ونحن الذين نعيش في عالم تحكمه الخطوط المستقيمة وهندسة
الأشكال المتوازية، والأسطح المرفوعة لأعلى نجد مشقة في
تصور عالم من الخطوط الدائرية المسطحة. ولكي يفهم الإنسان
تفصيل المكان على النحو الخاص بالشرقيين القدامى، يلزم أن
يحيط الإنسان بنظرة متشككة سهل بويازكوي
Boyazköy الفسيح الذي
اختار الحيثيون أن يقيموا فيه عاصمتهم الإمبراطورية حاتوزة
(حاتوسا)
Hattousa في
مواجهة التلال النائية التي كانت تأتي منها على فترات أعمدة
جاسجا
Gasga التي أتيح
للناس الوقت الكافي لملاحظة تقدمها
٥ أو مدينة ساتال حويوك
Çatal
Höyök، وهي مدينة أناضولية أخرى أقدم
بمقدار ثلاثة آلاف سنة، وضعت في وسط مكان ليس به شيء، لا
يتخلله حتى نهر. وقليلة هي الحصون المربعة، والمتاريس ذوات
الزوايا القائمة التي تمد العرق الجمادي لإبط السفح، بارزة
بفضل ميزة الموقع على وديان فصِّلت على هيئة ساحات مستطيلة.
وفي قلب انتشار البدو الرُّحل بين الألفية السادسة والألفية
الثالثة نجد الأماكن الآهلة أو المنزرعة تتخذ أشكالًا
دائرية في أغلب الأحيان. وإذا كانت هناك منظومة دفاعية، فقد
كانت تتكون من مجرد تجاور الجدران الخارجية للمنازل
٦ على هيئة قوس، أو بتعلية خفيفة للتربة بحيث
تكون ساترًا ترابيًّا يحيط بها.
(٢) دائرة الشعوب البائدة
والمقابر الفرعونية قبل التاريخ، مثلها مثل البيوت،
دائرية أو بيضاوية أو على شكل حدوة الحصان.
١٣ وهذه المقابر ليس لها ما يحميها، وليست ذات
زخارف، كل ما في الأمر أن مكانها معلَّم بعلامة عبارة عن
أثر تذكاري من حيوان ذي قرون.
١٤ والمقبرة الملونة في هيراقونيبوليس
Hierakonpolis١٥ بصعيد مصر من زمن ما قبل الأسرات كان لها على
الأرجح سقف بارز على هيئة قبة، بينما نلاحظ أن العمائر
الجنائزية ذات السقف المسطح في الأسرة الأولى ستكون
مستطيلة مستورة محمية وثرية.
١٦ وعلى هذا النحو تعكس المقابر مفهوم التنظيم
الاجتماعي. منذ الألفية السادسة ق.م. كان الموتى يدفنون
مثنيين وراقدين على جنب يتجه وجههم إلى الجنوب أو الشرق
ملامسين للأرض، أو محميين بجرة من الطَّفل، أو بحصيرة، في
حفر بسيطة على شكل واحد متطابق. وكانت هذه الحفر تتخذ تحت
المساكن (وهذه هي الحال في ساتال حويوك بالأناضول وفي علي
كوش
Ali Kosh وأربشيه
arpachiyah بالرافدين،
وهي أيضًا الحال في مرمدة
Merimde بمصر السفلى،
بين عام ٤٨٨٠ق.م. وعام ٤٢٣٠ق.م. وفي هذه المواقع لم يجد
الأثريون قرابين جنائزية)
١٧ أو نجدها متناثرة في المجاورات المحيطة، أو
محفورة داخل جبانات حيث تتخذ هيئة حجرات جنائزية فقيرة التأثيث.
١٨ ونجد في الألفية الخامسة، في مدينة إريدو
Eridu وهي (أبعد مدينة
رافدينية قديمة إلى الجنوب)، أن الجثث «مسجاة على ظهورها،
ممدة على مخدع من الشقاف، في مقابر مبطنة ومكسوة بالطوب»،
١٩ بينما في نقادة (شمالي مدينة الأقصر المصرية
الحالية) ظلت الجثث تدفن في وضع الجنين داخل حفر تحفر على
مستوى سطح التربة، ولكن وجوهها كانت تتجه إلى الغرب:
فبدلًا من أن ترمز إلى عودة إلى الأصول (الشمس الوليدة
وبطن الأم) ماحية الفروق المكتسبة في أثناء الحياة، تشهد
على وجود دين جديد، الموتُ فيه رحيلٌ إلى حياة أفضل، أعد
لها إعدادًا ناضجًا في الدنيا من أجل القيام بالرحلة
الكبيرة التي جرى التزود لها بأكثر ما يمكن من الفضائل
والثروات. هذه المعتقدات تبرر السعي إلى نيل الجدارة
والسعي إلى الثروة (البعض دفنوا بالفعل ومعهم ممتلكاتهم
المادية، بينما كانت المقابر في الدلتا في الوقت نفسه
خالية أو تكاد). على الشاطئ الغربي للنيل — حيث اكتشفت
٢١٤٩ مقبرة في منطقة مساحتها بضعة هيكتارات — نجد جبانة
نقادة تستبق وديان الموتى بجباناتها الكبيرة في عصر
الأسرات، تلك التي طمع فيها الفقراء (كانت أول عمليات
النهب التي تعرضت لها معاصرة للجنازات).
٢٠
وتطوُّر جبانة نقادة واضح غني بالبيان: فهو لا يشهد
فقط على صعود الأغنياء بل يشهد كذلك على تعرضهم للفقر بعد
ذلك في عالم يغلب فيه الحس بتدرج السلم الاجتماعي. فقد تم
الكشف حتى الآن عما يقرب من ثمانين قدرًا في مقبرة واحدة
لم تتعرض للنهب، وكانت القدور مصفوفة في نظام ثابت من
دفنة إلى التي تليها. أما أجمل القدور فوجدت مملوءة
بالعطور والدهانات، وأما الأخريات فلم تكن تحتوي إلا على
سدادة تستر فقر أصحابها الذين اضطروا إلى ملئها بالرمل
ليوحوا بأن فيها العطور والدهانات الغالية.
٢١ في كل مكان بمصر ظهرت في منعطف الألفية
الثالثة مبانٍ جنائزية منيفة، وأصبحت الأواني الفخارية
أكثر ترفًا، وتشهد الزخارف الجدارية للمقابر على نفس
الخيال اللوني والتصويري الذي كان فيما مضى قاصرًا على
جدران الكهوف والصخور في المناطق الصحراوية. وهناك في
أرمنت (في مواجهة الأقصر) مقبرتان من الطوب تختلفان عن كل
المقابر الأخرى من ناحية تخطيطها المستطيل ومن ناحية
المواد المستخدمة.
٢٢ في هيراقونبوليس
Hierakonpolis (مدينة
نِخِن العتيقة) تتمايز خمس مقابر عن المائتي دفنة غير
المتمايزة التي ترجع إلى زمن ما قبل الأسرات (أجساد مثنية
على شكل الجنين، قدور من الفخار، أدوات مختلفة) والتي
اكتشفتها بعثات أثرية متعاقبة. ولا يقتصر الأمر على
المقبرة الشهيرة الملونة والتي ترجع إلى الثلث الأخير من
الألفية الرابعة ق.م. — وهي أول مقبرة مزخرفة وأول مقبرة
عُثر فيها على جدران كسيت بموتيفات شبيهة بتلك التي نجدها
على الفخاريات الموصوفة بأنها جرزية
gerzéennes أو على
الصخور قبل الأسرات — وإنما يشمل أربعة مبانٍ جنائزية
تختلف ماديًّا واجتماعيًّا عن نظائرها.
وأفاد المصريون الجنوبيون من التراث المحلي للرسوم
التمثيلية الدينية الواقعية على حيطان الملاجئ الطبيعية
(مثل الزرافة الرائعة المرسومة على مقربة من هيراقونبوليس
Hierakonpolis،
٢٣ فقاموا ذات يوم بتصميم قبورهم على هيئة كهف
واحد، واتخذوا هكذا مصلى واحدًا لاستخدامهم وحدهم. أما في
الرافدين وفي الأناضول فقد اتخذت الكتابات الحجرية مادة
لها صخورًا في العراء، وإن كان هذا العراء أرضًا أو
مرتفعًا يصعب الوصول إليهما؛ ورسوم الحيوانات هنا أقل
واقعية (قرونها بصفة خاصة أضخم من المألوف) وأكثر ترتيبًا
منظوميًّا إلى حد أن الرسم في مجموعه يعطي الانطباع عن
مجرد صور ديوان شعر وحكايات عن الحيوانات أكثر من أن يكون
عن صور حيوانات تحفز على الصيد.
٢٤ في هذه الحالة وتلك، يمكن أن تكون الرسوم
الحجرية قد قامت مقام النماذج لزخارف الفخاريات، ومنها ما
اتخذ من الحيوان موتيفات له.
٢٥ إلا أن هشاشة الأواني الفخارية، وتعرضها
للكسر عند استخدامها الاستخدامات العديدة المخصصة لها،
واستحالة استرجاع القوارير الفخارية التي ترسل إلى أماكن
بعيدة، كل هذا لم يشجع الفنانين الرسامين على أن يكرسوا
لها وقتًا ثمينًا يرسمون فيه أشكالًا معقدة. والمقابر
المصرية في زمن الأسرات وحدها — كما يلاحظ ميشائل هوفمان
Michael Hoffman — هي
التي ستمنح الفنانين الفرصة ليمارسوا مواهبهم على سطوح
كبيرة توشك أن تكون منيعة لا تتهدم، فلن يرى أحد تلك
الدفنات المقفلة التي كان الفنانون يشتغلون بها لمن
يكلفهم بها من الأغنياء — بدلًا من أن يستخدموا مواهبهم
على سطوح صغيرة اشتهرت في الشرق كله حيث تناقلتها تجارة
بعيدة كانت محدودة ولكنها كانت تشتغل على سطوح من مواد
سهلة الفناء.
