لأنه يعتبر بعض الخصوصيات الغربية
بمثابة محكات عالمية عمومية للديمقراطية،
٩١ يصل إلى حد البحث عن آثار عن أجورا
agora أو فوروم
forum ليس عليها من
إشارة إلا تلميح مكتوب إلى «بيت مجلس»
bît
pukhru لم يعثر عليه أحد إلى يومنا هذا.
٩٢ أم هل يجب علينا أن نستنتج أن المجالس
الرافدينية والمصرية كانت مختلفة اختلافًا جذريًّا عن
نظائرها الإغريقية والرومانية؟ أما كان الأوفق أن نغير
المنظور؟ هي مجالس كانت تجتمع مرات أكثر مما يمكن أن تتيح
لنا مفاهيمنا عن الطبوغرافية السياسية افتراضه، ولكنها لم
تكن تنعقد في المكان الذي ظللنا نبحث عنها فيه. وإذا
أخذنا في اعتبارنا الأصل القبلي لمجالس الأعيان
الرافدينية («أعيان» جمع «عين» في لغة العرب) وجدنا مجالس
الأعيان تنعقد خلف أبواب مغلقة في بيت من البيوت العادية
أو في مضيفة،
٩٣ وكان ذلك شيئًا يميزها عن المجالس الإغريقية
التي كانت تظاهر بما فيها من تقسيمات. وكانت المداولات
على الرغم من ذلك تتحرى المناقضة إلى حد كان يتسرب معه
عَرَق الاختلافات إلى الخارج.
٩٤ أضف إلى ذلك أن المكان العام المفضل لدى
الشرقيين لم يكن الساحة الكبيرة التي تصب فيها كل شوارع
مدينتهم، بل الرواق الذي يضمن الاتصال بين المكان العام
والمكان الخاص، بين الملك والمواطنين، بين المقدس وغير
المقدس. والحال في بلد الرافدين كالحال في مصر وفي غيرها
حتى نصل إلى العثمانيين الذين ظل «الباب العالي» عندهم
مشهورًا بحق، كان المكان الطبيعي للتجمع هو البواكي بعد
حنية الباب التي يمر من تحتها كل واحد عندما يكف عن العمل
الحرفي ليصبح من أصحاب المناصب أو بالعكس عندما يترك
شارات المنصب ليعود مرة أخرى مواطنًا عاديًّا يتنقل بين
المصلحة العامة وبين الجماعة العرقية التي ينتمي إليها.
ويرجع تفضيل الشرقيين للأعتاب إلى تمدين قوامه الأحياء
التي توضع «أبوابها» تحت مسئولية رئيس.
٩٥
ولائحة الوزراء المصريين وصفاتهم تذكر بإلحاح وظيفة
الوزير بما هو «حارس الباب» (و«ساحات محاكم» أول درجة هي
«أبواب»، وساحات محاكم الاستئناف هي «أبواب كبيرة»).
وتعتمد كل الإدارة الفرعونية على هذه المجالس التي كانت
تنعقد علنًا مفتوحة على أعتاب عالم السلطة السرية. وإذا
نحن دققنا في معنى هذا اللقب («حارس الباب»)، جاز لنا أن
نفهم أنه يشير إلى أبهاء استقبال مسقوفة تسبقها أروقة
ذوات عمد، كانت تستخدم لأغراض المداولات وهي ما تقوم عليه
الشواهد في مصر من عصر الدولة القديمة إلى زمن البطالمة.
٩٦ كان الملك في زمن الدولة الوسطى يظهر هنا،
بينما كانت مداولة تجرى بدونه من أجل أن «يستشير معيته،
رجال البلاط وموظفي الديوان». ثم ينسحب بعد ذلك محيِّيًا
البعض على التوالي فوق درج بهو اللقاء، وينتهي التجمع
بتفرق المشاركين،
٩٧ فيدلف نفر منهم إلى الداخل، ويلم آخرون
بالأجنحة الخارجية.