٢٦
وهذه هي الفخاريات التي تناثرت في كل الجبانات التي
اكتشفت فيها تحكي بطريقتها تاريخ التنظيم الاجتماعي في
الشرق القديم. كانت الفخاريات في البداية نفعية القصد
(مثل الجرار غير المزخرفة التي اكتشفت في مرمدة
Merimde)،
٢٧ ثم أصبحت مزخرفة (مثل تلك التي اكتشفت في
نقادة)، كانت تصنعها النساء في قلب بيت الأسرة، ثم أصبح
الرجال يصنعونها في ورش — كانوا يستخدمون «بريمة يدوية
صغيرة» ثم أصبحوا فيما بعد يستخدمون دولابًا آليًّا
حقيقيًّا يُشغِّلونه بالأرجل. وانتقلت منتجاتهم من
استخدام الحجر الطري إلى الحجر الصلد، ومن الطين الني إلى
الطين المحروق، وكانت تزود بمقابض ليسهل مسكنها، وبثلاث
أرجل لكي يسهل عرضها. كانت الأواني والجرار علامات مختزلة
دالة على التطور الاجتماعي: وفخار نقادة الذي سوَّده
الدخان الكثيف يقلد بمهارة الأواني المنحوتة في السَّبَج
(حجر زجاجي بركاني أسود) مواريًا بتكاليف رخيصة البقع
التي تعلو الفخاريات الحمراء المصنوعة باليد؛ ورسوم
الجرار التي صقلت بعناية وزخرفت بدقة — الجرار التي أصبحت
فيما بعد الأوسع انتشارًا — كانت في البداية منقولة نقل
مسطرة عن العلامات الطبيعية للحجر.
٢٨ مثل هذه التحولات توحي بوجود دورة اجتماعية:
فمن الممكن القول بأن صناعة الفخار العادي التي كانت تتم
على نحو قروي عائلي تبعها إنتاج ضخم لفخاريات جذابة
ورخيصة الثمن مما أدى إلى محاولة تمييز نُخَب هي وحدها
التي يُتوقع أن تطلب أواني من الحجر المجوف وتوجيه مواهب
الفنيين القادرين على صنعها لما يحقق فائدتها. وأغلب الظن
أن هؤلاء الفنيين كانوا كثيرين في منتصف الألفية الرابعة
كثرةً تكفي لكي يكوِّنوا فئة متمايزة من الشعب. ولقد
نظموا أنفسهم عندئذٍ في اتحادات: وأشاروا إلى بتاح على
أنه سيدهم على نحو ما نجد على إناء اكتشف في الليشت [في
منطقة الجيزة] يرجع تاريخه إلى عام ٣١٨٠ق.م. ولما كان فعل
ب ت ح يعني «شكل، يشكل» فقد جعل الفنيون الأشياء
والكائنات التي صورها «تحيا»، فكانوا «يخلقون» الحضارة
بالمعنى الحرْفي. وأدى احتكار أغنى أغنياء الأعيان
المحليين لخيرة نحاتي الأواني إلى التمهيد فيما بعد
لتنظيم العمل المتخصص المطلوب لبناء المباني الجنائزية التالية.
٢٩
أما في بلاد ما بين الرافدين بين نهاية الألفية
السادسة والألفية الثالثة فتشهد الأواني دائمًا على غاية
نفعية حتى إذا كانت مستخدمة لأغراض جنائزية (مثل الأواني
التي عثر عليها في تل عبَدا
Tell
Abada). والجرار على سبيل المثال لها
بزبوز للصب، والقصاع لها عرى يثبت فيها نسيج يستخدم
غطاءً. والأواني عثر عليها مكسرة في المقابر، جرى تكسيرها
لأسباب دينية، حتى إذا كانت بديعة، يشهد على ذلك التمثال
الفخاري الذي يرجع إلى الألفية الخامسة والذي عثروا عليها
في يريم تيبي
Yarim-tepe
وهو يمثل امرأة حسناء لم يبقَ منها إلا جسد بلا رأس (فصل
الرأس عند الرقبة) وزود التمثال بقاعدة تسند الردفين
البارزتين وصدر تسنده ذراعان، والمرأة تميل قليلًا إلى
الأمام، والتمثال كله طلي بطلاء رقيق.
٣٠ وعلى الرغم من أن الحجر كان نادرًا، فليس
هناك ما يدل على أن جلبه يعني وجود تجارة ترفية واسعة
كتلك التي كانت في مصر — على الرغم من العثور على مواعين
من المرمر الذي ينفذ النور من خلاله ترجع إلى عصر سامري
samarra
(٥٥٠٠–٥٠٠٠ق.م.) أو من الألبستر يرجع إلى عصر جمدة نصر
Jemdat Nasr
(٣١٥٠–٢٩٠٠ق.م.) ونجد الفنانين قد لعبوا على تنوع
الأشكال، وعلى رقة الجدران، وتعدد ألوان الكسوة، والسطح
المزخرف، أكثر مما لعبوا على المادة. في الألفية السادسة
كانت الحواف والأذنيات هي وحدها التي تُحلَّى بزخرفة
رقيقة مؤسلبة، هندسيةً كانت أو نباتيةً، ونادرًا ما كانت
حيوانيةً أو بشرةَ الشكل. لم تظهر أغراض التجارة وأغراض
العبادة المصنوعة من الخزف طبقًا لنفس المبادئ (الزخرفة
الخفيفة، والمقصد النفعي) متمايزة بعضها عن البعض الآخر
لا في واديي دجلة والفرات ولا في وادي النيل.
كانت مساكن الموتى تشبه مساكن الأحياء، فقد كانت في
البداية دائرية ثم أصبحت مستطيلة، كانت في البداية عارية
ثم اكتست بعد ذلك بكسوات جدارية، كانت في البداية على نمط
واحد ثم تمايزت تراتبيًّا. ونموذج التجمع السكني في زمن
ما قبل الأسرات، عبارة عن دائرة قليلة الكثافة من أكواخ
مدورة مزودة بجدران سمكها ٣٥سم، متخذة من خلطة الطين
المجفف، والطباشير والزلط، يعلوها سقف مخروطي، تجمع سكاني
مثل ذلك الذي نجده في الحمامية
Hemamieh في وسط وادي
النيل وعلى حافة الصحراء، وهو ما يوحي بمخيم بعيد أو
بمكان هجرة قطيع. أما المنشيات المكونة من بيوت مستطيلة
مبنية من الطوب الني المجفف في الشمس، لها جدران منحنية
وأسقف محدبة، فيبدو أنها نظمت على هيئة دوائر متحدة المركز.
٣١
ونموذج المنشية السكنية في زمن ما قبل الأسرات في
بلاد الرافدين عبارة عن بناء من طابق واحد، مثل «المبنى
المدور» في جورة
Gawra
(بين عامي ٣٩٠٠ و٣٢٠٠ق.م.) «منعزلًا في مكان خالٍ» يجمع
بين التخطيط الدائري (الجدار الخارجي) والتخطيط المستطيل
(لتنظيم سبع عشرة وحدة متداخلة على هذا النحو)، بحيث يظل
هو نفسه في وسط مكان توجد به بيوت وقبور مستطيلة تتمايز
بمرور الوقت.
٣٢ في يريم تيبي
Yarim-tepe نجد المبنى
الدائري تمامًا الذي يزيد قطره على ٥ أمتار له جدران من
الطفلة المخلوطة سمكها ٤٠ سم، وهنا كذلك نلاحظ تناقضًا
بين المادة البسيطة الهشة وبين البناء المعقد الذي استهدف
مفهوم تصميمه البقاء. رفع البناء على الأرض البكر
مباشرةً، مما يدل على أن الموقع لم يحمل من قبل بناءً؛
فالمبنى تتكون أساساته من الطين المضروب المفرود الذي
أخفي في جهة أصلية مخزنًا عثر فيه على فخاريات احتفالية
مطلية، كسرت عمدًا إلى شقاف، مغطاة برماد فحم خشبي. وما
زلنا إلى اليوم لا نعرف وظيفة هذا المبنى، ولكن من
المحتمل أنه كان يؤدي دورًا إداريًّا (من قبيل الدور الذي
تؤدي اليوم «بيوت المحليات» في فرنسا)، نظرًا لأنه محاط
بسبعة مبانٍ من النمط نفسه، وإن كانت أصغر حجمًا، بينما
كانت المهام الإنتاجية تتم خارجه، في شون الغلال، وأفران
الخبيز، وأفران الفخار وكلها مخروطية الشكل.
٣٣
وبعد ألفية أخرى، في مرمدة
Merimde والعمري
El-Omari والمعادي، في
مصر السفلى نجد شون الغلال مخروطية أو بيضاوية، ولكنها
هنا عائلية، وليست جماعية، وأماكن التخزين أصغر، وأكثر
تناثرًا، وأكثر قربًا من المباني العادية — وبعضها عبارة
عن أخصاص فردية بسيطة خصصت لتقي من الشمس عاملًا واحدًا
منفردًا — ويحيط بها في أغلب الأحيان حواجز من البوص.
ونجد في الموقع الأخير من هذه المواقع الثلاثة بعض قباء
التخزين قام أصحابها بتوسيعها بتوصيلها الواحد بالآخر.
وثمة مقاولون حقيقيون جمعوا مخازنهم عند طرفي القرية: أما
مخازن الطرف الجنوبي فاستخدمت لتخزين البضائع الترفية
التي يمكن نقلها بالقوافل في جرار متينة ولكنها عادية،
مزودة بأذنين مريحتين ربما صنعتا على نموذج الحبال التي
كانت تربطها معًا عند نقلها بطريق النهر أو البحر؛
٣٤ وأما مخازن الطرف الجنوبي فكانت تخزن فيها
المنتجات الغذائية المخصصة لمجموع الأهالي والضيوف
الرُّحل (الغلال والضأن المطهو والسمك). وكان لدى هؤلاء
المقاولين علاوة على ذلك ورش لصهر النحاس، بدلًا من تشغيل
النحاس في صورته الطبيعية، كما هي الحال بالنسبة إلى أي
مادة معدنية أولية أخرى، وهو ما لم يؤد إلى تقدم صناعي
بالقياس إلى الحقبة الحجرية الحديثة النيوليثية.