٩٨ كانت الحال على هذا النحو منذ وقت قديم يرجع
إلى ما قبل الأسرات، عندما كان الملك يعقد جلسته
الاستشارية تحت مظلة شرفة، يساعده ياوره، قبل أن يبرح
الساحة المقدسة التي هيئت على هيئة التل الأول. وفي زمن
الدولة القديمة كان الملك يطل من خلال «نافذة الإطلالة»
التي يرقى إليها من فوق سلم يقوم وزير بحراسته حراسة
يقظة. ويدل الاحترام الصارم لهذه المراسم على أن المجلس
الذي يدور الحديث عنه هو نوع من حكومة يترأسها فرعون،
يشهد على تطابق القرارات التي يتخذها المجلس في انعقاد
خاص مع الصالح العام، ويعين رئيس العمل الذي يصدع
بالتنفيذ والمتابعة. و«رجل العمل» هو «ذلك الذي يحيل إلى
الفاعلية» الرغبة الملكية، تلك التي يرسلها الملك من أجل
هذا الهدف إلى خارج القصر. ولكن من الممكن أيضًا عن طريق
تبديل بلاغي عجيب الكشف عن واقع باد وتلاشى، فيكون
المقصود «ذلك الذي تلقف النصيحة» التي أزجاها الملك أو
الرأي الذي رآه (رع)، فتكون الجملة ذات معنى خفي ويكون
معناها أن المنَفِّذ سمع توصيات المعية كما صاغها فرعون.
٩٩ وفي بعض الحالات المعينة (وفي عصور أخرى) كان
من الممكن أن يكون تجاوز المهمة المنوطة بعضو من أعضاء
المجلس مجرد تفويض سلطات، نظرًا لأنها كانت تقود الملك
إلى وضع كل أعضاء المجلس تحت المسئولية المؤقتة
لشخصية بارزة.
١٠٠
ولكن هناك أماكن أخرى تتم فيها اجتماعات تناقضية،
نذكر: خيام هيئة القيادة العسكرية في حالة الحرب، وفيها
تحسم الأمور المدنية العليا، على نحو ما تبين لنا مغامرة
سنوحي الذي اضطر إلى أن يخرج إلى المنفى عند البدو بعد أن
سمع الكثير عن تدبير مؤامرة في مضرب الخيام. ونحن على
معرفة جيدة بما يحدث في داخل مجالس الحرب استقيناها من
قصص انتصارات فرعون؛ ففي عشية معركة مجدو
Megiddo جمع تحتمس
الثالث ضباطه. كان عماله الآسيويون الثائرون قد تحصنوا في
المدينة الفلسطينية. هل لا بد من محاصرة المدينة بغية
تنفيذ سياسة هجومية ومكلِّفة لاسترداد المدينة؟ «قولوا لي
ما رأيكم في هذا»، هذا هو السؤال الذي وجهه الملك إلى
الرؤساء العسكريين الذين كانوا ينفرون من اتباع
استراتيجية هجوم تضطرهم إلى سلوك طريق ضيق منحدر لا يمر
فيه الجند إلا واحدًا وراء الآخر على خط ضيق. وأحس الضباط
بالحرج وهم ينقلون إلى فرعون ما يجيش في نفوسهم.
«أليس صحيحًا أن على الخيول أن يسير الواحد وراء
الآخر، كذلك الجيش والأفراد؟ هل ستستمر طليعتنا في
النزال، بينما مؤخرة الجيش … لا تستطيع الاشتراك في
المعركة؟ ثم إن هناك طريقين: أحدهما يبدو لسيدنا أفضل …؛
والآخر ينتهي عند شمال مجدو. فليتقدم سيدنا على أيهما
يلوح لقلبه أفضل؛ وليتصرف على أية حال بحيث لا يكون علينا
أن نمشي على أرض وعرة.»
١٠١
هذا الرأي يعتبر درة من درر البلاغة الدبلوماسية، وهو
يشدد من جديد على أهمية المعارضة المقننة بين ملك شاب
متلهف ومستشارين سيطروا على عواطفهم المتأججة. ولقد عُرف
تحتمس الثالث بصلابته، ولكنه على الرغم من ذلك لم يلق من
الصعوبات في الانتصار لوجهة نظره أقل من تلك التي لقيها
جلجاميش. ولقد طال النقاش إلى ما يوشك أن يكون الأبد: بعد
فحص المعلومات الأخيرة عن مواقع العدو «استمروا في
مداولات حول خطة الزحف الشهيرة»، هذا ما ذكره فرعون بدقة
في مذكراته بنبرة من الضيق. قال لرفاقه محتدًّا: «من منكم
تمنى أن يسلك الطرق التي تحدثتم عنها فليفعل.» اضطروا
صاغرين متبرمين إلى الانصياع للملك، ولكنهم رفضوا أن
يمنحوه امتياز قرار الهجوم على العدو قبل أن يعاد تجميع
الجيش كله.
«نرجو سيدنا المقدام أن يصغي إلينا في هذه المرة،
ونرجوه أن يحمي من أجلنا مؤخرة الجيش … فتوقف صاحب
الجلالة الملك … من أجل أن يضمن حماية مؤخرة
جيشه.»
ولكن صاحب الجلالة لم تنته آلامه. فقد كان عليه أن
ينتظر إلى أن يأخذ ضباطه الكبار أنصبتهم من الغنيمة بعد
أن انتصروا في المعركة الأولى، بدلًا من أن يسارعوا إلى
الميل على العدو المهزوم («آه! لو لم ينهمك جيش صاحب
الجلالة في السلب والنهب، لاستولى على مجدو من
فوره!»).
وما هذه إلا منازعات بالقياس إلى ما تعرض له رمسيس
الثاني أمام قادش من محن. كان رمسيس الثاني واثقًا من
قوته، متعجلًا تعجلًا مفرطًا في خوض المعركة، فوجد نفسه
منعزلًا في وسط قوات الحيثيين، قاب قوسين من الهزيمة
والموت. ولقد كان ما وجهه فرعون إلى ضباطه بعد المعركة من
توبيخ أشد مرارة، لأنه لم يكن يعرف دوافعهم.
«ماذا حدث لكم … حتى ترفضوا خوض المعركة؟ ألا ينال
الرجل التعظيم كل التعظيم عندما يعود إلى مدينته بعد أن
يكون قد أبلى بلاء الشجعان أمام سيده الملك؟ إن الإنسان
لينال الشهرة عندما يقاتل … يا لها من سعادة، حقيقيةٍ، أن
تكونوا أحياء، تتنفسون الأنسام بينما كنت أنا وحدي»
١٠٢
هذه هي تيمة الرئيس المتهور في مواجهة الكبراء
الحريصين تعلو هنا في وضوح وصراحة على الأخلاقيات
المعهودة في كل المعارك القديمة الأنتيكية القديمة،
المسئول عن اتخاذ القرار يحتاج دائمًا إلى نصيحة واعيةٍ
حتى يتغلب على انفعاله الأول. و«المواطنون»، شريطة ألا
يكونوا خونة أو هيَّابين، يكونون عناصر توازن لا محيص
عنها في مواجهة المبادرات الهوجاء التي قد تصدر عن
«برلماناتهم». إلا أننا نرى في المثلين المصريين أن إرادة
الملك تنتهي إلى الغلبة، على طريقة عبارة أبراهام لينكولن
المحكمة الشهيرة: سبعة أصوات «لا»، صوت واحد «نعم»، وهكذا
تكون الغلبة لأصوات «نعم».
(٦) إجراءات المداولات والاقتراع
هل الجديد الجذري الذي جاء به الغرب يمكن أن يكون
راجعًا إلى مناهج تكوين القرارات، تلك المناهج التي تلزم
الملك باحترام الإرادة العامة؟ ولو اعتمدنا على القائلين
بالاستثنائية الإغريقية فإن الإجابة عن هذا السؤال ستكون
بديهيًّا هي: أن اختراع الاقتراع بالأغلبية سيظل يمثل
الأصالة الحقيقية للمدن الهيلِّينية. فهؤلاء الذين يتبعون
مذهب الاستثنائية الإغريقية يقعون هكذا ضحايا خطأ متكرر
يرد عندما تجري مقارنة بين مجتمعين: وليست التقنية
البالغة الحداثة هي دائمًا البالغة الفعالية والبالغة
العدالة. فليس إحصاء الاقتراع بناءً على رفع الأيدي أو
على بطاقات التصويت هو المنهج الوحيد المتاح. فمن الممكن
أن تستتر أغلبية فعلية وراء إجماع ظاهري.
ولنفرغ — بادئ ذي بدء — من الحالات الاستثنائية
الخاصة بتحالف جارف بين مدينة ومدينة: فعندما اجتمع
المجلس السوري لمدينة إيمار
Imâr في الألفية
الثانية قبل الميلاد ليعلن لممثل ملك ماري
Mari «نعم، لقد هجرنا
حزب البنيامينيين! واعتنقنا كلنا جميعًا نهج حزبكم!»،
١٠٣ وكانت تلك النتيجة الحافلة المثيرة التي وصلت
إلينا قد تمخضت عن مداولة داخلية مجهولة لم نعلم عنها
شيئًا. فنحن نجهل البدائل والفروق، ولكن هذه أمور لا
أهمية لها على الإطلاق هنا، فكل «البلد» — إيمار — قاده
رؤساؤه المحسَّبون المنسَّبون إلى حيث اتخذ موقفًا
«قوميًّا». و«مثَّل» الشيوخ أسرهم، أي إنهم كانوا
«مسئولين» عنهم، على نحو يشبه إلى حد ما رؤساء عائلات
إيطاليا الجنوبية عندما حولوا في عام ١٩٤٧م إلى الحزب
الشيوعي كل الناخبين الذين كانوا يجعلونهم قبل الحرب
العالمية يصوتون للملك فيتوريو إيمانويلي.