٣٥
ويوحي المشهد الكلي بوجود جماعات سواسية، استقرت
حديثًا في أعقاب تجوال طويل، تتكون من عائلات بادئة
كالنواة لم تتسع بعد أو اتسعت بالكاد، متعصبة لاستقلالها،
ولكنها قادرة على التعاون للإفادة من تجارة بعيدة نشيطة
تفضل أن تستثمر فيها استثمارًا ينصب على كل أشكال
الاكتناز الجنائزي. ونلاحظ في بلاد ما بين الرافدين أن
التخزين الجماعي للغلال في صوامع رائعة سبق بناء المباني
الأكثر روعة المزودة بقاعات وسطى وملحقات يبدو أنها كانت
تُستخدم مكانًا لاستقبال الأغراب العابرين أو ربما لتجمع
الأهالي عندما تدعو الضرورة إلى اتخاذ قرارات كبيرة في
إطار جماعي ومتساوٍ.
٣٦
(٣) من العلو الطبيعي إلى العلو الاجتماعي
في اليوم الذي يرتبط فيه حظ التجمعات البشرية بل
بقاؤهم بالتجارة تبرح هذه التجمعات الفلاة أو السهل
الغريَني وتسكن التلال، ثم تبرحها لتقيم فوق شقفة صخرية.
وفي أثناء هذا النزوح الذي بدأ في بلاد ما بين النهرين في
الألفية الخامسة تقريبًا تعقدت الخطط الحضرية. وظهرت
العلامات الأولى على تكوُّن تجمع أسري حول شيخ أو على
علوِّ عشيرةٍ فوق العشائر الأخرى ظهورًا تمثل في بناء
بيوت كبيرة حفل بعضها بقاعات فسيحة على شكل الصليب.
٣٧ بل ربما بدت في بعض الأحيان ظاهرة غريبةً:
فهذا هو محيط هذه المنشية يتغير متخذًا تدريجيًّا شكلًا
بيضاويًّا بدلًا من الشكل الدائري (كما نجد في حسك هويوك
Hassek Höyük وهي
مستعمرة سومرية في أوروك
Uruk بالأناضول)
٣٨ بينما تتخذ شبكة الأماكن التابعة لها شكل
نسيج العنكبوت (يكون سداسيًّا عند الاكتمال؛ وشبه معيَّن
إذا لم يكتمل، كما في وادي خوزستان الإيراني الحالي).
٣٩ ونجد في «حبوبة كبيرة»
Habuba
Kabira وهي قرية رافدينية من الألفية
الثالثة، مباني عامة مجمعة من نفس نمط بيوت السكنى
العادية، جدرانها أكثر كثافة، ولها حنيات للتماثيل،
ونجدها قابعة فوق مرتفع طبيعي.
٤٠ وهكذا تشهد التغيرات الجغرافية بوضوح على
التغيرات التي طرأت على المفاهيم الاجتماعية.
فالمركز الثاني
في الشكل البيضاوي يحتله مكان المعبد — وهذا ما يبينه
ضريح خفاجة (على مقربة من بغداد الحالية) الذي تحيط به
أسوار بيضاوية —
٤١ ومقر القصر، ومركز «المدينة العالية»، وكلها
أحياء لم تعرفها قرى ما قبل التاريخ.
٤٢ ونلاحظ هذا بوضوح في استعادة صورة حسك هويوك
Hassek Höyük، فهذا
المركز الثاني أعلى، بينما يشكل مدخلٌ وحيد إلى الدفاعات
الحصينة بداية تخطيط حلزوني ينتهي إلى بنية متوازية
المستطيلات يمكن التنبؤ بها، تشهد في ذلك العصر على
انتصار مبكر لمفهوم حديث عن التقسيمات الاجتماعية: وظيفية
رباعية (منتجون وتجار وكهنة وسياسيون) وتخصص إنتاجي يشمل
أماكن الشبكة الحضرية (تتزود تبادليًّا بالأشياء التي
اشتهرت بها). وعلى الرغم من هذا التمييز فإن استمرارية
الفترة السابقة ظلت كبيرة. فالقصر المعلَّى ليس إلا «بيت
الرئيس» القديم، أو «بيت الضيافة»، وفي كل الافتراضات نجد
مقر سلطة تنسيق تشهد على وجودها الساحات المكشوفة التي
تعتبر «انتقالًا بين المدينة وبين القصر العالي القابع
فوق الجزء الحصين من المدينة الأكروبول.»
٤٣ ولم يكن الهدف في المقام الأول فصل الشرائح
الاجتماعية، بل كان الاستمرار في جمعها معًا في مجتمعٍ
أصبح شديد التشابك.
فإرادة التمييز تظهر بمزيد من الوضوح عندما يجري
التفكير في بناء أسوار. كانت الأسوار في بداية الأمر
سدودًا من التراب، ومن الطوب المهروس، والمخلفات من كل نوع
٤٤ التي كان تكويمها يتطلب وقتًا، وتلك علامة
أخرى على الإنشاء المتأخر لمنظومات الدفاع الحقيقية.
ونذكر أن أوروك
Uruk وهي
الحاضرة الكبيرة في الجنوب الرافديني، لم يكن لها أسوار،
إلى أن قام الملك جلجاميش
Gilgamesh بتشييد نحو
عشرة كيلومترات منها نظرًا للصراع مع مدينة كيش
Kish حول عام ٢٦٥٠ق.م.
(قبل أن يقيم الملك سرجون
Sargon الأكادي أول
توحيد مؤقت للبلاد بأربعة قرون تقريبًا). وبسبب هذه
الأسطورة والاندهاش الساذج الذي أحدثته نتخيل الجديد الذي
اتسمت به هذه الدفاعات. ونعرف منها أن المباني الرافدينية
العامة في الألفية الثالثة قبل الميلاد كانت لها أسوار
عالية تهدف إلى التأثير على المواطنين والأعداء، وأن
الأسوار كانت مبنية من الطوب المحروق مضبوطة ضبطًا كاملًا
على أساسات ميجاليتية
٤٥ مستطيلة.
٤٦ كانت الأسوار من قبل تبنى من الطوب الني
المجفف في الشمس، وتصف متضامنة الواحدة مع الأخرى لا
يثبتها إلا ثقل القباب والعقود، وكانت تقام على أرضيات
دائرية تمت تسويتها ثم مهدت بالطين المضروب. وكانت
فعاليتها الدفاعية تتغير حسب الهمة التي أبديت في حفر
خندق ورفع سد ترابي، وذلك مشروع جماعي يكشف عن تعاون قروي
جماعي أكثر مما يكشف عن تقسيمات اجتماعية متنامية. ونرى
ذلك بوضوح في تل السوان
Tell
es-Sawwan، وهو موقع سبق أوروك
Uruk بما لا يقل عن
ثلاثة آلاف سنة، له سور على شكل حدوة الحصان حُصِّن بشكل
متفاوت على مراحل متعددة ليحمي بدعامات متعددة يغلب عليها
الشكل الدائري البيوت المبنية على شكل حرف
T، المصممة على تخطيط
أصلي يفترض وجود درجة عالية من الوعي بالجماعة وبالمساواة.
٤٧ في تل المليجان
Tall-e
Malijan٤٨ (أنشان
Anshan في العصر
الأنتيكي)، في إقليم فارس
Fars الإيراني الحالي،
يرجع السور الخارجي البيضاوي إلى الفترة من ٣٠٢٥ إلى
٢٨٧٠ق.م.، بينما كان الموقع الذي يحيط به ومساحته ٢٠٠
هكتار مأهولًا بشكل مستمر منذ الألفية السادسة.
في مصر كانت
أقدم أسوار اكتشفت مبنية بالطوب. في الدلتا نجد آثار
أسوار دائرية من الطوب ترجع إلى الدولة القديمة في كوم
الحصن
Kom el-Hisn حيث
كانت تحيط جزئيًّا ببيوت متطابقة إلى حد كبير (بعضها أقدم
من البعض الآخر).
٤٩ أما سور تحتمس الثالث في هيراقونبوليس/نخن
Hierakonpolis-Nekhen
فقد بني في القرن الخامس عشر ق.م.، أما سور الكاب
El-Kab فيرجع إلى
الألفية الولى: ومعنى هذا أن المدينتين كانتا من قبل بلا
حماية. وكما أن الأسوار الخارجية للكاب رفعت فوق سور
دائري قديم كان يحيط بمعبد داخلي، كذلك كانت أسوار
هيراقونبوليس تقوم فوق أسوار نصف دائرية مبنية من الطوب
الرملي ارتفاعها متران ونصف المتر، تدور حول صرح مقدس
مرفوع فوق أرضية معلاة بالطوب.
٥٠ ولعلها لم تسبق إلا بخمسة أو ستة قرون
«الحصن» الذي اكتنف السور المحيط الذي يبلغ سمكه ٢٫٣٤م
والسور الداخلي الذي يبلغ سمكه ٤٫٨٧م حاميًا مئات المقابر
من زمن ما قبل الأسرات وزمن الأسرات الذي شيده الفرعون
خاسيخيمُوي
khasekhemui
في نفس الموضع بالطوب الني على ارتفاع يناهز ١٠ أمتار.
ومقبرة هذا الفرعون ذات تخطيط غير مألوف (وقد جرى تنفيذ
هذا التخطيط على نحو سيئ ولكننا على الرغم من ذلك نميز
العناصر الثلاثة للصروح الجنائزية الكبيرة التالية وهي:
قبر ومعبد وسفينة شمسية) وذات أبعاد غير مألوفة أيضًا
(يبلغ طولها نحو ٧٠ مترًا وعرضها أكثر من ١٠ أمتار):
وكأنما كان الفرعون يريد أن يؤسس نظامًا ثقافيًّا جديدًا
دون أن تتاح له الوسائل والإمكانات اللازمة للتنفيذ. وعلى
الرغم من أننا لا نعرف إلا القليل عن هذه الشخصية
الفريدة، فهناك علامات تدل على أن خاسيخيمُوي كان عند
«المفصلة» بين عالمين: عالم المجتمع السابق للأسرات الذي
لم تكن السلالم الاجتماعية فيه قد تحددت إلا قليلًا، ولم
تكن المركزية السياسية فيه قد أنجزت؛ وعالم المجتمع
الفرعوني. وحيث إن حكمه اندرج تحت الخاتم المزدوج لحورس
وسيت — وهما الشخصيتان المتعاديتان في الميثات التأسيسية
المصرية — فقد بات موضعًا للجدل والشك. فانقطعت أسباب
أسرته، ونُسيتْ ذكراه.