ويمكننا أن نحاول تمثل المسيرة التي كان يسلكها
الاقتراح حتى يصل إلى قبوله «بالإجماع»: نحن الآن نفترض
أن العملية الوحيدة التي عرفتها بلاد الرافدين هي تلك
التي تعرف في الإسلام باسم «الشورى» بمعنى استشارة فقهاء
الشريعة والأعيان للانتهاء إلى اتفاق ﺑ «إجماع» لا يعيبه
عيب ظاهر.
١٠٤ ويبدو قريبًا من الحقيقة أن «اتجاهات
أوليجارشية — حكم الصفوة — لم يكن من الممكن أن تتأخر عن
الظهور في مجالس من هذا النمط» تلك المجالس «التي كانت
تعمل كاجتماع قَبَلي يصل إلى اتفاق عام تحت الإدارة
المستنيرة لأصحاب النفوذ الأعظم، والثراء الأوسع والعمر
الأكبر من الأعضاء.»
١٠٥ وبدلًا من أن يحل موعد صندوق الاقتراع فيقطع
المداولات، كانت المداولات تمتد طالما لم يحس رؤساء
المجالس القنصلية (القائمة في المستعمرات الآشورية في
الأناضول، في القرن الثامن عشر ق.م.) أو المجالس القضائية
(المجالس المحلية المنوط بها قضايا تخص واحدًا على الأقل
من مواطنيها) بالوصول إلى حدود الصلاحيات المخولة للأعضاء
الصادعين بالمداولات. حتى إذا كوَّن الرؤساء رأيهم، قاموا
بصياغة حكمهم، وقالوا: «وهو كذلك!»، وهو تعبير يدعو إلى
تخيل «عمليات تصويت بالموافقة» سبقت، مما يسمى اليوم
«تصويت استرشادي»، لا يلزم من أدلوا به إلزامًا نهائيًّا.
١٠٦
في المجتمعات «الشرائحية» —
١٠٧ كما يلاحظ موجنس تروله لارسن
Mogens Trolle Larsen —
يفرض عدمُ وجود سلطة مركزية قوية ووجودُ تقسيماتٍ أعراقية
لها وزنُها بالفعل تحقيقَ اتفاقٍ جماعي عام.
١٠٨ ولهذا كان من الضروري تمثيل العشائر أو
العائلات الآشورية في المجالس العمومية — يمثلها رؤساء
العائلات — وكان مجرد اشتراك رؤساء العائلات شاهدًا على
الموافقة: سواء اقترع الغائبون عن طريق «الخبط بالأقدام»
بينما عبر الحاضرون بالموافقة عن طريق «الجلوس في
الاجتماع»؛ أو تكونت دائرتان تدريجيًّا إذ يبارح الأعيان
مقاعد الشهود السلبيين ليلحقوا بصاحب اقتراح، ولا يزال
الجالسون ينهضون واقفين حتى يظهر أن غالبية المشاركين أو
كلهم قد وقفوا.
١٠٩
في المستعمرات الآشورية بالأناضول، في الربع الأول من
الألفية الثانية، كانت مثل هذه الحركات على الأرجح يحكمها
حصر دقيق — وليست هذه العمليات مستغربة من تجار حريصين
كانوا يُسَبِّقون وحدة المشروع القائم في بيئة أجنبية على
منازعاتهم الداخلية. وتذكر الوثائق التي وصلت إلينا بوضوح
قرارات اتخذت بالأغلبية
mâdûtum لا بالإجماع.
١١٠ وتتضمن لوائح مستعمرة كانيش
Kanesh الآشورية فقرتين
صريحتين: إحداهما تقرر أن أمين المجلس لا يحق له أن يدعو
المجلس للاجتماع إلا إذا كانت غالبية «الكبار» موافقة
سلفًا؛ والفقرة الثانية تكلف الشخص نفسه بأن يتبع عملية
إجرائية مركبة، تقسم على ما يبدو «مجلس الكبار» إلى ثلاث
مجموعات، ثم إذا لم يتم اتخاذ قرار، يجري تقسيم أعضاء
الجمعية العمومية إلى سبع لجان تصوت (هل كل واحدة؟ هل
كلها جميعًا؟) بالإجماع.
١١١
أما في مصر فالأمثلة على التصويت بالأغلبية أقل
وضوحًا. ولكننا نلاحظ أن اختلافات تاسوع الآلهة أو
الاثنين وأربعين شيطانًا جهنميًّا تفرض تقسيمهما إلى
مجموعتين حسب طريقتهم في وزن الذنوب. وقد ظلت ذكرى
الإجراءات القانونية حية توجه الكتَّاب الذين كتبوا قصة
حورس ضد سيت أو كتاب الموتى لنقلهما إلى العالم الآخر.
هناك في القرن الثالث عشر قبل الميلاد رسالة من رئيس شرطة
إلى وزيره يذكر فيها إجراءً فرديًّا اتُخذ لصالحه في مجلس
الثلاثين: ولنا أن نتساءل عما إذا كانت المخالصة يمكن
تقريرها بالأغلبية.
١١٢ أما في المجالس البلدية فيبدو أن التحكيم بين
الفئات المحلية المعارضة كان يعتمد على الإجماع العام.
ونجد مجلس القِنبيت
qenbet يعمل بالفعل
عمله باعتباره ضامنًا للنظام القانوني والاجتماعي،
فيذكِّر عندما تحين مناسبة بالقواعد الجماعية (وهو يسجل
على سبيل المثال «الوقائع الموثقة»: التي تشهر الحق
المكتسب حتى يمكن نشر هذه الوقائع الموثقة علنًا إذا تعرض
الحق المكتسب لمناقضة).
١١٣ ويمكننا عقلًا أن نفترض في كل محكمة من
«المحاكم الست الكبيرة» أن إجماع «قضاة الرواق» لم يكن هو
القاعدة: ولم يكن هؤلاء القضاة يعقدون جلسات مغلقة يصدرون
فيها الأحكام، بل كانوا يعقدون الجلسات علنية، وكان أصحاب
الشكاوى يدعمون مواقفهم بشهود عديدين كان وجودهم يعطي
المحاكمة سمة منافسة بين فريقين يعادي بعضهم
بعضًا.
«لقد كنت أظن أنك ستدافع عن نفسك وحدك. إلا أن
معاونيك يقفون وراءك، ولقد جمعت العديد من المساندين كأنك
في الطريق إلى المحكمة. إنك تبدو فظًّا، وتداهن مسانديك،
وتعطي كلًّا منهم هدية، فردًا، فردًا، وهم يقولون لك:
«تشجع، سننتصر عليه».»
١١٤
ولسنا نعرف للأسف شيئًا ذا بال عن المداولات النهائية
بين القضاة الستة، هل هذا دليل إضافي على أن مصر، التي لم
تكن مستبدة إلى الدرجة التي قال بها البعض، كانت
الديمقراطية فيها أقل من بلاد الرافدين؟ أيًّا كان الأمر
فإننا نرى أن اتخاذ القرار على نهج التساعي الإلهي كان
حتى في وادي النيل وفي كل العصور محدودًا، فما كان قرارٌ
يُتخذ دون السعي إلى طلب آراء متعددة. وليس من شك في أن
ذكرى الصحراء ومراسيمها الصارمة لم تكن قد تلاشت. كان
التشاور وسعي أهل القرار إلى أن يسمع كل منهم رأي الآخر،
حتى ولو كانت المسألة عادية، أمرًا يمثل ضرورة لأن ارتكاب
خطأ في التقدير، في بيئة قاسية شرسة، كان من الممكن أن
يؤدي إلى عواقب مهلكة. كان بقاء شعب ونجاته من المهالك
رهنًا بقدراته على المداولات. هل يجب عليه أن ينزح عن أرض
تيهه ليقيم في أماكن مجهولة؟ هل يجب عليه أن يقيم إقامة
دائمة ويكرس طاقاته ليحيط داره الحضرية الأولى بأبنية
ضخمة أم هل يجب عليه أن يتواصل مع جيرانه، وأن يقبل بترك
تراثه في حالة المخاطر الحربية والتجارية المتعاظمة؟ هل
من المناسب في أوقات القحط أن يتمثل رد الفعل في النزوح
الجماعي، أم في إقامة مدن جديدة منبثقة عن المدينة الأم،
أم بتنظيم رشيد للزراعة (بالري، والسخرة) وتربية الأنعام
(اللحم، الجلد، الإهاب، صناعة نسيج)؟ ما كان يمكن أن يقوم
حاكم مستأثر بالسلطة باتخاذ قرارات على هذه الدرجة من
الأهمية الأساسية: لقد جرى تكوين الدول الشرقية إبان
عمليات تحكيم وازنت بين حلول بعيدة المدى لمشكلات فورية،
في تعامل مستمر بين أعيان مجتمع قديم جدًّا له أعراف
مستقرة وبين باعثي دولة فتية حريصين على العمل على نسيان
أصولهم القبَلية أو الجماعية أو التجارية.