٥١
وخلافًا للفكرة
التي تكونت لدينا عن النمو الحضري في الشرق — ولكن طبقًا
لتاريخ المدن الإغريقية — فإن كل الأمثلة المعطاة
تعلِّمنا منذ الألفية الخامسة أن أماكن السكنى كانت
أحيانًا منعزلة بدرجة كبيرة وكثيرًا ما كانت بعيدة عن
مدينة جاء منها مؤسسوها إبان نوع من التوسع الاستعماري لا
تزال أسبابه مجهولة لا نعرفها. في الألفية الخامسة كانت
غالبية المجاورات في شمال شرق العراق تابعة لأبيد
Ubaid؛ ونجد العديد من
المنشيات المؤسسة بين منتصف الألفية الرابعة ومنتصف
الألفية الثالثة ترتبط بأوروك
Uruk؛ وفي الألفية
الثالثة وبداية الألفية الثانية كانت دار رزوك
Razuk المستديرة على
الأرجح من عمل إشنونَّا
Eshnunna. وما تبعْثُر
«المستعمرات» دون ما منظومة دفاعية، وقيامها غير بعيد من
الينابيع والأنهار أو المدقات التي تتزود من خلالها، إلا
واقع أكدته الشواهد على مدى هذه الفترة. في الألفية
الثالثة نجد في وادي الأردن مدائن أخلاها أهلها دون أثر
لعنف ظاهر.
٥٢ وأبيدوس في مصر العليا شيدت بعيدًا عن النيل؛
وعلى الرغم من شهرتها الدينية، فلم تكن حتى عاصمة إدارية،
وإنما كان لاتحادها مع عدد من القرى المبنية من الطين
والسعف في بندر واحد الفضل في أنها أصبحت مدينة ذات أسوار
شيدت من الطوب الني وإن لم يحط بها سور حقيقي.
٥٣ في أبادا
Abada (في حوض حمرين
hamrin بالعراق) نجد
قنوات طويلة من السيراميك وشبكة ري متشابكة تجلب الماء من
مناطق بعيدة بهذه المستعمرة في أبيد التي هجرت في العصر
التالي المسمى عصر أوروك
Uruk.
٥٤ أما حبوبة كبيرة
Habuba
kabira فعندما أدرجت في منطقة نفوذ
المدينة السابقة فإنها، وهي الواقعة على شاطئ نهر الفرات
على بعد نحو ١٠٠كم إلى شرق من حلب، على ما يبدو كانت
واحدة من المدن الأولى التي صممت حسب تخطيط حضري حقيقي،
وهو تخطيط يقوم على: اختيار موقع بكر، ورسم شوارع رئيسية،
وبناء شبكة من مجاري الصرف والبالوعات، وتشييد بيوت
متطابقة بتقنيات عالية الحرفية. ومع ذلك فإن منظومتها
الدفاعية لم تبن إلا متأخرًا جدًّا: وقد ظُن في البداية
أنها لا تفيد، ثم أضيفت لاحقًا بعد إنشاء المدينة،
والمعلوم أن المدينة «لم تتعرض لهجوم قط، ولم تخرَّب بل
هجرت» عندما قررت سلطاتها أن تتحاشى الوقوع تحت رحمة حصار
مرتقب يوصد مسارات تموينها. ولما لم تكن تستطيع أن تعيش
على إمكاناتها الذاتية في غياب منظومة تخزين خاصة وتدبير
زراعي كافٍ لإطعام سكانها الذين تراوح عددهم بين ٦٠٠٠
و٨٠٠٠ نسمة، فقد كانت جزئيًّا تحت رحمة عاصمتها،
٥٥ وإن ظلت في حد ذاتها أصل الأماكن المستقلة
ذاتيًّا. أما مدينة جبل أرودا
Jebel
Aruda — على بعد ما يقرب من ٨كم إلى
الشمال — فقد كانت تتلقى مؤنتها في أوعية مختومة تحوي
الغلال والزيت، غالبًا ما كانت هذه الأوعية تأتي من البحر
المتوسط ومن الأناضول أكثر مما كانت تأتي من جنوب الرافدين.
٥٦
وإنما تحين ساعة المستبد عندما يتبع انتشار الوكالات
المسالمة المستقلة ذاتيًّا والمنسجمة اجتماعيًّا في مناطق
غير مأهولة استعمارٌ عدواني يستهدف المدن الموجودة،
وتفاقُم الانقسامات الاجتماعية وإقامةُ احتكار للتجارة
البعيدة. ولكن الأعراف القائمة على مدى ثلاث ألفيات من
تبعثر الجماعات ومن المساواة التعاونية ومن روح المشروع
تلجم التطلعات الاستبدادية، وعشائر العاصمة قبلت قواعد
العمل التي اتخذتها لنفسها منذ الوقت الذي كانت فيه
جغرافيا متناثرة، واجتماعيًّا متجانسة، وسياسيًّا
ديمقراطية، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية نجد أن المدن
التي جرى الاستيلاء عليها حفظت خصوصياتها وإعفاءاتها
المحلية، بل احتفظت أحيانًا بدوائرها التجارية.
(٤) إمبراطورية التجارة
هل وُلدت الدولة من رحم التجارة أم من رحم القتال؟ هل
السياسة شأن تدبير اقتصادي — وهو ما بدأنا نرجحه؟ أم هي
مجال الحرب — وهو ما تروجه الأطروحة الجارية؟ نريد أن
نعرف هل جاء احتلال أقدم مكان نعرفه نتيجة توسع تجاري أم
نتيجة نزعة إمبريالية عسكرية، فهذه المعرفة أساسية في
وصفنا القائمين على أمرها بمدبرين تضامنيين أم بمستبدين
إمبرياليين.
في سومر يبدو أن المجالس اتخذت لنفسها إداريين لهم
بصفة خاصة كفاءة للنهوض بمهام الإدارة والميزانية، وتخطيط
التموين وتنظيم التجارة الخارجية: كانوا يطلقون عليهم اسم
en «إن» (على نحو ما
نرى في إن — بيلولو
En-Bilulu وهو رب المطر
والري، وكذلك إنليل
Enlil
وإنكي
Enki، إلخ) وهو
الاسم الذي نترجمه تقريبيًّا ﺑ «سيد»، والسادة يختلفون عن
«الملوك» اختلاف الضد عن الضد (الملوك
lugal لوجال مثل
لوجالزاجيسي
Lugalzagesi
ولوجالباندا
Lugalbanda
من ملوك أوروك
Uruk)
فالملوك يدافعون عن المدينة الدولة
cité-État ضد الأعداء.
٥٧ وتوحي الألقاب بأن «السادة» أسبق من «الملوك»
وأن السادة كانوا ينتخبون في مجالس محلية مستقلة ذاتيًّا
قبل أن تنطلق مشروعات واسعة المدى قادت إلى
المَلَكِية.
واستقر بين خبراء الشرق القديم نوع من الاتفاق
الجماعي على دور التجارة (سواء كانت تجارة محلية أو ذات
مسار بعيد) في توطئة المنشيات
localités في أرض
محايدة ضئيلة الحظ من الخصب مما لا يتيح لها إمكان
الاكتفاء الذاتي (أشبه ما تكون بما يسمى الآن ﺑ
no man’s land). ولا
تكون تابعة لأحد، ولا تكون خاضعة لسيادة دولة قائمة.
وتنشأ الخلافات عن التفسير الذي يكون من المناسب الأخذ به
فيما يتعلق بأصل المدن التي تكون غير مستقلة اقتصاديًّا،
ولكنها تكون سياسيًّا مستقلة ذاتيًّا في إدارة شئونها.
وهنا نجد أطروحتين تعارض إحداهما الأخرى. يفترض القائلون
بالأطروحة الأولى أن قيام المدينة جرى أولًا في مناطق
جافة بعيدة عن شواطئ الأنهار، وأنها كانت مجردة من
الموارد الطبيعية، من خام المعادن ومن الطاقة: ومعنى هذا
أن وادي الفرات ووادي النيل يدينان بالمنشيات التي قامت
في الصحاري المتاخمة بنجاح المحاولات الأولى لاستئناس
الحيوانات والتجارب الزراعية الأولى التي جرت قبل تطورهما
الزراعي بعدة قرون.
٥٨ وأغلب الظن أن تربية الأغنام وصناعة الصوف
كانت محركات التغيرات الاجتماعية (كما كانت الحال بالنسبة
إلى إبلا
Ebla على شاطئ
المجرى الأعلى للفرات)، ولم تكن هي الزراعة وإنتاج القطن
أو الحَب (كما كانت الحال بالنسبة إلى لاجاش
Lagash في دلتا
الرافدين)، وكانت لاجاش واحدة من كبريات الممالك في الزمن
الأرخائي السحيق.
٥٩ في بلاد الرافدين نجد أن الزراعة الجافة
الشمالية (وبخاصة في السهول التي تتحلق اليوم حول الموصل
وإربيل) أنتجت من المحاصيل أكثر مما أنتجت الزراعة
المعتمدة على الري في الجنوب.
٦٠ ولقد خدمت الشبكة النهرية في الجنوب على نحو
خاص نقل البضائع، وكانت قوافل الحمير هي التي تتولى نقل
البضائع في الشمال.
٦١
وهناك نظريات
أخرى تذهب على العكس إلى أن اتساع الشبكة الحضرية على
هيئة سرب من المدن الكبيرة في الجنوب موطِّئة مستعمرات
على طول نهر الفرات (من أوروك
Uruk إلى ترقة
Terqa) أو على طول نهر
النيل (من هيراقونبوليس
٦٢ إلى نقادة) حتى تاخمت المدن الحرة في نطاق
البحر المتوسط.
٦٣ وتشهد هذه المدن على تطور حضري أدى بالمدينة
إلى التكاثر في الألفية الثالثة على هيئة بنادر صممت على نموذجه،
٦٤ سواء كانت محطات تَوَقُّف على مسار تجارة
بعيدة المدى لتجارة نشيطة من خلال مناطق مقفرة، أو كانت
تحصيناتها تحمي الطرق التجارية (الموقع الجبلي
Godin Tepe)
٦٥ أو كانت تنخرط في قلب شبكة منشيات تابعة
(ضياع تخومية في منطقة تزرع بالري، محطات زراعية تجريبية
في منطقة جافة). كانت هذه الحالة الأخيرة تعرض عندما تكون
هناك زراعات تعطي عائدًا جيدًا ولكنها تمثل مخاطر كبيرة،
وما كانت تمثل إلا نسبة مئوية منخفضة من أرض تكسوها علاوة
على ذلك غابات ومراعٍ، مثل أرَّافة
Arrapha حيث نجد أن
الضياع المعلَّمة بمراعٍ محاطة وأبراج ريفية محصنة (ديمتو
dimtu) تعتبر استثناءً.
٦٦
وأيًّا كان التفسير المأخوذ به فإن عملية استدلال
تعتمد الشبيه (الأدبي، المحاسبي، المعماري، الديني) تستند
على لوحات صغيرة وأختام كشف عنها البحث الأثري في مواقع
مختلفة من المنطقة تبين أن مدينة نموذجية مثل أوروك
Uruk كان لها منذ مطلع
الألفية الثالثة نظيرات متعددة في نطاق الثقافة ذاتها،
ولكنها ظهرت متأخرة عنها. ونحن لا نجدها فقط شمال غرب
عاصمة جلجاميش على الفرات، بل نجدها كذلك في الشرق، في
سوسيان
Susiane، دون أن
يبدو على هذه الشبكة الحضرية المرنة أنها صممت في إطار
العقلية الإمبريالية التي تُنْسَب إلى مؤسسها. ليس هناك
ما يشهد على أن أوروك استغلت مواردها الزراعية استغلالًا
فائقًا، ولا على أنها أشرفت بشكل صارم على الأراضي المتاخمة.
٦٧ ولقد جاء سقوط أوروك نتيجة لنجاح الرؤساء
السياسيين المحليين المنفيين من العاصمة أو الوطنيين
المتثاقفين الذين كشف عنهم الاستخدام المشترك للخطط
المعمارية المتشابكة ولتقنيات البناء الريفية.
٦٨ ولقد أدى ظهور المدن الدول حتى إلى هجر خالص
لعديد من المدن المخلصة لأوروك قبل نهاية مرحلة
تَوَسُّعها بكثير (حبوبة كبيرة
Habuba
Kabir)، وإلى نزوح الكثير من سكان
العديد من المدن الأخرى (مدينة سوس
Suse التي انخفض عدد
سكانها إلى الثلث، بينما هجر الناس مركز المدينة الهائل،
وكان ساحة كبيرة مرتفعة يتصدرها دَرَجٌ).
٦٩
(٥) المجتمعات الأولى الصامدة
التذبذب البطيء الذي جرى على مر القرون، وتغير متوسط
المسافات الفاصلة بين المنشيات، وتطور وظائفها الدفاعية
والتجارية، كل هذه الأمور لا تتحقق فقط نتيجة عقلية
المشروع ولا هي عمل تأتي به إرادة تخطيطية فحسب، بل هي
ترتبط كذلك بضرورات بيئية، نذكر منها في المقام الأول
التغيرات الطبوغرافية التضاريسية والتغيرات المناخية التي
تفرض نفسها على كل التجارب الإدارية؛ ففي منطقة ديالى
Diyala
والزاب الصغير
Bas Zab
بالعراق الحالي نجد «سفحًا صغيرًا» قد حظي رغم صغره
بأهمية استراتيجية استثنائية، أعني به جبل حمرين
Jebel Hamrin (قديمًا
إبيح
Ebih)، الذي كان على
مر الزمن «مزلاج البلاد»
shikkun
mâti. هذا الامتداد الجبلي والحياض
التي تفصله كانت دائمًا مأهولة لأسباب عسكرية منذ الألفية
الثالثة، حيث دخلت في تصورات المكان على هيئة «مشارف طرفية»
٧٠ لا بد من التحكم فيها بأي ثمن، هكذا تحكمت
فيها سومر «المركزية» (مدينتا كيش
Kish ونيبور
Nippur) ثم بابل عندما
تعرضت للتهديد.
٧١ وفي مقابل هذه الحتمية التضاريسية الشكلية،
لم يكن أمرًا حتميًّا تحصينُ كل المدن الواقعة في سهل
النهري الكبيرين بعناية، في اتجاه تلاقيهما: فطالما صمد
المزلاج، لم يكن هناك خطر يتهددها. أما المدن السومرية
الكبرى (أور – أوروك – أوما – لاجاش – لارسا – إريدو)
فنجد، على العكس، أنها نمت في المناطق الجنوبية البعيدة
كل البعد عن نطقة انجراحيتها
٧٢ القصوى — وهي تعلم على الأرجح أنها كانت
مدنًا مطلة على الخليج في الألفية الرابعة عندما كان
النهران يصبان منفصلين.
٧٣ في حوض كور
Kur الإيراني، وهو هضبة
يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر ١٦٠٠م، توزعت المنشيات على
مساحة ٣٤٠٠كم
٢ بين الوادي
الغريني وسلسلة الجبال الساندة، وهي تستمد مياهها من
قنوات حفرها الإنسان منذ الألفية الخامسة، أو من ينابيع
طبيعية استغلت منذ الألفية السادسة. وشيئًا فشيئًا أدى
تكثيف الزراعات وتزايد الري إلى تقريب المسافات بين
المنشيات في الوادي، أدى إلى إنشاء قرى حول الينابيع التي
لم تستغل بعد. ثم أدى تدهور وتملُّح التربة إلى تضاعف عدد
الأكوار النصف بدوية على المنحدر. ومن العجيب أن الكتابة
ظهرت عند نهاية هذه المرحلة من التفتيت. عندئذٍ أصبحت
مدينةً جديرةً بأن تتسمى بهذا الاسم عاصمة الحوض كله وظلت
هكذا إلى أن تسببت سنوات الجفاف في تدهور حضري استمر عدة قرون.
٧٤
وترتكن «الحضارة» — التي تُفهم على أنها ظهور عالَم
قوامه المدينة يعتمد الكتابة في مواجهة عالم أمي لا أبجدي
ريفي أو سهبي
steppique —
هكذا على توازن واهٍ بين استغلال غير كافٍ للموارد
الطبيعية يبرر تسكين البدو الرحل في مدن، من ناحية، وبين
استخدام جائر للبيئة فكك في بضع عقود شبكة من المنشيات
تكونت على مدى قرون، من ناحية ثانية، ويفترض تدبيرُ هامش
أمن مريح مع الاستغلالِ الرشيد للموارد الطبيعية (وهو ما
أسماه روبرت ماك آدمس
Robert
McAdams): مرونة العلاقة بين الزراعة والطبيعة
٧٥ وجود شكلين من التحكيم: تحكيم تتولاه سلطة
أعلى من مجرد السلطة الأخلاقية لرؤساء القرية أو القبائل؛
وتحكيم تتولاه الأسواق المحلية أو الإقليمية أو الدُّولية
التي بفضلها تضبط الكيانات الاقتصادية المتكاملة نفسها
بعضها بالقياس إلى البعض الآخر.
والدول التي تسيطر على سوقها الخاصة تعيِّن ممثليها
في التجارة البعيدة هي وحدها التي يمكنها أن تحفظ المرونة
البيئية التي لا بديل عنها لبقاء زراعتها. ثم عليها أن
تستثمر بيئيًّا على المدى الطويل بأن تتحاشى الاستغلال
الكامل لمجموع الموارد المتاحة لها، فزيادة المردود لضمان
الاستقرار السياسي أمر ممكن على المدى القصير وسهل
التنفيذ عند إقامة إدارة مركزية! ونحن نجد أن الأنظمة
السياسية التي أمكن التعرف على هويتها إبان الألفيات
الثلاث التي سبقت الغزو الفارسي لمصر ولبابل قد أوتيت
أغلبها هذه الحكمة. كان القائمون على هذه الأنظمة
السياسية يعرفون أيضًا كيف يركنون إلى حوار دائم لا يتوقف
مع القبائل البدوية: كان «ممثلو المرونة» هؤلاء يقينًا
يعتبرون في الوقت العادي مزعجين لكل الصادعين بالاستقرار
السياسي. ولكن استنادهم إلى غطاء من الأراضي، وسهولة
حركاتهم المناورة والسمة شبه الرسمية لتصرفاتهم والتي لم
يكن هناك من يضطر إلى تغطيتها في حالة الفشل، كل ذلك كان
جليل الفائدة في وقت الأزمات.
وتأسيس الدول يحكمه استخدام المكان استخدامًا لا يسمح
إلا بأقل مساحة للمجموعات التي يتوقع منها أن تهز في أي
وقت أركان نظام حضري يعتبر «طبيعيًّا»: مجموعات من قبيل
مثيري قلاقل شبه بدوية أو من قبيل فلاحين نازعين نزعة
استقلال ذاتي لا يقبلون إلا على مضض أن يشفط مركزٌ حضري إنتاجهم.
٧٦ وينطبق هذا أيضًا على إعادة التأسيسِ، وبخاصة
بعد «العصور البينية» الشهيرة التي انقطع في أثنائها
مؤقتًا التتابع الأسَري للملَكيات الدينية. ويعتبر منعطف
الألفية الثالثة في الواديين — وادي النيل ووادي الرافدين
— حاسمًا بالنسبة إلى مستقبل نظمها السياسية؛ ففي نفس
الوقت الذي بنت فيه مدن جنوب الرافدين أسوارًا واتخذت
جبانات وأقامت جيوبًا على طول دجلة والفرات، نجد مدن جنوب
مصر تفعل نفس الشيء في اتجاه أعلى النيل، ثم تتابع مساره
ببطء. في هذه المرحلة نجد المدن الأكثر بعدًا عن حوض
البحر المتوسط والتي لم يكن فيها ما يهيئها لتصبح مراكز
هجرة كبيرة — اللهم إلا قربها من النهر الكبير التي أقيمت
على ضفتيه —، تتخذ أهمية أكبر من المدن الدول التي أقيمت
منذ الألفية السادسة عند قاع القوس الجبلي الذي يمتد من
التلال الواقعة شرق الأقصر ومن جبال سيناء إلى جبال زجروس
٧٧ مرورًا بلبنان وجبال طوروس.
ولا يزال شرح هذا الانقلاب ناقصًا. فهناك أثريون من
أصحاب النزعة المادية من يرون فيه بثقة مفرطة الدليل على
أن بحث الأهالي من الداخل عن موارد ومنافذ يؤدي بأكثر
الناس فقرًا إلى نقل جزء من السكان إلى مكان آخر؛
٧٨ وهناك أثريون من أصحاب النزعة الثقافية
ينسبون عن خطأ هذا التحول إلى تأثير وارد من الخارج من
حضارات أكثر تقدمًا ناقلًا بعض معارف هذه الحضارات إلى
جيرانها. وتواتر الحديث عن أدوار محتملة أدتها شعوب أصلها
من أفريقيا السوداء في بناء المدن المصرية (واحتج
الذاهبون هذا المذهب باللغة، وبظهور ملوك صغار أو «رجال
طوال»، بل دلائل على أكل لحم البشر وعلى الأضاحي
الجنائزية) أو عن تأثير أقوام من حوض نهر السند في ظهور
المدن الرافدينية (واحتج الذاهبون هذا المذهب بالعمارة
ذات الجدران المائلة التي تقطعها بروزات). كذلك ذكر البعض
أن المصريين اغترفوا من معين الرافدينيين ما اغترفوا من
إلهام (وقيل إن مكان التلاقي كان جنوب شبه الجزيرة العربية).
٧٩ ونظرًا لليأس حيال العثور على حجج تقوم مقام
الأسباب الدامغة فإن الذاهبين هذه المذاهب يلجئون إلى
تراث افتراضي لحضارات مجهولة («جنس السادة») أوتيتها
القبائل الأصلية في الواديين. وهكذا فإن خيال المتخصصين
المفرط الفائر كثيرًا ما يشهد على عجز في المعرفة.
٨٠
وهناك شيء مؤكد وهو: أن حركة السكان لا تحكمها حتمية
جغرافية ولا نزعة تطور عتيقة. ليس هناك شك في أن المقابر
الفارهة والإنفاق ببذخ واكتناز الطُّرف الثمينة والطموح
الخارق للمألوف نحو البقاء حيًّا في ذاكرة الآخرين بأعمال
تبهر الخيال، كل هذه المبالغات المهووسة جنوبية في
البلدين. ولا غضاضة في أن نرى في ذلك دليلًا على قيام
تجارة بعيدة المدى بين النويات الثلاث الكبرى لحضارة على
شاطئ المحيط الهندي وامتداداته البحريَّة، وبخاصة لأنها
مذكورة تحديدًا في النصوص المصرية والرافدينية (دلمون
Dilmun وماجان
Magan وملوحة
Mellouha) حتى إذا
أخذنا في اعتبارنا تغير مكان مجرى الأنهار والشواطئ
البحرية، فإن انحناءة النيل عند قفط وانحناءة الفرات عند
أوروك تجعلان من المحتمل تبادل الأساليب الجماعية التي
توحي بها.
٨١ ولكن التجارة مع العمق فيما وراء بؤرات
البناء السياسي هذه، والتجارة البعيدة مع أطراف آخرين في
اتجاه أبعد نحو الشمال لم تكونا أقل قوة من علاقاتهما
الجنوبية المثلثية: وقد كشفت بعثة حفريات ألمانية في دلتا
النيل (في تل الفراعين)
٨٢ مؤخرًا أسطوانات مزخرفة بالفسيفساء كانت
متداولة في جنوب الرافدين.
وهناك أسباب داخلية تفسر كذلك هذه التطورات
المتزامنة. نذكر توطين النباتات واستئناس الحيوانات
البرية اللذين تمَّا نحو الألفية السادسة في السهول
السهبية
steppiques. كانت
النباتات الحبوبية تنمو طبيعيًّا بعد موسم الأمطار في
الأرض، فيها يرتع الحيوان الكبير (الفيل والزراف) وتنتقل
قطعان برية من حيوانات من فصيلة الأبقار ذوات قرون طوال.
وأدى البوار المتزايد مرتبطًا بتحسين تقنيات الزراعة
والاستئناس إلى نتيجة ثلاثية تتمثل في بعثرة التجمعات
السكانية، وقيام تجارة بعيدة وليدة مستندة إلى استثمارات
تحققت بفضل تشوين مخزونات على حالها أو في جرار، وتنظيم
اجتماعي أكثر تشابكًا من التنظيمات الاجتماعية التي كانت
مجتمعات الصيد والجمع تقنع بها. حينذاك اتجه البدو الرحل
إلى السهول الغرينية والبطاح التي كان الناس يتحاشونها
بغية تضييق حدود مجازفات التعرض للعدوان (الخطف، والنهب
والحرق) أو للكوارث الطبيعية (الفيضان، الانهيارات).
وتقاربت الضياع التي بنيت على هذا النحو فيما بعد
تدريجيًّا بعضها من البعض الآخر، إما تحاشيًا لالتهام
المساكن الأراضي الغرينية الخصبة، وإما بغية تحقيق توزيع
متساوٍ للأرض الصالحة للزراعة (على شكل دوائر بعضها من
حول بعض، يقل حظ الخارجية من الري كلما بعدت عن المركز
الذي يمثل نواة مدينة في سبيلها إلى النشوء، ويجري توزيع
الزمامات والدورة المحصولية بناءً على نمط «المشاع» العربي).
٨٣ ونظرًا لأن الأرض الصالحة للزراعة لم تكن
قليلة في ذلك العصر الذي نتصور أن هذه التغيرات حدثت فيه،
فإننا نفضل التفسير الثاني على التفسير الأول. فالأطروحة
القائلة بأن المدن نمت لأنها أسهل دفاعًا، أو بسبب
الجاذبية التي مارستها بنمط الحياة فيها، أو الأطروحة
التي تنسب نماء المدن إلى إشعاعها الروحي، نراها تفسيرات
أقل إقناعًا لأنها لا تخلو من نزعة لا تاريخية تسير ضد
اتجاه التاريخ وتتصور الماضي نكوصيًّا من منظور الحاضر.
٨٤ وينطبق هذا النقد كذلك على النظريات التي
تدعي أن هناك بِنْيَة «طبيعية» للسكنى، تتخذ في المكان
بشكل منظم منشيات تبعًا للمساحة الضرورية لبقائها.
٨٥
أيًّا كان الأمر فإن تركُّز السكان في مكان أصبح منذ
تمركزهم هذا مكرسًا بشكل دائم للأنشطة الحضرية (الفخار،
الأدوات، النسيج) في منطقة زراعة كثيفة وتخصص في الزراعات
التجارية (القمح، الشعير، القطن)، هذا التركز أدى بدوره
إلى تمركز الثروة وتمركز السلطة. وهكذا تحول مربو الحيوان
السابقون الغلاظ، بل والمستغلون الذين أخذوا بالزراعة
الفسيحة إلى فلاحين مجتهدين، برز من بين ظهرانيهم وجهاء
ريفيون أكثر فطنة ودهاءً من غيرهم.
(٦) التجارة البعيدة في الوديان والصحاري
تعتبر منطقة هيراقونبوليس (مدينة: نِخِن) في مصر
نموذجًا طيبًا لهذا التخطيط الفرساني، الذي يتسم مع ذلك بالواقعية.
٨٦ ربما كانت نِخِن مخيمًا موسميًّا على حدود
السهب والسهل الغريَني، يقع على خط قريب من فرع للنيل
اندثر الآن، حيث كان يتلاقى صيادون ومربو حيوانات وصيادو
سمك ممن يتنقلون على هيئة مجموعات تأتلف الواحدة منها من
عدد قليل من العائلات. وتَعَرقَل استقرارُهم ونماء تجمعهم
البشري على مدى وقت طويل نتيجة للفيضانات الغزيرة التي
كانت تغرق المساكن من حين إلى حين. وفي الفترة من عام
٣٨٠٠ إلى عام ٣٧٠٠ق.م. تقريبًا زاد عدد السكان من ٥٠٠٠
إلى ١٠٠٠٠ نسمة أحاط بهم قرويون تزايد عددهم تزايدًا
مستمرًّا، وكان هؤلاء القرويون يأكلون لحم الدواجن بعد أن
كفوا عن أكل لحم الصيد. وحلت بيوت مستطيلة محاطة بأسوار
محل الأكواخ المدورة، وكانت هذه البيوت موزعة حسب مهنة
شاغليها. وكان صناع الفخار — ونكتفي بالتمثل بهم — على
درجة عالية من التخصص؛ فالفخار الذي تم العثور عليه في
غالبية المقابر في القطر كله أتى من عندهم. وربما أدى
تراكم الثروات الناجمة عن طلبيات الأشياء الجنائزية
والمستحدثات الزراعية (مثل استخدام المحشات المسننة
المصنوعة من الصوَّان) إلى حدوث أزمة اجتماعية. وكانت
أخشاب شجر الأثل وشجر السنط تستخدم وقودًا في أفران
الفخار والنحاس، فلما حلت فترة جفاف طويلة اضطرت سكان
الضياع والمخيمات المتنقلة الذين كانوا يعيشون مستقلين
على فروع النهر التي جفت إلى الالتجاء إلى المدينة. وفي
الوقت نفسه أدى انخفاض مستوى المياه الجوفية إلى زيادة
مجرى الماء الذي كان يخترق مدينة نِخِن، وأدى بالتالي إلى
انخفاض المحاصيل الزراعية. وأغلب الظن أن المسئولين عن
منظومتَي الري وتدبير المياه قاموا بالتصدي لهذه الأزمة
بالسلطة الجبرية. وعلى النقيض من ذلك أدت أحوال الرخاء
الواهي والكثافة الضعيفة، والتعدد القيمي الكبير،
والاستقرار الناقص في العديد من مدن الدلتا إلى جعل هذه
المدن بمنأى عن مثل هذه التأثيرات البيئية. وعلى الرغم من
أننا هنا في مجال التفكير على مستوى الترجيح، فإن تقديم
فرضية يعتبر أمرًا أكثر إغراءً من رسم صورة فردوسية لوادي
النيل تكون الحياة فيه سهلة إلى الدرجة التي لا يخطر فيها
ببال أحد أن ينشئ مدنًا شبيهة بالمدن الدول في الرافدين
التي أنشئت هناك في بيئة أقل مواتاة.
٨٧
نذهب في هذه الفرضية إلى أنه عندما استقرت مستويات
الفيضانات وإيقاعات الأمطار لم يعد هناك ما يعترض سبيل
النمو الحضري. حينذاك أصبحت نِخِن مركز منطقة مزدهرة،
يقوم على أمرها الأعيان المحليون، ظهر من بينهم الفراعنة
الأوائل. وانطلق هؤلاء الفراعنة الأوائل لغزو مدن الشمال،
فجعلوا من أبيدوس في مصر الوسطى عاصمتهم الدينية ومن
سقارة في مصر السفلى عاصمتهم الإدارية. وهجروا المواقع
البعيدة بعدًا مفرطًا عن النهر ودلتاه، وخلقوا عن طريق
الغزو ظروف أمن شامل ما كان يمكن أن يحققه أي سور حضري،
ووضعوا أيديهم على أرباح التجارة البعيدة للنحاس والطُّرف
الترَفية (الزيوت والدهانات والمشروبات) التي كانت فيما
مضى تنجم عن نشاط دءوب لا يكل بذَلَه تجَّار نقادة
والمعادي وواحة الفيوم. وهذه هي التجارة التي أتاح الموقع
المواتي لتجار نقادة والمعادي والفيوم القيام بها مع
الرافدينيين والفلسطينيين والليبيين قد وضعت كلها منذ ذلك
الحين تحت سيطرة الدولة. لم يعد هناك بعد هذا الإجراء شيء
يعترض التوجيه الجديد للواردات: فبدلًا من استيراد منتجات
الاستخدام اليومي (زيت الزيتون، النبيذ، الكتان، الحبوب،
الجلد، الحديد، القصدير، إلخ) التي كان التجار العائليون
يتجرون فيها، دخلت مصر مواد ترفية (خشب الأرز، الرخام،
المرمر، سن الفيل، العقيق الأحمر، الفيروز، اللازورد،
الذهب، الفضة، إلخ) المستخدمة في بناء وزخرفة المباني
الرسمية.
تحول التنافس بين المدن الأم المصرية — التي كانت كل
منها تمتص مراكز السكنى الصغرى في محيطها — فحقق الخير
لصالح أبعد المدن إلى الجنوب، وهذا ما يجعلنا نفكر في أنه
لم يكن هناك اتحاد مدن حرة في مصر سبق إنشاء دولة موحدة،
يرجع هذا إلى أن النويات الحضرية الرئيسية تحولت إلى
عاصمة واحدة منذ ما قبل التاريخ.
٨٨ ويبدو أن المدن الرافدينية والأناضولية
والسورية الفلسطينية، والقبل عيلامية قد تضاعف عددها على
العكس من ذلك في نفس هذا العصر في إطار منظومة دولة أكثر رحرحة.
٨٩
هناك تركيز حضري واحتكار اقتصادي متزايدان من ناحية،
وتبعثُر وتنافس مستمران من الناحية الأخرى: فقالبا
المنظومتين السياسيتين يرتكنان على أسس متمايزة تحت مظاهر
«إمبراطورية» إمبريالية مشتركة. وحول نهاية الألفية
الثالثة، أطلقت أسرة أور الثالثة تجارها في مضمار النقل
التجاري البعيد المدى،
٩٠ وتركت الأسعار تعوم دون رقابة عامة وتركت
الفضة تستخدم نقودًا بين خاصة المتعاملين. وكان هؤلاء من
الحرص على تقديم حسابات متوازنة عن عملياتهم، حتى إنهم
تشاركوا فيما بينهم «دون ذكر أسماء» (دون رباط قرابة ودون
أن ينتموا إلى اتحاد معني واحد) ووضعوا نتائج أنشطتهم بين
يدي خبراء محاسبيين.
٩١ كانوا يقومون بعمليات استيراد وتصدير بين
المدن السومرية أو بين المدن الرافدينية والربوع النائية
يشهد عليها السجل اللغوي الحرَفي المسكوك على جذر ب ا ل ا
bala (الذي يعني هنا
«نقل» الأشخاص أو البضائع، والتحويل، والانتقال إلى الخَلَف).
٩٢ فليس الأمر أمر مقايضة ولا تجارة من شأن
الدولة، على الرغم من تشابه الكلمات التي تعبر عن هذا
النشاط وعن بعض مكاتب الإدارة الاقتصادية أو المالية (ب ا
ل ا
bala). لم يكن هناك
في سومر ثم في بابل مبرر لتمييز الوكلاء الاقتصاديين
العاملين بدافع «الواجب»
(
factor) عن الآخرين
العاملين من أجل الربح وحده
(
Mercator)؛ فالفئة
الأولى عبارة عن وكلاء
commis كبار عن الدولة
(بالمعنى الخصيص لكلمة
commis: وكلاء مفوضون
négociateurs) بينما
الفئة الثانية كانت تتكون على الأرجح من «أغراب» يبذلون
الجهد الجهيد من أجل البقاء (تجار
négociants).
٩٣ هذه الأطروحات التي طرحها كارل بولانيي
Karl Polanyi دُحضت
اليوم: ﻓ «التمكارو»
tamkaru الذين اعتبرهم
عالم الاقتصاد البريطاني الكبير بمثابة دبلوماسيين قائمين
على أعمال تبادل محكومة إداريًّا كانوا في واقع الأمر
تجارًا لديهم تراخيص استغلال، يدبرون حرفتهم الخاصة —
التجارة — بأنفسهم تدبيرًا ذاتيًّا، ويسهرون على حسن عمل
الأسواق التنافسية، يحفزهم الربح.
٩٤
ونحو نهاية
الألفية الثانية كانت نشأة آشور، دولة عرفت على نحو خاص
بالنزعة الإمبراطورية «الإمبريالية على الطريقة المصرية»
التي يُرجح أنها أظهرتها سافرة فيما بعد، كانت في البداية
مرتبطة بالتجارة البعيدة وبالوكالات التجارية ذات الطابع
الرافديني النمطي. وهذا هو الملك، الذي سيصبح ذات يوم
الأقوى في المنطقة، قد بدأ تاجرًا أسعد حظًّا من آخرين في
عملياتهم التجارية.
٩٥ لم تكن آشور في المرحلة الأولى من نموها تحقق
وجودها إلا من خلال تجارتها البعيدة بينما كان منافسوها
الجنوبيون يمارسون أعمال التبادل المحلية. وعلى النقيض من
مصر في زمن الدولة الوسطى والدولة الحديثة التي وضعت
نهاية لأنشطة «ثغور» الصحراء، شجعت آشور على مضاعفتها:
وكانت ثغورها كارو
kâru٩٦ المتحررة من المركزية (وعددها اثنان عشر)
الأساس الذي قام عليها توسُّعها.
والنظر في أصل
الكلمة يفيد في تتبع دلالتها؛ فالكلمة كانت تدل في
البداية على الثغر أو الميناء على ضفة نهر أو قناة، ثم
أصبحت تدل على رصيف الركوب أو الشحن، ثم اتسع المعنى فشمل
الأرصفة المتاخمة والجدران المبنية من الطوب المحروق
المقامة فوق عائق مانع للماء، بل شمل الخندق الدفاعي،
واستخدمت الكلمة بعد ذلك للدلالة على حي الميناء الآهل
بالتجار والملاحين وعمال الميناء. وهي تدل بصفة خاصة على
سوق الميناء والكرفانسراي الخاص به وبورصة الصكوك،
باختصار ما يمكن أن نسميه اليوم غرفته التجارية (أو مركزه
التجاري). ولما كانت الغرفة التجارية تنعم بحياد مستحب في
التجارة البعيدة، فإن الدخول فيها لم يكن سهلًا: كان على
التاجر أن يتزود بتصريح خاص ليدخل الغرفة ومعه بضائعه،
وأن يتصرف بدبلوماسية حتى لا يُطرد منها. ثم اتسع المجال
الدلالي للكلمة وأصبحت كلمة كاروم
kârum تدل على مركز
للتجارة أقامته العاصمة في بلد أجنبي، مثل الكاروم =
المركز التجاري الذي أقامته مدينة كانيش
Kanesh في كابادوكيا
(بآسيا الصغرى)، ملاصقًا لمدينة أناضولية هي نفسها مقر
إمارة مستقلة. كان كاروم كانيش هذا تابعًا لآشور منذ عام
٢٣٠٠ وربما قبل ذلك، وكان محور التجارة الآشورية في
الأناضول. وكانت الكارو — المراكز التجارية — الآشورية
الأخرى تتبع كاروم كانيش، كذلك كانت تتبعه بعض «محطات»
تجارية أقل أهمية، وكانت من قبيل الكارفانسرايات المنعزلة
واباراتوم
wabarâtum. وفي
نهاية التطور الدلالي للكلمة أصبحت كلمة كاروم
kârum تعني أيضًا مجلس
التجار الآشوريين المنفيين، وهو المجلس الذي نعرف طريقة
عمله، فقد كان هذا المجلس يتخذ له مقرًّا في بيت كاري
bît kâri تجري فيه
عمليات التخليص الجمركي تحت مسئولية ربي كاري
rabi kâri، وهو موظف
تعينه الإدارة المركزية في آشور أو بابل، بعد اختراع هذه
المنظومة الذكية بعدة قرون.
٩٧
وهكذا لم يكن أهم صرح مدني أقامته آشور يتمثل في مركز
مراقبة، بل مركز جمرك: وقد أنشئ أول مركز لجمركة الواردات
المجلوبة من العاصمة، ثم أنشئت مراكز أعطت لصادراتها من
المنسوجات ومن القصدير بعدًا قاريًّا، في عصر عرفت فيه
آشور بتجارتها الجامحة أكثر مما عرفت بتوسعها العسكري، بل
يستطيع الإنسان أن يفترض أن مركزية الدولة الآشورية خضعت
لاعتبارات اقتصادية. ويمكن القول بأن الشبكة التجارية
الآشورية التي تركبت على فسيفساء الإمارات المحلية
واستخفت بالحدود، وكانت على حق في استخفافها بها، ولم تقف
في ذلك عند حد التهريب النشيط، بل كانت تمثل بداية الدولة
المركزية التي أصبحت فيما بعد واحدة من أقوى دول الزمان
القديم الأنتيكي. يقول بول جاريلِّي.
«في كل المجالات ترسَّخت بنية هرمية. كانت
الواباراتوم
Wabarâtum»
تخضع الكارو المحلية التي كانت بدورها تخضع لكاروم كانيش
المركزي، وكان هذا الكاروم يخضع لسلطات آشور، وكان رسل
الكارو والمدينة يضمنون ترابط الكل في مجموعه. […] لم يكن
هذا قد أصبح جهاز دولة حقيقيًّا ينضوي تحت تقسيم السلطات
ويحركه سلك من الموظفين المتخصصين … وإنما كان شبكة من
خلايا متدرجة تدرجًا هرميًّا. وإذا كان من الممكن أن
نتكلم عن دولة، فقد كانت تلك بداية لدولة.
٩٨
في كل مرحلة من مراحل التجارة يتم تسديد رسوم مرور،
بل تدفع أيضًا البقشيشات (وتستخدم كلمة تاعاتوم
ta’atum للدلالة على
العمليتين، عملية تسديد رسوم المرور وعملية دفع
البقشيشات)، إلا إذا طلب صاحب التجارة إعفاءات. وكانت
المتحصلات تقسم بين الخزينة المحلية والخزينة المركزية،
بين التجار الآشوريين والشركاء من أهل البلد،
٩٩ وبين الستة أو العشرة مشاركين في شركة
استثمار يربطهم عقد (يسمى ناروقو
naruqqu، وهي كلمة
مأخوذة من اسم الكيس الذي يرمز إلى تدبير رصيد مشترك).
ويكلف العقد التأسيسي واحدًا منهم بمسئولية التجارة في
البلاد البعيدة (وله بناءً على هذه الصفة أن يملأ كيسه
واسم الكيس كيسوم
kîsum).
ويورد العقد بدقة أعمال كل واحد، وشروط الدفع، وتقيم
الأرباح، ومدة العملية والعقوبات التي توقع في حالة سحب
المال المستثمر قبل الموعد. ويضمن هذه الاشتراطات توقيع
موظف، يتبعه حفظ النص حفظًا قانونيًّا في دار محفوظات آشور.
١٠٠ وفي حالة وجود خلال بين المسئول عن العمليات
ووكلائه المحليين وشركائه الذين بقوا في الوطن، فإن مجلس
المستعمرة هو المخول بالنظر، مع إمكان الرجوع إلى مجلس
العاصمة أو إلى الملك الذي تعين إدارته خبيرًا مدنيًّا
râbisum يكلف بالتحقيق
في ملف الشاكي. واستمر هذا التنظيم — الذي تحرى هذه
الدرجة العالية من الدقة — عدة قرون بفضل تدخل القطاع
الخاص تدخلًا متناميًا: فاتخاذ شخص رسمي آخر — من غير
التجار — ليكون شاهدًا في لحظة تدبير العملية التجارية،
حيث كان المعهود أن ضمان أعيان المواطنين يكفي لاحترام
العقود، إجراءٌ يبين الاعتماد المتبادل بين التجارة وبين البيروقراطية.
١٠١ ولقد كانت الجيوش الرافدينية في البداية
جيوشًا تتكون من رجال أعمال، ذلك لأن المدن كانت منعزلة
بعضها عن البعض الآخر بشكل يحول دون اكتفائها ذاتيًّا،
فتطلَّب تموينها توسعًا تجاريًّا قويًّا وبلا تقلبات.
وكانت هناك مستودعات للدولة، ومصارف أو غرف تسويات تحقق
المرونة الضرورية في وسط بيئة طبيعية صعبة وسياق سياسي
يتسم بعدم وجود حدود محددة تمام التحديد. وكانت
المستودعات المتخذة في قصور أهلية، في كارو محلية، أو في
دار خزانة آشور تضمن تبادلية المخاطر التي تحدث. ولقد
كانت هذه المخاطر كبيرة؛ فالقائمون الشجعان بالعمليات
التجارية كثيرًا ما كانوا يقومون برحلات تستمر اثنتي عشرة
سنة، وكانوا في أحيان عديدة يغيبون عن بلادهم أكثر من
ثلاثين سنة دون أن يعطوا أصحاب العملية خبرًا بأنهم لا
يزالون على قيد الحياة.
١٠٢
وعلى الرغم من أننا نعرف أنه كانت هناك شركات تجارية
كبيرة فإن غالبية الشركات كانت شركات عائلية صغيرة
(
bît abîni أي بيت أبي؛
ellutum أي العشيرة)
كان أعضاؤها الذين يسافرون في قوافل، ويقيمون في آسيا
الصغرى، أو يبقون في آشور للسهر على أعمال المجموعة
يعتبرون أنفسهم متساوين يعمل بعضهم باسم البعض الآخر،
ويحضر بعضهم عن البعض أمام المحاكم التجارية تبادليًّا،
ولديهم تخويل بتزويد المستودعات، وإجراء سحوبات، وتسديد
الديون أو تدبير أمر الائتمانات.
١٠٣ وتغص مراسلاتهم بالتذمر من الطريقة التي
يؤدون بها التزاماتهم التجارية والأسرية. وهي تكشف عن
تنافس عارم بين العشائر، وكانت المنافسات تدوم ولا تنقطع
بين الآباء والأبناء، وبين الإخوة والأخوات، وبخاصة لأن
الطلب المستمر من جانب الإمارات الأناضولية التي كانت
دائمًا متأخرة في السداد
١٠٤ كان يدفع الآشوريين إلى إعادة استثمار
ائتماناتهم بدلًا من توزيع الأرباح. كان ما بين ثلث
(
salsâtum) وثلثي
الأرباح على ما يبدو يعاد استثماره على الفور لتمويل
عمليات جديدة، وربما كان ذلك يحدث بمناسبة تقفيل الحسابات
الذي كان يجري على فترات متقاربة خلال مدة العقد.
١٠٥ إن يقين التجار من أنهم يعملون من أجل الصالح
العام ومن أنهم يبذلون كل طاقاتهم من أجل أسرتهم، كل ذلك
كان يدعو التجار إلى أن يقفوا خارج دائرة الدين الذي كانت
أنظمته تقدم آليات ضمان أو اشتراطات شكلية بدلًا من أن
تقدم وعودًا بالنجاح وتشجيعًا على التبشيرية. وفي هذا
المعنى نجد مقولة واحد من التجار الآشوريين في خطاب له
وقد صدمه إغراءٌ ينسبه إلى أبيه الذي دعاه إلى أن يبتهل
إلى السموات.
«متى أتيتُ بأعمال من هذا القبيل؟ أنت تحكي لي عن
أولئك الذين ارتكبوها فأغضبوا أباهم حتى إنه ألقى لعنة
عليهم أمام الآلهة. ليكن هذا شأنهم! وعلى آشور وعشتار ألا
يندسا في هذا الأمر!»
١٠٦
ومثل هذا التوجه الذهني لا يلائم الاكتناز الثقافي
ولا التكريس السياسي. وهكذا تظل السياسة شأنًا من شئون
الأسرة (يصفونها بكلمة
barîni أي بيننا،
والعرب لديهم في هذا المعنى كلمة «بيننا»
le baynanâ des Arabes)
الأسرة التي يتم غسل غسيلها القذر على أبعد تقدير في مجلس
التجار. ولكنها أيضًا شأن محفوف بالمخاطر يوقف الابن في
وجه أبيه.
وإذا نحن أنعمنا التفكير وجدنا أن إنشاء إمبراطورية
مستقبلية على أسس تجارية ودبلوماسية يعتبر حكاية عادية.
فالمبدأ الذي تقوم عليه كل الشركات التجارية هو في الواقع
الأخذ بالحيطة والحصافة: فاستثمار رأس المال الذي يقدمه
كل واحد يرتهن بتعاون الجميع. كذلك الخسائر التي تُمْنَى
بها التجارة البعيدة المدى والطويلة الأجل يلزم توزيعها
بالتساوي إما بين مستثمرين من أهل الثقة، وإما بين
استثمارات تكتنفها المجازفة. والاحتمال الثاني هو الذي
استعارته شركات شرقية أخرى لا تغطي العقود فيها سوى عملية
واحدة في المرة الواحدة، ولكن العقود تكون من الكثرة بحيث
تكفي الأرباح التي تحققها بعضها لتغطي الخسائر التي تنجم
عن بعضها الآخر تغطية واسعة. وهذه هي الحال بالنسبة إلى
العقد من نمط تبوتو
tappûtu في بابل، أو
تمويل رحلات بحرية من قِبَلِ تجار أور
Ur١٠٧ ونيبور
Nippur السومريين الذين
تشبه عقود تأجيرهم السفن عقود شركات تأجير السيارات عندنا
شبهًا عجيبًا: «ستكون السفينة تحت تصرفهم اعتبارًا من
اليوم السادس من شهر سيوان
Siwan. فإذا أبقوها
عشرين يومًا يدفعون إيجار شهر؛ وإذا أبقوها شهرًا ويومين،
لن يدفعوا إلا إيجار شهر.»
١٠٨
فالمخاطرة من الضخامة بحيث تبرر اختراع إجراءات
مبتكرة من أجل تحاشي أن تصيب الخسارة أكثر الناس انجراحًا
في العائلات: فسقوطهم من شأنه أن يؤدي إلى اختلال الميزان
لصالح الأكثر حظًّا. في القرن السادس من زماننا الحالي
(الميلادي) لم يكن أمام أشد التجار نحسًا في شبه الجزيرة
العربية قبل الإسلام من خيار إلا أن ينتحروا، وهذا ما
يشهد على دور الإسمنت الاجتماعي الذي لعبته التجارة
دائمًا في هذا الجزء من العالم.